أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - حمدي الشريف - د. نصار عبد الله؛ العَاشِق والمُحِبّ للفلسفة















المزيد.....


د. نصار عبد الله؛ العَاشِق والمُحِبّ للفلسفة


حمدي الشريف
(Hamdy Alsharif)


الحوار المتمدن-العدد: 6380 - 2019 / 10 / 15 - 00:56
المحور: سيرة ذاتية
    


تمثل مجموعة دراسات أستاذنا الدكتور/ نصار عبد الله في فلسفة السياسة والأخلاق والقانون من أبرز الكتابات باللغة العربية في هذه الميادين، وهي تتناول موضوعات حيوية وعلى قدر كبير من الأهمية مثل الحرية، والعدالة، والنسبية الخلقية، والحروب المشروعة وغيرها. وإذا كان من الصعوبة بمكان بالنسبة لمجمل دراساته الأكاديمية المختلفة، أن نَمُرّ عليها مرور الكرام أو نتجاهلها، فإنه وبفضل إسهاماته في هذه المجالات الفلسفية الثلاثة، وكذلك بفضل مقالاته السياسية العميقة التي تتسم بقوة الفكرة واستنارة الرؤية وشمول النظرة، يُعَدُّ الدكتور نصار من الشخصيات القليلة التي لديها الشجاعة الأخلاقية والجرأة الفكرية التي اقتحم من خلالها العديد من القضايا الشائكة في مجالات الثقافة والأدب والدين والسياسة، والتي كشف النقاب من خلالها عن كثير من نقاط الخلل المسكوت عنها في عالمنا العربي والإسلامي.
سنحاول في السطور التالية الوقوف على الخطوط العامة لإسهامات الدكتور نصار عبد الله؛ من خلال عرض بعض آرائه الفلسفية، وبعض إسهاماته في فلسفة السياسة على وجه الخصوص، دون الدخول في التفصيلات، مع محاولة تلمس جوانب الجدة والأصالة في بعض هذه الدراسات. فمما لا شك فيه أن الدكتور نصار من بين المفكرين والمُنظِّرين السياسيين العرب وأكثرهم عمقًا في طرحه ومعالجته للقضايا والمسائل السياسية، وهو من أصحاب الرؤية الفلسفية المستنيرة، ويجمع- علاوة على ذلك- بين نَاصِية الفلسفة من جانب، ونَاصِية العلم من جانب آخر، وناصية الأدب من جانب ثالث.
1- ارتباط الفلسفة بالواقع.
في الحقيقة إن الدراسات الأكاديمية للدكتور/ نصار والتي تدور في مجملها حول فلسفة الأخلاق، والسياسة، والقانون، مع التركيز على مناهج البحث العلمي في تناوله للقضايا الفلسفية المعاصرة، إن دراساته الأكاديمية تستحق القراءة والبحث النقدي؛ لما تتضمنه من طرح شمولي في معالجة القضايا والمشكلات الفلسفية، ومن أسلوب علمي ومنهجي رصين يَندُر أن يتوافر لدى الكثيرين من الباحثين في عالمنا العربي والإسلامي. ومن هنا تأتي أهمية دراساته، والحق أن هذه الأهمية مُزدَوجة؛ فهي نابعة في جانبها الأول من قوة أفكاره وحيويّتها من جانب، ويرتبط بهذا الجانب من الأهمية جانبٌ آخر؛ ويتمثل في اشتباكه مع الواقع السياسي بصفة عامة، والعربي بصفة خاصة، في محاولة منه لإنزال النظريات الفلسفية من الأطر الأكاديمية المغلقة للانخراط في المشكلات المعاصرة من ناحية، ومُساءَلة التحديات والمعضلات التي تَفرِضها هذه المشكلات من ناحية أخرى.
