|
التاريخ الاجتماعي لمدينة غزة تحت الاستعمار البريطاني (1917-1948)
فيليتسيا البرغوثي
الحوار المتمدن-العدد: 6371 - 2019 / 10 / 6 - 22:02
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
التاريخ الاجتماعي لمدينة غزة تحت الاستعمار البريطاني (1917-1948) فيليتسيا البرغوثي. I. مقدمة. أراد ابن غزة، أستاذ علم الاجتماع في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت، الدكتور أباهر السقا أن يعيد الاعتبار لمدينته، مدينة غزة، ولمكانتها الاجتماعية في التاريخ الاجتماعي الفلسطيني، ليكشف عن واقع غاب عن الوعي العام الفلسطيني، بسبب تراكم الأزمات والخيبات السياسية التي حلت تاريخيا على المجتمع الفلسطيني بشكل عام وعلى غزة بشكل خاص. فتلك إحدى مهام الأكاديمي الهامة، أن يزيل "الضباب" الذي تكاثف في الوعي البشري عن كثير من التصورات والوقائع المجتمعية "المغلوطة"، خاصة تلك التصورات "الدخيلة" على هذا الوعي، التي تراكمت بفعل عوامل خارجية، لتنتزع مشهدا وتستبدله بمشهد آخر مغاير. مهمة مجتمعية إن صح التعبير، تكمن مرة أخرى في إزالة وتصحيح ما تبخر من خطابات غير دقيقة وترسب من قناعات جردت الحالة الأصلية من أصالتها، لتفرمت ذاكرة وتستبدلها بذاكرة أخرى. مدينة غزة في نظر السقا، كبقية المدن الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق بحياتها اليومية، وعاداتها وتقاليدها الاجتماعية( السقا 2018 ،ص 195-207). إلا ان الحكم على المدينة وتمثلاتها في المخيال الفلسطيني و ربما العربي العام ، قد شُوه بفعل طغيان السياسي وتلاحق الأزمات. فمدينة غزة لم تكن تاريخيا بائسة، أو فقيرة كما هو واقعها الآن، على العكس تماما، فقد كانت مدينة ثرية بمواردها المتنوعة ومصادرها البنيوية وإرثها التاريخي والمعماري، ولكنها سلبت تدريجيا من عناصر كينونتها ومن "مجدها " وسبل ووسائل رفاهيتها، وذلك بفعل الأزمات السياسية الكثيرة التي حلت بالمدينة ونتجت عن صراعات متنوعة الأطراف والاهداف. ومن هذا المنطلق يحاجج السقا، في أن تلك المدينة سلبت تدريجيا من عناصر كينونتها، من هويتها ومن إرثها التاريخي والمعماري أو سلبت تدريجيا من معظم العناصر التي كانت حاضرة بقوة وشكلت لأزمان طويلة "مجد" المدينة وسبل ووسائل رفاهيتها التي بدأت في الحقبة العثمانية واستمرت حتى فترة الانتداب البريطاني(1920-1948).
II. المنزلق الأساس: نكبة 1948 مرحلة مفصلية هامة يطرحها الكاتب، ويعتبرها نقطة تحول أساسية في حياة المدينة، وبداية "لطمس" كثير من المعالم "المدنية" والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتنموية في حياة المدينة، ألا وهي نكبة عام 1948 التي أحدثت حسب ما يورد الكاتب، تغيرات "دراماتتيكية" مأساوية على حياة المدينة انعكس صداها بشكل واضح على المركبات "السوسيو اجتماعية" وذلك تبعا للعدد الهائل من المهاجرين الذي توافد آنذاك من المهم التوضيح أن الكاتب لم يقلل في صفحات كتابه من شأن النكبة وتبعياتها المأساوية على بقية المجتمع الفلسطيني، حيث كان حريصا أن يظهر للقراء أن مدينة غزة.