أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالرزاق دحنون - في الحيلة لدفع الأحزان















المزيد.....

في الحيلة لدفع الأحزان


عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري


الحوار المتمدن-العدد: 6434 - 2019 / 12 / 10 - 15:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


(قراءة في رسالة منسيَّة لأبي يوسف يعقوب بن أسحاق الكندي)


كنتُ في ركني الحميم في منزلي في مدينة إدلب في شمال غرب سورية أكتب عن الكندي من خلال رسالة طريفة سماها " في الحيلة لدفع الأحزان" وأبو يوسف يعقوب بن أسحاق الكندي لقبه "فيلسوف العرب" وهو لقب قديم، يذكره ابن النديم في "الفهرست". في هذه الرسالة التي وجهها إلى صديق طلب منه أن يضع رسالة في دفع الأحزان. يبدأ الكندي بأن يبيِّن أن كل ألم لا يُعرف سببه لا يُرجى شفاؤه. وينبغي بيان سبب الحزن. ولهذا يُعرِّف الحزن بأنه ألم نفسانيٌّ ناتجٌ عن فقد أشياء محبوبة أو عن عدم تحقيق رغبات مطلوبة. فلننظر هل يمكن إنساناً من الناس التخلص من هذين السببين؟

يقسِّم الكندي في بحثه هذه المحبوبات والمطلوبات إلى حسيَّة وعقليَّة:
فالأولى مصيرها الزوال، وبالتالي يحزن الإنسان لفسادها وزوالها ويشعر بالآلام. أما الثانية فهي دائمة وثابتة لا تتعرض لفقد أو فوات. ولذلك فمن كان يريد أن يُرَى سعيداً ويطرح عن نفسه آلام الحزن، فيجب عليه أن يروم محبوباته ومطلوباته في العالم العقلي لا العالم الحسي، يقول الكندي:

فإن أحببنا ألا نفقد محبوباتنا، ولا تفوتنا طلباتنا، فينبغي أن نشاهد العالم العقلي، وتصير محبوبتنا و قنْياتنا -أي ممتلكاتنا- وإرادتنا منه. فإنا إذا فعلنا ذلك أمنَّا أن يغصبنا قنياتنا أحد، أو تملكها علينا يد، وأن نعدم ما أحببنا منها، إذ لا تنالها الآفات، ولا يلحقها الممات. ويرى أن الإنسان معرض دائماً لفقد محبوب، وفوات مطلوب مرغوب فيه، فإن هو حزن لذلك فإنه سوف يكون دائم الحزن. لذلك فإنه ينبغي ألا نحزن على الفائتات، ولا فقد المحبوبات، وأن نجعل أنفسنا، بالعادة الجميلة، راضية بكل حال، لنكون مسرورين أبداً.

وهُنا توقفت لوحة مفاتيح الكمبيوتر عن الكلام المُباح وخرجتُ من دياري وانصرفتُ عنها كما قيل في المثل مكره أخوك لا بطل. خرجتُ حزيناً من مدينتي وملعب أهلي وناسي في رحلة رحيل شاقة إلى مدينة أزمير على شاطئ بحر إيجة هارباً من حرب ضروس أفنت البشر والحجر. نحن الآن في مدينة أخرى, علَّقنا أحلامنا على مشاجبها, وتركنا بسُقُوف بيوتنا, بصلاً, وبامية, ورماناً, وتيناً يابساً, وثوماً للشتاءْ, تركنا حليباً في أَضرع أبقارنا, وتركنا رفَّ حمامنا المنزليّ بلا ماء, و تركنا الطائرات الحربية تُحلّق في الأجواء, وأعطينا لزغب القطا طوق النجاة, ثمَّ عبرنا جسر الموت إلى الحياة.

توقفت عن الكتابة في هذه المقال من ثلاث سنوات بسبب بقاء رسالة الكندي في مكتبتي البعيدة. إلى أن اهتديت إلى مقال عن رسالة الكندي المنسية هذه كتبه الدكتور المغربي عبد الله رمضاني-حيَّاه الله وأمده بالصَّحة والعافية- في العدد /506/الصادر يوم السبت 10/11/2018 من المجلة العربية. فرحتُ بالمقال فرح الأطفال بالعيد لأنه أعاد لي ما فقدت وحزنتُ من أجله. وها أنا أكمل مقالي مستطيعاً بغيري.