نعود لنقول إن الدكتور نصار كانت لديه دوافع كثيرة جعلته مهمومًا بالقضايا والمشكلات التي تؤرق الإنسانية في هذه الحقبة من التاريخ المعاصر، ولهذا جاءت مقالاته السياسية تشتبك مع واقعنا السياسي والاجتماعي، وثَمَّة نقاشات ثَريّة له حول قضايا العنف، والحرب على الإرهاب، وحقوق الإنسان، والأصوليات الدينية، والعولمة وغيرها. ومن هذه الناحية تتميّز مقالاته بسمة نقدية واضحة حاول عن طريقها أن يكشف عن زيف الأقنعة التي تتخفّى وراءها بعض الأنظمة السياسية الغربية والعربية.
وإذا ما أردنا الوقوف على مجمل نظرة الدكتور نصار للفلسفة، فيمكن القول أنه لم يتخذ الفلسفة حِرفة يتعيَّش بها أو وظيفة يمتهنها، وإنما كانت الفلسفة أولًا وقبل كل شيء فنًا للعيش ونمطًا في التفكير، وهذا النمط انعكس على مجمل حياته ونضاله السياسي والأكاديمي. إن الفلسفة هي عبارة عن رحلة للخلاص الإنساني، أو هي "عملية روحانية علمانية" (على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي "لوك فيري" Luc Ferry). ومن هنا نجده يتعامل معها بروح العَاشِقِ، والمُحِبِّ، والهاوي؛ إنها بالنسبة إليه وبالنسبة إلى قليلين من أبناء جيله، رسالة مقدسة علينا أن نُخلص لها وندافع عنها. ولهذا كانت الفلسفة بالنسبة له منهجًا إنسانيًا يتعامل مع عقل الإنسان بوصفه الرمز الأعلى دون تبعية للعلم، أو للدين، أو للخرافة؛ لأن كل هذه المجالات هي من ابتداع العقل أساسًا. وبعبارة أخرى فإن الفلسفة عبارة عن بناء محكم من عالم موازي، والفيلسوف يتسم بالشجاعة وعدم الخوف من السلطات السياسية والدينية بصفة خاصة.
وإذا كان لا يوجد تصور واحد للفلسفة، بل تصورات مختلفة عنها، فإن الفلسفة بالنسبة للدكتور/ نصار هي نشاط عقلي حر لا يتعارض مع ما هو واقعي واجتماعي بالضرورة، ويتناول القضايا والمشكلات الكلية حول الكون، والمجتمع، والإنسان. ومن هذا المنظور فهي تتمسك بالمنهج العقلي في دراسة القضايا والمشكلات الكلية من جانب، كما أنها تنظر إلى عقل الإنسان بوصفه المرشد أو الموجه له في تصرفاته وأفعاله من جانب آخر. وهذا يعني- بلغة بسيطة- أن الفلسفة ترسخ لفكرة أن للإنسان جانبًا واحدًا (هو العقل) مسيطرًا على الكل، وللمفارقة فإن هذا الجانب- إلى حد ما- هو السبب في تعثرها التاريخي، خاصة في مواجهة الدين، والخرافات، والقوى السياسية الحاكمة في المجتمع؛ لأن الدين والخرافة يركزا على الانفعالات والمشاعر والعواطف، فيما يستهدف رجل السياسة الاستقرار ولهذا يعادي كل فكر جديد وكل ممارسة تريد التغيير.
من هنا دافع الدكتور نصار عن الفلسفة في مواجهة الادعاءات التي تزعم احتكارها معرفة الحقيقة المطلقة، ومعظم هذه الادعاءات تأتي من الأصوليات الدينية، والأصوليات العلمانية. وبالنسبة للأولى، فإذا كان الدين نفسه ليس سلطة، وإنما الفهم المغلق للدين هو الذي يُحوِّل النص الديني إلى سلطة تمارس هيمنة على الفرد والمجتمع، فإنه في مجال الفكر عمومًا، تبدأ سلطة النص- أيّ نص- من النقل، وتستمر في مرحلة الاجتهاد، ولكن بمستوى مخفف، وعندها يتحول النص من نص على ورق إلى قوة فاعلة ومهيمنة في الحياة الاجتماعية، أو سلطة قسريّة في الحياة عمومًا.
