احتمالات وصول اسرائيل لانهيار نقدي، تدفع وزير المالية الجديد نتانياهو لاجراء عملية فصل في الجهاز الحكومي تشمل آلاف الموظفين؛ طالما يبقى الوضع الامني على تأزمه، لن تتجدد الاستثمارات والركود سيتعمق؛ الامر الوحيد الذي سينقذ اسرائيل من الانهيار هي المعونات الامريكية، لكن هذا سيكون مؤقتا وسيؤجل الازمة دون ان يحلها.
اساف اديب
تعيين بنيامين نتانياهو وزيرا للمالية في الحكومة الاسرائيلية الجديدة، ادى لارتفاع فوري في مؤشر البورصة الاسرائيلية. رجال الاقتصاد والمستثمرون المحليون والاجانب يرون في نتانياهو ممثل نظرية السوق الحرة المطلقة، وهي السياسة الاقتصادية التي تفيد ارباب العمل وتضر الطبقة العاملة والشرائح الفقيرة.
نتانياهو معروف بنهجه الاقتصادي المتطرف الذي يسعى لخصخصة الاقتصاد وتقليص نفقات الحكومة. وكان قد قام اثناء توليه رئاسة الحكومة عام 1997 باجراء تقليصات كبيرة في الميزانية. قوته السياسية الكبيرة وعلاقاته الوطيدة مع الجناح اليميني الحاكم في امريكا، خلقت الانطباع بانه سيتمكن من اتخاذ خطوات صارمة لانقاذ الاقتصاد. ولكن سرعان ما اتضح للوزير المتحمس ان الازمة الاقتصادية اعمق بكثير مما كان يتصور.
على حافة الانهيار
صحيفة "يديعوت احرونوت" (7 آذار) وصفت الايام الاولى التي قضاها نتانياهو في مكتب وزارة المالية: "الى مكتب وزير المالية يفد كل الخبراء والمسؤولين ورجال الجامعات وكبار الصناعيين. كل منهم يقدم الارقام والمعادلات والحلول... والكل يتحدث عن كارثة وشيكة... الكلمات التي تستخدم مرة تلو مرة هي: انهيار، ركود، مصيبة. الصورة التي تتكرر هي صورة الارجنتين، عاصمتها بوينس ايرس، والجمهور الذي يقتحم الحوانيت". نتانياهو نفسه قال للصحيفة: "علمت ان الوضع صعب، لكنني لم اتصور ان الوضع متأزم لهذه الدرجة".
نظرية السوق الحرة
حسب نظرية الاقتصاد الحر التي يؤمن بها نتانياهو، يجب معالجة الامراض الاقتصادية باتخاذ عدة خطوات تشمل: خفض نسبة الفائدة البنكية لتشجيع الاستثمارات، خفض الضرائب المفروضة على المال والعمل لتشجيع النشاط الاقتصادي، تقليص نفقات الحكومة من خلال تقليص الميزانية، خصخصة الشركات الحكومية.
ولكن لا يبدو ان هذه الخطوات قابلة للتنفيذ. العقبة الاولى امام نتانياهو تقليص ميزانية عام 2003. المعلّق الاقتصادي جاي رولنيك كتب في "هآرتس" (10 آذار): "ان الخطوة ضرورية لمنع الانهيار النقدي، ولذلك سيكون التقليص المطلوب اكبر حجما من أية خطوة اتخذت منذ خطة الاشفاء عام 1985". غير ان المشكلة ان التقليصات تقتضي تقليص ميزانية الدفاع، الامر الذي يعارضه بشدة كبار مسؤولي الجهاز الامني.
نفقات جهاز الامن الاسرائيلي تتم دون مراعاة للوضع الاقتصادي، اعتمادا على الوعود الامريكية بزيادة المعونات العسكرية. وفي حين سيكون علينا ان نرى ماذا سيكون مصير هذه الاعانات في السنة القادمة في ظل التكاليف الباهظة لحرب العراق، يبقى امرا واحدا اكيدا، وهو ان الميزانيات التي يتطلبها الجيش الاسرائيلي تفوق القدرات الانتاجية للدولة.
الوسيلة الثانية لتقليص الميزانية هي خفض الاجور الخيالية التي يتقاضاها الموظفون الحكوميون الكبار، وفصل عشرات الآلاف من موظفي القطاع العام الادنى درجة. وبينما تبدو الحكومة عازمة على تنفيذ الاحتمال الثاني رغم انه سيؤدي لمزيد من عدم الاستقرار الاجتماعي، الا ان خفض اجور كبار الموظفين يبدو اصعب، فهؤلاء يمثلون شريحة بيروقراطية متجذرة داخل الجهاز الحكومي.
نتانياهو يكرر اليوم المناورة المعروفة: اكثر الحديث عن اجور المدراء المرتفعة، كي تضرب اجور العمال البسطاء. وبالفعل فقد اعلنت وزيرة المعارف، ليمور ليفنات، في 11 آذار عن نيتها فصل الف معلم، الامر الذي يهدد بزعزعة سوق العمل واعلان المعلمين اضرابا ضد الحكومة ومخططاتها.
