بعد عشر سنوات من الانهيار
هل نستطيع تقييم التجربة الاشتراكية
لن نحلل مسار التطور بمجمله ونحن نبحث في أزمة الاشتراكية، لأن لهذا الموضع بحث آخر، لكن سوف نحدد المشكلات الأساسية التي أفضت الى الانهيار، منطلقين من أنه نتج عن اختلالات في مسار التطور ذاته، ترتبط بطبيعة تكون البنية التحتية، وبالأخص البنية الفوقية (الدولة الأيديولوجيا)، لكن النابعة من مشكلات تطور البنية التحتية ذاتها. ومؤكدين ان الانهيار نتج عن رفض الشعب للبنية الفوقية، وعجز هذه البنية عن إعادة ذاتها بمعنى أن أزمة في الاقتصاد وأزمة في المجتمع ترافقنا إلى تلك النتيجة.
وإذا كانت هذه قضايا عامة أي تخص مجمل البلدان الاشتراكية وإن بسويات مختلفة، فإننا سوف نخصص هنا وضع الاتحاد السوفياتي كونه الدولة الاشتراكية الأولى والمثال الذي يرسم مسار التجارب الأخرى، حتى تلك التي اختلفت معه.
ومن الواضح أننا نحن نحدد جوهر الأزمة التي عانت منها الاشتراكية السوفياتية، نقلل من أهمية تأثير العامل الخارجي دون ان نلغيه، فلا شك ان الاتحاد السوفياتي تشكل اشتراكياً في ظل السيطرة العامة للإمبريالية، وكان الدولة الأولى التي تحقق ذلك لهذا بدا شاذاً في بنية العالم حتى حينما قاربت الاشتراكية من ان تسيطر على نصف العالم، ظلت خارج بنية العالم، وظلت معزولة سوى من علاقات محددة مع العالم الرأسمالي، ومع الأمم المتخلفة. ولقد كان الحد الفاصل واضحاً بين "العالمين" الرأسمالي والاشتراكي. كل له سوقه، رغم انفصال الصين عن السوق الاشتراكي، ورغم "الاختراقات" التي حققها الاتحاد اليسوفياتي في الأمم المتخلفة منذ الخمسينات، والتي توضحت مع انتصارات حركة التحرر الوطني في هذه الأمم (1) [ (1) رغم أن هذه العلاقات سلبية على الاقتصاد السوفياتي، لأنها قامت على أساس تقديم المساعدات، ومراكمة الديون، والأسعار المتدنية للسلع ] وبدأ -على ضوء القطيعة بين العالمين- وكأن حصاراً تفرضه الإمبريالية على النظم للاشتراكية، كما بدأ وكأن الاقتصاد الاشتراكي ذو ميل محدد نحو "التوسع" الخارجي، رغم كل محاولات الإفادة من انفكاك الأمم المتخلفة عن النظام الإمبريالي العالمي.
نشأ هذا الوضع منذ سنة 1917، إثر انتصار ثورة اكتوبر، لكنه لم يؤدِ إلى الانهيار طيلة هذه السنوات، رغم ان الظروف كانت أكثر صعوبة في السنوات السابقة على الحرب العالمية الثانية، سواء نتيجة وضع الاتحاد السوفيتي الذي كان لا زال يعاني من التخلف والضعف، أو لأنه كان وحيداً في بينة العالم، قبل ان تنتصر الاشتراكية في أمم أخرى (أوربا الشرقية، الصين، كوريا الشمالية، منغوليا، كوبا فيتنام..)، ان تنتصر الاشتراكية في أمم أخرى (أوربا الشرقية، الصين، كوريا الشمالية، منغوليا، كوبا، فيتنام..)، ولتسيطر على ما يقرب من نصف العالم، وبالتالي فإن كان للعالم الخارجي، نقصد بالتحديد الحصار الإمبريالي، دور مؤثر، ألا يجب أن نتساءل: لماذا أحدث تأثيره بعد سبعين سنة؟ ولا يرتبط هذا التأثير –بالتالي- بالوضع الداخلي؟ ألا يخضع –بالتحديد- للوضع الداخلي؟ بمعنى ان التأثير الخارجي. لم يُحدث فِعله الا حينما وصلت صيرورة التطور الداخلي إلى مستوى محدداً؟ لهذا فنحن معنيين –في كل الأحوال- بتحليل البنية الداخلية على وجه التحديد؟
وإذا حاولنا تحديد أشكال التأثير التي يمكن أن تقوم بها عناصر خارجية. نرى أنها إما ان تتحقق باستخدام العنف، أو من خلال ممارسة ضغوط محددة، وما مارسته الإمبريالية هو الفعل الثاني على وجه التحديد، حيث فرضت حصاراً على الاشتراكية بهدف منعها من الحصول على الأسواق والمواد الأولية، والمساعدات التقنية، كما صعدت من حدة التنافس في مجال التسلم، ولم تقم بأية خطوة تهدف إلى التدخل العسكري المباشر، بعد فشل تدخلها بعيد ثورة أكتوبر مباشرة، ولا شك ان الضغوط من هذا النوع لا تفعل سوى أن تلعب دوراً مساعداً في تحقيق "التدمير الذاتي"، وهذا هو هدفها الأساسي.
وبالتالي يبقى البحث في البنية الداخلية هو مجال تحديد أسباب الانهيار، ويمكن في سياق ذلك تلمس بعض المشكلات التي أوجدها "الحصار" الإمبريالي، وهي مشكلات متفاوتة الأهمية، مثل سباق التسلح، و بالتالي حاجة الدولة السوفيتية إلى اقتطاع جزء كبير من الدخل الإجمالي لمصلحة التسلح والجيش وامتيازات الضابط، مما كان يخفض الرأسمال الموظف في الاستثمار، وفي تحسين وضع الشعب، وكذلك مثل انعكاس الظروف الاستثنائية التي يوجدها الحصار على التطور الاقتصادي الاجتماعي، وعلى بنية الدولة، ونقصد التوتر المصاحب لمواجهة الحصار الخارجي. وأخيراً مثل مدى تأثير غياب السوق الخارجي على التطور الصناعي بالتحديد، حيث ورغم طبيعة السوق السوفياتي، وأسواق الأمم الاشتراكية الأخرى. التي هي واسعة –لا يمكن ان نقلل من أهمية حاجة الصناعة إلى الأسواق الواسعة لكي تستطيع الاستمرار والتطور، وبالتالي إنهاض البنية الاقتصادية. وهذه مشكلات مكملة لازمة داخلية، ولا شك أنها ملازمة لأي تطور مناقض للنظام الإمبريالي العالمي، وبالتالي يجب أن تؤخذ في الاعتبار، حين رسم استراتيجية التقدم رغم ذلك نشير إلى محدودية تأثيرها في الأزمة السوفياتية، لأن التسلح مثلاً، الذي كان "ينهب" حصة كبيرة من الدخل الإجمالي، كان في أساس تحقيق التطور الصناعي، كما كان ينعكس على تحسين وضع قطاعات من الشعب (الجيش، العاملون في الصناعات العسكرية، وحتى بعض العاملين في الصناعات المدنية). ثم أنه إذا كانت الصناعة تحتاج إلى السوق الواسعة، فإننا نلحظ ان أزمة الاقتصاد السوفياتي لم تتمظهر في فيض الانتاج نتيجة ضيق السوق، بل تمظهرت في نقص الإنتاج، نتيجة لأسباب أخرى، سوف نوضحها لاحقاً. لهذا أشرنا إلى الميل المحدود "التوسع" الخارجي، لكننا –في كل الأحوال- لا نهمل تأثير العامل الخارجي، الذي نعتقد انه أثر بهذا القدر أو ذاك في مسار تطور الاتحاد السوفياتي.
إذن: ماهي أزمة الاشتراكية، التي قلنا أنها أزمة صيرورة، وليست "خطيئة أصلية"؟ طبعاً يستتبع هذا السؤال سؤال آخر هو: هل انقطعت الصيرورة، أو ان ما يجري سوف يحقق استمراريتها؟ بمعنى هل ان الانهيار نهائي، ليس على المدى البعيد فقط، بل وعلى المدى القريب أيضاً، وبالتالي سقطت الاشتراكية، ربما لعقود طويلة، أم أنه في صلب الصيرورة ذاتها، وأنه سوف يؤسس لنفي النفي؟.
حين نناقش الأزمة، لابد من بحثها في صيرورتها أيضاً، حيث نلمس أزمة في البدء، وأزمة في صيرورة التقدم، وهي التي أفضت إلى الانهيار، لكنها كانت نتاج الأزمة الأولى.