لم تختلف قبل نكبة عام 1948 بشيء عن أي من نظيراتها من المدن الفلسطينية كرام الله ونابلس وبيت لحم، الخليل، وغيرهم، إلا بحجم المأساة التي حلت على أرضها. فهي أولا واخيرا، جزء لا يتجزء من المجتمع الفلسطيني ، إلا أن وقوع النكبة أل إلى "انزلاق" المدينة لمسار أكثر بؤسا عن غيرها من المدن الفلسطينية، نظراً للأعداد الهائلة من المهاجرين الذي اكتسح المدينة، مقارنة بالإعداد التي هاجرت لمدن فلسطينية أخرى. "لم تستقبل أي مدينة فلسطينية العدد الهائل من المهاجرين الذي استقبلته غزة." من ناحية أخرى لم يرفع الكاتب من شأن مرحلة الاستعمار البريطاني، ليظهر لنا أن هناك امتيازات وسمت مكونات المدينة في ظلها، بل أرود بشكل واضح ومباشر وأكد مرارا وتكرارا ان الفترة البريطانية كانت فترة استعمارية، وانطبقت عليها سمات الحالة الاستعمارية بحذافيرها كما سنرى لاحقا. وهنا مفصل هام يريدنا الكاتب الانتباه إليه ، كمدخل هام للتحليل، ، قد يولد هذا الافتراض جدلا هاما، خاصة في ظل غياب أو قلة الدراسات المماثلة لمدن فلسطينية أخرى، وربما في ظل غياب احصائيات دقيقة أو وجود احصائيات تقديرية عن الاعداد التي هاجرت لغزة مقارنة بما هاجر لمدن فلسطينية أخرى، إلا أن كثير من الاحصائيات الصادرة عن مراكز مختلفة كالجهار المركزي للإحصاء الفلسطينين أشارت إلى ان ما نسبته 24% من إجمالي المهاجرين هاجر لقطاع غزة، مقارنة بما نسبته 17% هاجروا الى مدن أخرى في الضفة الغربية والبقية إلى الدول العربية المجاورة. ولتوضيح ما نعنيه بغياب الدراسات الممائلة، فقد أظهر السقا أن الدراسة ليست الأولى من نوعها، لكنها الوحيدة من حيث نوعية المقاربة. برأيه، ثمة جانبا أو "تاريخا اجتماعيا " أهمل في الدراسات السابقة، فجاءت تلك الدراسة لتغطي هذه الفجوة البحثية، من خلال تبني "مقاربة" (سنشير لها لاحقا). مختلفة عن تلك المقاربات التي تبناها باحثون آخرون. لكن ما يشهد عليه أن تلك المقاربة ألت إلى ميلاد هذ مؤلَفٍ ومصدر هام للبحث العلمي، جاء في 324 صفحة، تحت عنوان: " غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني"، حيث اتخذت مؤسسة الدراسات الفلسطينية على عاتقها نشره هذا العام 2018، كجزء من سلسلة المدن الفلسطينية، التي حرصت المؤسسة على إصدارها، بحيث يكون كتاب السقا الرقم السابع من كتب تلك السلسلة.
III. مدينة غزة عثمانيا وبريطانيا الواقع السياسي كان وما زال يطارد أو يلاصق المدينة منذ قيامها، وكأنه "قدرها" إلا أن هذا "لقدر" إن دل على شيء فهو يدل برأي الكاتب على ذاك المخزون الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والفني والأهلي والعمراني الذي جعل تلك المدينة تحت الأنظار دائما، خاصة أنظار القوى المستعمرين، والقوى الاجنبية التي لم تتوقف عن صراعاتها منذ الحقبة العثمانية للاستيلاء والسيطرة على المدينة. ناهيك ان موقع المدينة، "كبوابة" لفلسطين على العالم، زاد من الاطماع المحلية والاجنبية في التنافس والتصارع على إدراتها كما يورد الكاتب. تلك الصراعات، زادت من تعقيدات التركيبة والعلاقات الاجتماعية وجعلتها عرضة لكثير من الجدل. مثلا في الفترة العثمانية -كما أرود السقا- أخضعت المدينة لكثير من التقسيمات السياسية والجغرافية، وحظيت سياسيا .بمسيات كثيرة مثل لواء" ومن ثم "سنجقا"، "متصرفية" "متسلمية" ثم "قائمقامية"، والمدينة في تلك الفترة تغيرت حدودها ومساحة وحجم نفوذها، والمدينة وأكثر من ذلك يورد السقا ما يلي " ...