علي عبدالمطلب الهوني
الحوار المتمدن-العدد: 1561 - 2006 / 5 / 25 - 11:51
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
قراءة في ديوان أسرار
للشاعر عبد الرحمن شلقم
فبُح باسم من تهوي ودعني من الكُني فلا خير ففي اللذات من دونها ستر
هل يستطيع الشاعر أن يخفي عن الناقد أسرار قصائده, إذا كان بمقدوره قراءة تلك القصائد قراءة تمتد تحت سطحها الظاهري ؟.
سأحاول في هذه القراءة أن أجيب عن هذا السؤال.
مزج الشاعر عبد الرحمن شلقم الألوان والأضواء والطبيعة في جلّ قصائده بمشاعر النفس البشرية في نظرة فلسفية تقترب في جُل قصائده من رؤية أبي العلاء لهذا الكون ومعرفته الثاقبة للبشر, وإن كانت نظرة عبد الرحمن شلقم أقل حدة, في حين أن أبا العلاء اشتط إلى حد التشاؤم بقوله:
وزهَّدني في الخلق معرفتي بهم( )
وعلمي بأن العالمين هباءُ
هذا وإذا أردنا أن نتتبع ما أسلفنا من قول في شعر عبد الرحمن فإننا نجد انه كثيراً ما استنطق الطبيعة ليدلل بها على حال محبوبته, يقول:
قــدر حبــك هـذا( )
صنــع ربــي
ليس من طوفان قلبي
ليس من فيض جنوني
وانفجارات سكوني
ليــس منــي
قدر ينداح في أفلاك كوني
هذه القصيدة من عنوانها ومطلعها "قدر حبك هذا" توحي بأن الشاعر يريد أن يقول حبك مكتوب علي فهو قدر لا دخل لي فيه إذ هو من صنع الله, لذا فالشاعر من وجهة نظره لا يُلام على ما يفعل لأن ما يفعله يأتي دون إدراك منه, خاصةً ساعة الذروة العاصفة فإنه ينكر كل ما أحدث جنونه ويتبرأ من بقوله: "ليس مني", وليؤكد ذلك جعل الحب هو القدر في قوله" قدر ينداح في أفلاك كوني", في حين أنه في بداية القصيدة قال إن القدر هو الذي وضعه في هذا الحب, ليعود مرة أخرى إلى رشده بتذكره لتلك الهمسات الأولى التي جعلت ذلك الحب يستعر ليحدث جرحاً في قلبه ووجدانه, محاولاً أن يتحسس تلك الجراح التي إذا وجدها أطلق الآهات في زفرات خجلي وإن كانت بصوت مسموع, فبدت كأنها تراتيل نواح لتوقد نار الجوى في قلبه من جديد, ذلك لأن (القدر, الحب) لم يأته من بعيد بل هو مزروع في قلبه, فحبيبته مزروعة في قلبه وإن حاول إخفاء ذلك, فما همساتها ونظراتها إلاَّ ذلك الماء الذي سُقي به القدر المزروع في قلبه, ليخضرّ عوده ويُثمر زهره.
يقول الشاعر:
زعزعت همساتكِ الأولى غروري( )
أشعلت نظراتك الغنّاء نوري
فتحسستُ جراحي
وتعالت أنَّتي الخجلى
تراتيــل نــواحِ
قد أفاق القدر المزروع في دنيا مصيري
ورحم الله مجنون بني عامر فقد قال في هذا المعنى وأجاد:
كأن القلب ليلة قيل يغدى بليلى العامرية أو يراح( )
قطاة غرّها شرك فباتت تنازعه وقد علق الجناح
وفـي ذروة وله الشاعر بمحبوبه, ذلك الولـه الذي صار مزروعاً في قلبه لا يستطيع عنه فكاكاً, اختلط الأمر عليه فلم يعرف ما مصدر هذا الحب, أهو قدر أم سر أم مصير أو لعله جاء استيحاء لبيت شعر قديم حفظه الشاعر منذ زمن.
