أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامح عسكر - الباريدوليا وفلسفة الصورة















المزيد.....


الباريدوليا وفلسفة الصورة


سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي


الحوار المتمدن-العدد: 6423 - 2019 / 11 / 29 - 22:32
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


منذ فترة أشرت إلى فلسفتي الخاصة بالصورة وقلت أن عقل الإنسان كالكاميرا يتأثر بالأشياء حسب جودته ووضعيته، وكذلك حسب جودة وطبيعة الشئ في ذاته، وشرحت بعضا من ذلك على وعد بتشريح تلك الرؤية في المستقبل، واليوم أطرح جانبا مهما في فلسفة التصور له امتداد مؤكد في علوم النفس..

ظاهرة الباريدوليا تعني استجابة العقل لأشكال وأنماط في الكون تحدث بطريقة غير منظمة، فيراها العقل منظمة وبناءً على ذلك يسلك تأويل تلك الرؤية حسب رغباته ومعتقداته المسبقة، فشكل سحابة مثلا في السماء في صورة صليب يراها المسيحي فورا رسالة من الله بصحة معتقده، وشكل الله أو محمد في حبة فاكهة وخضروات يراها المسلم دليلا على صحة معتقده، رغم أن هذه الأشكال تكونت بطريقة عشوائية ربما نعلم كيف تكونت وربما لا نعلم..فصورة الحصان مثلا أو وجه الإنسان في السماء أو معالم شئ مميز ومعروف كالشجرة يمكن أن نراها في السماء من اجتماع عدة نجوم، لكن في ذات الوقت لا نعلم كيف اجتمعت هذه النجوم بهذا الشكل ولماذا هو تحديدا..

فمثلا عندما نرى وجها في السماء مشكلا من عدة سُحُب يصبح السؤال: لماذا لم يتشكل على صورة قطة؟..هل توجد قوانين لتنظيم تلك الأشكال؟

هذه الأسئلة تظل محبوسة في النفس وتخرج بمعتقدات وأحيانا هلاوس تتضخم وتعلو كلما كان المعتقد - أثناء الرؤية - قويا والنفس هادئة تشعر بالاطمئنان والقرب من الآلهة، ثم تنخفض حدتها كلما كان التدين والإيمان والاطمئنان للعقيدة في معدله الأدنى، وهذا يفسر مثلا لماذا تعلقت بعض الشعوب القديمة بالأحلام والرؤى المنامية باعتبارها رسائل إلهية حقيقة وليست مجرد تفاعلات كيميائية ونفسية مؤثرة في العقل النائم ليرى ويعتقد بأشياء لم تحدث، من هنا اعتبر البعض أن الباريدوليا في هذا السياق كانت المصدر النفسي والعلمي للخرافات وأعمال الدجل والكهانة، وما انتشار المعبرين للرؤى ومدعي الغيب والتنبؤات المستقبلية إلا ترجمة لتأثير الباريدوليا عليهم سواء في الحس أو المنام..

ومع ذلك تظل أحوال الصورة معلقة حتى يأتيها أربعة أنواع من المحفزات:

أولا: المحفز العشوائي..ويعني وجود حركة عشوائية لا تتوقف تعمل بقوانين معلومة ومجهولة، ولأن قدرة العلم بتلك القوانين في أيدي فئة محدودة من الأذكياء والتجريبيين فيعتقد العوام أنه لا ثمة قوانين تنظم هذه الحركة العشوائية إلا سلطة إلهية ماورائية تريد أن ترسل له رسائل معينة، ويتساوى العامي في ذلك مع رجال الدين الذين يحرصون على الجهل بمعتقدات وعلوم الآخرين خشية الوقوف على زيف معتقداتهم الشخصية..وما يتعلق بذلك من تهديد لمصالحهم أحيانا.