الأزمة الأولى: هي أزمة تحقق الاشتراكية في بلد متخلف، لم تنتصر الرأسمالية فيه، وكانت لازالت تسوده العلاقات الإقطاعية في الاقتصاد، خصوصاً في الريف الذي كان لا زال يمثل بنية المجتمع العامة. و على مستوى الدولة التي كانت تتخذ طابعاً بطرياركياً واضحاً (إمبراطورية من النوع القديم، كما الإمبراطورية العثمانية)، لهذا كانت مهمة تطوير القوى المنتجة الحديثة، أي الصناعة، وتطوير البنية "الحضارية" للمجتمع، ملقاة على السلطة الجديدة، بمعنى انها كانت تقوم بخطوة إلى الوراء، مثل انتقالها خطوة إلى الأمام انها، وهي المعنية بتحقيق المثال الاشتراكي، كانت معنية بتحقيق مهمات البرجوازية هي التي تحققها، كما أبان مسار التطور الرأسمالية، والتي تسمى عادة مهمات الثورة الديمقراطية. حيث لم تكن الاشتراكية تعني سيطرة الطبقة العاملة على السلطة من أجل إلغاء الملكية الخاصة وتعميم الرفاه، بل كانت أمام مشكلات عميقة، سابقة على هذه الخطوة، منها حل المسألة القومية، من خلال إقرار مبدأ حق تقرير المصير للأمم الملحقة بالإمبراطورية القيصرية. وحل المسألة الزراعية بتصفية العلاقات الإقطاعية وتوزيع الأرض على الفلاحين. والتحديث الثقافي العام بتعميم التعليم، والنهوض بالصناعة التي كانت بالكاد قد نشأت، (1) [ (1) نضيف إلى هذه المهمات وقف الحرب العالمية الأولى، التي كانت روسيا طرفاً فيها، ولقد كان السلام أحد أهداف ثورة أكتوبر]، لذا فالطبقة العاملة التي سيطرت على السلطة، كانت تحقق ثورة ديمقراطية، هذه الخطوة إلى الوراء، لكنها الخطوة الهامة والضرورة من أجل الانتقال إلى الاشتراكية لقد كانت الصيرورة تفرض العودة خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام، لأن الصيرورة ذاتها لا تستقيم دون ذلك، لأنه دون التقدم الصناعي، والتقدم " الحضاري" العام، وحل المسألة القومية، ليس من الممكن تحقيق "المثل الاشتراكية". وكما أوضحنا سابقاً، غدت البرجوازية عاجزة عن تحقيقها، في نفس الوقت الذي تهيأت فيه ظروف محددة لكي تلعب الطبقة العاملة هذا الدور، هنا يأتي موقع الماركسية / الوعي، أي الأيديولوجيا الخاصة بالواقع الصناعي والمؤسسة على ضوء الماركسية، والتي على ضوء تأسيسها، وبتوسط الحزب تكون قادرة على توحيد الطبقة العاملة، والفلاحين، والفئات المتوسطة للقيام بحركة واعية من اجل تحقيق التقدم.
وهذه الخطوة إلى الوراء أسماها لينين: مرحلة رأسمالية الدولة، لأن هدفها إنجاز مهمات ديمقراطية، و في نفس الوقت تصفية أشكال الملكية السابقة للرأسمالية (بقايا المشاعية، الملكية الإقطاعية)، والملكية الرأسمالية (بشكليها ملكية الرأسمالية، وملكية الإنتاج البضاعي الصغير)، ومركزتها بيد الدولة عن طريق المنافسة. ولقد اعتبر ان الطابع الاشتراكي للمجتمع يتمثل فقط في قيادة الطبقة العاملة للسلطة، رغم انه كان اعتبر ان الثورة الديمقراطية قد تحققت مع ثورة شباط سنة 1917، ودعا في حينها لتحقيق الثورة الاشتراكية. لكن لا بدّ لنا من ان نربط هذه الدعوة بفكرته عن رأسمالية الدولة، لكي لا يتملكنا الشطح "الفكري" فنتجاوز مهمات الواقع؟ وبالتالي نحاكم التجربة الاشتراكية انطلاقاً من محدودات ذهنية، بمعارضة الواقع بالمثل الاشتراكية، أي بتطبيق صيغة مفترضة لمرحلة على مرحلة سابقة لها فما يؤكده لينين هو ان الاشتراكية هي السلطة فقط بفعل قيادة الطبقة العاملة لها، وبالتالي فهي مطمح ولم يصبح واقعاً بعد، لكن المجتمع "رأسمالي" بمعنى ا، أي بمعنى استمرار مختلف أشكال الملكية، وهو هنا ينفي مسألة إلغاء الملكية، بل يعتبر ان مهمة السلطة، ان تدفعه باتجاه الاشتراكية سلمياً، من خلال مقدرة الدولة التي غدت فاعلة في الاقتصاد، على منافسة أشكال الملكية الرأسمالية و "تذويبها"أي دفعها للتلاشي، في سياق نشاط الدولة والمالكين لتحقيق خطوات في مجال تطوير الاقتصاد (بناء الصناعة، الزراعة الخدمات..) .
بالنسبة للطبقة العاملة هذه العودة هي خطوة استرجاعية، بينما هي في الواقع، خطوة في إطار الصيرورة ذاتها، حيث بدونها لا تستقيم صيرورة التقدم. لكن هذه "العملية الاسترجاعية" لم تكن لتتحقق دون مشكلات مست الطبقة العاملة والحزب العمالي، ومست سلطتها، خصوصاً وأن التكوين الطبقي في البنية المتخلفة، كان يشير إلى ضعف الطبقة العاملة، حيث لم تكن تشكل سوى نسبة محدودة من السكان، مما كان يضعها أمام "خطر" حقيقي، خصوصاً وهي تشارك مع طبقات أخرى في تحقيق التقدم، وبالتالي كان من الطبيعي أن "تغزو" تلك الطبقات السلطة فقد كانت تحتاج إلى التحالف مع الفلاحين وشعار "التحالف بين العمال والفلاحين" هو شعار لينين، وهم الذين كانوا يعانون من سيادة العلاقات الإقطاعية، ومن الحرمان من ملكية الأرض، وبالتالي كانوا يعملون من أجل الحصول على الملكية وتكريسها، وهذا النزوع يفتح –ولا شك- أفق التطور الرأسمالي، وليس تحقيق الاشتراكية.
وبهذا كانت القوى التي سيطرت على السلطة، من خلال الحزب والجيش والبيروقراطية، متناقضة المصالح، وإذا كانت الطبقة العاملة، والماركسيين المنحدرين من الفئات الوسطى الحديثة هم قوام الحزب، فقد كان الميزان يميل لمصلحة الفلاحين، في الجيش والبيروقراطية مما أفضى إلى سلطة من طبيعة محددة، هي في الغالب ليست متقدمة جذرياً عن البنية البطريركية السائدة، بل ان هذه البنية أمكن لها ان تتضمن في البنية الجديدة، من حيث طرق الفهم والتعامل والممارسة، وإن كانت تسعى لتحقيق مهمات كبيرة، وتخترقها مفاهيم حديثة.
وهذا التكوين كان في أساس الاختلافات اللاحقة لموت لينين، والمتعلقة باختيارات التطور، وحل المسألة القومية، وإذا كان تحقيق التصنيع وتطوير الزراعة (كهربة الريف ومكننة الزراعة)، والتحديث العام للمجتمع هي الخطوات التي سعى لينين لانجازها، فقد تصارع، بعد موته، خياران، الأول يدعو إلى التصنيع السريع، والثاني يدعو إلى تطوير الزراعة، وهو الخيار الذي أصبح السياسة العامة للدولة حتى عام 1929، حيث توضح بروز رأسمالي في الريف (الكولاك) أخذ يهدد السلطة بمجملة ليتبلور بعد ذلك خيار جديد سعى لتحقيق التصنيع السريع والتطوير العشري للزراعة، وإلغاء الملكية الخاصة، وإذا كان لينين يعتقد بأن مشروعه يمكن ان يتحقق من خلال المنافسة بين أشكال ملكية مختلفة، بما فيها ملكية الدولة، على أمل ان تستطيع هذه الأخيرة –في ظل المنافسة وليس خارجها- تصفية أشكال الملكية الأخرى، لكي تكون رأسمالية الدولة هي خطوة إلى الأمام على طريق تحقيق الاشتراكية من خلال تمركز الملكية بيدها سلمياً، إذا كان لينين يعتقد بذلك فقد أوضح التطور اللاحق ان الدولة عاجزة عن تحقيق ذلك بتوسط المنافسة، وان الكولاك هو الذي مركز الرأسمالية بيده، وأصبح يشكل خطراً على سلطة الطبقة العاملة، التي فشلت في تحقيق أي تطور هام، رغم انها استطاعت ترميم ما دمرته الحرب الأولى، والحرب الأهلية، لكنها لم تستطع وضع أساس لتحقيق التطور الصناعي.
لقد توضح ان رأسمالية الدولة لا تستطيع القيام بدورها في تحقيق التقدم، إلا بـ "نهب" المجتمع، بإلغاء الملكية الخاصة، وبالتالي تستطيع تحقيق التصنيع الذي هو "جوهر" عملية التقدم، من خلال مركزة الرأسمال بيدها من جهة أخرى بتحرير الفلاحين (مد الصناعة بالعمالة اللازمة، وكانت في هذه العملية تلغي ذاتها، تحول من طبيعتها لأنها بإلغائها الملكية الخاصة، تحولت إلى دولة اشتراكية وبالتالي فإذا كانت سلطة الطبقة العاملة هي السمة الاشتراكية الوحيدة في مجتمع تسوده الملكية الخاصة، فقد غدت الاشتراكية، منذ أواسط الثلاثينات هي السمة العامة للمجتمع رغم ان الطابع الريفي ربما هو شكل ممارسة، وأحلام، وأوهام أيديولوجية- هو الذي انغراز في البنية الفوقية، بفعل "اندلاق" الريف، و اقتحامه كل بنيات المجتمع (الجيش، البيروقراطية، الطبقة العاملة، التعليم).
