|
إنشودة للإنعتاق .. تغريدة لأفق مفتوح 7 من 10
عبدالحميد برتو
باحث
(Abdul Hamid Barto)
الحوار المتمدن-العدد: 6431 - 2019 / 12 / 7 - 21:08
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
رفاق في المسيرة
من أروع مواقف الكاتب أنه لا يتزمت في أحكامه، يُراجعها ويُدققها بإستمرار. تأخذ المواقف عنده في الغالب حالة من الإنسيابية العذبة. قلما تتحول الى دوامة أو إعصار إو غضب ملتهب. ويظل لكل موقف تردداته. يستهدف الإقتراب المعتدل من المشاعر والأحاسيس الإنسانية بواقعية، وليس قسراً.
يقول مخاطباً نفسه في حوار ظل مع مفيستو: "أَفهمُ أَنَّ المركبةَ تُضرِبُ عن الحركةِ إذا إنتهى وَقودُها.. كذلك أَفهمُ ما يبعثه الفراقُ الطويلُ.. أَفهَمُ حاجاتِ الجسد عندما يَعوي في ليالي الوحدة..". (الرواية ص 130). ففي الجزء الأول من هذه العبارة يجد مبرراً لتوقف المركبة بسبب الوقود. ويوضح أهمية العلاقات السببية لكل فعل، خيراً كان أو شراً. لا يألو جهداً في محاولته إيجاد ولو خيط واهٍ لتبرير صدمته بالإنسانة، التي من المفترض أنها الأقرب الى فهم ظروفه. على الرغم من أنها أغلقت جميع الأبواب بوجهه بلا رحمة وبنوع يخلو من الذوق ولا يترك فرصة لأية مراجعة.
حملت الروايةُ أسماءً ومواقع كثيرة أيضاً. لكل موقع خصوصيتة التي تميزه عن غيره. إحتضنت الرواية قرى ومدن عربية وتركية وإيرانية وأفغانية، سهول غناء ومجدبة، وجبال فيها الموحش والجميل، وديان وقنوات وأنهار. وفي المدينة الواحدة أحياء مترفة وجميلة، وأخرى فقيرة وبائسة، فطهران شمرانات غير جنوبها الفقير. ومدن أخرى، مثل موسكو تحتضن أصدقاء ورفاقاً ومعارف كثيرين.
ترد في الرواية أسماء كثيرة من الصعب حتى الإشارة إليها كلها. أتوقف هنا عند القليل منها هنا. عند أولئك الذين يحمل سفر حياتهم تجارب تصب في إتجاه معين وغني. ولهم تأثير ملموس في الأحداث التي مرت عليها الرواية. هذا الى جانب ما ذُكر عن أسماء أخرى في حلقات هذا التقريظ.
يكتسب اللقاء مع أبي يحيى الرفيق الراحل (زكي خيري) طعماً ولوناً يُناسب رجلاً عمره وتجاربه تتطابق مع عمر وتجارب الحزب. يقول الكاتب: "عُدنا عصراً إلى فندق الحزب. في بهو الفندق كان الرفيق يجلس مع زوجته الرفيقة أم يحيى (سعاد خيري) سلّمت عليهما. كانت قد مضت ثلاثُ سنوات على آخر مرة إلتقينا فيها، أيام إنعقاد المؤتمر الرابع للحزب في كردستان.
يضيف الكاتب قدّم أبو يحيى مطالعة جريئة بضرورة مراجعة الحزب لموقفه من الحرب مع إيران. بعد أن حرَّرَت أراضيها. وسعت للتمدد في الأراضي العراقية: "فالوطن ليس مِلكاً للنظام!.. كان أبو يحيى يعرف أن الأجواء العامة داخل الحزب آنذاك، وفي كردستان ـ بين الأنصار ـ بشكل خاص، لم تكن إلى جانب رأيه، لكنه جاهرَ بموقفه ودافع عنه، مما عرّضه لإنتقادٍ حاد من قبل بعض المؤتمرين، لاسيما أبو طالب.. حينها كَبُرَ الرجلُ في عيني لأنه لم يُساير الرأيَ السائد، بل دافع بشجاعة عن رأيه وموقفه... بمرارة تذكّر أبو يحيى ذلك الموقف، وسألني "أما تتذكر موقف أبي طالب وما حلَّ به!.." قلتُ أتذكرُ وقد سمعتُ بما حلَّ به !.. (الرواية 394 ـ 395).