وجعل(ها) حسين باشا سنة 1660 ... عاصمة لفلسطين" (السقا 2018، ص 30) حقبة الاستعمار البريطاني، فرضت أيضا الكثير من التغيرات التي زادت من تعقيد الواقع المقد أصلا، لا سيما، أن تلك الحقبة كما ذكر سابقا، جاءت امتداد او استكمالا أو "إرثا" للحقبة العثمانية التي بدأت خلالها، في نظر السقا، تظهر تمثلات عائلية ووجاهات وأنماط سلطة اجتماعية (خاصة من الأثرياء) الذين كان لهم مصلحة في إدارة شؤون المدينة، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. وهذه محطة هامة من حياة المدينة، بمعنى هذا "الوعي" المبكر بتحويل تلك المدينة لمدينة "ثرية" تكثر فيها العلاقات التجارية، ويتزايد منسوب اقتصادها وخدماتها وتتواجد فيها فئة حريصة على زيادة ثرواتها عن طريق تملك أكبر للأراضي، وبالتالي التطلع نحو بناء أو صعود "برجوازيات" محتملة ربما بالمفهوم الماركسي لصعود البرجوازيات الكبيرة والصغيرة، مع فارق غيبا النظام الرأسمالي كمحدد لحياة الناس. إذا المدينة لم تتوقف يوما من أن تكون موضوعا للصراعات السياسية بين الكثير من القوى الكبيرة خاصة في الفترة العثمانية ،(ص 31) ، وهذا ما ما يفسر برأي الكاتب تأسيس العديد من الممثليات في مرحلة مبكرة، كالممثلية الفرنسية. صراعات أثرت سلبا على العلاقات التجارية لتلك المدينة ومدن فلسطينة خاصة مع الدول المجاورة. صراعات ألت لتعرض المدينة للكثير من الدمار والخراب وبعض المجازر التي قام بها العثمانيين أو الجنود الأتراك، مما أفقدها الكثير من "إرثها المعماري" حسب ما أرود الكاتب. إلا أن المدينة في تلك الفترة حظيت بإصلاحات كثيرة قامت بها السلطات العثمانية (34) . والمدينة استقطبت حضورا فرنسيا كبيرا تبرر وجوده ب"حماية المسيحيين في الشرق" (ص 33)، تلك الحماية التي يرى السقا، أنها كانت "حجة" لتنازع قوى كبيرة أوروبية مع السلطات العثمانية. وفي تلك الفترة، يقول السقا، سمح للأجانب بالتملك في المدينة، وبالتالي تشكلت طبقة من البرجوازية، وبدأت تتراكم الثروة في أيدي "نخبة" صغيرة من المقتدرين ماليا على شراء الأراضي وبالتوالي بدأت الفوارق الاقتصادية والطبقية بالظهور. كما بدات تتسرب أراض كثيرة لليهودة، كما أشار الكتاب. ورغم تراجع العلاقات التجارية في تلك الحقبة، إلا ان الكاتب أشار إلى مفارقة هامة، وهي أن الحقبة العثمانية، تركت غزة منفتحة على محيطها الاقليمي العربي، (ص261) بفعل زخم العلاقات التجارية والسياسية والاجتماعية خاصة بين المدينة وإقليمها المجاور. على عكس ما كان في الحقبة العثمانية، يشير الكاتب، أن حقبة الاستعمار البريطاني، جاءت - "لتقنن" الحدود و "تقيد" حركة المواطنين، أي جاءت لإغلاق ما تركته "السلطات العثمانية" مفتوحا، وبالتالي فرض أنواع سلطات وعلاقات مختلفة وجديدة على واقع المدينة. أما العلاقات العائلية والوجاهات التي بدأت في الفترة العثمانية، فقد استمرت في حقبة الاستعمار البريطاني، رغبة من بعض الشرائح الاجتماعية في فرض نفوذها وبالتالي التحكم في إدارة المدينة عبر استناد تلك الشرائح المجتمعية على عدد من "المشرعات" الدينية والسلالية او علاقات النسب"(ص 262). إلا ان الهدف انتاج نظام تدير من خلاله هذه العائلات شؤون المدينة، لكنه جاء لخدمة مصالحها الخاصة أو الخاص بحجة العام.