يقول المجنون:
لقد نبتت في القلب منك محبة كما نبتت في الراحتين الأصابعُ
نعم لقد أُغلق على شاعرنا كما أُغلق من قبل على المجنون في فهم كُنه هذا الحب ومن أين جاء.
يقول شاعرنا:
قــــدرٌ( )
ســــرُّ
مصيـــرٌ
قيده يستل أزماني
ويعصـف كالنذيـر
فتوقد يا ضرام الجرح صبرا
وأشعل الأحزان كي تقضيَ أمرا
وأزرع الأشواق فوق العمر عمرا
فعلاً عجز الشاعر كما عجز كل الشعراء من قبله في معرفة مصدر الحب الذي صار لشاعرناً قيداً في سنى عمره, فلم يجد إلاَّ الصبر يطلبه لما اشتدت نار الجوى, وإن كان غيره من الشعراء لا يستكين للقيـد ولا يأبه له, بل يسحقه كما فعل كامل الشناوي الذي يقول:
قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه( )
وإن أذعن لقيد الحبيبة في قصيدة أخرى, بل توسل لله أن لا يكسر قيده بل يبقيه أسير حبيبه, وإن خانت وكسرت القيد. يقول كامل الشناوي في قصيدته الرائعة لا تكذبي:
فرأيتُ أنك كنت لي قيداً( )
حرصتُ العُمر أن لا أكسره
فكســرته!
وجرت عادة الشعراء أن يتمردوا على أصفادهم وقيودهم مهم كان نوعها لينطلقوا أحراراً, تماماً كما يقول على الفزاني:
ليتني .. آهٍ وما جدوى التنهد( )
وانتظار صرخاتٍ حاقداتٍ تتوعد
فك اسري
فك قيدي
فكني أو أتمرد !!
ويقول ابراهيم ناجي :
أعطني حريتي أطلق يديا( )
إنني أعطيت ما استبقيت شيئاً
آه من قيدك أدمى معصمي
لما أبقيه وما ابقي عليّ
ما احتفاظي بعهود لم تصنها
وإلاما الأسرُ والدنيا لديّا
أما شاعرنا فعندما وصل إلى قناعته بكسر القيد, طلب من قوى الطبيعة أن تمنحه القدرة على ذلك, وحتى بعد أن منحته حاول كسر قيده على استحياء بقوله:
يا جبال العمر يا فيض المكان( )
هل بقيت قطرةٌ في كأسِ الزمان
تسقى الأحزانَ في تيه المصيرِ
فاحتسيها يا شفاه القدرِ
واسكبيها للظى المستعر
علّها تكسر قيد الحذرِ
وتضيء الومضةُ الأولى طريقاً للبشير
فما جبال العمر إلاَّ قمة النضج وعنفوان الشباب عنده, أو لعلها الخبرة أيضاً, وبهذا فشاعرنا أراد بجبال العمر عنفوان شبابه المنصرم الذي لم يبق منه إلاَّ الخواطر والذكريات الجميلة, ولذا يسأل في حسرة تشبه الرجاء في أن يجد قطرة من ماء الشباب, وهذا ما عبّر عنه بقوله:
"هل بقيت قطرةٌ في كأس الزمان"
وما تلك القطرة من كأس الزمان إلا استعادة رعشة الشباب لا رعشة الكهولة.