ومن المعلوم أن أبا طالب الذي تمادى في مهاجمة الرفيق زكي خيري لم يصمد عند مواجهته للعدو، ووقف موقفاً لا يحسد عليه. باركت الرواية وأبرزت قيمة هامة أخلاقياً وفكرياً وسياسياً. أن يواجه رفيق بمفرده، وبدعم محدود من عدد قليل من الرفاق، آراءً يراها جانبت ما ينبغي أن يكون عليه الرأي والموقف.
تنقل الرواية حالة أخرى عن الرحيل الأبدي ومرارة التوديع. يتزامن ذلك مع ما يفترض بالسفر للقاء العائلة والحياة الأوسع. تختلط دموع الفرح بالإجازات مع الحزن العميق على رحيل رفيق درب طويل ومرير. هذا الى جانب وجود جرافات لدولة أخرى تخدش حرمة أرضي الوطن. وتتحد العبارات والعبرات معاً، لِتُشكل لحناً جنائزياً يخلع بقايا القلب المتعب.
وقد جاء رثاء الكاتب لأحد رفاقه حزيناً وموجعاً: "قُـمْ .. ! فهذا ليسَ مـاءَ السماء.. هـوَ دَمعُـكَ، لا تَـدري أَهـيَ فرحـةُ الرحيـلِ بعد طـولِ إنتظـارٍ..؟ أَمْ أنَّكَ تبكي ضُحـىً بلونِ البرتقال، يتسلَّلُ خَلَلَ غبـارِ الجرافات الأيرانية الضخمة، تُخَدِّشُ جبينَ وطنٍ سيُصابُ بلَوثَةِ الإحتـلال..؟! أَمْ تبكي رفيقاً كانَ مُقرَّراً أَنْ تُسافِرَ معـه (أبو عباس، أبو كسرى، مهدي عبد الكريم عضو ل.م) لكنَّ قلبَه خانَـه فتوسَّد أَرضَ الجبَلِ الباردةِ، وظلَّ مقروراً في پيربينان..". (الرواية ص 99). أناقش هنا حالة أخرى تعرض نمطاً من التفكير، وما يترتب عليه من أساليب معالجة. أجد هنا مشروعية بأن يقول الكاتب في حواره المباشر أو غير المباشر مع الجنرال: إن أعواماً من الإنقطاع التام عن حياة الإنسان الطبيعي، تخلق أضراراً خطيرة جسدية وذهنية. كيف مر مثل هذا الحال على المقرر والمنفذ معاً؟ أكتفي هنا بذكر إحتمالين إثنين فقط، مفتوحين على جملة واسعة من الأسباب، هما: الحياء المتأصل في الذات لعوامل إجتماعية صرفة. والخوف من الإتهام الظالم بالجبن لِمَنْ تعز عليه كرامته الوطنية والشخصية، وربما الطبقية لحد ما.