لهذا كان من الطبيعي أن يُقابل الإبداع في الفلسفة بالرفض التام، بل بالاستنكار والاستهجان. والملاحظ عبر التاريخ أن رجال الدين المتشددين هم أول من وقفوا ضد الإبداع في الفلسفة وفي غيرها من ميادين الفكر الإنساني. ذلك أن معظم رجال الدين يُكرِّسون وظيفتهم في نقل كل ما هو قديم بحذافيره، وبالتالي يغيب الاجتهاد والإبداع في كثير من الأحيان. وهنا يبدأ النص في التحكم، ويتحول إلى سلطة اجتماعية وسياسية، وفكرية وثقافية، رغم أن النص ليس بمعزل عن الواقع التاريخي الذي أفرزه، والعوامل السياسية التي توجهه، وباختصار في السياق الاجتماعي الذي يظهر فيه. وهذا يعني أن النص يتحول إلى سلطة تغيب عندها قوة العقل، وخاصة عندما يتمسك رجال الدين المتشددون بالنصوص الحرفية من جانب، وعندما يؤولون النصوص فتصبح السلطة هي سلطة تأويل النصوص من جانب آخر.
وفي هذا الإطار لا بُد أن نتذكر سطوة تفكير أرسطو في المجتمعات الأوروبية؛ فقد أمتد تأثيره، من الناحيتين الفلسفية والعلمية، لنحو ألفي عام، مما حَال دون توجيه النقد له. ومنذ حوالي أربعة قرون، ظهرت دعوة الفيلسوف الإنجليزي "فرانسيس بيكون" (1561-1626)، والتي حذرنا من خلالها من الوقوع في "أوهام المسرح"، وهي أوهام ناتجة عن التسليم بصحة النظريات والمعتقدات المتوارثة، وعن القواعد المغلوطة للبرهان ويشمل ذلك كل ما يتعلق بالفلسفات والنظريات القديمة منها، والحديثة أيضًا.
من هنا تتمثل خطورة غياب الفلسفة والتفكير النقدي، في أن العلاقة بين سلطة القديم من جانب- وخاصة سلطة النص القديم- وبين الفرد والمجتمع من جانب آخر ليست علاقة جدلية يتفاعل فيها الطرفان- على الأقل- وإنما تصبح علاقة سيد وعبد، أو فاعل ومفعول به. ولذلك يؤدي غياب التفكير النقدي بالضرورة إلى أزمة الوقوع في براثن القديم وجعله متحكمًا في الفرد والمجتمع معًا، ومن ثَمَّ ينتج عن ذلك أزمة في الإبداع الفلسفي.
من هذا المنطلق فإن نقطة البداية الأولى تتمثل في أن يحرر الإنسان نفسه من تأثير النظريات الساذجة، والتفكير الأسطوري، وسلطة الموروث، لأنه في هذه الحالة فقط سيكون من الممكن- باستعمال العقل النقدي وتنميته- تهيئة الفرصة للإبداع الفلسفي، وطرح كل ما هو جديد على مستوى العلم والفن.
وإذا كان الفكر الإنساني قد مرّ بصفة عامة بمرحلة النقل أو المحاكاة، ثم بمرحلة الاجتهاد، وأخيرًا بمرحلة الإبداع أو التجديد، فإنه ومن الجدير بالملاحظة أن هذه المراحل الثلاث يمكن ملاحظتها في تطور الإنسان السوي منذ الولادة؛ فالطفل يبدأ أولًا بتقليد الآخرين، وشيئا فشيئا يحاول أن يجتهد مستعملًا عقله وقدراته ومهاراته التي اكتسبها بالتعليم والتنشئة، إلى أن يصل إلى مرحلة التجديد أو الإبداع على مستوى السلوك، والحياة، وفي التفكير.
لهذه الأسباب آمن الدكتور/ نصار بأن التفكير هو أخص خصائص العقل الذي يتميز به الإنسان عن غيره من الكائنات الأخرى. ذلك أن التفكير، و"التفكير النقدي" في الأساس، هو الذي يميز العقلية التقدمية عن العقول الرجعية المحافظة، والمرددة لكل ما هو قديم والتسليم بصحته دون اختباره، أو نقده، كما أن التفكير النقدي هو الذي يميز المجتمعات والحضارات المبدعة عن المجتمعات والحضارات المقلدة والمتخلفة. ولهذا فإذا غابت الفلسفة والتفكير النقدي، فإن ذلك من شأنه أن يكون مُؤَذِّنًا لخراب المجتمع وبداية تدهوره واضمحلاله.
