بدء ذي بدء أود التأكيد بضرورة التمييز بين التحزب السياسي الإسلامي كعمل بشري وبين الإسلام كهداية وعقيدة، فنحن نعرف الإسلام بالدرجة الأولى بالقرآن والسنة في حين أن تسييس الدين عمل بشري قابل للخطأ والصواب. كما أود أن أميز بين دعوة فصل السياسة عن الدين، وفصل التحزب السياسي الطائفي عن الدين. وأنا أدعو بفصل التحزب السياسي الطائفي عن الدين. وهو ما أطلق عليه ب "الإسلاموية المتحزبة" (أقصد بالإسلاموية توجه ديني سياسي متطرف لفئات متحزبة تجعل الدين وسيلة للتكفير والقتل ضمن دائرة الإسلام, والإسلام من النكران لحقوق العباد براء)،
التي تتنكر لحقوق كل مَن لا يتفق معهم، وتمارس التكفير والقتل بأسم الدين. وبهذا يتحول الدين إلى ميدان سياسي طائفي يؤدي إلى شرزمة الإسلام وجعله ميدانا لتصفية الحسابات الشخصية والقومية تحت مظلة الدين مما يؤدي في النهاية إلى القضاء على الدين. والمعروف أن جميع المتحزبين الإسلامويين
هم قوميون متعصبون يعملون من أجل تسخير الناس لخدمة الإسلام في حين أنهم يسخرون الإسلام لخدمة القومية، لذلك لا بد من فصل الدين عن التحزب.
الصليبيون إستخدموا الدين أداة في السياسة، وربطوا الدين بالسياسة لغزو العالم الإسلامي والدعوة بتحرير القدس. وموسوليني إستخدم الدين كأداة في السياسة حتى أنه إعتبر حركته الفاشية السياسية حركة دينية حين قال: "أن الفاشية هي مفهوم ديني".
وإعتبر ميشيل عفلق حركة البعث، حركة قومية دينية حين قال: إن الفضل في نشوء حركة البعث يعود إلى إكتشافنا للإسلام". وقال: "نحن الجيل العربي الجديد نحمل رسالة لا سياسة".
والمعروف عن عفلق قوله "والإسلام الحضاري هنا هو مجرد مكون من مكونات القومية يغذيها بتراثه الروحي وهو متضمن فيها". (أنظر التفاصيل في د. محمد عمارة، التيار القومي الإسلامي، ص ص 154-187). وهذا ما يسير عليه صدام حسين أيضا.
وفي ذلك أيضا يقول الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة دمشق في معرض جوابه على سؤال، إنكم ترفضون الإنتظام الحزبي، أجاب: "أنا أرفض إنتمائي إلى جماعة لأن كل المسلمين جماعتي، ولأنني فرد من كل جماعة منهم". (أنظر الحوار مع الشيخ البوطي في مجلة "الأمان"، العدد 103 في 6 أيار 1994). ويقول الدكتور عمر فروخ بهذا الصدد أيضا: "أما الأحزاب فكلها خارجة عن الإسلام". (عمر فروخ، تجديد في المسلمين لا في الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، 1986، ص 21). وأنا لا أقول بأن هذه الأحزاب خارجة عن الإسلام، لأنني لا أملك هذا الحق، لكنني أقول بأنها تشوه الإسلام الحنيف وتضعفه، وتعطي لأعداء الإسلام تبريرا بضرب الإسلام عن طريق هؤلاء. فالإسلام كما نعرفه قرآن وسنة وإجماع وقياس، وإقامة الفرائض وإجتناب الكبائر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقراءة القرآن. ولا أخال بأن الذي يفهم الإسلام عن طريق التحزب يفهمه بشكل منهجي.
ويعرف أغلب الباحثين المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط بأن أغلب الأحزاب السريانية والآشورية مبنية على التوجه الديني من نساطرة ويعاقبة، كما أن الأحزاب الإسرائيلية المتطرفة التي تدعو إلى قتل الفلسطينيين وتهويد القدس، والبحث عن الهيكل المزعوم هي أحزاب دينية أو مبنية على الفكر الديني المطعم بالصهيونية مثل حزب شاس. وجميع هذه التوجهات القومية الدينية هي توجهات متطرفة لها تناقضات وصراعات مع القوى الداخلية والخارجية على أسس تفسيرات بشرية تتوافق مع أهدافها، مما يؤدي إلى التصادم وممارسة العنف داخليا وخارجيا. كما يؤدي أحيانا إلى الإنشقاقات الداخلية، والتي غالبا ما تكون نتيجتها القتل. وصدق الزعيم الروحي للشيعة ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان الشيخ محمد مهدي شمس الدين في تشديده "على عدم جواز دخول الحركات الإسلامية الأصولية في لعبة السياسة والسلطة" (أنظر الوطن العربي، 1029، 22 نوفمبر 1996 ، "هل يجوز دهول الحركات الإسلامية في لعبة السياسة ؟"). وجميع هذه الأحزاب الدينية المطعمة بالقومية في الشرق الأوسط تختلف عن الأحزاب العلمانية الغربية بما فيها الأحزاب العلمانية التي تحمل أسماء دينية. فعلى سبيل المثال الحزب المسيحي الألماني والحزب المسيحي الديمقراطي السويدي وغيرها أحزاب علمانية تفصل السياسة عن الدين وتفصل التحزب السياسي عن الدين، وتضع برامجها على أساس المصلحة الوطنية، مع تطعيم بعض المسائل الإجتماعية بالتعليمات المسيحية على قاعدة علمانية ديمقراطية لا تؤدي إلى رفض الآخر أو إلغائه، أو إدعائه بإحتكار الحقيقة.