اسرائيل ليست امريكا
سيكون على نتانياهو الذي يبني توقعات على الاستثمارات الخاصة، ان يدفع باتجاه خفض نسبة الفائدة من 9% الى 1-2% كما هي في الولايات المتحدة. دون هذه الخطوة سيصعب على الصناعات الاقتراض لتوسيع انتاجها، سيما ان الوضع الامني لا يشجع المستثمرين على توظيف اموالهم في السوق الاسرائيلية.
ولكن تكمن هنا مشكلة كبيرة اخرى يصعب حلها: الفائدة البنكية المرتفعة نسبيا تجذب لاسرائيل كمية كبيرة من الدولارات التي تبحث عن الاستفادة من الفائدة. في حالة خفضها قد يؤدي الامر تلقائيا لهروب جزء كبير من هذه الارصدة الى خارج البلاد. وسيؤدي هذا الى انخفاض كبير في قيمة الشيكل، وضرب الاستقرار الاقتصادي. وقد سبق ان وقعت كارثة في كانون اول 2001 نتيجة قيام عميد بنك اسرائيل، دافيد كلاين، بخفض الفائدة البنكية بنسبة 2%. ولا يبدو ان القيادة المالية في اسرائيل تنوي تكرار التجربة.
في مجال خصخصة الشركات يواجه نتانياهو نفس المشكلة: بيع شركة حكومية مثل شركة الكهرباء او الموانئ او بيزك، يحتاج الى مستثمرين كبار يبحثون عن فرص للربح في اسرائيل. دون ظروف امنية واقتصادية مواتية، لا فائدة من خصخصة الشركات. الاجراءات التي قد تكون ممكنة في بريطانيا او المانيا او الولايات المتحدة حيث تعمل القطاعات المنتجة التقليدية في جو من الاستقرار، بعيد جدا عن الحالة الاسرائيلية.
بعد ان قضت على قطاعات كاملة من الاقتصاد التقليدي المحلي، وراهنت على قطار التكنولوجيا المتطورة (هاي تك)، دخلت اسرائيل الى حلقة مفرغة بعد انهيار القطاع التكنولوجي وبسبب نفقات الجيش على الانتفاضة، بالاضافة لانهيار قطاع السياحة.
المساعدات الامريكية
يجري موظفو المالية مفاوضات للحصول على مساعدات خاصة من امريكا. المطالب الاسرائيلية التي قدمت للادارة الامريكية عشية الانتخابات بحجة الوضع الامني والحرب المرتقبة على العراق، اشتملت على ضمانات قروض لاهداف مدنية بقيمة عشرة مليارات دولار، ومساعدات امنية مباشرة بقيمة اربعة مليارات دولار. حسب الطلب الاسرائيلي، تعتبر هذه معونات اضافية للمساعدات السنوية التي تدفعها واشنطن لاسرائيل وتصل الى ثلاثة مليارات دولار.
رد الادارة الامريكية على هذه المطالب كان متحفظا، وقد اشترطت المساعدات بقيام الحكومة الاسرائيلية باحداث تقليص عميق في ميزانيات الرفاه الاجتماعي وميزانية الدولة عامة. الادارة الامريكية التي تواجه اليوم ازمة اقتصادية داخلية، غير مستعدة لتمويل جهاز رفاه اجتماعي كبير في اسرائيل. حتى في حالة ارضاء الامريكان، لن تكون المساعدات بالحجم الذي تريده المالية الاسرائيلية.
نتيجة لهذا الوضع يتوقع ان يعمل نتانياهو كل ما هو ضروري للحصول على المساعدات الامريكية، التي تعتبر في الوقت الراهن الطريقة الوحيدة لتأجيل انفجار الازمة. تجربة ضمانات القروض التي منحت لاسرائيل قبل عشر سنوات، هي افضل دليل على استحالة خروج اسرائيل من ازمتها فقط بواسطة المساعدة الامريكية.
المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد الاسرائيلي، مزمنة: وضع امني غير مستقر ادى لتوقف الاستثمارات، ازمة الهاي تك العالمية ضربت الفرع الرئيسي في اسرائيل، الجيش والميزانية الامنية يكلفان مبالغ لا يمكن للانتاج المحلي تغطيتها، جهاز حكومي فاسد وغير ناجع يغذي شريحة بيروقراطية في الحكومة والبلديات والشركات الحكومية، تعيش في مستوى لا علاقة له بقدرات البلاد الحقيقية.
الحل لهذه المشاكل البنيوية غير باد في الافق، فاسرائيل تقف امام طريق مسدود مع الفلسطينيين، وعاجزة عن اصلاح جهازها الاقتصادي والاداري الفاسد. من هنا فتحركاتها تتجه اليوم لكسب الوقت، علما ان اساليب السوق الحرة التي يسعى نتانياهو لتطبيقها ستعمق الازمة البنيوية وستدفع عجلة الاقتصاد الاسرائيلي عميقا داخل الوحل.
الصبار