وأما العالم ببعض هذه القوانين فهو يؤمن في داخله بتنظيم تلك الحركة وفقا للقانون الذي يعلمه وبالتالي فلا سلطة هنا للباريدوليا عليه..لكن في حال جهله بقوانين أخرى لعشوائية تلك الحركة يحدث له ثلاثة أمور، الأول: يتسرب إلى نفسه الشك ثم يتوقف مدعيا جهله بشجاعة وصدق، الثاني: يتسرب إلى نفسه الشك ولتأثير العرف والمجتمع والدين عليه يخضع لتفسيرات العوام لتلك الحركة، ومن هؤلاء ظهرت فئة انشغلت بالعلم فترة ثم انتهت للخرافة والدجل ..أو بيع هذه العلوم والتجارة بها لمصالح شخصية، الثالث: يؤمن أنه ما دام قد فهم القوانين المعلومة لديه فيمكنه العلم بالمجهول..وقتها فلا تأثير للباريدوليا عليه مطلقا لجزمه بإمكانية العلم ولو على سبيل الاحتمال.

المحفز العشوائي هنا يعمل في إطار تشكيل صورة (لحظية) مؤثرة في الكاميرا العقلية، فيعمل الذهن على ترجمتها وفقا للكاميرا اللحظية له أيضا، فلو كان مُتعبا مُجهدا أو غير آبه أو يصيبه الملل والتعب النفسي فلا يهتم بحقيقة تلك الصور، وفي حال كان غاضبا مثلا أو في صراع على حقيقة معتقداته يندفع فورا بتأويل تلك الصور على أنها رسالة دعم إلهية، ومن هؤلاء ظهرت منامات الشيوخ قديما..فالرؤية الخاصة بهؤلاء كانت تكثر بشدة في ظل الصراعات المذهبية والتنافس الاجتماعي على نيل قلوب ورضا العامة وأحيانا في أجواء تنافس سياسي، ويمكن قراءة نصوص هؤلاء وفقا لفلسفة الصورة بالوقوف على ألفاظ ذات مدلول دفاعي أو متهجم على الآخر مما يدل على ثمة وجود خطر يتهدد الشيخ في تلك اللحظة.

ثانيا: المحفز المنتظم..وهذا يلزمه علم مسبق بالتنظيم وأحيانا إرادة مسبقة بالعلم..مثلا عندما يريد شخص ما أن يقرأ صحيفة بها عدة أخبار فهو يعلم جيدا أن هذه أخبار تهمه لكن لا يعلم تفاصيلها ومستجداتها، هنا يكون مهيأ نفسيا لاستقبال معلومات وصور تشكل قناعات لديه أو تسد فراغات عقلية أو تمده بمعلومات هامة، أما الإرادة المسبقة بالعلم فكمن يقرأ في كتب الرد على فلان وعلان ممن يكرههم..هنا يصبح أكثر قابلية للإيمان بالصور المكتسبة عنده من القراءة، وفي كلتا الحالتين تشكل الحالة المنتظمة للصورة مؤثرا خارجيا على الذهن.

لكن تبقى وضعية التقاط الكاميرا العقلية لهذه الأخبار والصور المنتظمة عامل مساعد في تشكيل القناعات أو نفيها، فقد يقرأ الإنسان خبرا عن سفاهة أحد الكتاب ثم ينتقل للجريدة المشار إليها فيجد مقالا لنفس الكاتب السفيه يتضمن هجوما حادا غير عقلي على أحد مكروه في الذات العالِمة والمتصوِرة، والزمن الفارق بين الصورتين – صورة الخبر وصورة المقال – شبه معدوم كلحظات الانتقال في الإنترنت مثلا أو قليل نوعا ما، وكلما كانت المدة الزمنية في الانتقال قليلة كلما كان الاستنتاج النهائي بفساد هذا الكاتب أو الشك في عقليته وفقدان التعاطف معه كبيرا، والعكس قد يكون صحيح، مع طول المدة الزمنية في الانتقال تصبح فرصة الكاتب للإفلات من مقص الرقيب للذات العالِمة والمتصوِرة أكبر..ويحدث ذلك في ظل احتمالات تغير الصورة الملتقطة ذهنيا في كل مرة.