انطلق الكندي في رسم علاج الحزن من مسلَّمة أساسية هي: كل ألم لا يُعرف سببه لا يُرجى علاجُه، ولهذا، حسب رأيه، ينبغي تبيين سبب الحزن ليمكن وصف علاجه. من الأساليب التي يعتمدها الكندي لدفع الحزن أن نفكر في الحزن ونقسمه إلى نوعين:
الأول يحدث بسبب فعل نقوم به، ويتوقف أمره على إرادتنا. الثاني ينشأ عن عمل يقوم به الغير ويتوقف أمره على إرادته. النوع الأول من الحزن يمكن التخلص منه، لأننا نستطيع أن نجنب أنفسنا السبب في هذا الحزن ونزهد فيه. وأما ما يصدر بسبب غيرنا فيجب علينا ألا نحزن قبل وقوع هذا الفعل. وفي حالة حدوث هذا الفعل وكان سبباً في حزننا فينبغي علينا أن نجتهد في الحيلة للتلطف لتقصير مدة الحزن. فإنَّا إن قصَّرنا في ذلك كنَّا مقصرين في مهمة دفع البلاء الذي يمكننا دفعه، وبالتالي فمن يحزن يؤذ نفسه، ومن يؤذ نفسه يكن شقيَّاً ظالماً.

من الأساليب التي يقترحها الكندي للتخلص من الحزن، عملية استذكار الأسباب التي كانت وراء حزننا وحزن غيرنا، فهي –استذكار الأسباب- وسيلة فعالة تمدنا بقوة عظيمة للسلوة من الأحزان. وبهذه المناسبة يستدل الكندي برسالة بعث بها الإسكندر المقدوني إلى أمه يعزِّيها وهو على فراش الموت. مفادها أنه طلب منها ألا تحزن، لأن كل شيء في الدنيا زائل، وأنه إذا مات فلتجمع الناس على طعام وشراب، وليصرخ الصارخ ألا يحضر كل من أصابته مصيبة فلم يحضر أحد.

وربط الكندي بين الحزن والملكيَّة، لأنهم قالوا: المالك للشيء مملوك له، ومن أراد الحرية فليخرج من ملكوت الرغبة, لذلك يرى أن علينا ألا نملك شيئاً زائداً عن الحاجة حتى لا نفقده فيكون فقدانه سبباً للحزن.

وفي هذا السياق يذكر الكندي لصديقه حكاية نيرون الذي أُهدِي كرة من البلور عجيبة الصَّنعة، فسُرّ بها كثيراً، ومدحها الحاضرون من خاصته، وكان بينهم أحد الفلاسفة، فسأله نيرون عن رأيه في كرة البلور، فأجاب الفيلسوف بأنها تنطوي على مصيبة ستحدث، فقال نيرون: كيف ذلك؟ فقال الفيلسوف: لأنك إن فقدتها، فلا أمل في أن تظفر بمثلها، وعندئذ يتلبسك الحزن.

يُذكّر الكندي الإنسان بأن كل ما يمتلكه وما في حوزته إنما هو لله عز وجل، ويمكن له في أي لحظة شاء أن يسترده منه، وبالتالي فلا يليق بنا أن نحزن ولا نأسى لهذا الاسترداد، بل يجب أن نفرح لكون أنه تعالى استرجع منا الأخسَّ والأقل قسمة وشأناً المتمثل في ركام الدنيا وحطامها الزائل الخارج عنا، ولم يسترد منا ما ننعم به من خيرات نفسانية وهو ما يوجب الفرح لا الحزن. وقد قيل لسقراط: ما بالك لا تحزن؟ فقال: لأني لا أقتني ما إذا فقدته حزنت عليه.

ولا يفوت الكندي، هنا، أن يُذكِّر الإنسان أيضاً بأن الحماية من حدوث الأشياء المحزنة تتم عن طريق العيش وفق تمام طبيعته، وطلب الحسن من القبح، والإيمان بوجود الخير عند حصول الشر، وطرد الخوف والتسلح بالرجاء، والاعتقاد بإمكانية ظهور الحياة من تجربة الموت. فمثلاً نحن نعتقد أنه لا شيء أسوأ من الموت، لكن الموت ليس شراً، وإنما الشر هو الخوف من الموت، لأن الموت تمام لطبيعتنا، وبدون الموت لن يوجد إنسان أبداً، لأنه إن لم يمت لم يكن إنساناً، ولخرج عن طبيعته الإنسانية.



#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منصور الأتاسي وداعاً
- غزة في الوجدان
- براميل متفجرة وطناجر مطبخ
- دقيقتان مع ونستون تشرشل
- مات طباخ الرئيس
- عبدالله حنا يكتب عن خالد بكداش
- امرأة شجاعة من أهل البادية السورية
- قِلَّة أدب
- لينين حكيماً
- المستطرف الصغير
- لينين مات قبل أوانه
- وافق شَنٌّ طَبَقَة
- هل كان عروة بن الورد شيوعياً؟
- السخرية في رسالة الغفران
- عزيزي القناص لماذا قتلتني؟
- عبد المعين مع الكادحين
- علاء اللامي يكتب في رحيل هادي العلوي
- 90مليون شيوعي
- ماركس بلا ماركسية
- عمّار الأمير في شتيمة موصوفة


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالرزاق دحنون - في الحيلة لدفع الأحزان