اليوم العشرون، الثلاثاء، 08 نيسان، 2003
صناعة الرجال:
خلقنا ومعنا أدوارنا التي نقوم بها في الحياة! فمنا الشرير، ومنا الخير، ومنا السياسي، ومنا…الخ.
وفي معترك الأحداث تظهر الحاجة لإعداد الرجال، وخلقهم لأدوار معينة! ولست أدري من سبق الآخر في خلق الرجال وإعدادهم، الشركات السينمائية أم وكالات المخابرات، وكلاهما يحتاجان لنوعين من الرجال، المخططون وهم في القمة، والمنفذون وهم في الدرجة الثانية، المخططون في السينما هم المخرجون، المخرجون هم رجال الدرجة الأولى، نمطيون، يمارسون عملية الخلق فقط، أما المنفذون فهم رجال الدرجة الثانية، أي الممثلون، وهم غير نمطيين، يتغيرون حسب الدور الموكل لهم، يؤدون أدواراً مختلفة، فقد مثل أنطوني كوين شخصية مقدسة كحم زة، ومثل في فلم آخر رئيس عصابة، مجرم، قاتل، لكنه في كل الأحوال يعيش سعيداً من دون خوف، أو وجل حتى يموت، رجال المخابرات كذلك نوعان، مسؤولون مخططون، ومنفذون، المخططون نمطيون، لا يمكن أن يؤدوا سوى دور واحد، فمعظمهم أعدوا كجواسيس، ولا يستطيعون أن يقوموا بنشاط غير التجسس، حتى يموتوا، والقليل منهم من يُعَّدُ ليلعب دوراً سياسياً، لكنه يبقى خاضعاً للجهة التي جندته، مهما علا شأنه، فإن تجاوز الخطوط الحمر عوقب، أشد العقاب، كشاه إيران، وصدام حسين، وموبوتو، وو، لكنهم في العموم قلقون، تعساء، لا يعرفون متى ينقلب بهم الزورق فيغرقون..
أما المخططون فمنهم من يلتحق بالجهاز شخصاً عادياً، صغيراً، لا يعرف غير التنفيذ، ثم يتطور حسب إخلاصه، ومواهبه، فينقلب من منفذ إلى مخطط مسؤول، وهو أرقى أنواع رجال المخابرات.
زلماي خليل زاده، اسم سمعنا به متأخراً، متأخراً جداً، أول سماعنا له، أنه حضر اجتماع المعارضة العراقية في لندن، لكن من هو؟ ما دوره؟ أهو مبعوث فقط؟ لماذا اختاروه؟ لم نسأل أنفسنا عنه؟ ولم يتبرع أحد بتقديم معلومات لنا، أي معلومات.
وفي سنة 1968 قرأت كتاب لعبة الأمم، مؤلفه مسؤول المخابرات المركزية في الشرق الأوسط، مايلز كوبلاند، الرجل الذي صنع الملوك والرؤساء، أعاد شاه إيران إلى العرش، وجاء بحسني الزعيم، والحناوي، والشيشكلي، وجمال عبد الناصر إلى السلطة، وركز الملك حسين، وو..مما لا مجال لذكره هنا.
في لعبة الأمم يقول مايلز كوبلاند إن جذورنا يعني "الـ C.A.I " عميقة، تضرب في أعماق التاريخ، وأن أول مركزين لنا كانا في كردستان العراق، وأفغانستان.
عندما قرأت ذلك في سنة 1968، لم يستهوني ذكر أفغانستان، فقد كانت آنئذ دولة بعيدة عن الأضواء، لكني استرجعت مع نفسي ما حل بكردستان! وكيف توالت أحداث مأسوية، "درامية" قلبت الأمور رأساً على عقب، وقضت على آمال الشعب، لم أفهم قط لماذا حمل البارزاني السلاح ضد الزعيم النبيل، عبد الكريم قاسم، وبعد صدور قانون رقم 80 سنة 1960، ببضعة أيام! لكن فهمت أن تلك كانت أول ضربة غادرة لقلب ثورة 14 تموز، ضربة لم يعانِ منها العرب العراقيون حسب، بل حتى الأكراد، وظلت تلك المنطقة ملتهبة، بعد تلك الجريمة، وإلى حد الآن!
كنا وما زلنا نضع اللوم كله على بريطانيا، وسياسة فرق تسد، قسمت الشرق الأوسط، قسمت المنطقة العربية، قسمت المنطقة الكردية، قسمت منابع النفط، التقسيم كان سهلاً، دغدغ أماني الكثير، لكنه زرع من المشاكل ما بدأ ولم ينتهِ إلى حد الآن، ترى أ كان لأمريكا يد في هذا التقسيم؟ من يدري! الشيء الوحيد الذي نعلمه أننا دائماً، وأبداً آخر من يعلم!