يتسلى الكاتب ويجد عزاءه بخطابه للشخصية الملحمية ذات الأطوار الغريبة والمتعدة، أو على الأقل جليسه في الحوار الداخلي مع الذات. وهنا أيضاً يتمسك الكاتب بأعراف وقيم تستحق الإحترام والتمسك بها: "أَنا لَمْ أكنْ باحثاً عن ذَهبٍ أو مَجدٍ و شُهرَةٍ، ما كنتُ صيّادَ فُرَصٍ للنجومية ولا إعتلاءَ عَرشِ بطولة!.. بوصلتي هذا الضمير، الذي لا أَملِكُ غيره.. كنتُ أسعى، مع كثرةٍ من الصَحبِ، دماؤنا على راحاتِ أيدينا، وراءَ حُلُمٍ بوطنٍ خالٍ من الذُلِّ والقَهرِ.. وطنٌ نَليقُ بـه ويَليقُ بالكُلِّ!.. ما كُنّا بحّارةً خسروا كل شيءٍ في ملاهي مرافِيءَ نائيات.. أَلهذا أَستحِقُّ كل هذه البذاءات الرخيصة والشتائم ؟!.. لستُ أنا مَنْ يستحقُّ الشتيمة!.. غَيري، في أَغلب الظن!..". (الرواية ص. 130 ـ 131).
في كل تموجات الحال، ومحاورات الذات، لا يفقد الكاتب الإعتزاز بروح الجماعة. إعتزاز يملك القدرة على الملاحظة الخارجية، وإستنباط التقديرات. على الرغم من كل ذلك يظل جرح الكلمات القاسية يحفر أخدوداً عميقاً في ذاته وجسده، بل أخاديد. إنها لعنة عدم التفهم المشترك. كيف لا نكون أقوياء في مواجهة إختبارات ومرارات الزمن والصحاب.
تظهر في العمل وبين طياته أحداث وأسماء لرفاق كبار في الدور والمساهمات بالنضال الوطني العام أو النضال الإجتماعي؛ إنتصارات أو تعثرات. في متن الرواية وهوامشها جاء ذكر كل من: آراخاجادور، كاظم حبيب، سليمان يوسف اسطيفان بوكا، كامل كرم، عزيز محمد، بهاء الدين نوري، كريم أحمد، توما توماس وكثيرين غيرهم. حَرَصَ الكاتبُ على أن يكون إيجابياً في التوقف عند ذكر رفاقه، مدركاً أنه يمارس عملاً أدبياً رقيقاً، وإن بدا قاسياً في بعض الأحيان والمواقع. إن عمله الحالي ليس مقاماً للتقويم العام.
لم يتراخَ من جانب آخر في توصيف بعض التصرفات وأصحابها، مثل: رؤية الجنرال للعمل الأنصاري. تقديم الروح العسكرية على حساب الجانب الإنساني والرفاقي. والنزعة الحِرفية الضيقة عند بعض الأنصار، الذين لم يتم إعدادهم السياسي والفكري والثقافي بما يتناسب مع دورهم. فمنهم من كان يتسلى من خلال محاولات إختبار القادمين الجدد بفجاجة، لا تنم عن جهادية أصيلة. وربما توحي بضعف إقتناعهم هم أنفسهم بدورهم النضالي. إن مَنْ يميل الى التباري مع الآخرين، بروح غير رياضية تنقصها الأصالة، وللترويح عن نفسه المحتقنة فقط. قطعاً لا يحاكي روح الفروسية، ولا حتى يقترب منها. ومَنْ يعرف قدر نفسه لا يبخس الآخرين وتضحياتهم. إن روح الشهامة والفروسية إذا تحلى بها المرء تمنحه حضوراً محبباً وإحتراماً كبيراً بين محيطيه ومعارفه.