لكن في هذا التطابق بين سلطة الطبقة العاملة وسيادة الملكية الاجتماعية، كان يتأسس عدم تطابق جديد، أزمة جديدة، نابعة من التكوين الجديد للسلطة والمجتمع.
وقبل ان نبحث في هذه الأزمة، لابد من أن نسأل: هل كان التطوير العشري، وإلغاء الملكية الخاصة، ضروريان؟
لاشك اننا معنيين بالإجابة على ذلك، خصوصاً ان المرحلة التي تحقق فيها كل ذلك، والتي تبلورت فيها الستالينية كما عرفناها فيما بعد، تحمل كل أعباء الانهيار، من قبل بعض الماركسيين ، أو تصور على انها مثال "الفظاعة" و "الهمجية"، انطلاقاً من انها كانت مرحلة قمع شامل طال الحزب والفلاحين والفئات المتعلمة. وبالتالي تصور وكأنها أتت خارج السياق التاريخي، وانها من فعل "همجية" فرد هو ستالين الذي تحول إلى دكتاتور محرفا الاشتراكية عن مسارها. انها وباختصار –مقحمة على التاريخ، كما كانت ثورة أكتوبر بالضبط، وكلاهما نتجا عن "ارادوية" مفرطة، متحللة من كل "قوانين " التطور التاريخي.
رغم ذلك نعود مرة أخرى إلى التأكيد على انه لا ينتصر إلا ماهو ضروري، فالتاريخ لا يحتمل "الطارئ" أو المقحم"، أي الذي لا أساس له في الواقع، لهذا فالضرورة صارمة، فهي لا تتحقق بفعل إرادة لا تنبع منه، لا تتأسس على ضوء ممكناتها. فالإرادة/ الفكر لا تصنع التاريخ، إلا إذا كانت انعكاس للواقع، أي إذا كانت جزء من التاريخ، وبالتالي فما دام التطوير العشري قد تحقق، في إطار من إلغاء الملكية الخاصة، فلا بدّ من أن نؤكد حتميته، وأن نبحث عن البنى الواقعية التي أنتجته. فالتصنيع كان حاجة، كان ضرورة، حيث لا إمكانية لتحقيق التقدم إلا بتحققه، وفي ظل سيادة النظام الإمبريالي العالمي لا يتحقق التصنيع إلا بمركزة الرأسمالية بيد الدولة، وتهديم كل البنى السابقة للتطور الرأسمالي، التي تعيق تحققه، وبالتالي لا يمكن تجنب الدور المتسع الذي باتت تقوم به الدولة، في ضبط تأثير العلاقات الاقتصادية الإمبريالية، والاستثمار في مجال تأسيس قوى الإنتاج.
طبعاً يمكن القول انه يمكن تحقيق ذلك من صيغة أخرى "إنسانية"، دون الإلغاء التام للملكية، وكذلك دون القسر من خلال التطوير السريع، خصوصاً وان الاشتراكية هي حل "إنساني"، يهدف تحقيق رفاه الإنسان وحريته. ولا شك ان خياراً من هذا القبيل كانت قد طرح في إطار الصراع في الحزب، لكنه مثل قطاعاً من المثقفين، ومن الطبقة العاملة على الأرجح. ولقد كان متضمناً في الحل الينيني الذي انقطع بموت لينين، وكذلك في الحلو الأخرى التي انهزمت. لكن كانت بنية المجتمع تغذي الخيار الذي انتصر لقد كان "الطابع الريفي" هو الأساس الذي استند إليه ذاك الخيار، والذي صاغ بنية الدولة والأيديولوجيا. والذي عبرّ عن نفسه من خلال اختراق الريف لبنية الدولة، عن طريق الحزب والجيش والبيروقراطية، حيث جرت إعادة صياغة للحزب، ليصبح حزب سلطة ولتتشكل سلطة ذات "طابع بطرياركي"، تتسم بالوجدانية المفرطة (في الرأي، والحكم)، وبالمركزة الأشد، ولتتشكل أيديولوجيا السلطة التي تتسم بكونها خليط من الماركسية والفكر المثالي السابق للرأسمالية، والفكر المثالي الرأسمالي، مما وسم تلك الماركسية بالنصية (منطق القياس) بصيغتها اللاهوتية، وبالاقتصادية، و المادية الميكانيكية، لتتحول إلى فلسفة مثالية، انتشرت باسم " الماركسية اللينينية"، واتلي يجب ان تسمى "الماركسية السوفياتية".
وبالتالي، حين ندرس هذه المرحلة، لابدّ من ملاحظة الطابع المزدوج الذي يحكمها، حيث أنها قادت إلى تحقيق التطور في القوى المنتجة، وفي الثقافة، كما أفضت إلى تحقيق الاشتراكية، بما هي سيادة للملكية الاجتماعية. لكنها في المقابل أفضت إلى تشكيل بنية فوقية "محافظة"، نتيجة امتصاصها لعناصر البنية البطرياركية، وأحلام الريف. ولقد نتجت هذه الازدواجية عن "الطابع الريفي" بالذات، الذي كان، وهو يسعى لإلغاء ذاته، على صعيد الاقتصاد (تدمير بقايا الاقطاع، وتأسيس علاقات حديثة)، كان يكرس ذاته في البنية الفوقية، ومن جهة أخرى نتجت هذه الازدواجية، عن كون الطبقة العاملة، التي أصبحت في السلطة. وهي تعمل على انهاض المجتمع، بتخليصه من طابعة الريفي، عن طريق تعميم الصناعة، وبالتالي تعميم ذاتها، غرقت في "بحر الريف"، أي "تريفت" أي بمعنى انها استندت إلى الفئات الريفية في الحكم، كما انها توسعت بفعل الفلاحين المتحولين إلى عمال، بينما كان المجتمع، وبنتيجة عملية التصنيع التي يشهدها، ينزع نحو التمدين والحداثة.
وهذه الإذدواجية هي التي هيأت لنشوء تناقض جديد، حيث تقدمت البنية التحتية، بينما تعمق الطابع المحافظ للبنية الفوقية، وهذا هو جذر الأزمة الأخرى، أزمة التقدم.
إذن يمكن القول، أنه بنتيجة التكوين المتخلف (السابق للرأسمالية) الذي كان يسم المجتمع السوفياتي، كان ضرورياً، أن يسير التقدم في صيرورة معقدة، متناقضة، تخرجه عن بساطة التقدم الذي حددته الماركسية لتحقيق الاشتراكية (سيطرة الطبقة العاملة المتحولة إلى أغلبية على السلطة، إلغاء التناقض بين الشكل الاجتماعي لعملية الإنتاج، والتملك الخاص لها، بتكريس الملكية الاجتماعية، وتعميم الرفاه)، ولا شك ان هذا التعقيد يقود لمجتمع الـ "منزلقات" لابدّ منها، لا يمكن تجاوزها، إن القسر في تحقيق التصنيع ضرورة، لتجاوز البنية الإقطاعية، لأن التصنيع يحتاج إلى التراكم الرأسمالي (1)، [ (1) حينما نتحدث عن التراكم الرأسمالي، لا نعرفه بالرأسمالية، فنحن نتحدث عن رأس المال- الثابت والمتغير- دون ان نتحدث عن شكل ملكيته الرأسمالي- أي البرجوازي-] الذي ينشأ أول ما ينشأ من الزراعة، كما يحتاج إلى الأيدي العاملة، المأسورة ضمن العلاقات الاقطاعية. وكان ذلك يفترض تفكيك الريف و "نهبه"، ولقد تحدد شكل التفكيك هذا، وكذلك شكل "النهب". بطابع الفئات التي أصبحت هي السلطة في السنوات بين 1917 و 1929. فإذا كان الحزب البلشفي يضم فئات من المثقفين، ويمتلك قاعدة في الطبقة العاملة، كما كان يضم فئات فلاحية، فقد أفضى وصوله إلى السلطة إلى ان تتشكل أغلبية ريفية، من الفلاحين، أو من الفلاحين "المتمدنين" عن طريق التعليم والعمل في المدينة، وبالخصوص تحولهم إلى عمال، أصبح لها تأثيرها في السلطة ذاتها، وكما أشرنا سابقاً ظهر هذا التأثير في الدولة، حيث أفضت إلى تعميم أساليبها في الحكم، وفي الأيديولوجيا، حيث تشكلت أيديولوجيا مثالية (في شكل أقرب إلى اللاهوت) رغم انها تنهل من الماركسية، رغم ان السلطة المكونة من كل هذه الفئات كانت تحقق مهمات اشتراكية.
