|
الثورة الفرنسية من خلال كتابات حنة آرندت -نسخة منقحة-
آدم الحسناوي
الحوار المتمدن-العدد: 6435 - 2019 / 12 / 11 - 15:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعتبر حنة آرندت بأن الثورة في مفهوميتها الحديثة ارتبطت بمسار التاريخ الذي اختلف فجأة . تطرق حنة للثورة كان من خلال تعريف ماهيتها و أفكارها و إستخلاص نتائجها ، من خلال تشريح ظاهرة الثورة تشريحا علميا-أكاديميا حاولت خلاله الوقوف على هذه الظاهرة ، فقد أوردت بأن العلة الكامنة في وجود ممارسة الثورة انبثقت من خلال الثورتين الأمريكية و الفرنسية . سنتحدث في مقالنا هذا عن الثورة الفرنسية باعتبارها أحد أهم محددات ملامح القرنين اللذان أعقباها . لقد اعتبرت حنة آرندت أن بروز الفلسفات الأوربية التي شهدها القرن التاسع عشر و التي أرخت بظلالها على القرن العشرين كانت الثورة الفرنسية من أهم محدداتها ، لكننا لمعرفة الثورة الفرنسية و الوقوف عليها مليا ، وجب علينا الغوص في أعماق الفكر الثوري . تعتبر حنة أن الثورة الفرنسية استمرت إلى حدود سنة 1794 و ما أعقبها لم يكن إلا إستبداد الحرية الذي قام بجر الثوار في مساره نحو نهايتهم المحتومة . شهدت فرنسا إبان الثورة قطيعة بين الملك و البرلمان ، هذه القطيعة اعتبرت من العوامل التي أثرت في العامة ، و ساهمت في ولادة الثورة ، بجانب أفكار فلاسفة الأنوار و الأفكار الثورية لثوار فرنسا الذين واكبوا الثورة الفرنسية بأفكارهم . لكن الثورة لم تبرز بشكل أساسي من أجل إسقاط الملكية في فرنسا ، حيث كانت في مراحلها الجنينية موجهة بغية إجراء إصلاحات نحو الملكية الدستورية ، هذا ماتؤكده لنا البدايات الأولى المتواضعة للثورة الفرنسية ، فالثورة لم تكن تعرف كثورة كما نُعرّف اليوم الممارسة الثورية ، لقد كانت الثورة أقرب إلى الإسترداد منها إلى الإطاحة ، هذا ما يفسر لنا عودة الثوار الفرنسيين أو الأمريكيين إلى القديم من الإغريق إلى الرومان فالنهضة فكتابات حقبة التنوير الأولى . لكننا لفهم الثورة ، وجب علينا فهم الحرية في ظل ما شهدته الثورة الفرنسية و كما عرّفها القرن الثامن عشر و إشكاليتها ، بين التنظير و الممارسة . ترى حنة أن المفهوم الجديد للثورة و الحرية و إقترانهما ، برز للوهلة الأولى مع الثورة الفرنسية ؛ فالثورة اقترنت بالحرية مع كوندورسي ، لكن المفهوم الجديد للحرية سيتم تعريفه ب"استبداد الحرية" مع روبسبيار بعد التغيرات التي بزغت عن مفهومية الحرية واقترانها بالثورة . إن أي فهم للثورات في العصر الحديث لا يمكن أن يخرج عن نطاق تزامن فكرة الحرية مع التجربة لبداية جديدة ، و بما أن الحرية تمثل المعيار الأعلى للحكم على الهيئات السياسية في ظل الفهم الجديد ، فإنه ليس فهمنا للثورة وحده الثوري ، بل كذلك مفهومنا للحرية ثوري ، لكن في ظل بروز الحرية بصيغة ثورية ، فقد برز في ظل سلطة كسلطة النظام الفرنسي جدلية الحرية و التحرر . لقد أصبح من اللازم التخلص من الحكومات التي تجاوزت سلطاتها و انتهكت الحقوق القديمة و الثابتة ، لذلك برزت الثورة . لكن الثورة ليست بحاجة إلى الحرية لأن الأخيرة غاية في الثورة ؛ إذا ، فافتعال الثورة يحتاج للتحرر ، لكن الصعوبة هنا هي أن الثورة كما نعرفها في العصر الحديث كانت معنية بالتحرر و الحرية معا ، لكن التحرر و الحرية في الحد ذاتهما ليسا مترادفان ، فالتحرر شرط الحرية لكنه لا يقود إليها آليا . يمكننا القول أن الحرية تطغى على التحرر عندما يطغى التحرر على الحرية ، إن أراد الفرنسيون التحرر كان بإمكانهم ذلك في ظل ملكية فرنسية غير مستبدة ، لكن رغبتهم تمثلت في الحرية ، و هذه لا يمكن تحقيقها إلا في ظل شكل من أشكال الحكومة الجديدة ، إذ تتطلب دستورا جمهوريا اعتبر لاحقا نظاما بديلا . في هذا الصدد لا يجب أن يفوتنا التفريق بين مصطلحات كالثورة - التمرد - العصيان - الحرية - التحرر ، فالتمرد على سبيل المثال غير مقترن بالسعي للحرية ، و العصيان غير مقترن بالتوق نحو التحرر ، فالتغيير الذي يشهد عنه التاريخ في القرون الوسطى لم يُسعى من خلاله للحرية ، بقدر ما سُعي من خلاله للتمرد و العصيان ؛ إن النقطة التي يتموضع البحث من خلالها هي أن الإرهاصات الكثيرة لعصر جديد ، و التي نجدها بمصطلحات متشابهة و تنويعات كثيرة ، جرى النطق بها من قبل الفاعلين في الثورة الفرنسية ، خصوصا عند بلوغ نقطة اللاعودة بغير إرادتهم . عند قراءتنا مليا لإشكالية التحرر التي أصبحت حرية ، نجد أن جرائم الإستبداد التي واكبت الثورة قدمت الحرية ، و تقدم الحرية أدى إلى كثرة جرائم الإستبداد ، فأصبح ثمن الحرية التي نادى بها ثوار الثورة الفرنسية إفتراسهم ، و من هنا نقتبس العبارة الشهيرة لدانتون حينما قال : " إن الثورة تأكل أبناءها" . رأى روبسبيار أن الهدف النهائي للثورة هو تكوين الحرية ، فتكون الحرية تحت سلطة الحكومة الثورية التي عبر عن عملها الحقيقي في تأسيس الجمهورية ، لكن روبسبيار لم يتوقع في ظل الصيرورة المأساوية للثورة أن تصبح الحرية كما شهدته فيما بعد "الحرية المستبدة" ، سيدفع هو بنفسه ثمن الحرية المستبدة تحت المقصلة . يمكننا القول بأن السعي نحو الحرية لعب دورا كبيرا في مسار الثورة الفرنسية ، بل أن الحرية أصبحت مقترنة بالثورة لأنها من غايات الثورة ، هكذا أرسلت الثورة الفرنسية أهمية السعي نحو الحرية من خلال الثورة إلى الثورات التي أعقبتها . من الصعب بمكان أن نحدد بشكل أدق أين تتحدد رغبة التحرر ، كما يصعب تحديد موضع بداية الرغبة للحرية بشكل أدق . رغم أن بداية الثانية قد تتجلى للقارئ بتموضعها عند نهاية الأولى ، لكن الحرية ليست بالضرورة نتيجة التحرر كما قد نفهم أن التحرر شرط من شروط الحرية .