ويبقى هذا المحفز المنتظم أصلا في الشك بالمصادر لما يتضمنه من انحياز نفسي وأيدلوجي للذات العالِمة والمتصوِرة، فمصادر المعلومات مثلا لتلك الذات مختلفة عن مصادر معلومات لذوات أخرى عالِمة والاعتقاد بصحتها والاستنتاج بناءً عليها يُكثِر من أخطاء رجل القش كثيرا وما يترتب عليه من أخطاء أخرى في نفس السياق كالتوسل بالاستثناء وبالمجهول والأغلبية وأكثر ما يشاع في تلك الغلطات المنطقية هو الاستدلال الدائري الناجم عن التعصب للموروث المسبق ولشخص الذات العالِمة والمتصوِرة أحيانا، وغالب صراعات الإعلام تحدث على هذا النمط لما يبنوه في الحقيقة من قناعات مزيفة مبنية على ما قلناه من محفزات منتظمة إما بفعل الطبيعة أو بفعل الإنسان.

ثالثا: المحفز الثابت..وهذا على نوعين، جزئي وكلي، فالثابت الجزئي هو المادة والمحسوس الثابت في حيز من الفراغات والمُجرد من أشباهه ، كحجر صحراوي مثلا على شكل كأس..لو لم يكن مجردا من أشباهه لم يكن كأسا، ولم لم يكن ثابتا في فراغ ما أمكن تمييزه، وهذا الثبات الجزئي للصورة مصدر للعلم ومؤثر في الكاميرا العقلية على طريقة الباريدوليا، كالشجرة التي تتشكل على وضع جنسي معين بين قضيب ومهبل، قد يراها المصاب بالباريدوليا رسالة ماورائية بقدسية وأهمية الجنس أو كرسالة له شخصيا للقيام بكذا وكذا، وفي اعتقادي أن تلك الظاهرة كانت سببا جزئيا في الاعتقاد بقدسية أعضاء الجنس عند القدماء، بيد أن آلهة الجنس القديمة لم تتشكل في أذهان الناس لمجرد فكرة التكاثر وأهميتها في الحياة..لكن أيضا برسائل ماورائية عن طريق صور بمحفزات ثابتة أو عشوائية كما سلف شرحه.

أما المحفز الثابت الكلي فيعود لتعريف الكلي المنطقي أولا للوقوف على حقيقته، وهو الذي كان اتصافه في الذهن وعَرَضه أيضا في الذهن، مما يعني أن هذا المحفز لا يكون محسوسا ولكنه متخيلا كالآلهة مثلا غير المرئية أو التي تقبع في ذهن البشر ضمن الميتافزيقا، أو الذي ينطبق صدقه على أكثر من واحد كمفاهيم الإنسان والحيوان مثلا..فالمحسوس من الحيوان هو جزئي لأنه محسوس..أما لفظ الحيوان واتصافه في الذهن يبقى ثابتا كليا بمدلوله، فمثلنا نعتقد أن الحيوانات غبية من الطبيعي إذن أن نراها كذلك فماذا لو رأينا حيوانا يفعل فعلا ذكيا أقرب لسلوك الإنسان؟..ألا يمكن تفسير سلوك هذا الحيوان بطريقة الباريدوليا؟..وألا يمكن تعميم هذا المحسوس من الحيوان على مفهومه الكلي بحيث نعتقد أن كل الحيوانات لديها قابلية للتصرف بنفس الذكاء؟