هنا يتحدد موقع ستالين بالذات، كمركز لـ "اندغام" كل هذه التأثيرات، ومحقق المصالحة بين الماركسية والإيديولوجية اللاهوتية، التي كانت بالكاد تخترق بالفكر البرجوازي، وبين مصالح الطبقة العاملة بتحقيق الاشتراكية، واندفاع الريف لتجاوز تخلفه. فهو يحمل حلم الحزب القديم (الحزب البلشفي) حتى وهو يلغيه لكي يؤسس حزب السلطة، ذاك "الجيش" المنضبط المتراص، كما أسماه هو، ونقصد حلم تحقيق الاشتراكية، التي كان يختزلها في انتصار الملكية الاجتماعية، وسيادة دكتاتورية البروليتاريا، لكنه يحقق هذا الحلم بأساليب الريف، لأنه يحققه بأدوات ريفية، وفي مجتمع مشبع بالأيديولوجية "البطريركية"، بمعنى أنه لم يكن يستوعب مفاهيم العصر الحديث بعد، سوى لدى قطاعات مدينية. وبالتالي كانت هذه الأساليب متوافقة مع الضرورة، ضرورة التطوير العشري، وتحقيق الاشتراكية. ولا شك أن هذا التوافق بين الأساليب وتحقيق الاشتراكية، التي تتضمن دكتاتورية البروليتاريا، أعطى لهذا المفهوم معنى آخر غير المعنى الأصلي له، حيث أصبحت دكتاتورية البروليتاريا تعني "الاستبداد الشرقي"، بينما كان شكل الحكم هذا نتاج الظرف المحدد.
لهذا لا يمكن اعتبار ان ستالين انحرف عن الماركسية، أو عن توجه الحزب، بمعنى انه حالة فردية، فعل ما فعل بإرادة شخصية، بل أنه تكثيف لظاهرة، عنوان لظاهرة، عبرت عن هذا الالتقاء المركب والمتناقض لمهمات ومشكلات وبنى واقعية، التقاء الحلم بالواقع، والتقاء الماركسية بالأيديولوجية اللاهوتية التي تحكم وعي الريف في بنية إقطاعية، والتقاء المهمات الديمقراطية والمهمات الاشتراكية، والتقاء الطبقة العاملة و الفلاحين في السلطة. وهذه الالتقاءات المتناقضة في جذر بنية المجتمع الإقطاعي (والذي كان بالكاد يهتز أمام التغلغل الرأسمالي، لكن الطامح للتقدم، المتخلف لكن الذي استطاعت أيديولوجيا حديثة (الماركسية) اختراقه. ولقد انتصر لأنه كان مؤهلاً للتعبير عن كل هذه المتناقضات، حيث أضعف الحزب بتدعيم السلطة، ومن ثم ليعيده في صيغة حزب السلطة. وأضعف الريف بأدوات ريفية، من أجل ان يحقق التصنيع. وهزم الطبقة العاملة لكي يؤسس طبقة عاملة ضخمة العدد. لقد كان مع الخيار اللينيني، لكنه بعد موت لينين، وقف مع الخيار بوخارين الداعي لتطوير الزراعة (لتحقيق التراكم الأولي من خلال تطوير الزراعة)، ثم انقلب عليه حينما لمس أنه أفضى إلى تشكل طبقة في الريف هي التي مركزت التراكم الأولي بيدها، وباتت مصالحها تتناقض مع مصلحة الطبقة العاملة، ومع حلم التقدم الصناعي. ليطبق برنامج تروتسكي الداعي للتصنيع السريع، والذي كان قد رفضه قبل ذلك، لكنه حققه بشكل عنيف، وعن طريق إعادة "ترتيب" الحزب والدولة، بتهميش الطبقة العاملة والمثقفين فيهما (1) [ (1) وحققه أيضاً على جثة تروتسكي، وكل قيادات الحزب ] ولكن أيضاً – بإلغائه الملكية الخاصة وبالتالي بتحقيق الاشتراكية.
لقد كان بحق مؤسس اشتراكية "البنية البطريركية"، لكنه كان –أيضاً- محقق التقدم الصناعي، والاقتصادي عموماً، وفي نفس الوقت محقق التقدم الثقافي العام (التعليم، التقدم العلمي، تحديث الوعي)، وهو ما أنجزته الرأسمالية بعد عقود من انتصارها (2) [ (2) حول هذا الموضوع يمكن مراجعة "جورج لوكاتش" "البديل الحقيقي، ستالينية أم ديمقراطية اشتراكية" دار الفارابي (بيروت)1990] وبالتالي فقد أسهم في إنجاز المهمات التي تطرحها البنية المتخلفة، ليحقق التكافؤ في قوى الانتاج، وينقل المجتمع إلى مرحلة جديدة، لها طبيعتها المختلفة. حيث اتسمت بحركية عالية في اتجاه تحقيق التقدم العام للمجتمع، من خلال تصفية البنية الاقتصادية الاجتماعية- القديمة، وبناء الصناعة، والتحديث الثقافي، لتتأسس بنية اقتصادية اجتماعية جديدة، يغلب عليها الطابع المدني الحديث (توسيع الطبقة العاملة، وغلبة الفئات المتعلمة). هذه هي صيرورة التقدم التي بدأت بالفعل منذ الثلاثينات، والتي كانت تطرح مشكلات جديدة، خصوصاً انها تلازمت مع استمرار نمط السلطة البطريركية، مما كان يفضي إلى نشوء هوة بين البنيتين التحتية والفوقية، واتساعها، حيث كان المجتمع يسير خطوات هائلة إلى الأمام، في نفس الوقت الذي تكرس فيه نمط السلطة المستمد من "الوعي الريفي"، من "البنية الريفية"، إذن، لقد انقلبت المعادلة، حيث أخذت في التشكل بنية حديثة، لكنها تحكم برأس "ريفي"، بعد ما كانت البنية القديمة تقاد برأس حديث .
وهذا هو التناقض الذي طبع المرحلة مذاك، وأفضى إلى نشوء مشكلات عميقة، تراكمت خلال العقود الأربعة وأفضت إلى الانهيار. بدأت هذه المشكلات بحالةٍ من الاغتراب السياسي الذي كان التعبير المباشر عن هذا التناقض، لتتعمق إلى حالة من الاغتراب الاقتصادي، ولتفضي إلى نشوء أزمة اقتصادية شاملة، أجبرت السلطة البيروقراطية على التفكك، وبالتالي إلى انهيار الشكل القائم، ونشوء سلطات جديدة، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي بفعل "الصراع" القومي الذي كان مكبوتاً فيه (1) , [ (1) لا شك ان حلاً للمسألة القومية قد تحقق حينما انهارت الإمبراطورية القيصرية، وتشكل الاتحاد السوفياتي، كاتحاد لأمم، لكن استيعاباً لعناصر المسألة القومية] لكنها ولدت من رحم السلطة القديمة، انها بيروقراطيي السلطة القديمة الأشد نزوعاً للتملك والنهب. وإذا كانت هذه المشكلات قد تتالت، وتبلورت في مراحل مختلفة، فإنها مجتمعة أفضت إلى الانهيار.
فأولاً: يمكن ان نتحدث عن ظاهرة الاغتراب عن ظاهرة الاغتراب السياسي، ونعتقد انها مظهر الأزمة الأول، حيث أدت ديناميكية التطور الاقتصادي إلى تحقيق تقدم مضطرد للشعب، بتأمين العمل، وتوازن الأجور والأسعار، والتعليم والضمان الصحي، وكانت هذه نقله هائلة لشعب كان يعيش حالة فقر مدقع وتخلف عميق. لقد اشتغل الاقتصاد وفق قوانين جديدة، قامت على أساس تطوير سريع للصناعة، وتحديث للزراعة وكانت هذه الخطوات توفر مصادر دخل لقطاعات واسعة من الشعب، مما حسن من مستواها المعيشي، ونقلها من مرحلة الكفاف في ظل سيطرة الإقطاع إلى مرحلة جديدة، وفي هذه المرحلة لم تكن أزمة الاقتصاد قد طرحت بعد، على العكس من ذلك، ورغم ما يمكن ان يحدد الآن من أخطاء بخصوص السياسة الاقتصادية والتخطيطي، فإن تسارعاً كبيراً في التطور عاشه الاقتصاد السوفيايت، وهو التسارع الذي حقق انتقاله إلى مرحلة الدولة الصناعية الحديثة. ورغم فظاعة الممارات الستالينية في الثلاثينات (تهجير العشري للفلاحين، إعدام قيادات وكادرات الحزب، ضبط المثقفين)، فقد انحصر الشعور بكل ذلك في قطاعات محددة لم تستطع فعل شيء أمام دينامية التقدم المتحقق في المستوى الاقتصادي .