عندما يدرس المرء أدبيات التحزب السياسي الإسلامي بشكل عام والإسلاموي بشكل خاص لا يجد حزبا سياسيا إسلاميا أو إسلامويا واحدا من هذه الأحزاب التي تتدعي بالإسلام تؤيد حقوق الشعب الكردي. صدق الداعية الإسلامي الكبير محمد متولي الشعراوي الملقب بإمام العصر في قوله:
"حين أجد شخصا يقول أنا عايز أحكم علشان أطبق الإسلام، أقول له أنت كذاب!! قل أنا أريد أن أُحكَم بالإسلام أصدقك!! لكن إنك تحكم أنت بالإسلام .. لا .. لا تنفعني!! ولهذا فأنا أقول وأنادي بأنه أريد أن أُحكَمَ بالإسلام، لماذا؟ لأن الذي يريد أن يتهافت على حكم دولة، نعرف أنه يريد خيرها لنفسه" (أنظر الشيخ الشعراوي من القرية إلى القمة، ص 78).
القوى الحزبية الإسلاموية والإسلامية لا تقر بحقوق الشعب الكردي لأنها لاتؤمن إلا بتوجه وحيد الجانب. فعلى سبيل المثال أطروحة بعض الأئمة الفرس عن الكرد، بأن عليهم ان يختاروا بين الإسلام والحكم الذاتي. فإذا إختاروا الإسلام فلا حقوق قومية لأن الجميع أخوة. وإذا إختاروا الحكم الذاتي فيعني أنهم ضد الإسلام ويجب ضربهم لأنهم خرجوا عن الإسلام.
أما موقف الإخوان المسلمين فليس أبدا أفضل من ذلك، مثلا موقف الحزب الإسلامي العراقي، حيث يقف بشدة ضد أبسط الحقوق القومية للشعب الكردي بما فيه الحكم الذاتي، ناهيك عن حقوق الشعب الكردي في الفدرالية ضمن العراق الموحد (أنظر رسالة الإخوان، عدد 11 فبراير 1998 ). وفي سوريا تم إعتقال كردي وهو السيد جواد ملا بسبب توزيعه بيان يطالب بحقوق الشعب الكردي في سورية. فعذب على أيدي المباحث السورية، وفي السجن تعرف على مجموعة من عناصر حزب التحرير الإسلامي، وحين عرفوا أن إعتقاله كان بسبب نضاله من أجل حقوق الشعب الكردي إتهموه بالكفر زاعمين أن نهايته جهنم. أما التحزب السياسي الإسلاموي التركي فغارق في الفخ العلماني الطوراني بثوب إسلامي، ولا يعترف بحقوق أية قومية في تركيا سوى الترك. أما المؤتمر الإسلامي، فهو كما عبر عن ذلك المفكر الكردي الإسلامي د. محمد صالح كابوري، كيف أنه يتبنى قضايا الشعوب الإسلامية حسب خارطة سايكس بيكو وسان ريمون القائمتين على تذويب الشعب الكردي وتضييع كردستان. وبلغ التجاهل عند بعض أصحاب الفتاوى المضللة بالقول بأن الفدرالية غير موجودة في القرآن لذلك فإنها حرام. أما مصطلح "الأخوة الإسلامية" عند بعض المتحزبين من الناحية العملية فبعيدة كل البعد عن الأخوة الإسلامية الحقيقية التي يدعو إليها القرأن الكريم والسنة المطهرة. لأن هذه الأخوة المتحزبة تتنكر لحقوق القوميات والأقليات التي تُحكَم من قبل القومية الكبيرة التي تقبض على السلطة من العرب والترك والفرس. فمثُلهم كمثل "الأخوة بين إثنين ورثا منزلا عن أبيهما، فقال الأخ الأكبر: سنقتسم هذا المنزل فيما بيننا وسوف أعطيك حصة أكثر بكثير من حصتي. فقال الأخ الأصغر وكيف؟ فقال له الأخ الأصغر حصتي من الأرض إلى السقف فقط، وحصتك كبيرة جدا تبدأ من السقف وإلى ما شاء الله من فضاءات". (أنظر جواد ملا، مقدمة لكتاب مفاهيم وملاحظات في طريق التجديد للشيخ عمر غريب، ص 3).
