نبيل ياسين
الحوار المتمدن-العدد: 1566 - 2006 / 5 / 30 - 11:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اذا اقدم البرلمان على اول خطوة لتعديل الدستور بالغاء قانون اجتثاث البعث, دون اعتماد مبدأ العدالة والعفو, الذي سنتحدث عنه في مقال قادم, نكون قد اصبنا بنكسة دستورية.ذلك ان قانون الاجتثاث هذا, رغم اثارته للجدل, ليس من حق البرلمان, وانما من حق ملايين العوائل العراقية التي تحولت إلى ضحايا لحكم البعث. هذا لايعني ان لاتكون هناك مصالحة , او لايكون هناك عفو. لكن هذا العفو ليس من حق البرلمان قبل ان يستفتى العراقيون على هذا القانون. والدستور ليس خرقة كما كان في عهد صدام حسين.صحيح ان الدستور العراقي ليس دينيا وليس علمانيا وليس ديمقراطيا, وانما هو ناتج قسمة على الاتجاهات الثلاثة هذه كما نص في مادته الثانية, لكن من حق الجميع ان يطالبوا باحترام دستور تم الاستفتاء عليه ولم يعد عرضة لاهواء ورغبات السياسيين , ونفوذ الاحزاب والتدخلالت الاقليمية والدولية. وبما ان الدستور الديمقراطي ينطلق من المواطنة الفردية ومن الحقوق والواجبات, فان الصفة الدينية او العلمانية له لا تعني شيئا مع عدم تطبيق هذه الحقوق وهذه الواجبات. ويحذر الفليسلوف ألان تورين, المختص بالانظمة الديمقراطية من نفوذين معاصرين يهددان الديمقراطيات, هما نفوذ الاحزاب السياسية ونفوذ راس المال. والنفوذان متوفران في العراق اليوم بشكل يهدد عملية التحول الديمقراطي الجارية في العراق, فكل حزب متنفذ من الاحزاب الخمسة او الستة التي تحكم مزود بالة مالية جهنمية سواء من دول الجوار او من الفساد او من الولايات المتحدة.
يفتقر العراق الى ثقافة دستورية سواء على المستوى السياسي , أي في صفوف الاحزاب ومنتسبيها, او في الوعي الجمعي العام الذي لم يلمس الدستور وتطبيقاته خلال تاريخه الحديث. لذلك فان ما افتقرنا اليه في العراق هو توسيع قاعدة الثقافة الدستورية عن طريق توسيع النقاشات حول الدستور وحول المبادئ الدستورية وتاريخ الدساتير وكيف تشكلت في العالم الديمقراطي, فنحن لانتحدث عن الدساتير الممنوحة التي يكتبها النظام الحاكم كما كان الحال في العهد الماضي, وانما عن دستور حي وفعال يتسلط فوق نوايانا للانحراف نحو خرق الحقوق والتجاوز عليها بعد هيمنة وفعل ثقافة اقصائية والغائية مجدت عبادة الفرد وقوة الحزب وطغيان البطل القومي والتفوق العرقي وقدسية الحرب وتفوق المخابرات
ان الدستور هو هوية الدولة التي تقدمها لدى مرورها في حواجز المشكلات الكبرى .ولكي تكون الدولة العراقية دولة حقيقية , فان دستورها يجب ان يكون تعبيرا عن حقيقتها ونشاطها وفعاليتها, لذا فاننا بحاجة إلى دستور عراقي حضاري يقوم على الهوية العراقية والمواطنة الكاملة ويضمن حقوق الجميع على قاعدة هذه المواطنة.
لم يتضمن الواقع العراقي الجديد مناخا واسعا لمناقشة الافكار والاراء والمقترحات والنقاشات حول اشكاليات مطروحة وهامة مثل علاقة الاسلام بالدولة والفدرالية وتوصيف نظام الحكم وتحديده وضرورة الحديث عن الدولة لا عن السلطة السياسية فحسب.فحتى الان يتصرف كل وزير جديد بموظفي الخدمة المدنية , الذين يفترض انهم موظفون في الدولة وليس لدى جناب كل وزير, كما يتصرف باقنانه في اقطاعياته التي تعود اليه وليس إلى الدولة وبالتالي إلى الشعب فيامرهم بمغادرة مناصبهم دون اكتراث للخبرة والاستمرارية والتراكم. فالدستور لم يفصل بين ماهو للدولة وبين ماهو للحكومة التي ليس لها في أي نظام ديمقراطي غير الوزير باعتباره منصبا سياسيا مع بضعة مناصب استشاؤية مرتبطة بالوزير وسياساته.اما ماتبقى من مدراء وخبراء واختصاصيين فهم ملك للدولة وليس لحضرة الوزير.