وفي أخر السبعينات ظهرت مشكلة المجاهدين الأمريكان، في أفغانستان، ولحاهم، ومخدراتهم، واجتماعاتهم مع ريكن، وأسلحتهم، وو ..الخ، فتذكرت ما ذكره كوبلاند عن جذور "الـ C.A.I " في أفغانستان، نعم لا يمكن أن تلعب مثل هذه الأجهزة الجبارة أي دور في بلد من بلدان العالم، من دون أن يكون لها رجال تعتمد عليهم، إذا فهؤلاء المجاهدون رجالها من دون ريب؟ رجالها الذين صنعتهم بمهارة، وحينما حان دورهم ظهروا على الشاشة! لكنهم كان من النوع المنفذ، النوع الذي يقوم بدور موقت، ثم ينتهي، لكني لم أفكر برجل مثل خليل زاده قط، ولم يدر بخلدي أن مثله موجود، ولا سيما أن مشكلة أفغانستان بدأت وانتهت ولم يطف خياله هناك قط! فلماذا ظهر الآن وفي مشكلة بعيدة عن بلده الأصلي؟ أليس ذلك بمحير؟
البارحة قرأت تقديماً لكتاب سياسي، نشر في ألمانيا، الكتاب عن العراق، عنوانه طويل جداً: "العراق: سيرة حرب مرغوبة، يتم فيها خداع الرأي العالمي، وفرق الشرعية الدولية"، وهو من تأليف هانزفون شبونك، وأندرياس تسوماخ، والأول هو دبلوماسي ألماني، شغل منصب الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، واستقال من منصبه كرئيس لبرنامج مساعدة الأمم المتحدة في بغداد، رفضاً، واحتجاجاً على فرض الحصار على العراق، أما الثاني فهو صحافي، ومراسل دولي من مركز الأمم المتحدة في جنيف لجريدة برلينر تسايتونغ، ولوسائل إعلام خارجية أخرى.
في هذا الكتاب معلومات مهمة، تقلب الكثير من الحقائق المستقرة في أذهاننا، منها أننا كنا نتصور أن فكرة غزو العراق ظهرت بعد الحادي عشر من أيلول، سبتمبر، 1991، خوفاً من وقوع الأسلحة غير التقليدية بيد أعداء الولايات المتحدة، لكن المؤلفين يؤكدان أن التخطيط لهذا الغزو سبق هذا التاريخ، وأن الإعداد للحرب رافق ذلك التخطيط، وأن كل ما يحدث الآن لم يكن بعيداً عن الحسبان! وأن من نتائج التخطيط لهذه الحرب التركيز على أخطار التهديد الذي يمثله العراق للدول المجاورة، بحيث استعرت حمى شراء السلاح من الولايات الم تحدة لتصل إلى مئات المليارات.
إن هذه الأخبار معروفة لدينا ولدى الكثير، لكن الجديد هو الكشف عن أسماء المخططين لهذه السياسة: ريتشارد بيرل، ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، بول وولفيترز، ريشارد أرميتاج، زلماي خليل زاده.
ما يهمنا هو الأخير، يعني أنه ليس موظف صغير، مكلف بالتنسيق مع المعارضة العراقية، ودفعها إلى أحضان الإدارة الأمريكية حسب، بل هو من المخططين للسياسة الأمريكية، فكيف يصل رجل من أفغانستان، إلى قلب السلطة الأمريكية! إلى هذا المنصب الرفيع؟
أليس ذلك بلغز كبير!
قرأت قبل عقود إن أول بعثة تبشيرية أمريكية، وجهت إلى الشرق الأوسط كانت سنة 1818، وإلى الموصل بالذات؟ أما الثانية فكانت إلى بغداد سنة 1820، والثالثة إلى البصرة سنة 1822، ولست أدري ما جدوى إرسال هذه البعثات وفي ذلك الوقت المبكر، إلى مناطق يقطنها مسلمون متدينون، والكل يعلم أن من المستحيل أن يغير أي كان دينه في تلك البيئات!
فهل بدأ خلق الظروف التي يمكن أن تأتي برجل كخليل زاده، قبل أن يخلق خليل زاده، أو أحد والديه؟ وهل أعد من الصفر كغيره، أي أنه بدأ منفذاً ثم ارتقى لمخطط؟ وما العمل الذي قدمه للجهاز العريق ليكافأ بهذا المنصب الكبير ويصبح من المخططين المعدودين للسياسة الأمريكية؟
أنا لا أعرف، فمن يعرف منكم؟ أو متى سنعرف؟
يوميات الحرب.
مصطفى علي نعمان.