أعتقد أن ذلك كان مصدرا أساسيا للاعتقاد بقدسية الحيوانات قديما، وبالطبع سيكون امتداد وشروحات ذلك في نظرية الطوطم والتابو لسيجموند فرويد مما لا يتسع المقام لذكره، لكني أختصر ذلك بأن صورة المحفز الثابت الكلي برغم أن تأثيرها من أعراض الغباء وضعف الاستنتاج اللازم للتجريد والفصل لكنها تظل مصدرا أصيلا للمعتقدات الحسية والشعورية بالخصوص حين نقرأ نصوصا تاريخية وأدبية ودينية، فالنص لما يحمله من تعميم أحيانا وعدم فصل بين الكلي والجزئي هو محفز ثابت يؤثر في الذات العالِمة المتصوِرة ويُكسبها قناعات بحجم وطبيعة وكيفية هذه الصور التي تشكلت في عقل كاتبها الأول، وهذا سر من أسرار الجمود والتكلس عند المقلدين بيد أن الصورة الأولى المتخيلة في ذهن الكاتب الأول لحظيا لا يمكنها البقاء بنفس الشكل وبنفس الأجواء عند أقرانه ممن عاشوا معه في الزمكان..ما بال إذن من يقلدونه في زمكانٍ آخر..

رابعا: المحفز المتغير..ويعني الصور والمحسوس غير الثابت كتقلبات الطقس والمناخ مثلا أو الأصوات المتغيرة في القوة والجمال وشكل الإنسان عبر الزمكان وأحوال البشر الاجتماعية..إلخ ، تكون صورة المحسوس المتغيرة هذه محفز على الاعتقاد فيما لو انتقل الإنسان من الثراء للفقر مثلا وتفسير ذلك بالعقاب الإلهي أو عدل الطبيعة، بينما الصورة المتغيرة تلك لها قوانينها الخاصة التي تسري بمعزل عن ذلك العقاب والعدل المتخيل، وبهذا المحفز تكثر الخرافات والدجل بتغير أشكال الناس من القوة للضعف ومن الجمال للقُبح تكون الصورة اللحظية وقتها للذات العالِمة المتصوِرة محكومة بقوة عليا فوق كل القوانين التي خدعت نفس الذات العالِمة من قبل بدوام الحال أو صعوبة التغيير ومُحالِه.

هذا المحفز برأيي يظل أقوى تأثيرا وأشد تعقيدا من كل المحفزات الأخرى بالخصوص إذا اكتسب بعض صفات (العشوائية والنظام) بيد أن عشوائية تشكيل الصور تحفظ مجهوليتها لكن يبقى مدلولها وتأثيرها في النصوص عظيما بقدر ذلك الجهل، ودافع ذلك ما قلته في محاضرتي عن الشعراوي في موقع يوتيوب أن رجل الدين يكسب قداسته بسرعة بوسائل مختلطة من التعقيد والتبسيط، المحفز المتغير هنا يعمل بنفس أسلوب الأخبار والأفكار المعقدة ويؤثر في الذهن والنفس بذات الطريقة، بيد أن علم الإنسان بنظام الصور وقوانينها يفقدها الأهمية والقدسية لديه بما يلزم ربطها بعوالم الميتافيزيقا..

فعلم السلفي الجهادي مثلا بصورة الجنة الملتقطة لحظيا من الشيوخ عن الحور العين يكون مرتبط بفكرته المسبقة عن الحور العين واستعداده النفسي لقبول المبالغات بشأنها، فالحور العين يعمل ضمن (نظام الثواب) والمتع الحسية الموجودة في الجنة، مع ذلك تبقى صورة هذه الحور متغيرة في الذهن بحيث تعالج مشكلة الملل..ورجال الدين في تلك الجزئية يبرعون في تغيير هذه الصورة النمطية عن الجمال في ذهن السلفي، فيُكثِرون من أخبار تغير هذا الجمال ليصبح متجددا ومقبولا من النفس البشرية، وتلك البراعة لرجال الدين مكتسبة من صور لحظية عن الحور العين في عقل رواتها الأوائل الذين واجهوا أسئلة وشكوكا معتادة عن طبيعتها والاحتمالات الواردة في هيئاتها ووظيفتها ثم قدرتها الحقيقية على الإمتاع الدائم..