نعرف ان العراق يواجه تصاعد العنف , واحد الاسباب لذلك هو غياب القانون , فحتى الذين يحرضون على القتل لايواجهون استحقاق القانون الذي يعاقب على ذلك, وسيكون الدستور مثل القانون غائبا, اذا اذا لم تطبقه الحكومة وتعتبره من مقومات الدولة.
ان العقلانية سمة دستورية, لذلك نحن بحاجة إلى نشرفكرة سن دستور عقلاني واقعي يمكن تطبيقه ويمكن اصلاحه اذا ما اضطر العراقيون لاصلاحه ذات يوم. فالدساتير ليست نصوصا وانما مؤسسات متحركة. ان الدستور الفرنسي مثلا تم تعديله 14 مرة منذ الثورة الفرنسية حتى عام 1946. واذا اخذنا الدساتير العراقية مثلا طالما ان الموضوع يخص العراق, فانه منذ عام 1925 حتى عام 2003 تم اصدار ستة دساتير تتمتع بديباجات وفقرات لاغبار عليها وكلها تؤكد ماتؤكده الدساتير الديمقراطية. وحتى النص على تشكيل محكمة دستورية تفصل بدستورية القوانين المشرعة ورد في دستور عام 1970. ولكن ماذا كان يحدث في العراق؟ ماكان يحدث هو : تعطيل الدستور. لان لم يتحقق منه شئ . على العكسمن ذلك تصدر الدساتير لتترك جانبا ويسود القمع ومصادرة الحريات وانتهاك القانون وتكريس التمييز بكافة اشكاله فضلا عن الارهاب الرسمي والاعتقال الكيفي والسجن التعسفي والاعدامات السياسية والقتل الجماعي على الهوية الجمعية وعلى الراي والموقف السياسي.
ليس المهم نص الدستور وانما المهم الالتزام به كمرجعية اولى واخيرة للحكم , مثل توزيع السلطات, خاصة في عراق فدرالي, وبيان حقوق الانسان,ووظيفة القضاء وتاكيد السيادة وتداول السلطة والتعددية الحزبية واستحقاق الانتخابات وغيرها من اسس الديمقراطية الدستورية, البرلمانية او الرئاسية, المباشرة وغير المباشرة.والقضاء على الفساد بما في ذلك فساد شراء الاصوات الانتخابية وتمويل الحملات من اموال اقليمية ودواية تؤثر بنتاد الارادة الحرة للعراقيين وتوزيع الاموال والرواتب من قبل مسؤولين كبار لتحريف اتجاهات الراي العام وشراء المنابر والاقلام الصحفية التي بتت ظاهرة فساد خطيرة.
ما لمسناه هو ان الدستور يحظى بالاهتمام الكبير ويشكل احد القضايا المركزية في التفكير السياسي والاجتماعي العراقي سواء لدى النخب او لدى الراي العام.زلكم مه هذا الاهتمام مايزال الدستور العراقي ضعيفا وغير فعال وخاضع لااردة القوى السياسية الكبيرة. ان الدساتير عادة ماتكون تعبيرا عن صراع الارادات للقوى الحية والفعالة في المجتمع, وقد تبدأ بارادات الحد الاعلى لتنتهي إلى مساومة اللحظة الراهنة التي تعني ان المبادئ الدستورية في نهاية المطاف هي التي تقود هذه الارادات وهي التي تعيد بلورتها على ضوء الاليات والمبادئ الدستورية المتعارف عليها لضمان امن واستقرار وتطور البلاد.
ان الدستور عبارة عن منظمة تتولى الاشراف على موضوع السطة وتوزيع السلطات , واتفاقية تنهي الخلاف والنقاش على القضايا المبداية الكبرى, وترضي الحد الواقعي والمعقول من رغبات واضعي الدستور انفسهم باعتباره نتاج التخلي والحصول في وقت واحد.
