|
نحو تطوير فلسفة وأساليب التعليم باللغات الأجنبية (1) منطق اللغة العربية الأم
مصطفى فؤاد عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 6426 - 2019 / 12 / 2 - 00:25
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
لو تخيلنا أي جهاز حاسوب أو حتى هاتف ذكي يعمل بدون وحدة المعالجة المركزية أو حدة الحساب والمنطق، التي تختص بكل من معالجة والتحقق من منطقية المهام والأوامر التي يتم إعطائها للجهاز بكافة الطرق والأشكال وبكل اللغات الإنسانية ومن ثم ترجمتها إلى مهام مكتوبة بلغة الآلة التي تفهمها الأجهزة الإلكترونية، فإن النتيجة سوف تكون أشبه بالكوميديا بسبب فقدان حلقة التواصل الأساسية بين الإنسان والآلة التي يحاول استخدامها، ويًصبح المشهد وكأنه حوار يدور من طرف واحد بين الإنسان وقطعة من المعدن المغلفة بالبلاستيك!
فمن يستخدم الحاسوب لكتابة مقال، مثلاً، ويقوم بالضغط على أزرار الأحرف الأبجدية بهدف الكتابة فإنه يختار الأحرف المناسبة لصياغة الكلمات والجمل والعبارات المختلفة التي يراها مناسبة، وتقوم وحدات المعالجة المركزية والحساب والمنطق بكل من المعالجة والتحقق من هذه الأحرف والكلمات والجمل والعبارات وتمريرها إلى الحاسوب بلغة الآلة التي يفهمها حتى تظهر بالشكل الذي تظهر به، وحقيقة الأمر أن الحاسوب لا يعرف هذه الكلمات أصلاً ولا يفهم معانيها، وإنما هي مجرد صور نقطية تم برمجتها بشكل مسبق ومعالجتها بشكل فوري باستخدام برمجيات وتطبيقات متخصصة وترجمتها وحدة المعالجة المركزية وتحققت منها وحدة الحساب والمنطق وظهرت بهذا الشكل.
والطفل الذي يبدأ بالنطق باللغة العربية باعتبارها اللغة الأم ويتأسس لديه "المنطق" اللغوي باللغة العربية، يًصبح وكأنه يمتلك ما يمكن أن نطلق عليه كل من "وحدة المعالجة المركزية العربية ووحدة الحساب والمنطق العربي"، وهي المناظرة لما يمتلكه جهاز الحاسوب، وبطبيعة الحال سوف تكون مهمتها المعالجة المركزية والتحقق من كل ما يسمعه أو يقرأه الطفل حتى يفهمه بعمق ويستوعبه بالشكل الصحيح الذي لا لبس فيه. ومن هذا المنطلق، فإنه يتوجب عند بدء تعليم هذا الطفل اللغات الأجنبية في مراحل التعليم المختلفة أن يتم إسناد وتمرير كل ما يتلقاه من كلمات وجمل وعبارات وقواعد وعلوم بكافة أنوعها إلى اللغة العربية، بحيث تسير منهجية تعلم اللغة الأجنبية بموازاة اللغة العربية الأم وليس بطريقة الإحلال.
إن الحكمة من تعليم اللغات الأجنبية بالإسناد إلى اللغة العربية الأم وبموازاتها هي إخضاعها للمنطق اللغوي العربي الذي نما لدى الطفل ونطق به لأول مرة منذ ولادته واعتاد عليه في سنواته الأولى، وذلك لأن هذا المنطق أصبح بمثابة الأداة التي يستخدمها الطفل في فهم كل ما يحيط به ويمر به في حياته اليومية حتى وإن كان باللغات الأجنبية. وهذه الفلسفة في تعليم اللغات الأجنبية تختلف في جوهرها عن الترجمة التي تهدف إلى تحويل النص الأصلي المكتوب بلغة أجنبية إلى نص مكتوب باللغة العربية دون حاجة إلى فهم النص الأصلي، فالغرض هنا هو إخضاع اللغة الأجنبية للمنطق العربي، الأكثر دقة وصعوبة، وبالتالي فهي ترفع من قدرات ومهارات الطفل اللغوية من جهة وترتقي باللغة الأجنبية التي يتعلمها إلى مستويات أعلى من المنظور الأكاديمي من جهة أخرى.
وتكمن المعضلة في هذه الرؤية العلمية، التي نعتقد بصحتها، أن غالبية القائمين على العملية التعليمية يخلطون بين مسارات التعليم الأكاديمي للّغات الأجنبية، باعتبارها علوم مثلها مثل العلوم الأخرى وبين مسارات التعليم المهني لهذه اللغات التي تهدف غالباً إلى تنمية مهارة المحادثة باللغة الأجنبية، وقد يُفاجأ البعض بأن عدد كبير من الأمريكيين، مثلاً، يفشلون في اختبارات اللغة الإنجليزية الأكاديمية التي قد يجتازها بسهولة وبتفوق طفل عربي تعلم هذه اللغة على أسس عربية، هذا بالرغم من إتقانهم للمحادثة باللغة الإنجليزية بطلاقة لا يضاهيها طلاقة أي شخص عربي حتى وإن كان عالماً بها، طالما نطق أولاً باللغة العربية.