اليوم الواحد والعشرون، الأربعاء، 8 نيسان، 2003
أوهام النصر:
أصيب العرب المخدوعون بصدام حسين وبقوته الأسطورية بالذهول، والصدمة، هذا حق لا يماري فيه أحد، فمنذ 1968 خصص صدام حسين، وحزبه اللئيم ثلاثين بالمئة من مردودات النفط على الدعاية، في الداخل والخارج، اشتروا الصحافيين، الكتاب، الشعراء، المبدعين، في العراق، والوطن العربي، كما اشتروا إعلاميين لا حصر لهم في أوربا، وأمريكا، وحينما أشعل صدام الحرب العراقية الإيرانية كان له في كل دولة عربية، وفي دول الخليج بخاصة، من ينطق باسمه، ويعلي من شأنه ويحيل كل قبيح من تصرفاته إلى حسن، ويدافع عنه دفاع المستميت.
كنت آنئذ في البصرة، وكانت تصل أحد أصدقائي الجرائد الكويتية، والعجيب الغريب أن تلك الصحف كانت تشيد بصدام أكثر مما تشيد بحكام الكويت، كانت جريدة السياسة الكويتية، تفاخر بأنها تموّل من قبل صدام، أما جريدة القبس فكانت تنفخ فيه بما لا يصدق، حتى كادت تجعله إلهاً، آنذاك اعتادت "القبس" أن تذكر في آخر كل سنة عشرة أسماء، وتطلب من القارئ أن يختار شخصية العام، وكان النتيجة أن صدام حسين يفوز باللقب لسنين متعددة، متوالية، حتى أصبح أوحد زمانه.
وانبرت أقلام الكتاب من كل المحيط إلى الخليج تجمل وجه صدام ونظامه القبيح، وتمنحه من صفات القوة، والعظمة، والسيطرة، والمجد، ما لا يتوافر فيه، حتى اقتنع هو وكل أبناء الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، أقتنع واقتنعوا تمام الاقتناع أنه عظيم، قوي، ماجد، مسيطر، يستطيع فعل المعجزات، ولهذا فلا يمكن أن يصدقوا الآن بأنه انهار، أو انتهى بمثل هذا الوقت القياسي.
ففي الوقت الذي اعتقد أحد أفراد الشعب السعودي أن صدام يتظاهر بالهزيمة ليضرب ضربته، قال آخر: إن صحت الأخبار فهو محبط للغاية، وكان يتمنى أن يكبد صدام العدو هزيمة منكرة، تلقنه درساً، يجعله يفكر قبل غزو أي بلد عربي! بينما أكد مصري متطوع، إن ما يراه، على شاشة التلفزيون، مجرد أكاذيب، وأن صدام سيقاتل حتى النهاية، وهكذا خابت آمال المواطنين العرب، في كل مكان ب"سيف العرب".
كرهت عبد الناصر أشد الكراهية لمؤامراته المتتالية على العراق، وكنت مخدوعاً بدعايات صوت العرب، وبصواريخه، القاهر، والظافر، وتهديداته بإلقاء إسرائيل بالبحر، ودعواه المواطنين حجز بطاقاتهم، ليحضروا حفلات أم كلثوم في تل أبيب، ولهذا فعندما أعلنت إسرائيل أنها وصلت قناة السويس، في حرب 1967 لم أصدق، كانت المعركة سريعة، حاسمة، قوية، أشبه بطعنة في قلب كل عربي، وكل محب للسلام، ومثلت بداية للهزائم العربية المتتالية، والآن عندما أسمع أحد العرب يعبر عن صدمته بالهزيمة السريعة التي حلت ب"المنصور بالله" أعذره، فليس للإنسان سوى تصديق ما يقرأ إن لم يكن لديه معلومات مسبقة عما يقرأ.
سألني أحد المكسيكان، أ صحيح أن صدام متزوج بخمسين امرأة؟ ضحكت! سألته من أخبرك؟
أشار إلى جريدة فضائح بالإسبانية:
- هذه الجريدة.
فسألته بدوري:
أتصدق ذلك؟
- لم لا، إن كان صدام صاحب القرار في كل شيء، ولا يستطيع أن يقف بوجهه شيء، وإن كان بمقدوره أن يقتل الآلاف فلم لا يتزوج الآلاف؟
أما بالنسبة لنا نحن العراقيين المعارضين، فأعتقد أننا ملومون بالدرجة الأولى، لهالة النور الفلكية التي تحيط بصورة صدام ونظامه، لأننا لا نملك أي جهاز إعلامي خارجي يوضح قضايانا، ويفضح عدونا الأكبر، ونظامه، ووحشيته، ومدى انحطاطه، وانحطاط وسائله، صحيح أننا لا نستطيع أن نخلق مهما فعلنا أجهزة دعايات تضارع ما لصدام، لكننا لم نحاول قط.
وفي هذه الحالة علينا أن نتجنب، ونقاطع من تعاون مع صدام وأجهزته القذرة، وبخاصة تلك الأقلام الملوثة، أما المخدوعون من إخواننا العرب، فعلينا أن نعاملهم، بالحسنى، وبقلب كبير متسامح، ولنلتفت لبناء وطننا المهدوم.