عند إندلاع الثورة الفرنسية ، كان مصطلح الثورة بالكاد بارزا في المعجم السياسي أو في الممارسة ، فعندما برز مصطلح الثورة في القرن السابع عشر على سبيل المثال ، كان متمسكا بشدة بمعناه الفلكي ، حيث كان استعماله في السياسة مجازيا ، إذ يصف حركة تعود لنقطة ما قبل التأسيس ، و بالتالي حركة أو تأرجحا لنظام مقرر سلفا ، فلم يتم استخدمه عند اندلاع ثورة انجلترا أو كرومويل ، و التي أسفرت عن صعود ديكتاتور للحكم ، فكانت سنة 166o مناسبة لقيام الملكية من جديد في شخص تشارلز الثاني ، لكن أحداث 166o لا يمكننا اعتبارها ثورة ، كما لا يمكننا إعتبار صعود كرومويل للحكم ثورة . يمكننا القول بأن الثورة عُرفت بشكلها العصري إنطلاقا من التحول الأول للملكية إلى جمهورية في التاريخ الحديث أو مع الثورة الفرنسية . لقد كان ميكيافيللي أول من وصف الإطاحة الاجبارية بالحكام و استبدال نمط من أنماط الحكومة بآخر ، لكن استمر تعريف الثورة مجازا كدنوه من السماء إلى غاية الثورة الفرنسية . فقد أفاد مصطلح الثورة سابقا بحركة أزلية متكررة باستمرار للحركات الإعتباطية نحو تقلبات المصير الإنساني صعودا و نزولا ، لكن البداية الأولى لتشكل هذا المصطلح في عالم السياسة معزولا عن الفردانية برز مع القرن السابع عشر ، أما مع الثورة الفرنسية فقد أخد شكله الراهن ، فالحقيقة المدركة في هذا الأمر هي أن الثورة الفرنسية التي انتهت بكارثة قد صنعت تاريخا عالميا عكس الثورة الأمريكية التي ظلت رغم نجاحها المظفر حدثا لا تتجاوز أهميته المحلية إلا قليلا ، نجد ذلك عند بروز كل ثورة في القرنين التاسع عشر و العشرين و إستحواذها على المشهد السياسي ، إذ كانت تُرى في صورة مستمدة من مسار الثورة الفرنسية ، و تُفهم بصيغة الضرورة التاريخية ، فقد كانت الثورة الفرنسية هي التي استحوذت الحكومة على اهتمامها منذ الأيام الأولى عكس الأمريكية .
لكن ، ماهي ميكانزمات الثورة الفرنسية ؟ ، و هل هي مرتبطة بالديانة المسيحية ؟
اعتبرت حنة بأن الطرح الذي يسود أوساط بعض المثقفين من خلال إرجاع الثورة في المرحلة الحديثة للأصل المسيحي ، طرح لا محل له في التاريخ ، خصوصا عند الحديث عن الثورة الفرنسية ، فالثورات في العصر الحديث ذات خلفية عَلمانية ، أي تريد تخليص الدولة من الدين ، فالثورة في العصر الحديث عند حنة هي تلك المرحلة الإنتقالية الأخيرة من النظام الثيوقراطي نحو النظام العَلماني ، و قد توجت هذه المرحلة الإنتقالية بالثورة الفرنسية . فقد اعتبرت حنة النظرية القائلة بأن التعاليم المسيحية هي ثورية بذاتها إنما يدحضها الواقع ، بل اعتبرت طرح هكذا فرضية كطرح فرضية عدم وجود ثورة أمريكية في القرن الثامن عشر ، طرحها هذا يأتي من خلال الإخضاع الذي شرعت فيه الكنيسة للعامة خلال القرون الوسطى ، بل اعتبرت أن هذا الإخضاع اقترن بعصيان حاول من خلاله ممارسوه التمرد على زيغ الكنيسة بصفة خاصة و المسيحية بصفة عامة ، من هنا مكنت الثورة الفرنسية بمفكريها الذين نظروا لها أو واكبوها من إنزال هالة القداسة عن المسيح ، و يتضح ذلك بشكل جلي من خلال كتابات اللاحقين ، على سبيل الذكر لا الحصر : ملفيل و دوستويفسكي ، من خلال رواية الأول "بيلي باد" و الثاني في رواية "المستنطق الأعظم" . ها هنا المسيح بكل ما ملكته الكنيسة من ألوهية نزل لمجاورة العامة ، بل إن العامة تجردت من الإيمان المطلق بالمسيح ، و تُعتبر بذلك هذه المرحلة ، مدخلا لحقبة جديدة أثراها فلاسفة القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين . لقد حققت الثورة الفرنسية نبوءة ميكافيللي ، فقد كان أول من تصور نشوء ميدان علماني صرف تكون قوانينه و مبادئه مستقلة عن الدولة الدينية .