لكن هذا التقدم بالذات، كان يؤسس لنشوء حالة من الاغتراب السياسي، حيث كان تمدين المجتمع بتدمير العلاقات البطريركية، ونشوء طبقة عاملة حديثة، وتعميم التعليم في المجتمع، كان يفضي إلى نشوء نمط من الوعي الاجتماعي مناقض لنمط السلطة السائدة، أي نشوء علاقات طبقية حديثة، غدت تتناقض مع العلاقات البطريركية التي ترسخت في بنية السلطة. وحيث أصبح الشعور بالفردانية (الاستقلال الفردية)، والنزوع للتعبير عن الذات، مرادفين للشعور بالحاجة إلى تغيير نمط السلطة القائم على أساس الشمولية (تذويب المجموع في واحد، وتحول الواحد من تجريد إلى شخص، هو الحاكم)، والنابذ لكل ميل انتقادي أو تمايزي، وحيث تنتقي فيه أية إمكانية للتعبير السياسي عن الذات، سواء على شكل أحزاب أو نقابات، أو حتى على شكل أفكار وآراء، أو على شكل نشاطات محددة (إضرابات، احتجاجات، مظاهرات). على الرغم من أن التطور الذي أصاب المجتمع كان يؤسس لمثل الحاجة، سواء نتيجة تشكل شرائح اجتماعية جديدة، لديها تطلعاتها ومطامحها وأفكارها، أو لأن مصالح الطبقة العاملة كانت تفضي إلى نشوء تمايزات داخلها، تفرض الحاجة إلى وجود تعبيرات سياسية أخرى. وبالتالي فقد أفضى تشكل "المجتمع المدني" من جهة، تشكيل وضع طبقي جديد، إلى حاجة عارمة لنمط جديد من السلطة.
إن تطور المجتمع أفضى إلى الشعور بالحاجة إلى تجاوز الوحدة القسرية التي فرضتها السلطة على المستوى السياسي (الحزب، النقابات، الصحافة، التعليم..)، من أجل تأسيس نظام تعددي، لكن السلطة الشمولية كانت تكبح هذا الميل، عن طريق قوة القمع التي تشكلت في سياق تأسيس الدولة الشمولية. فما كان يدفع فئات متزايدة من الشعب، التي لم تكن، بعد، تشعر بأزمة اقتصادية، إلى الاغتراب، إلى الشعور بالتناقض متزايد الحدة مع بنية السلطة القائمة، في إطاره السياسي فقط، مما كان يطرح مسألة الديمقراطية بحدة متزايدة،[ (1) (هذه المسألة بالذات هي التي يستنتجها لوكاش في سياق بحثه عن أزمة المجتمع السوفياتي حي نكتب مؤلفه البديل الحقيقي سابق الذكر فهو يرى – وهو يكتب هذا المؤلف سنة 1969- أن الديمقراطية هي مشكلة هذا المجتمع، لهذا يطرح بديلاً للستالينية، هو الديمقراطية الاشتراكية]
وإذا كان خروتشوف قد وجه نقداً قاسياً لستالين سنة 1956، خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، مبرزا "الفظاعة" التي مارسها، فقد تجاهل ان هذه الممارسة كانت نتاج طبيعة النظام السياسي بالذات، وليست نتاج "انحراف" شخص، وهو ماكان يرمي إليه خروتشوف، لأنه كان يهدف إلى تكريس سلطة الحزب الواحد، والطابع الشمولي للسلطة، وبالتالي فقد عجز عن معالجة جوهر المشكلة التي طرحت وقتذاك، وهي بالأساس مشكلة نظام سياسي بمجمله (الوحداني فيه). لقد أنصبت محاولته على معالجة"الأزمة الأخلاقية" الناتجة عن الممارسات التي حدثت في الثلاثينات، وعلى طبيعة الممارسات القمعية التالية لذلك، والتي كان الشعور بفظاعتها قد تعمق. لنؤكد أن هذا النقد، لم يكن سوى نقداً أخلاقي للستالينية، يهدف إلى إنقاذ البيروقراطية الحاكمة، بتبرئتها من كل تلك الممارسات، وبالتالي تأكيد سيطرتها. ورغم صحة هذا النقد، فلا بدّ من الانطلاق، من أن هذه الممارسات هي من فعل البيروقراطية الحاكمة ذاتها، وليس من فعل ستالين وحدة، رغم أهمية دور ستالين .
إذن، نتجت ظاهرة الاغتراب السياسي، عن التناقض بين السلطة الشمولية (البطريركية) والمجتمع الذي ينزع نحو التمدن. ولقد كان يتفاقم كلما تعذذت المدنية، وتماسكت السلطة بطابعها البطريركي. وإذا كان الاتجاه الداعي للديمقراطية قد عبر عن نفسه من خلال فئات من المثقفين والأكاديميين وبعض قطاعات الطبقة العاملة، إلا أنه كان يتسع ويتعمق، ليطرح منذ الستينات مهمة دمقرطة المجتمع بتكريس التعددية . وربما كان النزوع "المتهور" الذي نشأ بعد الانهيار، والاندفاع الداعم أي "مقاول" ينادي بالديمقراطية بتعبير عن مدى الإحساس بالحاجة إلى الديمقراطية والتعددية، والذي كان من الأسباب الأساسية التي أطاحت بالاشتراكية، وأظهرت وكأن الديمقراطية هي البديل "الحقيقي" للاشتراكية.
المستوى الثاني للأزمة، وتمثل في ظاهرة الاغتراب الاقتصادي. وإذا كانت السنوات الأولى من التطور الصناعي قد أفضت إلى تحقيق تقدم عام في الوضع المعيشي للشعب عموماً، فإن السنوات التالية، قد أفضت إلى تحقيق شكل من أشكال التمايز "الطبقي. ولقد بدأت هذه الظاهرة ما بعد ثورة أكتوبر مباشرة لكن بشكل فردي ومحدود (1)، [ (1) حول هذه المسألة يمكن مراجعة رواية الكسندر كولنتاي "حب عاملة النحل" مؤسسة الأبحاث العربية بيروت، وهي توضح بداية نشوء هذه الظاهرة منذ العشرينات ] لمنها تعمقت واتسعت بعد التحول في بنية الحزب والسلطة منذ أواسط الثلاثينات، بعد ما انتهى "الحزب المناضل" وأخذ يتشكل "حزب السلطة"، من الفئات ذات الأصول الريفية، التي تعلمت لتشكل الفئات الجديدة في المجتمع، حيث أصبح هدف الحصول على امتيازات في أساس انتمائها إلى الحزب، الذي أصبح ممر تشكيل البيروقراطية الحاكمة. وبالتالي سعت من خلال سيطرتها على المراتب الأساسية في السلطة، والاقتصاد
، إلى تعزيز امتيازاتها، ومراكمتها بشكل مضطرد. وإذا كانت لا تستطيع التملك الخاص نتيجة إلغاء المكية، فقد سعت بشكل حثيث الى تعزيز الامتيازات التي تستطيع الاستحواذ عليها، وربما تعززت هذه الظاهرة عن طريق توزيع الميزانية العامة للدولة، حيث أخذت البيروقراطية تستحوذ على قسم متعاظم منها، وتهمش من المخصصات المتعلقة بالوضع المعيشي للشعب (الأجور، التأمين الصحي، التعليم.. ) وبالخدمات العامة. حيث ظهرت البيروقراطية الحاكمة كفئة متميزة، في بنية المجتمع، ذات امتيازات متزايدة باستمرار، في نفس الوقت الذي حافظ فيه الوضع المعيشي للشعب على ثبات كامل لعقود (ثبات الأجور والأسعار)، مما أظهر تمايزاً في المستوى المعيشي بين الفئتين (البيروقراطية والشعب)، استمر في الاتساع، وتبدى واضحاً منذ السبعينيات.
ولقد أوجد هذا التمايز تحليلات تقول بتشكل طبقة جديدة. لكن نقطة ضعف هذه التحليلات أنها تتجاهل أن هذه "الطبقة الجديدة" لاحق لها في التملك، وبالتالي فإن أقصى ما تستطيعه هو "البزخ"، هو التصرف في ميزانيات التي تتضخم، وهو -بالتالي- تعميم للاستهلاك، لا يفضي لتبلور طبقة رأسمالية، وهذا ماتوضح بعد الانهيار، حيث قاد النزوع الرأسمالي أشخاص، هم أعضاء في الحوب الشيوعي، ولا يملكون، ولم يسندو، وهم يقبضون على السلطة، من رأسماليين، بل كان الشعب سندهم. وربما بدأت تتشكل طبقة الرأسمالية في المرحلة التالية للانهيار، مستفيدة من الفوضى، ومن الحق بالتملك الذي لم يصبح قانوناً بعد، لكنه أصبح مشروعاً.
لذا فإن التمايز "لطبقي" المتحقق، لم يكن حقيقياً، وعبرّ عن نشوء طبقات، لكنه أفضى إلى نشوء "صراع طبقي"، حالة من حالات الصراع الطبقي. لقد كان هذا التمايز وهمياً من حيث الملكية، فلا حق بالملكية، لكنه كان حقيقياً من حيث المستوى المعيشي، وهذه الحالة هي التي أوجدت صيغة التناقض بين "الطبقات" الذي كان يتوسع كلما توسعت امتيازات البيروقراطية الحاكمة، وكلما حافظ الشعب على ثبات وضعه، الى الحد الذي بدا فيه وكأنه "صراع طبقي" .
إذن، فإذا كان تحكم البيروقراطية بالسلطة السياسية، أفضى إلى الاغتراب السياسي لدى الشعب، وجعل منه مطلب الديمقراطية، بما يعنيه من قرار بالتعددية وحرية الرأي، وحرية تشكيل الأحزاب، والحرية الفردية، مطلباً عاماً، فإن تحكم البيروقراطية بفائض القيمة، وتوزيعه بشكل غير متكافئ، قد أفضى الى الاغتراب الاقتصادي، نتيجة الشعور " الوهمي" بالتمايز الطبقي.