تداهم الذكرياتُ والأفكارُ وقراءآتُ الأحداثِ والتطوراتِ المُطاردَ دفعة واحدة. تهب في طهران أحداث الجبل. وفي الجبل ربما يرى دائرة أوسع: ذكريات الهروب، مواقف الرفاق، العائلة، السلاح الكيماوي، صراع الأفكار. ببساطة ربما كل شيء مر عليه. وعندنا يسعى لراحة البال بُرْهَةً. ويتخفف بقدح أو إثنين يجد حاله في وضع وصفه بـ: "أنايَ الآخرى لا يَمِلُّ يُناكدني كلَّما سَرَحَتْ بي الأفكارُ.. راح يُخابثني إنْ كنتُ حقاً واثقاً من عُدّتنا الفكرية والمعرفية لمجابهة السلطة!.. فالشجاعةُ والبطولة لا يكفيان لوحدهما في التصدي لنظامٍ إجرامي، ينهلُ بإنتقائية عاليةٍ من "الشرق" و"الغرب" كل أسباب بقائه، فلا يتردَّدُ حتى في إستخدام ما هو محرَّمٌ دولياً، كما إستخدم الغازات السامة ضدَّ مواقعنا في بهدينان وفي حلبجه مؤخراً". (الرواية ص 139 ـ 140)
لا تذهب أدراج الرياح المناقشات التي تدور بين الرفاق على قاعدة "الشيءُ بالشيءِ يُذْكَر". يقول يحيى علوان: "إزاءَ ذلك، شعرتُ بوخزةٍ في موضعٍ، طَفَرَتْ منه مُحادثةٌ، جرَتْ بيني وبين "الجنرال" قبل عام.. كنّا نتمشّى في ضحىً شتائي حلو تغمرُ فيه الشمس الوادي بدفءٍ لذيذ. سألني، بعد أنْ جالَ ببصره من فوق التلّةِ حيث موقع الإذاعة يستطلعُ وادي خواكورك.. إنْ كنتُ متأكداً من صلاحية موقع الإذاعة لأنه مكشوفٌ للطيران، وليس له حماية.. قُلتُ يا رفيق، مضتْ علينا سنتان ونحن في هذا الموضع، فالدفاعات الجوية سحبتموها لحماية مقر القيادة، مُعلّلين القرار بأنه ستتم من هناك حمايتنا أيضاً.. ثم أنَّ هذا الموقع تمَّ إختياره بصورةٍ مشتركة بين فريق المهندسين ومندوب من "معم"[المكتب العسكري المركزي] الذي كنتَ تقوده.. فما الذي حدثَ الآن؟!..". (الرواية ص 140)
لم تنقطع التداعيات عند هذا الحد. نشطت الذاكرة من جديد بعد أن إستحثها الكأس الثاني من المقسوم. إنساب حديث الجنرال طرياً بكل وقاره وتهجده: "قال وصلت إلى الحزب معلومة مفادها أن النظامَ في بغداد إشترى من الأمريكان خارطةً تفصيلية لكل كردستان مأخوذة من الأقمار الصناعية، فيها كل الأنهار والجداول والقمم والينابيع، مع إحداثياتٍ دقيقة، أي أصبح بأمكانه مهاجمة أية نقطة في المنطقة، من الأرض أو الجو.. ". (الرواية ص 140).
هل يأخذ كلام الجنرال على علاته، دون أن يستفسر كعادته، في مثل هذه الحالات. أطلق عنان الذاكرة لتندلق الذكريات دون عناء. وهاهو سؤاله يمثل أمامه من جديد. "ولما إستفسرتُ منه عن الإجراءات الإحترازية من جانبنا، رَبَتَ على كتفي مُطمِّناً، مثلما يفعلُ أَبٌ مع صغيره.. لا تقلق!.. فالحزبُ يتدبّر الأمر حين تحين الساعة.. لكن لا تنقل هذا الخبر إلى بقية الرفاق!..". (الرواية ص 141)
لم يترك الكاتب لقب الجنرال الذي تكرر في مواقع عديدة بالرواية سائباً يحتمل التأويل. سلط الضوء على لقبين كانا يطلقان على الرفيق أبي عامل ـ سليمان يوسف تحبباً، هما ـ تشاباييف والجنرال. يذكر أن أبا عامل محام عمل بصفة ضابط في الجيش العراقي. تولى في فترات مختلفة لاحقة مسؤولية الخط العسكري للحزب الشيوعي العراقي ـ المنظمة الحزبية في الجيش. أما تشاباييف فيُذْكَرُ في الأدب الثوري الكثير عن تجارب الحرب الأهلية في روسيا. وظهور قادة في الميدان الفعلي للمعارك. من هؤلاء كانت التجربة التي قادها أحد الفلاحين الروس ـ تشاباييف.