لنعد لبداية تشكل الثورة الفرنسية ، يحيلنا حوار بين الملك لويس السادس عشر و رسوله ليانكورت سنة 1789 بعد سقوط سجن الباستيل و تحرير بضعة سجناء منه و تمرد القوات الملكية قبل وقوع هجوم شعبي على جدلية مصطلح الثورة بين المفهومين القديم و الحديث ، حيث عرف الملك هذه الأحداث بأنها تمرد بينما عرفها ليانكورت على أنها ثورة ، رغم أن مفهوم الثورة لم يكن في الحد ذاته قد طور بعد كما عرفناه بعد الثورة الفرنسية ، لكن الأهم هو ملامستنا من خلال هذا الحوار لإنتقال المفهوم من طرحه القديم ليواكب راهن الأحداث ، فقد انتقل مفهوم الثورة الذي عرف سابقا بحدث انتقال هنري الرابع إلى الكاثوليكية ، ليتغير تماما بعد الهجوم على سجن الباستيل . قراءة هذه الأحداث من قبل الملك توضح مدى تشبثه بالسلطة و اعتبارها حقا مؤلها له ، كما أكد على إمكانية مواجهة الأحداث بالوسائل المختلفة التي بين يديه ، أما جواب ليانكورت فيؤكد من خلاله على أن الملك بدأ بفقدان سلطاته تدريجيا إلى غاية الفقدان التام . رغم هذه الأحداث ، لم تبرز الثورة بالشكل الراديكالي الذي عرفته بعد ، فالفرنسيون حاولوا في المراحل الأولى لها إجراء إصلاحات باتجاه الملكية الدستورية ، فحسب توكفيل فإن ثوار الثورة الفرنسية لم تكن في أذهانهم أية فكرة عن ثورة عنيفة ، بل لم تكن هذه الفكرة قد بحثت ، لأنها و باختصار لم تكن متصورة . يمكننا القول و باختصار ، إن ما حدث في بداية الثورة الفرنسية كان محاولة لإسترجاع حقوق و امتيازات قديمة انتهت بنتيجة عكسية ؛ فمصطلح الثورة تحول و بشكل راديكالي خلال مسلسل الثورة الفرنسية ، إضافة إلى تعقد الحرية من حيث كينونتها في المراحل الأولى لما بعد البداية العادية للثورة "الإنعتاق التام من مرسبات النظام المراد للثوار تخليص أنفسهم منه" ، هذا ما يدلنا على أن لا أحد من الفاعلين في الثورة الفرنسية كان على علم بصيرورة الأحداث ، كأنها نوع من العبثية . لقد اشتركت الثورة الفرنسية مع الأمريكية في التوق المتقد للمشاركة في الشؤون العامة ، لكنهما لم تشتركا في نهاية الأحداث . خروج الفرنسيين للشارع لأول مرة جعلهم مرئيين ، عندما حدث هذا اتضح أن القليلين هم الذين تمتعوا بامتياز الحرية في أن يتصرفوا أحرارا ، لقد غيرت بعض الإكتشافات البسيطة مسار الثورة ، فغيرت الثورة المفهوم المتداول للحرية و الثورة .
لقد تحدثنا عن الجوع المتقد للحرية و المشاركة في الشؤون العامة ، نحن الأن بصدد الحديث عن الجوع المتقد نحو الخبز ، فقد لعب هذا الجوع دورا أساسيا في إخراج البسطاء الساخطين الذين سموا لاحقا البؤساء من منازلهم للمشاركة في الثورة ، فبعد الزخم الذي شهده المجتمع الباريسي الذي أنتج الثورة دمج جوع الخبز بجوع الحرية ، فلم يقتصر هذا الحراك على الفئات الفقيرة و المسحوقة لنقول مجرد ثورة جياع ، كما لا يمكننا القول أن الحراك الفرنسي اقتصر على الفئات المتوسطة و الراقية ، بل امتد هنا و هناك فدمجهما في ثورة موحدة ، كما لا يمكننا إرداف كل ثورة تنبثق من أسفل بجوع الخبز فقط ، فالحرية مثلت لهؤلاء طرحا أساسيا في معادلة إسقاط النظام القائم . لقد أدرك رجال الثورة الفرنسية كل ما سبق ، لذلك سعوا لإستثماره في ثورتهم . يمكننا فهم ما حدث في الثورة الفرنسية و ما أعقبها على ضوء عبارة توكفيل المدونة في مؤلفِ NOTES DU VOYAGE EN ALGERIE DE 1841 "OUEVRES COMPLÉTES " إني أعود إلى الوراء عصرا بعد عصر إلى القديم القديم ، لكنني لا أجد مثيلا لما يجري أمام عيني ، و إذ توقف الماضي عن إلقاء ضوئه على المستقبل ، فإن العقل البشري يتيه في الظلام" . نعم ، لقد أخذت الثورة الفرنسية مجرى مغايرا لما كان مأمولا قبل مسلسل الثورات التي شهدته المرحلة ، كالعدو الظاهر الذي يخفي خلفه عدوا حقيقيا تحت قناع المشتبه فيهم .