سيكون النص الديني وقتها والروائي شارحا نفسه بنفسه أنه وكلما انشغل الكاتب الأول – بصفته ذات عالِمة متصوِرة – بشرح هوية وأشكال الحور العين فهو عن معايشة لحظية لهذا الكاتب للجمال، بيد أن القدرة على شرح الشئ تعني معايشته ذهنيا في الحال، وكلما كانت الذات العالِمة الأولى فاقدة حسيا للجمال تشتاق إليه فتبرع في تصويره بنفس حجم ومقدار ذلك الفقدان، لذا فالشعراء والأدباء والكتاب ممن يقعون ضحية للاضطهاد المجتمعي - سواء لأفكارهم أو أشكالهم - يكونوا أكثر قدرة على التعبير عن ذلك الجمال الشكلي والفكري والعدالة المفقودة بإقناع ومنطقية، بذلك يمكن التنبؤ بمصير كتابات خرجت في ظل أزمة أو اضطهاد ومظلوميات تصبح الكتابات وقتها مصنع لصور لحظية صادقة عن ذلك الجمال والعدل المفقود.

من هنا تأتي خطورة وضعف الاستبداد والظلم البشري، فالمحفز المتغير يعالج في الحقيقة بعض آفات المحفز الثابت الذي يحرص المستبد على بقائه عن طريق إعلام محكوم وصور لحظية مسبقة أراد المستبد أن تدوم، لكنه في الحقيقة يجهل أن تلك المحفزات الثابتة تعمل ضمن منظومة محفزات أشمل في ذهن الإنسان، والدليل على ذلك هي قوانين المواطنة وحقوق الإنسان جميعها خرجت باستيعاب نتائج محفزات سابقة كانت ثابتة ، إضافة للوعي بخطورة بقاء تلك المحفزات والصور على الحياه والعدل المنشود، وبالتالي نرى أن حركة التاريخ مثلما تنتج مستبدين ظالمين أشرار تنتج أيضا معتدلين وعادلين أخيار، فينتقل تاريخ البشرية من صراع لمعايشة ومن كراهية لتسامح..وهكذا..

أما عن خطورة الاستبداد في هذا السياق فلأن الثائر على المحفز الثابت بمحفزات متغيرة وبصورة اللحظية الخاصة تتكدس لديه مشاعر الانتقام والتصميم على تغيير أوضاعه، فيواجه المستبد – الذي في العادة يكون هو الأقوى – تلك المحاولات، ويخطئ في مواجهتها بقدر عدم استيعابه للمحفز المتغير والصور اللحظية المكتسبة لدى الناس ، فمثلا كلما كان يجهل حقيقة كونه ظالما وأن ما حرص على إشاعته في السابق كان محفزا ثابتا أراد تصديره للوعي البشري بقوته يمتلك هو الآخر محفزا متغيرا عن الثائرين ضده بحيث يراهم أشرارا فوضويين، وبتأثير الباريدوليا يبدأ في وضع خصومه في أنساق وأنماط معينة، فلو كان هذا المستبد متدينا سيتهم خصومه بالكفر وبالتالي يكتسب صورة الكفر (الكلية الثابتة) في ذهن الكاتب الأول وعلى الأرجح يكتسب أيضا تطورات تلك الصورة عند أتباع ذلك الكاتب ومقلديه فتكون عرضة للشيطنة وتأويل كل أفعالها بالشر لسبق اكتسابه صور لحظية في أجواء صراعات سابقة..