ان قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لم يكن متكاملا , ولكنه كان واقعيا باعتباره وليد المرحلة الراهنة أنذاك. وهو يحتوي على ثغرات كثيرة منها مثلا اعطائه الحق لثلاث محافظات متجاورة حق نسف الدستور وبالتالي نسف العملية السياسية الجديدة, واغفاله الحديث عن العلاقة بين السلطات وخلطه بين المبادئ الدستورية وبين المهمات المؤقته مثل تصفية اثار النظام السابق وبحث مشاكل المدن وتوصيفه العراق بالنسبة للعالم العربي توصيفا خضع لرغبة الاحزاب الكردية العراقية. فالقانون احتار بين العراق كأمة او شعب وبين العراق كبلد عربي وبين العراق الفدرالي الذي يرفض الاكراد ان ينتمي إلى العالم العربي طالما هم فيه, فجاء ليتجنب انفجار الوضع .
كما ان القانون اقر الفدرالية قبل تثقيف الراي العام بجوهر الفدرالية, ومن الواضح ان سقف الفدرالية قد يرتفع إلى الكونفدرالية , لذلك ليس الكثير من العراقيين يعرف على وجه الدقة الفروق السياسية والدستورية , وهناك نقص هائل في الفكر السياسي والفقه الدستوري الخاص بذلك في العراق, ولذلك تنشط من جديد الفعاليات التي تريد تغيير الدستور خلال الاشهر الستة القادمة, في وقت قد ينسف الدستور والعملية السياسية الجارية حالما يتم اعداد جيش للقيام بانقلاب على طريقة برويز مشرف والنزذج الباكستاني المعروف: مرحلة مدنية قصيرة واخرى عسكرية طويلة.
ان المعنى الدستوري الاكثر تحديدا للفدرالية هو تقاسم السلطات, وليس هناك في الوجدان العراقي تفريق واضح للنظام اللامركزي وللفدرالية التي تعني لدى كثير من قطاعات الراي العام الانفصال.كما لعب الراي العام المضاد
للديمقراطية دورا في تشويه المفهوم وبلبلة الراي العام العراقي.
ان موضوع الفدرالية ياخذ احيانا مفهوم الحق الذي يراد به الباطل. وهناك من يستغل الفدرالية لضمان مزيد من المصالح على حساب المركز.ومن الخطأ خضوع المركز لابتزاز اقاليمه وبقاء المركز تحت رحمة الاقاليم في ظل دستور اضعف الدولة كمؤسسة مركزية وليس كنظام سياسي مركزي .فاما فدرالية تحترم السيادة المركزية, او انفصال واستقلال. لكن حين تعطي شيئا او تقرر الموافقة على شئ, فمن الصعب التراجع إلى الوراء, خاصة في المراحل التاسيسية الحاسمة التي تشهد صراع الارادات وصعود ميزان القوى إلى ذروته. لقد اصبحت الفدرالية جزء من الواقع السياسي العراقي, كما انها جزء من واقع العالم في بعض الدول, اضافة إلى انها مبدأ دستوري لحل الاشكالات في السلطات وتمركزها لحرمان كيانات قومية من المشاركة في السلطة والموارد. اصبح النظام الفدرالي حقيقة ملموسة في العراق. لكن هل تعني الفدرالية سيطرة الاقلية على الاكثرية وابتزازها؟ اقول لا. ولكي اكون أكثر وضوحا فان كثيرا من السياسيين والمجموعات السياسية الصغيرة العراقية اصبحت تذهب إلى كردستان العراق لتحصل على الدعم من القيادة الكردية مقابل الاعتراف بالفدرالية مسبقا وهذا شرط وان كان غير معلن لكنه شرط خطير وغير ديمقراطي.
من نقاط الخلاف المثارة موضوع الدولة الدينية, فهناك تخوف من الدولة الدينية رغم تبديد المخاوف الذي يعلن عنه الاسلاميون في العراق. هناك جدل حول الحجم الذي سياخذه الدين في التشريع وما اذا كان سيحول دون تشريعات ضرورية ملحة يتطلبها الوضع العراقي, وما اذا كان النص على ان الاسلام دين الدولة الرسمي يعني اقرارا ا لدولة الدينية ام لا, وما اذا كان الدستور اذا تضمن النص على ان الاسلام المصدر الرئيسي للتشريع او احد المصادر الرئيسية التشريعية يعني قيام دولة دينية ام لا, وهي اطروحة ساهمت بتدهور الوضع العراقي الجديد واخرت عمل الحكومات المنتخبة.لكن .مع هذه النقاشات لاننسى واقع ان في العراق اغلبية مسلمة وان الدستور سيكون لبلد له هذه الاغلبية. ولاننسى ايضا اننا نريد ديمقراطية وبناء دولة دستورية فهل هناك تناقض ام التقاء بين الدين والديمقراطية؟
ان النظام الديمقراطي يتوجه للجميع وليس للاغلبية وحدها. وضمان حق الغالبية لايلغي حق الاقلية, سواء كانت سياسية ام قومية ام دينية ام فكرية.