من ناحية أخرى كان الدكتور نصار دائم التأكيد على أن الفلسفة ذات صلة وثيقة بجملة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والأحوال التاريخية التي يعيش فيها الفيلسوف، والتي ينشأ فكره في ظلها، سواء كانت فلسفته تنحو إلى تبرير الأوضاع القائمة، أو جاءت في اتجاه تغييرها. ونظرا لأن الفلسفة أولًا وقبل كل شيء نمطٌ من التفكير التأملي والنقدي الحر؛ لذا نجده يتعامل مع الفلسفات السابقة من منظور ربط الفكر بالممارسة العملية؛ لأن الفكر والممارسة مكملان لبعضهما البعض، وإذا كان الفكر يوجه الممارسة، فإن الممارسة تنمي الفكر.
من هذا المنطلق يعتقد الدكتور نصار أن الفكر البشري لا ينشأ في حالة التوازن التام بين الإنسان وبيئته، ونادرًا ما تتحقق هذه الحالة؛ فالغالب أن يكون هناك نوع من اللاتوازن بين الإنسان بل بين الكائن الحي بوجه عام وبين المؤثرات البيئية المحيطة به، وما الفكر إلا تلك الأداة- أو بتعبير أدق فإن الفكر واحد من الأدوات التي يستعين بها الإنسان لاجتياز حالة اللاتوازن هذه، وتحقيق أكبر قدر ممكن من التكيف والتواؤم بينه وبين ظروفه الخارجية سعيًا إلى تحقيق التوازن( ).
هذا يعني أن الفلسفة ليست بالضرورة سابقة على الواقع، كما أن الواقع ليس سابقًا على الفلسفة في كل الأحيان. فالحقيقة إن الواقع قد يسبق الفكر، ومثال ذلك الليبرالية، التي ظهرت تحديدًا واكتملت معالمها النظرية بعد اندلاع الثورة الصناعية في أوروبا، وما تلاها من صعود طبقة جديدة، هي الطبقة الوسطى، تود أن تسيطر. ففي هذا المثال نجد الواقع هو الذي فتح الباب للتنظير الفكري لليبرالية، وهو الذي قَدَّمَ للفكر أدواته لكي يُنظِّر المُنظِّرون والفلاسفة للواقع الجديد. ومن الناحية الأخرى فإن الفكر قد يسبق الواقع ويمهد له، ومثال ذلك الثورة الفرنسية عام 1789؛ حيث أن مُنظِّريها (ومعظمهم كان من فلاسفة التنوير) قدموا تنظيرات مباشرة لإمكانية تغيير الواقع الأوروبي، وقد ساهمت آرائهم الفلسفية وتنظيراتهم الفكرية بشكل كبير في وقوع الثورة. وكذلك فإن الثورة الفرنسية 1968، يرجع الفضل فيها إلى تأثير أفكار "اليساريين الجدد"، وعلى رأسهم "هربرت ماركيوز"، على الواقع الأوروبي والفرنسي تحديدًا.
2- إسهاماته البحثية في الفلسفة السياسية.
في ميادين فلسفة الأخلاق والسياسة والقانون، قدَّم لنا الدكتور/ نصار بعض الدراسات المهمة، نذكر منها "فلسفة العدل الاجتماعي" (1987)، و"فلسفة برتراند رسل السياسية" (1987)، و"القانون والحرية عند فريدريك هايك" (1994)، وغيرها. هذا بالإضافة إلى رسالته للدكتوراه عام 1982، التي تُعَدُّ أول رسالة باللغة العربية تتناول أهم فيلسوف معاصر أسهم حول نظرية العدالة؛ ونعني به الفيلسوف الأمريكي "جون رولز".