لعبت المسألة الإجتماعية دورا هاما في الثورة ، بل إننا منذ القرن الثامن عشر أصبحنا ندرك مليا أهمية المسألة الإجتماعية في تكوين الدولة . ساهم الحشد الضخم من الفقراء في دعم الثورة ، إذ قام بإلهامها ، فدفعها إلى الأمام ، هذا الحشد الذي أصبح مكوَّنا من المتطرفين و الساخطين . إن كلمة الشعب هي المفتاح لفهم الثورة الفرنسية ، لقد كان الشعب الفاعل الأبرز رغم كونه الحلقة الأضعف في الثورة . تفسير كلمة "الشعب" إبان هذه المرحلة يحيلنا على الطبقات الدنيا ، الطبقات التي دعمت الثورة ؛ رغم ذلك ، لا أحد فكر في دعمها ، فالسلطة استُمدت من الشعب . لكن بعض الشخصيات لعل أبرزها روبسبيار حاولت في إحدى المراحل رفع الشعب إلى مستوى الوعي السياسي ، لقد آمن رجال الثورة الفرنسية بأن مصدر القوة السياسية الشرعية مستمد من الشعب ، رغم أن الشعب في فرنسا لم يكن في الأصل منظما .
لم يكن كل ما حدث في الثورة الفرنسية مجرد مصادفات ، بل إن الرجال الذين قاموا في فرنسا بتهيئة العقول للثورة القادمة و مواكبتها و صياغة مبادئها من طرف بعضٍ ممن عاصرها يعرفون باسم فلاسفة التنوير ، لكن حنة آرندت تعتبر أن مصطلح فلاسفة الذي وصفوا به مجرد اسم مضلل ، معللة ذلك بأن أهميتهم في تاريخ الفلسفة تكاد لا تذكر ، كما تقول أيضا أن إسهامهم في تاريخ الفكر السياسي لا يساوي أصالة أسلافهم العظام في القرن السابع عشر و أوائل القرن الثامن عشر ؛ بيد أن أهميتهم في سياق الثورة كبيرة حيث تكمن في إستخدامهم مصطلح "حرية" بتأكيد جديد لم يكن معروفا في السابق عن الحرية العامة ، و هذا يشير إلى أنهم فهموا من إستخدام كلمة الحرية شيئا يختلف عن الإرادة الحرة أو الفكر الحر ماكان معروفا و مبحوثا من قبل الفلاسفة منذ أغسطين . إن الحرية العامة التي قالوا بها ، لم تكن حيزا باطنيا يلجأ إليه الناس بإرادتهم فرارا من ضغوط الدنيا ، و لم تكن الإرادة الحرة التي تجعل الإرادة تختار من بين بدائل متعددة . إن الحرية بالنسبة إليهم لا يمكن أن توجد إلا في العلن ، إنها واقع دنيوي ملموس ، شيئ خلقه البشر لكي يستمتع به البشر و ليس هبة أو قدرة ، إنها المجال العام الذي رأى فيه القدماء موضع تمظهر الحرية و غُدوها مرئية للجميع . لا يمكن إذا الحديث عن الثورة الفرنسية بدون الحديث عن إسهامات المفكرين فيها أو الذين نظروا لها قبل اندلاعها . رغم نهاية معاصري الثورة المأساوية إلا أن دورهم في إستمرارية الثورة كان مهما ، بل إنهم حاولوا ترويض الثورة التي خرجت عن السيطرة ، لكن الترويض الذي قاموا به (خصوصا ماكسمليان روبسبيار) نبأهم بحقيقة تاريخية نلمسها في مقولة ماكسمليان روبسبيار التالية : "إننا سنهلك ، لأننا في تاريخ الجنس البشري قد فاتتنا لحظة العثور على الحرية" . لقد تغيرت الثورة من إنتاج الحرية إلى إنتاج سعادة الشعب . شكل روبسبيار محور الثورة ، فقد نادى بالحرية لكنه كان قريبا من الطبقات الدنيا ، لم يهمل الشعب إعتبارا أن السلطة للشعب و بيد الشعب . لقد تمكن روبسبيار مما عجز عنه أخرون فقد شهدت الثورة إزدواجية بين التنظير للشعب من جهة و التنظير للجمهورية من جهة أخرى ، آسر روبسبيار وضع دستور باسم الشعب بدلا من الجمهورية الفرنسية ، و هو بذلك يُعرّف الشعب بصفته مصدر السلطات ، لكن هذه النقلة التي شُهدت أثناء الخطوات الأخيرة من المرحلة الأولى للثورة لم تسببها نظرية من النظريات بقدر ما سببها مسار الثورة . لكننا لا يمكننا أن ننفي بروز التنظير القديم المؤكد على القبول الشعبي بصفته شرطا مسبقا لوجود الحكومة ، لكنه لم يعد كافيا ، في هذه المرحلة برزت الإرادة الشعبية لروسو محل المفهوم القديم .