وفي حلقة مختلف عليه مع الأستاذ "إبراهيم عيسى" ضربت مثال على ذلك باتجاه توماس هوبز في قوله بأصالة الشر ولجوءه لتحجيم ذلك الشر بقيود دولة قانونية أو دكتاتورية متحكمة وأكثر قدرة على الضبط، هنا يكون هوبز يصبح مكتسبا لأعراض المستبد في رؤية خصومه بمحفزات ثابتة أراد تصديرها للوعي البشري بفقدان الخصم معنى وحجية نشاطه ومطالبه، وما كان هوبز ليقول ذلك لولا تلك الحروب الأهلية التي حدثت في عصره في انجلترا وأكسبته ميولا لكراهية تداول السلطات وأهمية الاستقرار السياسي على المجتمع وحركة الفكر، وكلما قرأ هوبز وتأثر لكتاب ذات صور لحظية عن همجية الناس وجرائمهم وانفلاتهم الديني والأخلاقي في ظل الحروب كلما كره فكرة التداول بالأساس ورأى في مقابلها أن الدكتاتورية سلوكا معقولا ومقبولا بضوابط فلسفية قابلة للطرح والمناقشة هروبا من الظلم..لأن هوبز مهما كان هو فيلسوف ولم يفكر بطريقة رجال الدين في ربط أفعال الناس بالسماء والمؤكد أن طريقته عندي في دعم المستبد تختلف في جوهرها وكثير من تفاصيلها عن طرق رجال الدين..

بخلاف جان جاك روسو الذي رأى أصالة الخير في نفس الإنسان، وأن مشكلة فرنسا ما قبل ثورتها في القرن 18 كانت اجتماعية بفوارق مهولة بين الطبقات، هنا يكتسب روسو صوراً لحظية عن مجتمعه تقول بظلم أقلية نافذة ومالكة للثروات والسلطات لأكثرية ضعيفة لا تملك شئ، بالتالي فالصورة اللحظية لكاميرا عقل روسو قالت ببداهة حدوث الأقلية على أصل الأكثرية القديم، وتعززت تلك الصورة بجهل وغباء وظلم الطبقة الحاكمة وسلوكيات بعض رجال الدين في عصره، طبيعي أن ينظر إليهم أن مصدرا للشرور ، وبالمحفز المتغير الذي رأى عن طريقه عمل تلك الأقلية في منظومة تدمير ممنهج للحياة سواء في الفكر والاقتصاد والسياسة رأى أن العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم هو الأمثل، ومن تلك الصورة وصل الإنسان لفكرة الدساتير عموما باعتبار أن شعوب القرون الوسطى لم تعرف قوانين مكتوبة وواضحة تضمن هذه العدالة الاجتماعية.

ستكون الباريدوليا في هذا السياق تعمل لتفسير صور وأصوات ومحسوسات مختلفة لها حضور اجتماعي وسياسي وديني..إلخ، فالخرافة والزيف والكذب لا يتعلقون فقط بالدين بل في جميع أحوال الناس..حتى في طعامهم، بمعنى أن الكاميرا اللحظية لعقل الإنسان كانت متشبعة مثلا بحالة الجوع ، يصبح ذلك محفزا ثابتا لقبول أطعمة كانت مرفوضة من الذات العالِمة المتصوِرة، حتى لو كان هذا الطعام رديئا فتكون له القابلية النفسية وفقا لمقدار ذلك الجوع، وبهذا السياق يمكن معرفة كيف تغير النظام الغذائي للبشر..فالأوائل كانوا يأكلون اللحوم نيئة لأن مقدار الجوع كان كبير مثلما يوجد الآن عند الحيوانات، أما بعد اكتشاف النار وزيادة قدرتهم على الصيد توفر الطعام بشكل أكبر فانخفض مقدار الجوع مما أوجد للأوائل قابلية ورغبة في تنويع ذلك الطعام فعرفوا الطهي.

وبفلسفة الصورة هذه يمكن تطبيقها أيضا على الحيوان، فالكلب الذي يأكل اللحم عندما يُستأنس وتُخصص له منازل وأطعمة دون جهد منه يصبح أكثر قابلية على تغيير نمطه الغذائي..ليس مرة واحدة بالطبع فقد يستغرق ذلك آلاف السنين، لكن المؤكد أن هذا الكلب وأجياله اللاحقة إذا وجدوا طعامهم بطريقة أفضل وبمقادير أكبر سيتحول في المستقبل لكائن نباتي عشبي إذا قرر الإنسان ذلك، إنك من الآن ترى بعض القطط والكلاب يأكلون الخبز وبعض أنواع الخضروات..فهل هذا يعني أن مستقبلهم يصبح هكذا؟..مع حفظ أن تطور عقل الإنسان حدث توازيا مع تطور نظامه الغذائي مما يعني أن سلوكيات القطط والكلاب تصبح أكثر ذكاءً مع تطور نظامهم الغذائي أيضا، ومن هذا المدخل يرى بعض النباتيين آكلي اللحم كبشر متوحش لم يغادر بعد أسلافه في عصور الصيد.