وحتى يتم إخضاع تعليم اللغات الأجنبية لمنطق اللغة العربية، ينبغي أولاً تجزئة المنهج الدراسي إلى أجزاء فرعية وتخصيص الحصص الدراسية المختلفة لكل جزء، بحيث تُشكل تلك الأجزاء في مجموعها قوام اللغة الأجنبية ككل، كأن يتم تخصيص حصة لجزئية القراءة والفهم وحصة للكتابة والخط، وحصة للإملاء، وحصة للقواعد، وحصة للمفردات وحصة للتعبير والإنشاء، وحصة للمحادثة الشفوية أو باستخدام الأدوات السمعية والبصرية. ثم بعد ذلك يتم إسناد عملية التعليم إلى اللغة العربية بالطريقة التي تُناسب كل جزء من تلك الأجزاء وبحسب الحاجة إلى المقارنة بمنطق اللغة العربية وإظهار مواطن التشابه أو الاختلاف مع المنطق اللغوي للّغة الأجنبية وأسباب هذا الاختلاف.
وفي الوقت الذي قد لا يلجأ فيه المدرس في الصف حتى إلى التحدث باللغة العربية في حصص معينة مثل الحصص المخصصة لجزئية المحادثة مثلاً، سوف يكون من الضروري، أو ربما من الواجب عليه، أن يشرح كل الدروس المقررة في الحصص المخصصة لجزئية القواعد باللغة العربية وبالإسناد إلى قواعد اللغة العربية حتى يتحقق الهدف من هذه الدروس، ومن أمثلة ذلك شرح الصفة والموصوف والفرق بينهما في اللغة الإنجليزية، حيث يتوجب شرح هذا الدرس باللغة العربية وبالإسناد إلى قواعد اللغة العربية وبالمقارنة معها، وأن تتم الإشارة إلى أن الأصل في اللغة العربية أن الصفة تتبع الموصوف بينما يكون هذا الترتيب معكوساً في اللغة الإنجليزية حيث أن الموصوف هو الذي يتبع الصفة. وإذا أراد المدرس أن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فقد يُشير أيضاً إلى أن اللغة الفرنسية تتشابه مع اللغة العربية في ترتيب الصفة والموصوف.
إن تعلم اللغات الأجنبية يُعتبر أمراً مهماً في هذا العصر، بخاصة في عصر الإنترنت والتواصل الإلكتروني، ولكن ينبغي التفرقة هنا بين طرق تعليم اللغات من المنظور المهني التي تهدف غالباً إلى تنمية مهارات وقدرات مهنية محددة لدى الأفراد، وبين طرق تعليم اللغات الأجنبية من المنظور الأكاديمي التي تهدف إلى تأسيس أجيال عربية تمتلك من الأدوات والقدرات ما يمكّنها من سبر غمار اللغات الأجنبية بالإضافة إلى مختلف العلوم الإنسانية والطبيعية وعلوم الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات، بخاصة عندما يكون تدريس معظم تلك العلوم باللغات الأجنبية، وتلك معضلة أخرى أكثر تعقيداً وربما أكبر من أن تكون مجرد معضلة تعليمية.
#مصطفى_فؤاد_عبيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو التطوير الاستراتيجي لمنظومة وفلسفة التشريع الضريبي - است
...
-
فلسفة وأسس قوانين الضمان الاجتماعي في القانون المقارن - الثق
...
-
فلسفة التطوير والتجديد في الفكر الإداري المُعاصر، الغطاء الذ
...
-
قوانين حماية البيئة.. الفكرية والثقافية واللغوية!
-
فلسفة المراجعات الفكرية
-
فلسفة الفقه والفقه الُمقارن .. بين الشريعة والقانون!!
-
الأديان ونظم تشغيل الكمبيوتر Religions & Operating Systems
-
نحو التطوير الإستراتيجي لمنظومة الاقتصاد (4) تصحيح ثقافة ترش
...
-
ثنائية العالِم والمثقف العربي في العصر الحديث
-
نحو التطوير الإستراتيجي للنظم القانونية (3) استقراء القاعدة
...
-
نحو التطوير الإستراتيجي لمنظومة التربية والتعليم (6) مفارقة
...
-
تصورات نقدية حول نظرية المؤامرة
-
نحو التطوير الإستراتيجي لمنظومة التربية والتعليم(5) تعدد فتر
...
-
نظريات تطوير المناهج التعليمية الحديثة (3) التطوير التفاعلي
-
نظريات تطوير المناهج التعليمية الحديثة (2) المعايير العقلية
...
-
نظريات تطوير المناهج التعليمية الحديثة (1) نظرية الثبات الكم
...
-
نحو التطوير الإستراتيجي لمنظومة الأمن (6) نظريات الإدارة الأ
...
-
نحو التطوير الإستراتيجي لمنظومة الفساد (2) درجات الفساد
-
نحو التطوير الإستراتيجي لمنظومة الفساد (1) مخارج الطوارئ
-
نظريات الإدارة الأمنية الإستراتيجية (5) التنسيق والتعاون الأ
...
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|