في ظل حديثنا عن الثورة الفرنسية ، لا يمكننا التطرق لها بدون الحديث عن فضيلة الرعب التي تطرق لها روبسبيار ، لكن هاتان الكلمتان لا يمكن فهمها بدون الأخد بالاعتبار الدور الحاسم الذي لعبته الشفقة في قلوب و عقول الذين أعدوا للثورة الفرنسية ، و الذين سبحوا في فلكها ؛ ففضيلة الرعب التي طرحها روبسبيار كما سبقه في التنظير جان جاك روسو باستخدام نكران الذات ، أسست لهما التجارب الحقيقية ؛ فمن الواضح أن روبسبيار اعتبر أن القوة الوحيدة التي يمكن و يجب أن توحد الطبقات المختلفة للمجتمع فتجعلها أمة واحدة هي الشعور بالشفقة لدى أولئك الذين لم يقاسوا عذابا تجاه أولئك الذين قاسوا العذاب ، أي الطبقات العليا تجاه السفلى . لقد لعبت لغة الإشفاق و الشفقة دورا هاما في الثورة ، لكن الإشفاق في الحد ذاته يمتلك من طاقة القسوة أكثر من القسوة ذاتها ، نستشف ذلك من خلال عبارات ك"رأفة بالإنسانية و حب لها - كونوا إنسانيين" ، هذه الكلمات مأخودة عشوائيا من طلب قدمه أحد أقسام كومونة باريس إلى المؤتمر الوطني ؛ هذه الكلمات ليست عرضية ولا متطرفة ، إنها لغة الإشفاق الجديرة بالتصديق . بما أن الإشفاق جزء من الأحاسيس ، فقد كانت الأحاسيس التي لا حدود لها هي التي جعلت الثوريين غير حساسين بشكل لافت للواقع عموما ، و لواقع الأشخاص خصوصا ، تحديداً الذين لم يشعروا اتجاههم بندم يحز في القلب عندما ضحوا بهم على مذبح مبادئهم ، أو من أجل مسار التاريخ ، أو من أجل قضية الثورة ، في حين أن عدم الحساسية تجاه الواقع ، هو تبلد في الشعور محمل بالعاطفة كان واضحا في الأصل لدى روبسبيار في سلوكه ، في عدم مسؤوليته ، في عدم الوثوق به ، فقد أضحى روبسبيار فقط بحيث أدخل في صراع الثورة ؛ هنا يكمن طرح ميكياقيللي حول نظرية الحكم عندما قال : يجب أن يتعلم من يريد أن يدخل السياسة كيفية ترك تعاليمه و طيبوبته الدينية جانبا أثناء العمل السياسي . كان النزوع نحو الشك بدوره حاضرا خلال الثورة الفرنسية حتى قبل أن يحدد قانون المشبوهين منطوياتها الرهيبة .
شهدت فرنسا حدوث أمر مختلف عما سايرته الثورات خصوصا الثورة الأمريكية ، من تحرر إلى حرية ، و تكوين جسم سياسي ... ؛ فقد تميزت المرحلة الأولى من الثورة الفرنسية بالتفكك عوض الفوضى ، حينما تم بلوغ المرحلة الثانية و أعلنت المعاهدة الوطنية فرنسا جمهورية ، كانت السلطة قد انتقلت مسبقا إلى الشوارع ، بعد أن اجتمع الناس في باريس لتمثيل الأمة ، فكان شغلهم الشاغل الحكومة و إقامة الجمهورية سواء كان اسمهم ميرابو أو روبسبيار ، فوجدوا أنفسهم أمام مهمة جديدة من التحرير ، و هي تحرير الشعب في عمومه من البؤس ؛ يمكن القول من الناحية السياسية أن العلة في فضيلة روبسبيار هي أنها كانت فضيلة بلا حدود .
إذا كان التحرر من الفقر و موضوع سعادة الشعب و حريته هما الغرضان الحقيقيان للثورة و ليس غيرهما ، فإن الإلحاح التجديفي الشبابي الذي أطلقه سانت-جوست و الذي كان كما يلي : "مامن شيئ يشابه الفضيلة شبها كبيرا كالجريمة الكبرى" ، لم تكن أكثر من ملاحظة يومية ، لذلك اتبعت و الحال هذه بأن كل أمر يجب أن يتاح للذين يعملون في الإتجاه الثوري . لذا ، فإن الدور الكبير الذي قام النفاق و الولع بفضحه في المراحل الأخيرة للثورة الفرنسية "هو دور مسجل تاريخيا" ، و قد يستمر في إذهال المؤرخين . إن الثورة قبل أن تبدأ بافتراس أبناءها ، كانت قد فضحت هؤلاء الأبناء ، كما أن علم التاريخ الفرنسي قد دُون ووُثق على مدى أكثر من مئة و خمسين سنة ، كلٌّ جرى فضحه حتى لم يبقى أحد من الفاعلين الرئيسيين إلا و كان متهما قانونيا أو مشتبها به في فساد أو إزدواجية أو كذب . عندما أفرزت الثورة الفرنسية ما في لبها ، أصبحت الديكتاتورية رعبا ، فمن الخوف الذي أحس به البعض جراء إنفجار الثورة ، سرعان ما أصبح سقوط الباستيل و مسيرة النساء نحو فرساي ، و التي انتهت بمذابح يوليوز بعد ثلات سنوات ، من الأحداث الفاعلة المساهمة في صيرورة الثورة . لا يمكننا إطلاقا فصل العنف و الخوف عن الثورة الفرنسية ، فإن كانت الثورة الأمريكية متجردة من الحركة التي لا تقاوم ، فإن الثورة الفرنسية شهدت هكذا وضعية ، إذ لم تعد السلطة البشرية قادرة على ضبطها . تعتبر حنة أن العنف الذي تمخض عن الثورة الفرنسية نتيجة طبيعية للمفهومية الجديدة التي عرفتها الثورة (الثورة داخل الثورة) ، فالثورة الفرنسية باعتبارها ثورة و إقترانها بالحرب بعيد مرحلة التحرير الأمريكية و الحروب الأوربية على الجبهات الحدودية ، يصبح لزوما لمواكبتها إنتشار العنف ، إذ لا يمكننا تصور ثورة في خضم هذه الأحداث تكون متجردة من العنف . قطع رأس لويس السادس عشر بصفته خائنا لا بصفته مستبدا . و مع تحول مسألة الملكية إزاء الجمهورية إلى أمر من أمور العدوان الخارجي المسلح ضد الأمة الفرنسية ، كانت هذه النقطة الحاسمة ذاتها التي حدثت منذ نقطة التحول للثورة ، و التي تم تشخيصها سابقا بأنها نقلة من شكل إلى شكل للحكومة المتمثل في الطيبة الطبيعية لطبقة من الطبقات ، أو النقلة من الجمهورية إلى الشعب ؛ عند هذه النقطة أصبحت الثورة حربا ، حربا أهلية في الداخل و حروبا أجنبية في الخارج . واكب ذلك أننا رأينا سلطة الشعب التي كُسبت حديثا و لم تشكل كما ينبغي قط ، قد انحلت إلى فوضى العنف . لم يكن الرعب الذي خضعت له فرنسا في هذه المرحلة وليد الصدفة ، بل إنه ناتج عن التطورات السياسية التي خضعت لتأثير لويس السادس عشر ، و ما قام به من مؤامرات و مكائد فاشلة . لقد كان هذا الرعب ردة فعل و ليس فعل ، فبلغ الشعب موضع الإيمان بأن التجرد فقط يخلو من النفاق ، هنا تحول البؤساء إلى ساخطين ، لقد جلب التجرد كذلك الغضب . إن جماهير الفقراء ، هذه الأغلبية الساحقة من البشر الذين سمتهم الثورة بالبؤساء ، و الذين حولتهم إلى غاضبين ، تخلت عنهم و تركتهم يحملون الضرورة التي خضعوا لها منذ القدم مع العنف الذي استخدم دائما للتغلب عليها . إن الضرورة و العنف و الخوف جعلوا البؤساء لا يقاومون قوة الأرض ، كما لا يفوتنا التأكيد على أن الإصرار نحو الحكومة الجمهورية كان في الحد ذاته مولدا للعنف ، عنف مابين الجمهوريين و الملكيين ، فالعنف نشأ خلال الثورة أثناء تطرفها .