يكفي في هذا الإطار أن نشير إلى دراسته المهمة في الفلسفة السياسية والمعنونة "مدخل إلى نظرية الحرب العادلة" (1993)؛ حيث تُعَدُّ- بحق- إحدى الدراسات الرائدة لكل من يتصدى لدراسة موضوع الحرب العادلة. تمثل هذه الدراسة أول دراسة متكاملة باللغة العربية عن فكرة الحروب المشروعة من منظور فلسفي. من هنا بدا لنا إسهامه الفلسفي أحد الركائز المهمة في هذا الموضوع، وقد استفدت أنا شخصيًا من هذه الدراسة المهمة والمتفردة في بحثي في الماجستير عن "مفهوم العدالة عند مايكـل ولتـزر" (2012)، مثلما استفاد كثيرون غيري منها، اذكر منهم- على سبيل المثال- الأستاذ الدكتور/ شعبان عبد الله في بحثه المعنون: "نظرية الحرب المشروعة وجدلية العلاقة بين الخير والعدالة".
ويُعَدُّ مصطلح "الحرب العادلة" (Just War) من أهم المصطلحات التي تتردد بكثرة في الكتابات الفلسفية والدينية واللاهوتية والسياسية، وخاصة تلك التي تتناول العلاقات الدولية. ومن جانبه يُعرِّف الدكتور/ نصار نظرية الحرب العادلة، بأنها ذلك الإطار الذي يتضمن مجموعة من القيم والضوابط والمعايير التي تحدد في مجموعها ما هو عادل وما هو غير عادل بالنسبة للحرب، سواء على مستوى شنها ابتداءً، أو على مستوى إدارة عملياتها بعد اندلاعها فعلًا( ).
من هنا فإن هذه النظرية تضع القواعد التي ينبغي أن تخضع لها الحروب، وهذه القواعد عبارة عن مجموعة من القوانين الأخلاقية والضوابط القانونية والسياسية، بحيث لا تكون الحرب من أجل العدوان، أو الانتقام. وبهذا المعنى فإنها ترتبط بالمسئولية الأخلاقية، لأنها تبحث في مدى مشروعية الحرب وعدالتها، سواء قبل نشوبها، أو أثناء إدارتها، أو بعد الانتهاء منها بالفعل.
وإذا كانت نظرية الحرب العادلة بمثابة مجموعة من الرؤى والتصورات الأخلاقية والسياسية التي تتناول مدى مشروعية الحرب، أو ما ينبغي أن تكون عليه الحرب، فإنها بهذا المعنى تنتمي إلى مجال الفلسفة، ولذلك يضيف الدكتور نصار أنه على الرغم من أن نظرية الحرب العادلة تبدو للوهلة الأولى وكأنها تنتمي إلى ميدان فقه القانون الدولي إلا أنها في حقيقة الأمر أكثر انتماء إلى ميدان الفلسفة، وإلى ميدان الفلسفة الخلقية بوجه خاص، بل إننا لا نتجاوز الحقيقة كثيرا إذا قلنا: إن أحكام القانون الدولي ذاتها- بافتقارها في أغلب الأحوال إلى القوة التنفيذية التي تكفل تطبيقها بالقوة الجبرية- ماتزال إلى الآن وفي حالات كثيرة أقرب ما تكون إلى الأحكام الأخلاقية التي تحدد ما ينبغي أن يكون، وليس إلى القواعد القانونية الملزمة التي لا تكتفي بتوجيه المخاطبين بأحكامها إلى ما ينبغي من وجهة النظر القانونية، بل تتجاوز ذلك إلى إكراههم متى لزم الأمر على الامتثال لمضمون أحكامها( ).
وهكذا، يتضح لنا أن نظرية الحرب العادلة مصطلح فلسفي أكثر مما هو قانوني، ويرتبط بالفلسفة السياسية وبفلسفة الأخلاق كذلك، ويؤكد الدكتور/ نصار على ذلك بقوله: "إن نظرية الحرب العادلة هي نظرية فلسفية أكثر من كونها قانونية، والواقع أنها هكذا كانت منذ ظهرت إرهاصاتها الأولى في العقائد والفلسفات القديمة، وهكذا ظلت حين تزايد الاهتمام بها في أعقاب الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حروب إقليمية، وهكذا سوف تبقى طالما بقيت الهوة قائمة بين الواقع والمثال"( ).