المستوى الثالث للأزمة، يتعلق بوضع الاقتصاد عموماً، الذي كان قد شهد دينامية عالية في الثلاثينات والأربعينات، والخمسينات، حيث استطاعت البيروقراطية الحاكمة تطوير الصناعة تطويراً حقيقياً، وحققت ما يعرف في عملية التطور الصناعي، بمرحلة التوسع الأفقي، حيث تأسس المجتمع على أساس الصناعة. ولقد أنهضت هذه الخطوة مجمل قطاعات الاقتصاد، ومجمل بنية المجتمع. لكن أزمة بدأت منذ أواسط الستينات، تعمقت في السبعينات، لكنها انفجرت بشكل عميق منذ بداية الثمانينات، ولقد تمظهرت الأزمة في تناقض الدخل الإجمالي، والعجز عن الإيفاء باحتياجات الاقتصاد، الديون والتضخم، وبالتالي باتت البيروقراطية الحاكمة عاجزة عن إعادة إنتاج ذاتها.
ويمكن تحديد أسباب ذلك في عنصرين، الأول يتعلق بطبيعة البنية المتكونة، والثاني يتعلق بأزمة تطور قوى الإنتاج، والعجز عن الانتقال من مرحلة التوسع الأفقي، إلى مرحلة التوسع العامودي، وضمن هذه المسألة تطرح مشكلة العجز عن تحقيق "الثورة العلمية التكنولوجية".
ففي المجال الأول، يمكن الحديث عن بحث البيروقراطية، التي وسعت من امتيازاتها الى الحد الذي قادها لأن تكون عبئاً على المجتمع، لقد غدت زائدة، حيث ارتفعت نسبة الرأسمال المنفق في "البذخ"، في المصروفات الاستهلاكية، مقارنة بالرأسمال المنفق في إعادة بناء وتوسيع قوى الإنتاج، بما فيها العمال، مما أفضى إلى عجز قوى الإنتاج، ليس عن زيادة الدخل الإجمالي، بل والحفاظ على مستوى متوازٍ مع النمو الاجتماعي العام. وبالتالي غدت الدولة غير قادرة على الالتزام بالحقوق الاجتماعية المقررة، وكذلك غير قادرة على استمرار سباق التسلح، وأكثر من ذلك، غدت عاجزة عن إعادة إنتاج بيروقراطيتها. ولقد حلت البيروقراطية هذه الأزمة التي توضحت في الستينات عن طريق احتياجات الاتحاد السوفياتي من النفط والذهب، خصوصاً بعد الارتفاع الهائل في أسعار النفط بعد عام 1974 لكن هذه الأزمة تفجرت بقوة أكبر بعد تراجع احتياجات الذهب، واستقرار، ثم تراجع أسعار النفط، وتراجع الاحتياجات النفطية ذاتها. وبالتالي لم يعد من الممكن حلها عن طريق البيروقراطية ذاتها وبالتالي لم يعد من الممكن حلها عن طريق البيروقراطية ذاتها.
كما أدى نشوء التمايز "الطبقي" الى حدوث شكل من أشكال "الحرب الطبقية" بين "الطبقتين" المتصارعتين، لكنه اتخذ شكل "الحرب السلبية"، تمثلت في "الهروب" من العمل، مما كان يفضي الى تدني الإنتاجية بنسب كبيرة وبالتالي كانت هذه "الحرب" تعزز تناقض الدخل الإجمالي، مما كان يعمق من أزمة الدولة عموماً، ومن أزمة البيروقراطية الحاكمة خصوصاً، لتطيح بها بعدما أقدمن على تقديم تنازلات عديدة (سياسة البيرويستريكا) من أجل إعادة إنتاج سيطرتها.؟
والمجال الثاني يتعلق بتطوير القوى المنتجة ذاتها. ولقد أشرنا سابقاً الى انحدار وضع القوى المنتجة، لأن البيروقراطية الحاكمة، لم تعد معنية بتطويرها، كما فعلت في المراحل الأولى، لأنها غدت معنية بـ "نهب" الفائض لذا فقد اعتبرت ان القوى المنتجة، اتخذت شكلها النهائي، كما اعتبرت أنها أنجزت مهمتها "التاريخية" في هذا المجال، بينما سرعت في رفع مستواها المعيشي وبالتالي فإن البحث في أسباب عدم تطوير القوى المنتجة مرتبط مباشرة بهذه المسألة لكن حينما نتحدث عن عدم تحقق "الثورة العلمية" التكنولوجية" التي كانت ضرورة فرضا التطور الصناعي الداخلي. كما فرضتها الظروف العالمية، من أجل أن يحافظ (ولا نقول ان يتقدم رغم مشروعية ذلك وضرورته أيضاً) الاتحاد السوفياتي على موقعه في بنية العالم، بعدما استطاعت الإمبريالية تحقيق "الثورة العلمية التكنولوجية)، وبالتالي استطاعت تطوير قواها المنتجة تطويراً هائلاً. حينما نتحدث عن هذه المسألة نلمس أسباب أخرى منعت البيروقراطية عن السعي من أجل تحقيقها.
ولا شك اننا ننطلق في هذه المسألة من قناعتنا بمقدرة الاتحاد السوفياتي على تحقيق هذه "الثورة"، لأننا لمسنا تحقيقها في مجال الصناعة العسكرية، وبالتالي كان من الممكن تحقيقها في الصناعات المدنية، ولاشك انه حتى لدى الرأسمالية، تحقيق التقدم في الصناعات العسكرية قبل ان يتحقق في الصناعات الأخرى، التي انتقل إليها بعد ذلك.
وتحديد هذا المسألة يهدف الى كشف زيف الآراء التي هولت من عجز الاتحاد السوفياتي عن تحقيق "الثورة العلمية التكنولوجية"، وربطت هذا العجز بالاشتراكية بالذات، باعتبار ان التقدم العلمي والتكنولوجي، هو من اختصاص الرأسمالية. أي ان هذه الآراء تعيد المسألة الى خطأ بنيوي في الاشتراكية، وهذا مجافٍ للحقيقة ومضلل لأنه يخفي السبب الكامن وراء "العجز" عن تحقيق التقدم العلمي في الصناعة عموماً، بعد تحقيقها في الصناعة العسكرية. لكنه أيضاً يؤكد على القدرات الخارقة التي تمتلكها الرأسمالية!!
لقد وصل التقدم العلمي في الاتحاد السوفياتي الى مرحلة تسمح بتحقيق "الثورة العلمية التكنولوجية"، على ضوء التطور العام في الثقافة والتعليم عموماً، وفي الصناعة خصوصاً. وتوضح ذلك في الصناعات العسكرية، لهذا يحق التساؤل! لماذا منعت البيروقارطية الحاكمة انتقال التقدم التكنولوجي من الصناعات العسكرية الى الصناعة عموماً؟ ربما يتوضح هنا تأثير الصراع العالمي على تطور الوضع الداخلي، حيث فرض الاهتمام العالي بتطوير الجيش، والحفاظ على سرية هذا التطوير، فرض النزوع الى فصل الصناعات العسكرية عن الصناعات المدنية، وإحاطة الأولى بسرية تامة، واعتبار ان كل تقدم يتحقق فيها، يتعلق بقضايا الاستراتيجية العسكرية. ولا شك ان في ذلك قدر من الحقيقة، وربما كان من الأسباب التي جعلت بعض قطاعات البيروقراطية والحزب، تقبل بالعزل بين الصناعيين ، والحفاظ على استقلالية كل منهما، لكن لا بدّ من ملاحظة ان هذا السبب شكلي الى حد كبير، وكان يخفي مصالح البيروقراطية ذاتها ، التي اعتبرت ان التطور المتحقق في الصناعة هو نهاية المطاف، لأنه أصبح الصيغة المثلى لتحقيق مصالحها، وتبرير سيطرتها، وضمان حصولها على الامتيازات، بينما كان تحقيق "الثورة العلمية التكنولوجية" يعني الحاجة الى تحقيق تحول حقيقي في بنية السلطة ذاتها، في صيغة الإدارة، وفي حجم البيروقراطية، وفي صيغة الحكم، وكذلك في وضع القوى العاملة، لأنها تفضي الى تقليص حجم العاملين في مختلف قطاعات الصناعة.
باختصار، كان تحقيقها يفرض إعادة بناء المجتمع والدولة، وهذا ما كانت ترفضه البيروقراطية الحاكمة، لأنه كان يفضي الى انشقاقها من جهة، نتيجة الحاجة الى خفض حجمها، ويفضي الى التخلي عن "النظام البطريركي"، وإقرار التعددية من جهة ثانية. كما يفضي الى إيجاد أساس لتشكيل حركات احتجاج شعبية. نتيجة نشوء البطالة من جهة ثالثة.