ويبدو أن شاعرنا كان حراً طليقاً يغرّد فوق كل فنن ميّاد, ويصدح مع كل عصفورة شـاء, ويستنشق أريج كل زهرةٍ أراد, ويقتات من كل ثمـرة تروق له, وينام في عشه هانئاً مع الغروب. ولكنه هذه المرة لا يستطيع أن يطير مع الأطيار التي شقشقت أمام عشـه فجراً, فعنده اليوم بالداخل ما يشغله, صار له ألفاً يصدح معه أخذ لبه وقيد قلبه داخل الدائرة القدرية, فلا يستطيع عنه فكاكاً, فاقترب شعره في هذه الأبيات من العذريين, وبعد عن الحسيين كابن أبي ربيعة الذي يقول:
سلامٌ عليها ما أحبت سلامنا فإن كرهته فالسلام على أخرى( )
هذا وظاهرة التشخيص الشعري عند شاعرنا لا تتوقف, يقول:
غلَّ قلبي( )
قَيَّدَ الريح وأعمى الشمسَ
أدمى النارَ
أعطى هذا التشخيص للقصيدة بعداً إنسانياً بحيث جعل الشاعر يخضع المستحيل ليدل على استكانته وخضوعه لحبيبه, فمن غلت قلبه وقيدت خطاه وسلبت لبه, بحيث جعلته لا ينظر إلى غيرها, حتى تلك النار التي كانت لا تطفئها الشهوات سكبت دمها, فهو مستسلم لأمر الحبيب لا يعصاه مهما ظلم. وقديماً عبّر امرؤ القيس عن ذلك بقوله:
أغرك مني أنّ حبك قاتلي وأنك مهم تأمري القلب يفعل( )
هذه المعاني كثيرة الدوران في الشعر العربي, وإن كان لكل شاعر طريقته في التعبير عنها, وذلك على قدر الجوى والحب الذي يعانيه. وإن توسل شاعرنا لهذا اللهيب الذي يحرق القلب بأن يرحل, فيقول:
قدرٌ حُبُّك هذا( )
أتوســل
يا لهيبَ القلب إرحلْ
واكتب التوبةَ في أفلاكِ كوني
وتمهَّــلْ
وتعقَّــلْ
وأشعل النار على نارِ جنوني
هذا اللهيب الذي مهما توسل الشاعر لأن يرحل عنه أو حتى يخفف وطئته لا يفعل, الأمر الذي جعل الكثير من الشعراء يصرخون بملء أفواههم من ألمه وحرقته. يقول كامل الشناوي:
ويشب في قلبي حريق( )
وتضيع من قدمي الطريق
وتطل من رأسي الظنون تلومني
وتشد أذني
وإن كان بعض الشعراء ليبلغ من السادية بحق نفسه إلى درجة أن يستمرئ عذابات الحـب على الخلاص منه ولو أتيح له ذلك. من ذلك ما حـدث لقيس بن الملوح لمّا جُن بليلى العامرية ورفض أبوها زواجها منه, فاصطحبه أبوه إلى مكـة وقال له: " يا قيس! تعلق بأستار الكعبة" ففعل, فقال: "قل اللهم ارحمني من ليلى وحبها", فقال: "اللهم مُنَّ عليّ بليلى وقربها", فضربه أبوه, فأنشد يقول:
يا ربّ لا تسلُبَنّي حبها أبداً
ويرحم الله عبداً قال أمينا( )
ويقال أن الحجيج قالوا أمين, فثبت حبُها في قلبه إلى مماته.
هذا وكثيراً ما تطفو على سطح ذاكرة الشاعر أبيات حفظها منذ زمن بعيد واستقرت في قاع ذاكرته, وعندما استدعها لاوعيه في فترة غيابه في ذاته عن ذاته أثناء إبداع القصيدة, جاءته الأبيات في حلة جديدة, كقول شاعرنا:
أشعل الآهات في لوح الشروقِ( )
واستبدَّا
واستردَّا
حرقةَ العمر التي تومضُ زِنداً
جُلَّ هذه الومضات ما هي إلاَّ استدعاء لمحصلة الشاعر من محفوظة القديم, فكان أن انسابت أبيات عمر بن أبي ربيعة, والتي ربما رددها الشاعر في صباه واعجب بها زمناً, فجاءت ممزوجة بأبيات عبد الرحمن. يقول عمرو بن أبي ربيعة:
ليتَ هنداً انجزتنا ما تعد وشفتْ أنفُسنا مما نجد( )
واستبدت مرة واحدة إنما العاجزُ من لا يستبد
وإذا كان عبد الرحمن كعمر بن أبي ربيعة يريد من أنثاه أن تستبد به دون أن يذكر من مفاتن جسدها ما يستبد به أكثر من غيره, كما فعل مظفر النواب في قوله:
ورأيتُ صبايا فارس يغسلن النهد بماء الصبح( )
وينتفض النهد كرأس القط من الغسل
أموت بنهد يحكم أكثر من كسرى في الليل
وإذا كان عمر شعر بحرقة عدم اللقاء ولم يظفر بما يريد كما يقول في نهاية القصيدة:
كلما قلت متى ميعادنا ضحكت هند وقالت بعد غد
فإن شاعرنا قد ظفر بما أراد في نحو قوله:
"واستردا
حرقة العمر التي تومض زِندا"
ولا يخفى أن الزند هو الآلة التي تُشعل النار بواسطتها, لذا فالاسترداد جاء لأن حبها قدره الذي لا يستطيع عنه فكاكاً, وهو نفسه الذي تغشاه, فجعله يغوي طهرها لأن النور دائماً هو رمز الطهر, رمز الملائكة التي خُلقت منه, أما النار فهي رمز الغواية ورمز الجن والشياطين لأنهم خُلقوا منها, لذا فهو عندما يقول:
قدر حبك هذا( )
أغوى النورَ, أدمى النارَ
قيَّد الدهر وأفرشهُ الرِحابا
هذه الأبيات تدل على أن محبوبته سقطت في بحر العسل, وارتبطت به ارتباطاً أبدياً, وهذا واضح من قوله:
"قيد الدهر وأفرشه الرحابا"
وفي نهاية هذه القصيدة الرائعة المليئة بالرموز والمعاني الغامضة, لا يملك الشاعر إلاَّ أن يصرخ في قدره الذي جعله صيداً لهذا الحب بأن يحرره منه, ويرجعه إلى أيامه الخوالي بأن يعيد عجلة الزمن إلى الوراء, ولكن تُرى لو أعاده الدهر إلى أيام صباه وهو بهذا العمر أليس من الصعب عليه أن يعيش فيه؟
ومن يقدر أن يفعل هذا! وهذا واضح من قوله:
حُبُّكِ هذا( )
مصيرٌ
آه يا نار المصيرْ
حرِّري عمري
وأعطيني زماني
وحيث أن لا أحد يستطيع إرجاعه إلى أيامه الأُول, عاد يطلب من نار مصيره أن يجعله أحد نجوم الحب المشار إليهم, فقد يصير نجماً في السماء العربية كمجنون ليلى أو لبنى, أو يُخلد عشقه عالمياً فيصير كروميو وجوليت.
وفي قصيدة أخرى بعنوان حبيبتي يقول:
حبيبــتي( )
فراشــةٌ
داعبها السَهَرْ
حَطّت على وجهِ القمرْ
تنفَّســتْ
تَململَ السَحَرْ
تبسَّــمت
استيقظ القمر
هذه القصيدة خفيفة الروح رشيقة اللفظ نشطة راقصة, تبحث عن ملحن, تصلح أن تُغنى, وهي من نوع الشعر السهل الممتنع, تُقرأ فيشعر المتلقي أنه يستطيع أن يبدع مثلها وأنه هو المقصود بها. والقصيدة حافلة بمظاهر الطبيعة الجميلة التي استنطقها الشـاعر ليصل منها إلى ما يريـد, وهذا ما أسمينـاه بالتشخيص الذي لا تكاد قصيدة من قصائد الديوان تخلو منه, فالقمر, السهر, السحر, الماء, النور, وغيرها كلها جعلها الشاعر أشخاصاً تداعب وتتنفس وتتململ وتبتسم, إلى غير ذلك. وقد بلغ الشاعر ذروة الومضة الشعرية خاصة عندما قال:
"تنفســت
تململ السحر