وبالمحفز المتغير تظهر صورة اللاحمين عند النباتيين كأشرار ومصدر تهديد للطبيعة، ففي رأيي أن جمعيات الرفق بالحيوان بمساعدة الشعوب النباتية الأسيوية ساهمت كثيرا في حماية الطبيعة وحفظ الأنواع من أنانية وظلم البشر، فالصورة اللحظية عند النباتي وقتها تكن متأثرة بعوامل فكرية ونفسية كثيرة منها بداهة ضعف الحيوان مقابل قوة الإنسان، وسلوك بعض الحيوانات سلوكا ذكيا أو اكتسابها صفات أخلاقية كالوفاء عند الكلاب والوداعة عند القطط مما يفسر لماذا هذين الكائنين بالذات هما أكثر استئناسا من البشر، ذلك بسبب الصور اللحظية لكاميرا الذات الأولى العالِمة المتصوِرة عنهم والتي كانت مفتقدة للوفاء والوداعة مما يدل أن عصر استئناس البشر للحيوان ظهر بالتوازي مع كثرة صراعاته ومظالمه، فكلما كان أكثر عنفا كلما بحث عن أي كائن مسالم ووديع أو به قليل من تلك الصفة..

إن الباريدوليا في الأخير هي وهم لذا فالترجمة اللاتينية للكلمة تعني مدلول الزيف والوهم والخداع، أو هي خيال حسب الرغبة ومؤثرات الواقع، من هنا نشأت الحاجة للتفريق بين العقل والخيال عند فلاسفة الأنوار كرينيه ديكارت الذي قال بضرورة الفصل بين الإدراك والخيال..بمعنى أن إدراك النصوص يجب أن يحدث بالعقل لا بالخيال، وبمفهوم ديكارت عن العقل فهو يقصد الشك، وبهذا المنهج رأى ديكارت الفلسفة بشكل عام أنها تقوم على أسس شكية، ولو طبقنا هذا على أشكال الطبيعة والمحسوسات المنتجة لصور مفهومة ومنظمة إضافة لتبسيط وفهم فلسفة الصورة نحصل على أسلوب لرؤية الكون والنصوص بشكل عقلي تحليلي وعلمي يمكنه التفكير بشكل صحيح وربما التنبؤ بشكل علمي صحيح أيضا..



#سامح_عسكر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الروح القدس في القرآن
- ترامب وخامنئي..صناعة المستحيل
- حرب اليمن بين الفقه وأدب الحرافيش
- في نظريات الخلق عند المسلمين
- التكفير في أصول التفسير..أزمة الشعراوي
- نسبية المبادئ وإشكاليات الأيدلوجيا
- مظاهرات العراق وأزمة الهوية
- معادلة حزب الله في لبنان
- عشوائية دعاوى الوحدة بين المثقفين
- من صور التلبيس على العوام
- بين عرب الأمس واليوم
- تركيا بين ذكرى الأرمن وتحدي الأكراد
- مشكلة الجذور في الهوية الإسلامية
- رحلة في جدليات الإسلام المبكر
- الإعلام المصري بين كولن وأردوجان
- متاهة الإصلاح وفرص التغيير
- أنقذوا مصر بالديمقراطية والليبرالية
- هذيان الثورة والسلطة العمياء
- عشرة أمراض نفسية للزعماء
- أضواء على الزرادشتية


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامح عسكر - الباريدوليا وفلسفة الصورة