من جهة أخرى ، غدت الإرادة العامة لروسو البديل البداهي لجميع فئات المشاركين في الثورة عوض التنظير لإرادة ذات سيادة مطلقة لملك مطلق ، فالمسألة هي أن الملك المطلق ، على خلاف الملك المقيد دستوريا ، لا يمثل فقط إحتمالية الحياة المستمرة الدوام للأمة ، بحيث يحيلنا شعار (مات الملك-عاش الملك) على أنه مؤسسة بذاته تبقى مابقي ، لكن تعاليه يصور قدسية مطلقة بصفته وريث الله في الأرض ، عندما يتجرد من صفته المطلقة التي غلف بها ، و ذلك بتقمصه على الأرض أصلا مقدسا يلتقي فيه القانون و السلطة ، هذا ما يجعل القانون قويا و السلطة شرعية . لذلك ، فحين وضع رجال الثورة الفرنسية الشعب على كرسي الملك ، كان أمرا طبيعيا لهم أن يروا في الشعب ليس فقط المصدر للسلط كلها (وفقا للنظرية الرومانية القديمة و اتفاقا مع مبادئ الثورة الأمريكية) ، بل رأوا فيه كذلك المصدر للقوانين كافة ، لقد ساهم التجرد الموروث للملكية من سلطة القوانين بهذه النهاية الحتمية . كان سوء الطالع الفظيع و الفتاك للثورة الفرنسية هو أن "الجمعيات التأسيسية" لم يكن لديها من السلطة مايكفي لوضع قانون البلاد ، كان اللوم الذي وجه دائما ضدها و بحق ، هو افتقارها لسلطة التكوين ،فهي ذاتها كانت غير دستورية . أما الخطأ الجسيم الذي ارتكبه رجال الثورة الفرنسية من الناحية النظرية يكمن في إعتقادهم الجازم بأن السلطة و القانون كلاهما ينبع من المصدر ذاته . لقد آمن رجال الثورة الفرنسية بأن مصدر القوة السياسية الشرعية مستمد من الشعب ، رغم أن الشعب في فرنسا لم يكن منظما كما سبق لنا ذكره ؛ فثوار فرنسا فهموا القوة بوصفها طبيعية يقع مصدرها و أصلها خارج الميدان السياسي ، لذلك كانوا على قناعة بأن مصدر كل القوى "الشعب" ، كما لم يكن ثوار الثورة الفرنسية كذلك على بينة من التمييز بين العنف و القوة . كان لتأليه الشعب في الثورة الفرنسية من الناحية النظرية نتيجة حتمية للمحاولة بأن يستمد القانون و القوة معا من المصدر ذاته . ترى الثورة الفرنسية أن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة ، هذا نظريا . أما عمليا ، فقد اتضح أن الشعب و "إرادته العامة" لم تكونا مصدر القوانين ، بل إن العملية ذاتها للثورة التي أضحت مصدر القوانين كلها . من خلال ملاحظتنا ، يمكننا تأكيد أن أعمال رجال الثورة الفرنسية مستوحاة إلى درجة فائقة من التاريخ الروماني ، لقد كان روبسبيار ملتجأ إلى الأفكار الرومانية ، بل إن إقامة الديكتاتورية التي تصنع الحرية هي جوهر فكره ، يمكننا تشبيه هكذا ممارسات ، بممارسة شيشرون و ندائه المشهور إلى سكيبيو لكي يقيم ديكتاتورية من أجل اللحظة الحاسمة للتكوين ، أو بالأحرى لإعادة تكوين الميدان العام أي تكوين الجمهورية بالمعنى الأصلي للكلمة ، كانت هذه الإلتفاتة إلى الرومان قد هيأها مونيسكيو من خلال مؤلفه "تأملات في تاريخ الرومان" . لكي يجد روبسبيار التبرير لجأ لمكيافيللي عندما قال : "لغرض إيجاد جمهورية جديدة ، أو لغرض إصلاح المؤسسات الجمهورية قائمة إصلاحا كاملا ، يجب أن يكون ذلك العمل من صنع رجل واحد فقط " ، و لعله استند أيضا إلى جيمس هارنغتون الذي بإشارته إلى القدماء و "مريدهم المتفقه مكيافيللي" كان قد شدد على أن "المشرع (وفق فهمنا لهارنغتون فالمشرع يتطابق مع المؤسس عنده) يجب أن يكون رجلا واحدا ، و أن الحكومة ينبغي أن تتألف معا أو في الحال ؛ من أجل هذه القضية فإن مشرعا حكيما قد يسعى بشكل عادل لكي يجعل السلطة ذات السيادة بين يديه ، ولايجوز لأي رجل رشيد أن يوجه اللوم لمثل هذه الوسيلة الإستثنائية ، لأنها في تلك الحال ستكون وسيلة ضرورية ، و النهاية ما هي إلا تكوين كومنولث منظم تنظيما حسنا" . هذا ما يوضح لنا مسعى روبسبيار جيدا .