تبســمت
استيقظ القمر"
وبلغ ذروة الذروة عندما قال:
حبيبــتي( )
مزروعةٌ كالماءِ في الغيوم
كالنورِ في النجوم
في زُرقة البحر
تنهَّــدت
تدفَّق القمَرْ
القصيدة كلها مقارنة بين ما في الطبيعة من جمال, وبين ما في حبيبته من مفاتن. أعتقد أنه استطاع أن يقدمها بأسلوب قل نظيره, وبخفة روح قل من يجاريها, خاصةً هذه الأيام. ومن أبياتها الرائعة:
حبيبــتي( )
كَهَمْسةٍ من شَفَةٍ
يُحبُّها الأفق
قبّـلتُها
تنهــد الشفق
إنني لأجزم أن شاعرنا أراد أن يقول أن شفتها في حمرتها يغار منها الشفق الأحمر الجميل. وفي مثل هذا المعني يقول بشارة الخوري :
قلت ياربّ أي ذنبٍ جنته( )
أي ذنبٍ لقد ظلمت صباها
انت ذوبت في محاجرها السحر
ورصعت باللآليء فاها
انت غسّلت ثغرها فقلوب الناس
نحلٌ أكمامها شفتاها
أما في قصيدة "أسرار" التي آثر الشاعر أن يجعلها عنواناً لديوانه فيقول:
إسألي الأسرار عن قلبي( )
اســأليها
أيُّ نورٍ أشعلَ الحبَّ بدربي
كلُّ طيفٍ هام في الأفق تمنَّى
رشفةً من همسِ ولهانٍ مُحِّبِ
كثير من الشعراء لا يحبون البوح بأسماء حبيباتهم أو عشيقاتهم, فما في ذاك حوب, لذا كانوا يكنون عنهن بأسماء مستعارة خوفاً عليهن أو على أنفسـهم, لـذا فقد أكثـروا من ذكـر ليـلى في أشـعارهم, وكما يقـول المثل "كل يغني على ليلاه".
فهل جرى شاعرنا على نهج أسلافه في كتمان حبه ليجعل حبيبته في مأمن من القيل والقال, فهي سر الأسرار عنده, لذا فلا عجب أن يطلب منها أن تسأل الأسرار عن حبه لأنه لا يستطيع أن يجهر به حتى أمامها خوفاً من أن تتناقله النسائم. ويبدو أنها لاحظت ذلك في عينيه فطلبت منه التوضيح فأحالها إلى أن تسأل الأسرار مرة ثانية, وهذا آت من تكراره لفعل الأمر (اسألي- اسأليها) الذي جاء على شكل التماس وإن اقترب من الدعاء كثيراً, ليحدد بعد ذلك إجابته عن طريق طرح أسئلة استنكارية, فقوله:
"أي نور أشعل الحب بدربي"
وإجابته وإن لم يذكرها الشاعر معروفة, وهي أيضاً تأتي عن طريق سؤال
ألسـتِ أنتِ!
هذا وقد استخدم الشاعر الغموض القريب المأخذ الذي لا يشبه طلاسم كثير من شعراء الحداثة, كما أنه ليس سطحياً تملّه الأذن كشعر كثيرين من أولئك الذين يلهثون وراء عروض الخليل ولا يهمهم إلاَّ إرضاءه. أما المتلقي الذي ما عادت أذنه تطرب وتستجيب لمثل هذا اللون فلا يقع في دائرة اهتمامهم ولا يهمهم, بل يعدّوه قاصراً ذا ذوق مريض. وأمثال هؤلاء الشعراء هم أقرب إلى النعامة التي تدفن رأسها في التراب هروباً من الصياد, ظناً أنها إذا لم تكن تراه فهو لا يراها. أقول لهؤلاء النعام, أقصد الشعراء, وما أكثرهم في بلادنا, لقد أفسدتم الذوق الجمالي للمتلقي, فأنتم وأولئك الذين يكتبون الشعر المغلق سواء, وإن كان للحداثيين بعض العذر في ما يتعلق بهامش الحرية.
والحق يقال أن هذه القصيدة تُعد من أرقى قصائد الشعر الغنائي على المستوى العربي لو وجدت فعلاً ملحناً في مستواها.