جاء في الرواية حول اللقبين بالهامش رقم (20): "تشاباييف هو القائد الفلاحي الروسي الشهير، الذي قاد معارك ضارية ضد "البيض" في الحرب الأهلية بعد ثورة أكتوبر، وسُميت الفرقة التي قادها بأسمه.. هذا التوصيف كان يُطلَقُ دُعابة على ر. أبو عامل (سلیمان سطيفان) خلال فترة قيادته للمكتب العسكري المركزي (معم) وكان البعض الآخر يسميه "الجنرال". (الرواية ص 402)
تولي الرواية إهتماماً خاصاً بإدارة العمل العسكري. فالنصر، أو على الأقل تقليص الخسائر، يتوقف على مهارة القائد العسكري، ورد فعله على الأعمال العسكرية المتوقعة والمفاجئة، وشروط ومواصفات الدفاع والهجوم والإنسحاب، وكل تقنيات العمل العسكري. ومن بين الشروط الضرورية في كل عمل عسكري ناجح، أن يعرف المعنيون (المخططون والمنفذون) الخطوط العامة لخطوات أية معركة، وكذلك مواقع الإقامة والتخيم والكمون ونقطة الإنطلاق.
يقدم الكاتب وصفاً مثيراً للهجوم الكيماوي على أحد مواقع الأنصار. الإختيار غير الموفق لبعض المقرات خلق قصة ملحمية مؤلمة. مزَّقتِ المدفعيةُ سمفونيةَ الطَيرِ، حتى الدجاجُ في قِنِّه أَصابَه الذُعرُ. وينقل مشاهد نابضة بالحياة والحركة والألم. كيف يراقبون بتوجس مفرزة من رفاقهم قادمة بإتجاههم. تبدو حالتهم غير مسرة، كلما إقتربت المفرزة، وبانت بعض ملامح أفرادها.
يتخيل الكاتب مآتِمَ (ستُقامُ على مَنْ نَخَرَ "الخردَلُ" أجسادَهمْ، ونَسِيَ"التأريخُ" أَنْ يَفردَ لهم صَفحـةً. لأنهـم أُناسٌ عاديّـونَ، وفوقَ ذلكَ لَمْ ينتصروا.. حتى على "أَقدارهـم"..!. إنتصروا على مخاوفهِـم ورغباتهم فقط، كـي يُنقذوا المصيرَ من مصيـرِه، لأنهـم قرأوا كـفَّ الأقـدارِ، فقالَ لهمْ "الجنرالُ"..!، مثلَ تمثـالٍ مُتَجَهِّمٍ صالَبَ ذراعيـه عندَ الصدرِ كَـي يمنَـعَ إنكِسـارَ معنويـاتٍ، هِـيَ صلبَةٍ أَصلاً.. "كلاّ هذه قنابِلُ دُخانٍ ولا شيءَ آخر.. إيّـاكم والمغـالاة ..! لأنَّهـا قد تُثيـرُ هَلَعَـاً لا يَليـقُ بمناضليـن..! تُـرى لِمـاذا تُصِـرُّ "الآلهةُ" علـى أَلاّ تُخطِيءُ بِحَـقِّ غَيرِنِـا..؟! أَلأَنَّنَـا غُـرَرٌ مُنضبطونَ؟!..). (الرواية ص 77). وكان الحال أَنينٌ هنـا، ونـداءٌ من هنـاك.