ولا شك أن هذا التكوين للبيروقراطية، والامتيازات التي حققتها، جعلاها تدافع عن "الواقع القائم"، عن البنية المتشكلة، في مواجهة صيغة تجهلها، ولكنها تحمل مؤشرات لا تروقها. فإذا كانت غير قادرة على خفض حجمها، فإنها ترفض إعادة صياغة النظام السياسي، لأن ذلك سوف يهدد امتيازاتها، ويهددها بالإجمال. لهذا تذرعت بمختلف الأسباب "الأمنية" لمنع تحقق التقدم التكنولوجي في الصناعة المدنية، مما أفضى الى تخلف قوى الانتاج، الأمر الذي أفضى بدوره الى تعميق أزمة الاقتصاد، وإلى نشوء أزمات "مكملة"، منها أزمة تناقص السلع ( أزمة الاستهلاك)، أزمة التضخم والمديونية، وانهيار قيمة الروبل.
إذن لقد وصل الوضع الى المرحلة التي كان قد حددها لينين، وهو يتحدث عن "الأزمة الثوري"، والتي أعاد لوكاش لتأكيد عليها، حيث لم تعد الطبقة الحاكمة قادرة على الاستمرار وفق الصيغة ذاتها، كما أن الشعب لم يعد قابلاً باستمرار الوضع القائم. لكن تحقيق الحل، على عكس ماكان يجري في الأمم الرأسمالية، وحسب تصور لينين، بأن تفككت البيروقراطية الحاكمة، وهي تسعى لاعادة إنتاج ذاتها، فسيطرت فئة منها، تحمل آراء و تصورات مناقضة لكل ما كانت تطرح طيلة عقود (الديمقراطية والرأسمالية)، وطردت أخرى. ولم يتحقق ذلك بدون مساعدة الشعب، الذي وعلى خلفية الأزمات التي يعيشها (أزمة الديمقراطية، أزمة التمايز "الطبقي"، الأزمة الاقتصادية..)، وبفعل "حلم" صاغه انطلاقاً من معارضته للسلطة القائمة" بما هي سلطة اشتراكية، "وبطريركية"، وأملاً في تحسين ظروفه، ساند الاتجاه الرأسمالي، ذاك الاتجاه من البيروقراطية الحاكمة، الذي لم يعد يرضى بالامتيازات فقط، بل اندفع للحصول على التملك الخاص، مغلفاً كل ذلك بخطاب ليبرالي، وبحدث جياش عن الديمقراطية، ولقد ساند هذا الاتجاه حلماً بأن يحقق له "الجنة الموعودة"، جنة الرأسمالية، حيث يتلازم الديمقراطية والرخاء الاقتصادي، لهذا وبعد أن كانت البيروقراطية الحاكمة قد أقرت حق الانتخاب دعم كل من دعا الى نبذ الاشتراكية، وأقر بأنه سوف يعمل من أجل انتصار الرأسمالية، فتحقق الانقلاب الكبير الذي أنهى الاشتراكية، في المستوى السياسي، أي أنه أنهى السلطة الاشتراكية، ولأنه أنهى السلطة الاشتراكية فقط، فقد أسس لمرحلة من الفوضى الشاملة.
وبالتالي فإذا كانت البنية الفوقية متقدمة عن النية التحتية في السنوات 1971- 1929، عملت على إنهاضها، بتصفية النمط الإقطاعي، وتحقيق الثورة الديمقراطية في الاقتصاد (تطوير القوى المنتجة) وفي السياسة (هل المسألة القومية، إعادة بناء الدولة بتأسيس دولة حديثة)، وإذا كان تطابقاً قد تحقق منذ أواسط الثلاثينات بين البنيتين، بإلغاء الملكية الخاصة وضمان المستوى المعيشي للشعب (العمل، الصحة، التعليم ..)، فقد أصبحت البنية الفوقية، بعد ذلك، متخلفة عن البنية التحتية، وأدى تحولها من أداة التقدم، إلى وسيلة لتكريس ما تحقق، وسعيها لوقف الصيرورة، على اعتبار ان ما تحقق هو "نهاية التاريخ"، أنه الشكل الأرقى، والنهائي للتطور التاريخي، أدى الى نشوء أزمة عامة في المجتمع، بدأت بنشوء ظاهرة الاغتراب السياسي ( ظاهرة البحث عن الديمقراطية)، ثم ظاهرة الاغتراب الاقتصادي (ظاهرة السعي من اجل إلغاء التمايز "الطبقي" وتحسين الوضع المعيشي)، ومن ثم أزمة الاقتصاد بمجمله، العميقة الى الحد الذي أفضت فيه- وبالترافق مع الظاهرتين هاتين- الى تدمير البنية الفوقية، التي بدت، على ضوء كل تلك الأزمات، وعلى ضوء الدور الذي تحددت فيه، أنها زائدة، زائدة لابدّ من تدميرها من أجل استمرار الصيرورة، لقد كان الانهيار، إذن، ضرورة حيث كان لابدّ من استئصال الزائدة، لكي تستقيم الصيرورة، ولقد أبانت الأزمة، أنها من العمق بحيث لم يكن من الممكن حلها دون تدمير البنية الفوقية برمتها.
وإذا كان "الحلم" في المرحلة الأولى، متقدماً عن الواقع، مستقبلياً، وإذا كان تحقق في صيغة ما، بعد ما ترك الواقع بصماته عليه، ليتحقق التقدم على شكل اندغامٍ بين الحلم والواقع، فقد غدا الواقع، بعد تقدمه، دون "حلم"، لقد أصبحت حركته عفوية، وغدا مساره بلا حلم، وبالتالي كان من الطبيعي أن يتحقق النفي السلبي. ولقد تعزز النفي السلبي هذا ، لأن الشعب، ليس لم يمتلك أي حلم، بل أنه حمل "حلماً معكوساً"، حيث حلم بمعكوس الوضع القائم، بسلب الوضع القائم، باعتبار ان الرأسمالية هي المثال، لتبدو الديمقراطية وكأنها بديل الاشتراكية، و النزوع الفردي كبديل للتطور الجمعي، وفوضى السوق كبديل لـ "انضباطه"، وأمل الإغناء الفردي بدل "استقرار" الدخل والوضع المعيشي، والملكية الفردية كبديل للملكية الاجتماعية، لقد كان حلماً معكوساً، سلبياتً، حالما تحقق بدا ككابوس، لأنه أبان عن وحشية الرأسمالية، وهي الحالة التي لم يتصور أحد أنها يمكن أن تلازم المثال، الذي كن وردياً، رأى في الماركسية ما ليس فيها.
لكن إذا كان نمط الملكية في المرحلة الأولى كان يتراوح مابين الملكية الإقطاعية –وهي الغالبة- والملكية الرأسمالية- الاقتصاد بضاعي الصغير، الرأسمالية الخاصة، رأسمالية الدولة- فقد غدا منذ أواسط الثلاثينات ملكية اجتماعية. ورغم انهيار البنية الفوقية، فلا زالت الملكية الاجتماعية هي السائدة، رغم ان الصراع يدور حول مصيرها.
إذن يمكن ان نجمل ان الاشتراكية كانت ضرورة في بلد متخلف، لهذا استطاع الحزب الشيوعي الانتصار. لكن التخلف الذي كان تعانيه روسيا أفضى الى صيرورة محددة، صيرورة واقعية، فقد كانت مهمة الماركسية تحقيق تطور ديمقراطي، لكن تحقيق هذا التطور كان يؤسس لنشوء سلطة من نمط محدد. سلطة استنفذت إمكانية تحقيق أي تطور، وانغلقت على ذاتها، فارضة الحكم الشمولي. بينما أدت ديناميكة تطور المجتمع الى انتقاله الى مرحلة جديدة، أوجدت فيه ضرورة جديدة، تمثلت في : الديمقراطية، وتحسين الوضع المعيشي. وبالتالي ففي اللحظة التي غدت فيها السلطة زائدة، أصبح التغيير هدف الشعب الأول .
لكن هل هذا المسار حتمي؟ ربما، أو بشكل أدق، كان حتمياً نتيجة طابع البنية ذاته، حيث فرضت مسيرة التقدم صيغاً أصبحت عائقاً في اللحظة التي تحقق فيها التقدم، فانكسر ولم يستمر، وربما كانت الضرورة تفترض صيغاً أخرى، ولعل الواقع كان يحملها، لكن الحتمية فرضت الصيغة المتحققة، وبالتالي كانت النتيجة حتمية أيضاً. ففي اللحظة التي أصبحت البنية الفوقية فيها زائدة، كان محتماً تدميرها.
ولقد أوضحت المحاولات التي بدأت منذ عام 1985، والتي أسميت (سياسة البيريسترويكا)، هذه النتيجة حيث فشلت كل محاولات تقديم التنازلات التي قمت بها البيروقراطية الحاكمة، والتي بدأت بسيطة، ثم تصاعدت، الى ان انهارت الدولة السوفياتية (1) [ (1) لن نبخس العامل القومي حقه، ونحن نحلل مسألة انهيار الدولة السوفياتيى، فرغم أن الحل الذي تحقق بعيد ثورة أكتوبر سنة 1917، والذي على ضوئه تشكلت الدولة السوفياتيه ولأمم المختلفة، قد امتص العامل القومي هذا، فوجدت الشعوب أنها تصيغ وضعها وفق مشيئتها، فإن تطورها المضطرد، قد أعاد الشعور بأنها لم تحل مشكلتها القومية، لأنها تحتاج الى صيغة جديدة، تعيد بناء الدولة السوفياتية بما يحقق مطامحها وشخصيتها. لهذا أسهمت في تفكيك الدولة الموحدة].