هذا النكران لحقوق الشعب الكردي، أحفاد صلاح الدين الأيوبي الكردي الذي قاد الجيوش الكردية والعربية الإسلامية لتحرير مدينة القدس، ورفع شأن الإسلام، ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام، من أجل شهادة لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ومن أجل حكم العدالة والمحبة، قابلته القوى السياسية الإسلاموية بالنكران لا مجرد لحقوق الكرد إنما التبجح عند البعض منهم بنكران وجود شعب كردي. فأين هؤلاء الذين يتاجرون اليوم بالسياسة بأسم الدين من أولئك العمالقة الكبار الذين صنعوا للتاريخ الإسلامي مجدا، وهم اليوم عاجزون أن يهزموا حتى أنفسهم؟ كيف تكون حال الأمة حين ينكر الإنسان بأسم الإسلام نظريا والإسلاموي عمليا حقوق الناس. ونحن نتذكر الأية الكريمة: ((ياأيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)). (أنظر سورة الحجرات، آية 13).
يدعي البعض من السطحيين بأن الكرد يتعاونون مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لذلك لابد نعترف بحقوقهم. لكن لايفكر هذا البعض بأنهم فتحوا ابوابهم وبيوتهم لإسرائيل وأمريكا حيث إعترفوا بإسرائيل كدولة على سبيل المثال مصر والأردن والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. والعلاقات بين إسرائيل والمغرب وقطر وتركيا وموريتانياووو. إضافة لوجود قواعد عسكرية أمريكية في الكويت وقطر والأردن والبحرين والإمارات وعمان وتركيا، والحبل على الجرار. فإذا كان للكرد علاقات مع الغرب فإنهم آخر مَن سلكوا الطريق الذي سلكه العرب والمسلمون قبلهم، ولابد أن يدخلوا المعادلة قبل إعتبارهم خارجين عن القانون الشرقي والغربي. ولعل من المفيد التأكيد على أن الأنظمة العربية والمسلمة هي التي وقفت طوال تاريخ تأسيس دولها القومية بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، موقف العداء أو السلب من القضية الكردية. وممارسة بعضها كالأنظمة العراقية والتركية والإيرانية والسورية سياسات الإضطهاد والقتل والتعريب والتتريك والتفريس والأرض المحروقة والتهجير بحق الكرد. فماذا يمكن للكرد أن يفعلوا إزاء هذه السياسات المعادية لعدالة الإسلام والأديان السماوية الأخرى؟ إنها سياسات تؤدي إلى الكراهية والحقد واللاأنسانية. هل يطول الكرد أعناقهم لمستعمريهم ومضطهديهم لقطعها؟ أليس لهذه الأنظمة دور مباشر في تشجيع الكرد نحو الغرب وإسرائيل؟ لكن مع ذلك فالشعب الكردي وقياداته لازالوا حذرين في مواقفهم مع الغرب وإسرائيل بالمقارنة مع المواقف العربية والمسلمة نسبيا.
ماالذي جعل التحزب الإسلامي والإسلاموي أن يقف هذا الموقف السلبي القومي بأسم الإسلام، إن صح التعبير، من القضية الكردية؟ أليس أغلبية الكرد مسلمين ودافعوا عن الإسلام؟ أو أن الإسلام أداة لقومية هذه الأحزاب الدينية لضرب القوميات الأخرى؟
يقول المفكر العربي الإسلامي د. فهمي الشناوي في كتابه "الأكراد يتامى المسلمين"، ص 9 ما يلي: "وهؤلاء الأكراد -إذن- المسلمون الخلص هم رأس الرمح في الإسلام. فهم ظلوا (14) قرنا مسلمين خلص لم تفُتهم معركة حربية للإسلام إلا واشتركوا فيها من الصين إلى المغرب ومن وسط أوربا إلى خط الإستواء". ويقول: "إذا كان المصريون يعتزون بأن ثقافتهم عمرها سبعة آلاف سنة. فالأكراد أقدم منهم حضارة وهم قبلهم على الأرض. ورسو سفينة نوح على أرضهم معناها أن ها هنا المكان المختار للمؤمنين. وأن ها هنا يسكن مَن إعتصم بالله". لكن الكرد لم يتركوا آثارا كما ترك المصريون "لأن طاقة الأكراد إستنفدوها في الحروب. وطاقة المصريين إستنفدوها في البناء". (نفس المصدر ص17).
* باحث وكاتب صحفي عراقي مقيم في السويد