في سياق حديثنا عن الدولة و سلطها ، لا يفوتنا الحديث عن الدستور ، حيث لعب هذا الميثاق عاملا مهما في الثورة الفرنسية ، فالدستور الأول الذي رفضه الملك ، ساهم في سخط الساخطين و إصرارهم على تطبقيه بعد أن كان مجرد حبر على ورق ، لقد أعقب هذا الدستور مجموعة من الدساتير واكبت الثورة الفرنسية بل استمرت صياغة الدساتير مع كل حدث بارز أبرزتَه الثورة مع تعاقب الجمهوريات الفرنسية التي تشكلت بعد الثورة . إننا إلى غاية اليوم خاضعون لسلطان هذه الصيرورة في الجدلية بين الممارسة الدستورية و الثورية ، لكننا رغم ذلك يصعب علينا فهم الثورة من جهة و الدستور و التأسيس من جهة أخرى ، حيث يظلان كالاتحاد المتبادل ؛ لكن بالنسبة لمعاصري أواخر القرن الثامن عشر فقد ظلوا بحاجة إلى دستور يضع الحدود الفاصلة للميدان السياسي و يحدد القواعد فيه . شهدت فرنسا على مدار أقل من قرن 14 دستورا ، أتعلمون ما الذي يعنيه 14 دستورا في هذه المدة الوجيزة ! ، يحيلنا على مهزلة المصطلح في الحد ذاته ، فعند عدم إمكانية صياغة دستور طويل الأمد يثبت النظام المسير للبلد مدى عبثيته .
في ظل العبثية التي سادت الدساتير ، برزت في الثورة الفرنسية ثورة على مستوى كيفية تسيير الدولة ، تمثلت هذه الثورة في علمنة البلد بعد أن كان خاضعا لنظام إلى حد ما اعتبر ثيوقراطيا بمفهومنا الحالي ، فقد كانت الملكية المطلقة المهيئة لظهور الدولة-الأمة ، مسؤولة عن بروز توجه عَلماني متمتعا بالعزة و البهاء . لكن ، نظرا لبروز العلمنة ، كان من المفروض طرح سؤال جديد-قديم يتمحور حول كيفية إيجاد و تكوين سلطة جديدة ، هذا ما يُمَكننا من فهم كيفية إنهيار البنية التقليدية لسلطة الملك لويس السادس عشر ، رغم أن الأمر من الناحية النظرية يبدو كما لو أن مذهب الحكم المطلق يحاول حل مشكلة السلطة من دون اللجوء إلى الوسيلة الثورية للتأسيس الجديد ؛ إنه حل المشكلة ؛ بعبارة أخرى ، في داخل مرجعية معينة كانت فيها شرعية الحكم عموما ، و سلطة القانون العَلماني و قوته خصوصا ، مبررة دائما بإسنادها إلى مصدر مطلق هو بذاته ليس من هذا العالم . إن الثورات ، تحدَّد ضمن عرف التأسيس جزئيا على حدث ، أي على أمر مطلق كان قد ظهر في الزمن التاريخي كونه واقعا دنيويا . بسبب الطبيعة الدنيوية لهذا الأمر المطلق ، غدت السلطة غير ممكنة من دون نوع ما من المباركة الدينية ، و بما أن مهمة الثورات كانت إنشاء سلطة جديدة دون عون من عرف ولا سابقة ، و دون هالة الزمن الأزلي-الأبدي ، فما كان أمامها إلا أن تبرز بكل وضوح المشكلة القديمة ، و هي ليست مشكلة القانون و السلطة بذاتهما ، بل مشكلة مصدر القانون الذي سيضفي شرعية على قوانين إيجابية وضعية ، و مشكلة أصل السلطة التي ستضفي شرعية على السلطات التي ستكون . إذا ، كان من الحتمي بروز مفهوم جديد للسلطة تمثل في مركزيته على الأرض بدل مركزيته حيث توجد الكائنات الميتافيزيقية . إن السلطة تظل على حالها و لا يمكن إيقافها إلا بسلطة ، حيث يعتبر مبدأ فصل السلط و إسقاط القدسية المطلقة منها ، لا يوفران فقط ضمانا ضد إحتكار السلطة من طرف واحد تابع لحكومة تابعة لوريث إله ، بل تتوفر على نوع من الآلية في الواقع ، تتموضع في صلب الحكومة ، من خلالها تتولد سلطة جديدة باستمرار . إن النتيجة بعيدة المدى للثورة الفرنسية كانت من الناحية النظرية ، تتمثل في ولادة المفهوم الحديث للتاريخ في فلسفة هيغل ، كانت فكرة هيغل الثورية حقا ، هي أن الثابت القديم للفلاسفة قد كشف عن نفسه في ميدان الشؤون الإنسانية ، أي بالضبط في ذلك الميدان من التجارب الإنسانية التي نفى الفلاسفة بالإجماع كونها مصدر المستويات الثابتة . إن النموذج لهذا الكشف الجديد عن طريق عملية تاريخية كان بوضوحٍ ~الثورة الفرنسية~ ؛ لعبت الثورة الفرنسية دورا رئيسيا في العلاقة بين الفلسفة و الشؤون الإنسانية ، أي أن تكشف حقيقة مطلقة في ميدان تحكمه علاقات البشر و صلات القربى ؛ ثمة جانب اخر في أبحاث هيغل يبدو بوضوح أنه استمده من تجارب الثورة الفرنسية ، و هو أكثر أهمية في سياق حديثنا هذا ، إذ انه ذو تأثير في ثورات القرنين التاسع عشر و العشرين ؛ و هي كلها ، حتى إن لم تتعلم دروسها من ماركس ، كما لم تعبأ أبدا بقراءة هيغل , إن هذا الجانب يتعلق بطبيعة حركة التاريخ ، و هي بحسب هيغل وتلاميذه -بل و معارضيه إنطلاقا من كتاباته- ديالكتيكية جدلية تحركها الضرورة ، فقد وُلدت من رحم الثورة و الثورة المضادة ، الحركية الديالكتيكية الجدلية و الحركة المضادة للتاريخ التي تحمل البشر فوق سيل لا يقاوم ، أشبه بالتيار الذي يتدفق تحت السطح ، و عليهم أن يستسلموا له في اللحظة التي يحاولون فيها إقامة الحرية على الأرض . هذا فعلا معنى جدلية الحرية و الضرورة ، إنها جدلية مشهورة يلتقي كلاهما في النهاية ، مفارقة فظيعة لا تحتمل من الناحية الإنسانية .