ويتمثل الجديد في هذه الدراسة المهمة في محاولة الدكتور نصار الوقوف على الأصول الدينية من جانب، والأصول الفلسفية للحرب العادلة من جانب آخر، متعرضًا لبعض الحروب المعاصرة مثل عدوان إسرائيل على مصر وسوريا عام 1967، مناقشًا- بحس نقدي قوي- مدى مشروعيتها وفق المبادئ والقواعد الفلسفية التي تم الاتفاق عليها بين مفكري الحرب العادلة المعاصرين من أمثال "مايكل ولتـزر"، و"دوجلاس لاكي" وغيرهما.
وأخيرًا فإننا وكما أشرنا في بداية حديثنا أننا لم نستهدف- في هذا المقال- أن نعرض لكل الإسهامات التي قدمها أستاذنا الدكتور/ نصار في مجال الفلسفة عمومًا، وفلسفة السياسة والأخلاق والقانون خصوصًا، وإنما أردنا فقط الوقوف على بعض الخطوط العريضة والمعالم الأساسية لفكره الفلسفي ونزعته التجديدية في الفلسفة السياسية. فنحن أمام باحث عميق يمتلك أساليب علمية دقيقة وواضحة في الكتابة، ومفكر كبير في تناوله للأفكار والنظريات الفلسفية، وقد ترك لنا مجموعة من الكتابات المهمة في مجال الدراسات الفلسفية المعاصرة، ناهيك عن ترجماته المهمة في الفلسفة السياسية.
ونعود لنقطة البداية لنقول: إنه يكفيه في نهاية الأمر أنه عاش الفلسفة بروحه وعقله ووجدانه وشخصه، ولم يكن (يتعيَّش) بها، أو يمتهنها كوظيفة أو كحرفة. ذلك أن الفلسفة على قَدر ما تُعطى إجابات، تطرح أسئلة أصعب مما أجابت عنه، ثُم تجعل من السؤال دَيدَنًا وسَمْتًا، وتجعل من الأسئلة هدفًا؛ لا بهدف الإجابة، وإنما بهدف المُتْعَة العقلية، والسُّمُوّ الفكري.

الهوامش:
( ) د/ نصار عبد الله: مقدمة المترجم، ضمن: أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، تحرير: أنطوني دي كرسبني وكينيث مينوج، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الألف كتاب، 1988، ص. 6.
( ) د/ نصار عبد الله: مدخل إلى نظرية الحرب العادلة، القاهرة: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط. 1، 1993، ص. 5.
( ) المرجع السابق، نفس الصفحة.
( ) المرجع السابق، ص. 8.






#حمدي_الشريف (هاشتاغ)       Hamdy_Alsharif#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أزمة التفكير وغَيْبَة العقل النقدي
- -السلطة - الجسد - المقدس-... عرض وتحليل كتاب -دوائر التحريم- ...
- محمود محمد طه.. شهيد الفكر والحرية في السودان


المزيد.....




- تقنية ثورية تقود إلى أول ولادة بشرية حية باستخدام الخلايا ال ...
- جنود من الجيش السوري يصطفون لتسوية أوضاعهم مع الحكومة المؤقت ...
- لماذا توجد بعض أقدم المخطوطات العربية في بريطانيا؟
- كيف برهنت أوكرانيا على يدها الطولى في قلب روسيا؟
- إيران ترفض تشديد الإجراءات على فرض الحجاب.. هل خافت من الاحت ...
- لا يمكن مناقشة تاريخ إفريقيا الحديثة من دون الإشارة إلى مؤتم ...
- زعيم المعارضة التركية يهاجم ترامب وأردوغان بسبب -رسالة العار ...
- مستر بيست يستأجر الأهرامات المصرية لمطاردة الأشباح وصيدها
- ريابكوف: رغبة -الناتو- في التوسع تتعارض مع التسوية في أوكران ...
- وسائل إعلام: عائلتا البرغوثي وسعدات تنفيان الموافقة بالإفراج ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - حمدي الشريف - د. نصار عبد الله؛ العَاشِق والمُحِبّ للفلسفة