لَـو ترك الأنصار الوادي، وتوجهوا صوب الجَبَل، حيث النبـعِ والمضادات الجـويَّة، لكانت كثافة الخردل أقل وطأة في المرتفعات. تساعد الرياح في تبديد قسمٍ منها. على الضد من ذلك، فإن قعر الوادي يدعها تحافظ على قوة قهرها. ولو إغتَسَلوا وبدّلوا ملابسهم عند النبع، لما ظهروا مثل فلول جيش منكسر. لَمَا كان فعَـلَ "الخـردَلُ" بهذه القوة بفعل سوءُ التقديـرِ والتدبيـرِ.
هذه الأجواء تستفز قرحة الكاتب بساديةٍ إستثنائية، على حد وصفه، بل إحساسه بها. سوء التدبير ساعده بالعودة الى حالته الشخصية: "ومن أين له أن يلبي وصايا الأطباء بأنْ لا يجوع ويأكلَ أربعَ مرّات في اليوم على الأقل؟! من أين له مثل هذا الترف الباذخ في وضع لا تتوفّرُ فيه حتى وجبة واحدةٌ في اليوم. وهنا يشير الكاتب الى خصلة حميدة عند الجنرال، حين كان يأكلُ معهم "لقمتين أو ثلاثاً، ثم ينهضُ مُدّعياً أنه إكتفى وشَبِعَ. كي يتيحَ للباقينَ أنْ يشبعوا؟!.. أَيَّ إيثار؟!". (الرواية ص 264)
يحبس الكاتب أنفاسه في طريق الهروب الأول من طهران. قبل أن يقع في كمين عند مشارف مدينة زاهدان، يسحبه الى معتقل في كرمان عند مشارف مدينة زاهدان. يتقيد بوصايا المهرب، على الرغم من فجاجتها ومقارنتها بآخرين مروا عليه سابقاً. يحاول حبِسَ أنفاسه بمنديلٍ حَشَا فمه به، لمنع ما قَدْ يتَسَرَبُ، من صوتٍ خلالَ التنفس، يعاني من إلتهابِ قَصَباتٍ مُزمِنٍ. وهنا يتذكر أيضاً ما كانَ يُردِّدُه الرفيق د. رحيم عجينة من مقولةٍ إنكليزية أَقرَبُ إلى أَفوريزم من أَنَّ "إلتهابَ القصباتِ المُزمن، وَهمٌ في عقولِ الأطباء، كذلكَ الإلتهابُ المُزمِنُ في جُدارِ المعدة، وَهمٌ في عقولِ المرضى!..". (الرواية ص 199)
لا يتذكر الكاتب رفاقه في الفترات القاسية جداً خلال رحلة السنوات الست فقط. وإنما عند مشارفها أيضاً، وحين وصل الى مكان آمن ورحب ـ موسكو. مكان فيه الكثير من الرفاق والأصدقاء والمعارف. في موسكو حيث بدأت الحياة الطبيعية تأخذ مجراها تقريباً. ولا تفصله عن برلين سوى ساعات، في أي رحلة جوية. نالت برلين ـ نهاية المطاف ـ أوصافاً كثيرة كمدينة أو كحالة، ومن تلك الأوصاف: ـ المنفى الطيب، ـ وليـسَ الوطـنُ نهـاراً، دائمـاً، والمنفـى ليـلاً، ـ والمنفـى هـو المنفـى، هنـا أو هنـاك.
لم يقتصر التذكر في الرواية على الأصحاب القريبين، بل كان صوفي الدليل عبر الحدود التركية الى الوطن له حضوة، وذكر متكرر أيضاً. وهو من أكراد تركيا. وأكثر تلك الذكريات حزناً، عندما سمع بعد حين قصة إستشهاده على أيدي حرس الحدود التركي.