وهذه النتيجة تفتح ثلاث مسارات، الأول: أشرنا إليه سابقاً، إن المسألة المهمة هنا ونحن نناقش مسار التطور في بلد متخلف، ضمن الظرف العالمي المحدد، هي ان هذه الصيغة في التطور، قد حققت مستوى من التقدم الصناعي، أفضى الى تحقيق التكافؤ في القوى المنتجة،. وهذه "النهاية" مهمة، بغض النظر عن طبيعة المسار التالي، أي أنها مهمة لأنها وضعت الأساس لتشكيل دولة حديثة بغض النظر أكانت اشتراكية أم رأسمالية. وهي مهمة بسبب من تأثيرها في تكوين النظام العالمي ذاته، لأنها تفضي الى "توسيع" الأمم الصناعية. وصيرورة هذه العملية سوف تقود الى تشكيل نظام عالمي صناعي، ويلتغي فيه اللاتكافؤ في قوى الإنتاج، وفي مجمل العلاقات الاقتصادية والسياسية، مما يحتم انتصار الاشتراكية، لأن فوضى التنافس عندها، لن تحل إلا بإلغاء الملكية الخاصة، وإعادة تنظيم الاقتصاد العالمي اشتراكياً، وهذا احتمال من احتمالات تحقيق الاشتراكية، وإن كان الاحتمال الأضعف .
والثاني: هل ان هذا المسار محتم في كل الأمم؟ طبعاً حتى وإن كان محتماً، فلا شك أنه يحقق التقدم، بغض النظر عن كل ملاحظاتنا ونقدنا (الأخلاقي، والسياسي، والاقتصادي)، إنه، كما أشرنا، خيار التقدم الوحيد، لكن نضيف أن هذا المسار، هذه الصيغة في التقدم ليست حتمية، ولا ضرورية فقد كانت نتاج ظرف محدد، حاولنا توضيحه سابقاً، وزلا شك ان بعضاً منه لا زال قائماً في العديد من الأمم المتخلفة، لكن التغير الذي حصل في العقود الماضية تجاوز ذاك الوضع "البطريركي"، حيث أصبحت كل الأمم المتخلفة رأسمالية، في شكلها التابع، وتهدم "الريف البطريركي" الذي هو أساس ذاك المسار، ليتشكل وضع جديد، يحتاج الى تصورات جديدة، ويفرض مساراً آخر، ربما هو ليس الحلم الديمقراطي الاشتراكي، لكنه يتضمن بعضاً منه، ونحن هنا نلمس المسار الواقعي، المشروع كما يمكن أن يتحقق واقعياً. الحتمية وليست ضرورة. فالمشروع اللينيني كان مشروعاً ديمقراطياً، لكنه سار وفق المسار الستاليني، بفعل طبيعة البنية الواقعية. ولا شك ان أحد مهمات الماركسيين الأساسية هي الإفادة من التجربة، من بلورة تصورات أعمق، تجعلهم أكثر قدرة على وعي الحركة الواقعية، والتأثير فيها، وفي نفس الوقت وعي تأثير الواقع في بنيتهم من أجل ضمان مقدرتهم على امتلاك "الحلم"، "حلم المستقبل"، حتى وهم في السلطة. وبالتالي فإن تحليل التجربة الاشتراكية. يهدف الى تجاوز مشكلاتها. وليس ملاحظة الجانب السلبي فيها، باعتباره حتمياً، للوصول الى نتيجة ان الاشتراكية مشروع ضد الإنسان أو انه يحتاج إلى "عالم" آخر، من أجل "الهروب" إلى "حلم ديمقراطي" موهوم.
والثالث: يتعلق بالتساؤل حول مصير البلدان التي كانت تحكمها نظم اشتراكية، هل انقطعت الصيرورة؟ هل انتصرت الرأسمالية إذن، وتكرست نهاية التاريخ؟
ينمكن أن نلاحظ ان البنية التحتية لا زالت تقوم على أساس تملك الدولة للقوى المنتجة، ولا تعدو الملكية الرأسمالية ان تمثل هوامش في الاقتصاد، تتسع في بعض البلدان وتضيف في أخرى (نستثني هنا المانيا)، وهي في روسيا ضيقة، وتنحصر في "تجار السوق السوداء" وأصحاب المتاجر، وبالتالي فإن الطابع العام لهذه البنية لا زال اشتراكياً، وغن "الرأسمالية" تتمركز في البنية الفوقية (الدولة)، رغم أنها غير حاسمة بعد. وبالتالي فإن معكوس الوضع الذي سار بعد ثورة أكتوبر هو الذي يطبع روسيا راهناً، حيث غدت البنية التحتية تتقدم البنية الفوقية، وهذا تناقض يحتاج الى حسم، فلا بدّ من المطابقة من جديد، فهل يتحقق نفي النفي، أم تتكرس الرأسمالية؟ هل تعيد البنية الفوقية صياغة البنية التحتية، وفق رؤيتها ومطامحها رأسمالياً، أم يحدث العكس، حيث تفرض البنية التحتية نظاماً سياسياً مطابقاً؟ ونفي النفي هنا صيغة للاشتراكية تحل المشكلات القائمة، في البنية التحتية، والبنية الفوقية معاً، لكي يتأسس نظام جديد، يقوم على أساس الديمقراطية الاشتراكية.
إن مطابقة البنية التحتية للبنية الفوقية يتطلب تكريس الملكية الخاصة، وإذا كان من الممكن تحقيق ذلك في بعض القطاعات من خلال الترخيص القانوني (ملكية بيوت، النشاط التجاري)، فإنه أكثر صعوبة فيما يتعلق بقوى الانتاج، حيث أنها مملوكة من قبل الدولة، وهي مصدر دخلها، ولا يمكن وهبها التالي، لهذا فإن الحل الوحيد لها ضمن سياسة التحول الى الرأسمالية، هو بيعها (1)، [(1) نشير هنا الى ان هذه المسألة لم تتحقق بعد، نتيجة الخلاف حولها في مؤسسات السلطة، ويبدو أن إقرارها لا زال صعباً نتيجة ازدواجية السلطة والصراع بين مؤسساتها] لكي تملك ملكية خاصة. وهذا يطرح السؤال عن امكانية تحقيق ذلك؟ حيث ان تحويل الملكية يحتاج الى الرأسمال، وهو في بلد كروسيا يحتاج الى رأسمال ضخم ضخامة القوى المنتجة ذاتها، وهو رأسمال لا تملكه قوى محلية، حيث – وكما أشرنا سابقاً- لم تتبلور فئة رأسمالية من خلال نهب الدولة طيلة العقود الماضية، بسبب من سيادة الملكية الاجتماعية، التي كانت تحرم ذلك ولا شك ان الفوضى الراهنة وفرت لفئات حاكمة بنهب المجتمع والدولة، لطرق غير اقتصادية. (السوق السوداء). لكن في كل الأحوال لن تتشكل فئة قادرة على امتلاك قوى الانتاج، أو حتى قطاعاتها الأساسية. وكذلك، كما أشرنا سابقاً، فإن الرأسمال العالمي لايقدم على هذه الخطوة، وهو على العكس من ذلك يسعى للتخلص من البنية الصناعية المتحققة، كلي لا تشكل منافساً جديداً في السوق العالمي، وهو يسعى –بالتالي- الى تحويل روسيا (وكل البلدان التي حكمتها نظم اشتراكية) الى بلد تابع، لهذا فهو يدعم الرأسمالية التابعة فيها.
ولهذا يطرح الخيار الآخر، خيار مقدرة البنية التحتية على تأسيس بنية فوقية متوافقة، فهنا تبدو المسألة وكأنها مسألة إسقاط سلطة، فئة حاكمة، وتسويد أخرى، وبالتالي إسقاط نمط وتسويد آخر. وهو ما يرتبط بتطور الأزمة الاجتماعية، والنضال الشعبي الذي تعززه الأزمات العميقة التي ولّدتها بسيطرة الرأسمالية في المستوى السياسي، والتي أفضت إلى تعميق المشكلات السابقة، بدل ان تحلها (انحطاط الوضع المعيشي للشعب). وبالتالي فإذا كان الضغط الشعبي، و الموقف الشعبي، بعد تعمق الأزمات، هو الذي يمكن أن يفضي إلى انتصار الاشتراكية من جديد. وهذه الحركة هي التي تولد نفي النفي بتوسط استمرار سيادة الملكية الاجتماعية، ولكن فقط حينما يمتلك الشعب حلماً جديداً، حلم تحقيق الديمقراطية الاشتراكية.
هنا يطرح من جديد دور الماركسيين الروس، لكن انطلاقاً من مقدمتهم على إعادة صياغة المفاهيم والتصورات، وبنية الحزب (الأحزاب)، بحيث تحقق القطع مع البنية القديمة، وتحدد الحلم الجديد.