وفي قصيدة فلسفية رائعة بعنوان "خيوط" يقول:
خيط الزمان لهُ أنين( )
يمتدُ في لحن السنينْ
تنسجه الشـمسُ
ويلبسهُ ألوفُ العاشقينْ
هذه القصيدة استخدمت الزمن للتدليل على العلاقة الأزلية القديمة بين الشمس والأرض التي تدور في فلكها وحول نفسها, مكونةً الزمنين اليومي والسنوي, وكما يقال أن الأرض كانت جزء من الشمس في حقبة زمنية سابقة, لذا فهي تدور حول أمها الشمس مرتبطة بها ارتباطاً أزلياً وعاطفياً, وتدور حول نفسها للمحافظة على بقائها ضمن الترتيب الشمسي والأمومي.
وهذا هو حال كثير من العاشقين الذين يعتقدون أنهم قد تعلقوا بحب بعضهم بعضاً مذ كانوا أرواحاً أو نطفاً قبل خلق أجسادهم, كجميل بن معمر وحبيبته بثينة, يقـول:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ومن بعد ما كنا نطافاً وفي المهد( )
وقد وظّف الشاعر هذه العلاقة في أن دقات الثواني على الأرض ما هي إلاَّ مناجاتها لأمها الشمس, هذه المناجاة التي لم تتوقف مذ انفصلت, وهذا فعلاً ما قصده بقوله:
"خيط الزمان له أنين
يمتد في لحن السنين"
فمن يصنع الزمن على الأرض غير أمها الشمس التي ترسل لها خيوطها الذهبية كي تحافظ على الحياة فيها. هذا والعلاقة بين المحبين قد ينتابها ما ينتاب النفس البشرية من ضيق وضجر, وهو بالضبط ما قصده الشاعر بقوله:
ضَجّتْ الساعاتُ من خبط الثواني( )
والتوى المفهومُ في حلق المعاني
وتدلى اللحنُ فوق السامعين
وكأني بالشاعر يريد أن يقول إن الشمس قد ضجرت من دوران الأرض الذي لا يتوقف حولها, وإن كانت ابنتها وجزء منها, كما تضج الساعات من خبط الثواني التي هي جزء منها ومكونة لها, وكذا ينتاب المحب الضجر من حبيبه إذا كان يدور حول بيته ولا يلتقيه, ومع هذا فلو قُدّر للأرض أن تتوقف عن الدوران, أو للثواني أن تتوقف عن الدق, أو لو قُدّر لهما أن يلتقيا, إذاً لكانت نهاية العالم, لأن اللقاء سيكون بعد فراق طويل فلابد أن يكون عنيفاً ولو أدى إلى فناء أحدهم في الآخر تماماً كما يحدث للمحبين عندما تطول فترة الهجر, لقاءٌ عنيف يكون بفناء أحدهم في الآخر.
وعن العلاقة التي تربط المحبين بعضهم ببعض يقول الشاعر:
مــن زمـــان( )
رقص الفارسُ, كي يغوي الحصانْ
عابثاً بالسوط يحلم بالرهانْ
ضج في المضمار صوت الخاسرينْ
فهو يرى أن الحياة مقامرة ومراهنة يحكمها الحظ, فمن يربح فيها لا يربح لجهد بذل ولشهادة نال بل لحظ حالفه, فهناك من يبذل جهداً أكبر وله شهادة أعلى, ولكنه يقبع في دائرة الظل نتيجة لحظه العاثر, يشكو مع غيره من الخاسرين في حلبة مضمار الحياة. ثم ينصرف الشاعر إلى مجموعة أخرى من ذوي الحظ العاثر في الحياة, ولكنها ليست كسابقتها التي اجتهدت فلم تصب, بل هي مجموعة اتكالية تحلم بأن تكون لها قصور وأموال وشهادات دون أن تحرك ساكناً, معتقدة أن الحظ أعمى قد يصيبها في لحظة من العمر, ولكن العمر يمضي والحظ لا يأتي, وعندما تفيق بعد فوات الأوان تجد كل ما بنته كان سراباً في عالم الخيال وفي أحلام اليقظة, يقول الشاعر:
شَربَ النورَ وصاغ الضوء فضة( )
وأنتشى من كأسِ لحظة
كان ذلك حلم يقظة
راقصــاً ما بيـن بيـنْ
وعن حالات حامل الهوى (المحب) التي شغلت الكثير من الشعراء, يقول الشيخ ظافر المدني:
إذا ذُكر الحبيب ونحن جمعٌ
ترى كلٌ له وصف يراهُ(*)
فمنّا من تمايل باهتزاز
ومنّا من تساقط من علاهُ
ومنّا من يذوب كمثل شمعة
يداري السر عن وجه رآهُ
وإذا كانت هذه حالات الهوى عند حامل الحب الإلهي, فإن أبا نواس يراها بطريقة مختلفة. يقول:
حامل الهوى تعبُ يستخفه الطـربُ( )
إن بكى يحـق لهُ ليـس ما به لعبُ
تضحكين لاهيـة والمحـب ينتحـبُ
تعجبين من سقمى صحتي هي العجبُ
كلما انقضى سببٌ منـك بان لي سببُ
أما شاعرنا فلا تهمه حالات الهوى بقدر ما يهمه ما يدور بين هذه الحالات. يقول:
ما بين حـالات الهـوى قدحٌ( )
يراقص النفس أو يذكى رزاياها
ويشعلُ الحزن مثل النارِ في عود
يطيّبُ الـذاتَ إذ يحـرق ثناياها
يلتذُّ من عطر الليالي وهي تعصرهُ
ويشرب الـراحَ في أقداح شكواها
فهو لا يتحدث عن الحالات التي تنتاب المحبين, وإن قدّم لهم إحدى الطرق التي يرى أنها تُنسي المحب ألمه وحزنه كما يقول أبو نواس:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسّها حجرٌ مسّته سرَّاء( )
فهذه الكأس التي لو مسها حجر لسُرَّ, هي نفسها التي يقول بحقها عبد الرحمن شلقم أنها تعمل على حسب حالات نفس المحب, فإما أن تُذهب غمّه وإما أن تزيد همّه, وهذا معنى قوله:
"يراقص النفس أو يذكى رزاياها"
وإن شبّه المحب في كلا الحالتين بعود الطيب الذي تحرقه النار فيحترق ليعطر الكون بحبه وشعره إن كان شاعراً.
ثم يلتفت شاعرنا إلى الليل الذي يستر المحبين في لقياهم وينصت لأخبارهم وشكواهم, خاصةً إذا طال الهجر أو طال البعد, يلقون فيه أشعارهم وشجونهم ظناً منهم أن الكون لهم منصتاً وأن الأفلاك أذاناً صاغية, ولكنهم عندما يستفيقون من أحلامهم على أول بشائر الفجر يدركون أنهم أضاعوا أعمارهم في طلب المستحيل. يقول الشاعر:
يا ليلُ, أرهقنا الدُّنا سهراً( )
وما علمنا بأن العمرَ قد تاها
وإننا وسط كفِّ الكونِ أغنيةٌ
تغازلُ الوهمّ إذ تهفو لمثواها
لا الكونُ ينصتُ ولا الأفلاكُ تسمعنا
ولا الليـالي شكت من تيهِ نجـواها
هذا والعلاقة بين الأقداح والشفاه, وما في الأقداح من راح, وما تحت الشفاه من رضاب شغلت الشعراء قديماً وحديثاً, ولكن التعبير عن هذه العلاقة هو المختلف.