وبما ان الدستور سيحكم في بلد له اغلبية مسلمة فان النص على ان الاسلام احد مصادر التشريع لايعد مشكلة, خاصة مع توفر ضمانات سيادة الدستور.كما ان النص على مصدرية الاسلام في التشريع لايعني تطبيق الشريعة على النمط المتعارف عليه في بعض البلدان والتجارب الاشكالية, خاصة وان النص هذا سيكون في سياق نظام حكم ديمقراطي تعددي تداولي.
ان القانون الاساسي العراقي الصادر عام 1925 مثلا لم ينص على ان الاسلام دين الدولة الرسمي ومع ذلك لم يخلق مشكلة او يلغي الهوية.
يتخوف كثيرون من موضوع الانقلابات العسكرية للوصول إلى السلطة, وهذه القضية لاتنتهي بالنص عليها دستوريا, وانما بانشاء مؤسسات ديمقراطية قوية سواء في الدولة او في النظام السياسي او في المجتمع.ففي العهد الملكي كان هناك نص حول دور الجيش وحدود صلاحياته وتحركه ومع هذا كان العراق عام 1936 مسرحا لاول انقلاب عسكري في تاريخ البلدان العربية المعاصر.ويلوح شبح هذا السيناريو من خلال استمرار العنف والفلتان الامني السائد وتصاعد وتثرة الاغتيالات والقتل على الهوية , مما يجعل الامل بانقلاب عسكري يضبط الوضع بديلا عن الامل بنظام ديمقراطي يتقوى بالقانون والدستور.ويشكل هذا الامر تحديا حقيقيا للنخب السياسية والفكرية والثقافية الساعية لبناء نظام ديمقراطي حيقيق لاطائفي ولاقومي ولاعسكري ولانخبوي.
ان مثل هذه المخاطر يجب ان تكون تحت سقف الدستور وليس فوقه.ان التقاليد البرلمانية ورسوخ مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والصحافة الحرة وقوة الاحزاب(غير الانقلابية) وشجاعتها ايضا وقدرتها على مجابهة العسكريين الانقلابيين هي ضمانات. ولكن اذا كانت احزابنا العراقية تملك تنظيمات كاجنحة عسكرية لها لتهددي الديمقراطية فذلك شان أخر كما حدث من قبل. ساضرب مثلا من اسبانيا. كانت المؤسسة العسكرية اقوى من المجتمع المدني ومن الاحزاب في عهد فرانكو منذ سنة 1936 حتى موت فرانكو ودكتاتوريته عام 1975. أي على مدى اربعين عاما تقريبا. ونشات الديمقراطية في اسبانيا بموت فرانكو. ولكن في شباط عام 1980 حدث انقلاب عسكري تحول إلى سخرية مباشرة, اذ دخل عسكريون إلى البرلمان الذي لايملك من العمر سوى خمس سنوات واحتجزوا النواب واعلنوا حل البرلمان والسيطرة على الحكم. لكن بضعة نواب شجعان ورئيس الوزراء الشاب سواريز اعترضوا فاطلق العسكريون النار.غير ان ذلك لم يرعب النواب او يجعلهم يذعنون, وحدثت مشكلة باعتراضهم على الانقلاب. فالاعتراض الغى (شرعيته العسكرية) بينما كان الاذعان والخوف يساهمان في تبريره وقبوله فيما بعد لو تما.
مثل اخر من نوع آخر. فابان الثورة الطلابية في فرنسا وفي ابان الازمة عام 1968 طلب عدد من مسؤولي الحكومة الفرنسية من ديغول اشراك الجيش لقمع الانتفاضة وانهاء الازمة. وكان شقيق ديغول امرا لحامية باريس , لكن ديغول رفض بشدة استخدام الجيش واثر الانسحاب من الرئاسة والحياة السياسية من اجل بقاء فرنسا والجمهورية. فمن اصطف في التاريخ كقادة لهذا التاريخ؟ ومن اصطف كأوباش في التاريخ؟ الذين صمدوا وأعلو المصالح العامة على مصالحهم الشخصية وقادوا دولهم في الازمات هم قادة التاريخ وليس الاوباش.
#نبيل_ياسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