ختاما : رغم المحاولات الدؤوبة لإنجاح الثورة ، لكن مآلها كان الإجهاض بعد أن أكلت أبناءها ، إنطلاقا من أن جرائم الإستبداد تُقدم الحرية ، و تَقدم الحرية يكثر جرائم الإستبداد ؛ فثمن الحرية التي نادى بها ثوار الثورة الفرنسية كان افتراسهم ، فقد عرفت حدثا لم تعرفه مختلف الثورات السابقة ، بل يمكننا القول و اللاحقة أيضا ، فقد تميزت بعدم إستطاعة أحد من الفاعلين السيطرة على مجرى الأحداث ، أصبحت ثورة متداخلة ، بل كأنما وَلدت نوعا من العبثية لم يستطع الثوار على إثرها التنبؤ بالسياق الذي تجري فيه الثورة ، عكس ماحدث في الثورة الأمريكية التي سبقتها بسنوات معدودة ، لكن هذه العبثية اقترنت بإحساس كان قويا ، الإحساس بأن الإنسان سيد مصيره ، هنا بدأ الفرنسيون يحققون الحرية بدل التحرر ، لكن كما ذكرنا فالحرية التي تم تحقيقها لم تكن مجانية ، بل اقترنت هي الأخرى بمآسي و تنازلات شهدها الفرنسيون في الثورة ، بل و في أعقابها أيضا ؛ في الأيام التي شهدت فرنسا إستقرارا ملغوما خلال ما عرف بعصر التنوير ، برزت القوى الإستبدادية للملك التي تقف بين الفرد و حريته ؛ لكن مع الثورة الفرنسية برزت قوة أعتى ظهرت فجأة لتخضع الإنسان بإرادته لقوة التاريخ و ضرورته التاريخية ، تلك القوى التي وصفتها حنة بأن لا خلاص منها لا بالتمرد ولا بالفرار ؛ فرغم اقتران الثورة بالعنف ، لا يمكننا وصف الثورة بالعنف ، و العنف لا يكفي لوصف ظاهرة الثورة ، بل إن التغيير هو الوصف الأجدر بها (هذا ما لم تفهمه الشعوب العربية ، فإسقاط النظام مع إقتران هذه الممارسة بالعنف ليست معيارا لنجاح الثورة ، بل إن النظام يمثل آنذاك في شخص واحد ، إسقاط النظام هنا يكون عبارة عن حماية النظام و مده بفرصة لإستعادة القوة و الهيبة، بدل تغيير الأنظمة التي تعتبر إلى حد ما من أنماط الإنتاج الكولونيالي ؛ فالشعار الأجدر بالرفع هو تغيير النظام ، فالإسقاط لا يمثل البداية الجديدة ، بل إن التغيير من يمثلها ، فالتغيير مقترن بالإسقاط ، بينما الإسقاط غير مقترن بالتغيير ) . إن درس الثورة الفرنسية يكشف حقيقة تاريخية ، أو يكشف أن نابليون بونابرت أضحى قدرا ، بشكل أقوى للمشاهد منه للفاعل . لقد أرخت الثورة الفرنسية بظلالها على الثورات اللاحقة 183o-1832-1848-1851-1871 ... , فأصبح من الشائع تفسير الإنتفاضات العنيفة كلها على أنها إستمرارية لحركة بدأت سنة 1789 ، لقد فهم المعاصرون لثورات القرن التاسع عشر سواء كانوا مناصرين أم معارضين على أن هذه النتائج مصدرها سنة 1789 . بإمكاننا من خلال تنظير روبسبيار ، الذي كان يرى وجوب إستمرار الثورة في حالة دوام -كما أكد في القرن التاسع عشر برودون على وجوب الثورة الدائمة- إستنباط السؤال الصعب الذي ينذر بالخطر ، بل إنه أقلق كل الثوريين القادمين من بعده المتمثل في : 《إذا كانت نهاية الثورة و إيجاد حكومة دستورية يفضي إلى نهاية الحرية العامة ، ألم يكن المرغوب فيه إذا إنهاء الثورة ؟》
#آدم_الحسناوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثورة الفرنسية من خلال كتابات حنة آرندت
-
قراءة مختلفة حول حرق العلم المغربي بباريس
المزيد.....
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
-
زاخاروفا ترد على تصريحات بودولياك حول صاروخ -أوريشنيك-
-
خلافات داخل فريق ترامب الانتقالي تصل إلى الشتائم والاعتداء ا
...
-
الخارجية الإماراتية: نتابع عن كثب قضية اختفاء المواطن المولد
...
-
ظهور بحيرة حمم بركانية إثر ثوران بركان جريندافيك في إيسلندا
...
-
وزارة الصحة اللبنانية تكشف حصيلة القتلى والجرحى منذ بدء -ا
...
-
-فايننشال تايمز-: خطط ترامب للتقارب مع روسيا تهدد بريطانيا و
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|