تقف الرواية في زواياها عند بعض اللقاءآت التي تدوم لجلسة واحدة فقط، أو أمسية جميلة، أو حتى مرور خاطف في محطة أو متنزه أو مقهى. مثل تلك الحالات تلعب دوراً مهماً، وتمثل ذوقاً جميلاً. أكاد أصفه بمقرنصات بناءٍ يحمل من الفن والوداعة كل ما يبعث في النفس حالات من السرور والتأمل والقراءة الفنية للشواهد. تحمل تلك اللقطات روح الرفقة والصداقة والأحداث ذات الدلالة والمكانة العالية أيضاً. ولا تخلو قصص الرواية من تلك التي تقوم على التفاخر بالجذور بين الرفاق، أو تنسيب ما لا ينتسب أحياناً.
يترك شأَن الرأي والتقدير والحكم في بعض القصص للمشاركين فيها بذاتهم. أرى فيما ورد بالهامش رقم (17) تجسيداً لهذا الرأي: "مساءٌ جميل، في خريف 1978 ضمّنا في "شقةٍ" من غرفة واحدة، كنّا نسكنها ببرلين في شارع أونتر دن لِندِن، كان ضيوفنا الرفاق أميل حبيبي ونعيم الأشهب وبهاء الدين نوري وآرا خاجادور (الأخيران، قياديان في الحزب الشيوعي العراقي آنذاك) كانوا مشاركين في مؤتمر لمجلس السلم العالمي، إستضافته ألمانيا الديمقراطية.. دارت الكؤوس عدة مرَات، وعندما "دبَّ دبيبها إلى موطن الأسرار"، لم يقُلْ لها أحدٌ قِفِ !.. إندلَع نقاشٌ حادٌ بين بهاء وآرا حول أصل الفالص. بهاء إدعى، دون سَنَدٍ، أنَّ أصل الفالص كرديٌ ـ تحديداً من كِرِميان، وبالذات إمارة بابان.. وراح يحاولُ مداراة حَرَجه أمام إستغرابنا، خاصة ثعلبية نظرات (أبي سلام) أميل، وإبتسامة فاترة ذات مغزى من (ابي بشّار) نعيم، بأداءِ دبكة مصحوبة بأغنية كردية لا تُؤدّى همساً!.. مما أزعَجَ الجيران، فَقَرَعوا الباب علينا معاتبين!..".
ولما كانت الحياة حياة غربة ومنافي وأمل في المنبت، يكون لقول وتذكر الكاتب لبريشت أهمية خاصة، وكأن العودة المظفرة غداً:
"نُـردِّدُ مـعَ بريشت:
"لا تَـدُقَّ مِسـماراً فـي الحائط، إرمِ مِعطَفـكَ علـى الكرسـي، فأنتَ عائـدٌ غـداً..! "
يتبع
#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)
Abdul_Hamid_Barto#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إنشودة للإنعتاق .. تغريدة لأفق مفتوح 6 من 10
-
إنشودة للإنعتاق .. تغريدة لأفق مفتوح 5 من 10
-
إنشودة للإنعتاق .. تغريدة لأفق مفتوح 4 من 10
-
إنشودة للإنعتاق .. تغريدة لأفق مفتوح 3 من 10
-
إنشودة للإنعتاق .. تغريدة لأفق مفتوح 2 من 10
-
إنشودة للإنعتاق 1 من 10
-
الهيبة قوة عملية أيضاً
-
عيد العمال ولعبة -الإنتخابات-
-
ستبقى بيننا يا رفيق الدرب
-
تشييع مهيب لمناضل
-
رحيل الرفيق آرا خاجادور
-
بيريسترويكا غورباتشيوف (9 من 9)
-
بيريسترويكا غورباتشيوف (8 من 9)
-
بيريسترويكا غورباتشيوف (7 من 9)
-
بيريسترويكا غورباتشيوف (6 من 9)
-
بيريسترويكا غورباتشيوف (5 من 9)
-
بيريسترويكا غورباتشيوف (4 من 9)
-
بيريسترويكا غورباتشيوف (3 من 9)
-
بيريسترويكا غورباتشيوف (2 من 9)
-
بيريسترويكا غورباتشيوف (1 من 9) بعض الأوليات كتاب غورباتشيوف
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|