يقول امرئ ألقيس:
كأن المُدام صوب الغمام وريح الخزامَ ونشر القطر ( )
يعل به برد أنيابها إذا طرب الطائر المستحر
نجد هذا المعني عند بشارة ألخوري ولكن بطريقة مختلفة و أسلوب مختلف يقول :
كيف أصحو ؟ ... خمرتي من شفتيك( )
والمني تضحك لي في ناظريك
وأناشيد ألهوي في أذنيك
همسات القطر بل رنّات أيك
وقد أجاد نزار قباني بقوله:
لا تقبلني بعنف( )
زهرة الرمّان ليست تتحمّل
لا تقبـــلني
فلـو ذاب فمـي
مـاذا ستفعل؟
وعبر بشارة الخوري عن شدة التلاحم بين شفاه المحبين وقد أجاد أيضاً
يقول :
ما كان أحلي قبلات ألهوي( )
إن كنت لا تذكر فأسال فمك
***
لو مر سيفٌ بيننا لم نكن
نعلم هل أجري دمي أم دمك
أما عبد الرحمن شلقم فيقول:
تاهتْ الأقداحُ فوق شفاهنا( )
فشربنا التيه حباً وجنونا
وتسربنا إلى غيب العروقِ
وبُعثنا قُبلةً عاشت قرونا
فإذا كان حديث الشفاه متعة العشاق, فحديث العيون النواعس اعظم أثراً في قلوبهم, وهذا ما جعل شكاوى العشاق من أحاديث العيون أكثر دوراناً في الشعر العربي. يقول ابن الرومي:
ويلاه إن نظرتْ وإن هي أعرضتْ
وقعُ السهام ونزعُهُنَّ أليمُ( )
ويقول على بن جبلة العكوّك في قصيدته اليتيمة التي ادّعاها سبعة عشرة شاعراً:
وكأنها وسنى إذا نظرت أو مدنفٌ لمّا يفق بعد( )
بفتور عين ما بها رمدٌ وبها تُداوى الأعين الرُّمدُ
ولعل هذا السبب أيضاً هو الذي دفع الإغريق لأن يجعلوا عيون آلهتهم بيضاوية لأنهم لا ينحتون إناثاً بقدر ما ينحتون آلهة, ولا يُخفى أن العين تظهر خفايا القلب يقول احمد رامي:
الصّـب تفضحه عيونه( )
وتمن عن وجدٍ شؤنه
كما أنه من العيون وحدها يتعلم المحبون الغزل يقول بشارة ألخوري :
جفنه علم الغزل ومن العلم ماقتل( )
فحرقنا نفوسنا في جحيمٍ من القبل
*** ***
هاتها من يد الرضي جرعةٌ تبعث الجنون
كيف يشكو من الضما من له هذه العيون
وهذا أيضاً ما دفع شاعرنا للقول:
بين عينيك وبيني( )
هدأةُ الآهــاتِ
والنظــراتِ
فرحةُ الوعد تهادتْ
فوق أهدابِ الحنينِ
ويُلاحظ أن الشـاعر جاهد كثيراً في جعل نظـراته لحبيبته نظرات فاترة لا يكتنفها سحر الجفون, ووجد المستهام إلى درجة أنه كان يكتم آهاته في قلبه, وذلك إما لوجود الرقيب أو المخبرين وإما لأنها بداية حب جديد, ولعلها الأخيرة بدليل أنهما توصلا عن طريق النظرات إلى موعد تنبعث فيه الآهات الكامنة في اللقاء الأول. وهذا ما يفسره قوله:
نظرة تسكبُ آهاتي( )
على أطيافِ نور يتغنَّى
يقدحُ الأزمان للنشوى
ويستهويه معنى
ولكن الحبيب بعد أن أحكم سيطرته على قلب شاعرنا, وما أرق قلوب الشعراء, تحكّم به واستبد, وهذا ظاهر من قوله:
كم تمادى( )
بعدما كلَّل بالعشقِ مرادا
صَمَتَ الشوقُ على جنح الأغاني
ولكن ما الذي حدث للشاعر, فبعدما كانت نظراته هادئة فاترة خجلى في بداية القصيدة نحو قوله:
"هدأة الآهات
والنظرات"
صارت مع نهايتها ذات ضجيج ومعان عميقة. يقول:
ضجت النظراتُ( )
بين عينيك وبيني
فأفاق القلبُ جذلا
أيقظ الحب لظَاه فاستزادا
وفي الختام أقول أن الديوان ما زال يحتاج إلى دراسات موسّعة, فأنا لم أختر منه إلاَّ النز اليسير, ولعل الشاعر إذا قُدِّر له أن يصدر ديواناً آخر, وجهّنا إليه بعض طلبتنا لدراستهما في أطروحة ماجستير.
#علي_عبدالمطلب_الهوني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