IV. حالة استعمارية وليس انتدابية. الفترة التي استهدفها الكاتب هي حقبة الاستعمار البريطاني، وهنا لفت السقا الأنظار إلى حقيقة هامة ربما يجهلها الكثيرون، وانا منهم، ، لأخذنا بالمسيات التي تلقى علينا دون أدنى تمحيص. وربما يسجل للكاتب الأسبقية في خلق هذا النوع من الوعي والخطاب، حيث أفرد مساحة لا بأس بها من كتابه للتفريق بين مصطلحي "انتداب" "واستعمار" . فلا يمكن إنكار أن معظمنا، نتداول "أباً عن جَد" انتداب حين نوصف تلك الفترة، أو حين نريد توصيف الظرف السياسي الذي خضع له المجتمع الفلسطيني في الفترة التاريخية المذكورة. إلا أن للسقا رأي آخر هام واكثر دقة. ( أنظر السقا، 2018، ص 15) .ففي نظر السقا، خصعت مدينة غزة كبقية المجتمع الفلسطيني لحالة استعمار وليس" انتداب"، وافتراضه هذا قائم بنظره على انتفاء "الشرط القانوني لفرض الانتداب"( ص 16). يرى السقا - وأعتقد أن الكثيرون يتفقون معه في هذا - أن التوصيف الأدق لتلك الحقبة هو استعمار، لأن تداول كلمة انتداب يعني بشكل مباشر وغير مباشر، تهذيبا مقصودا وربما ممنهجا من قبل المستعمِر البريطاني للمهمة الاستعمارية التي قام بها هذا المستعمِر في تلك الحقبة. فمثلا يرى السقا أن هذا السمتعمِر، تحت مسمى انتداب قام على سبيل المثال لا الحصر، بخدمة المشروع الصهيوني عبر ما يسمى "إعلان وعد بلفور". الإعلان المشؤوم الذي مهد للاستعمار الصهيوني لفلسطين فيما بعد. من ناحية ثانية وفي نفس السياق، أشار السقا أن الالتزامات القانوينة والفكرية و حتى الأخلاقية التي من المفترض أن تلازم قانونيا وأيديولوجيا وأخلاقيا، حالة الانتداب لم تكن حاضرة أو كانت مغيبة تماما. من ناحية ثالثه يقول الكاتب، إن هذه الحالة انطوت على كثير من "التصورات والممارسات الفوقية والعنصرية " من قبل المنتدّب" أو الممستعمِر، بمبرر بث روح "الحضارة أ و"تحضير" الفلسطيني والغزاوي. (ص 17). " ...إن غياب الحضور السكاني الاستيطاني البريطاني المكثف، وحصره في الجيش والموظفين الإدرايين وبعض المجموعات البريطانية، لا يعني أن الحالة التي عاشها المجتمع الفلسطيني لا تنظبق عليها الأوضاع الاستعمارية، فالاستعمار البريطاني جعل من الأرض المنتَدب عليها أرضا لاستعمار واستيطان من مجموعات سكانية-إثنية مغايرة للمجموعات الأصلية-وهو أعطاها الحق وسهّل حضورها، وشرعن وجودها عبر وعد استعماري لأرض لا يمتلكها، وطبق سياسية استمرت ثلايثن عاما من الهجرة اليهودية المستمرة" (ص19-20)
V. مقاربة اجتماعية تنطلق من الميدان اليومي "الذاتي" و "الجماعي" "التاريخ الاجتماعي" همش لفترات طويلة، ربما لغياب غير مقصود، لعلماء الاجتماع عن واقع تلك المدينة، غياب البحث الذي ينطلق من الأرض أو الميدان ليرمم المشاهد التي "عفى عليها الزمن" لن اتطرق إلى قضايا فنية من نوع مثلا لماذا اختار الكاتب ان يتحدث عن المدينة لا عن القطاع، فقد استوفى السقا شرح هذا البند في بداية كتابه، (أنظر/ي الفصل الأول من الكتاب ص 11-15) إلا ان اختياره للمدينة كما يقول اختصر عليه فرصة الوقوع في "متاهات" التصنيفات التي سببتها التقسيمات الجغرافية والسياسية المختلفة التي خضع لها القطاع في فترات تاريخية معينة، وبالتالي فإن اقتصار البحث على المدينة، جاء نابعا من قناعة الكاتب بأنه لا يجب التعامل مع قطاع غزة "كما لو انه مدينة واحدة". فالتحليل "السوسيولوجي" كما يشير السقا، يتطلب وجود مسافات تفصل جغرافيا تاريخ المدينة ومكوناتها الاجتماعية عن غيرها من المدن والمواقع الجغرافية الواقعة في نفس الدائرة الجغرافية. "التاريخ -الاجتماعي" حسب السقا، يعنى بقراءة اليومي والفردي والجماعي، الذي نجح السقا في الكشف عنه من خلال دراسة مكثفة وتفصيلية لبعض "التراجم" "كالمناقب" والأخبار" او السير الذاتية و "الطباع"،. (ص 11-14).. من هنا و تيمنا بعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930-2002) اختار السقا ان تنطلق مبادرته من الميدان الذاتي واليومي والفردي والجماعي للمجموعات السكانية، حين استند في الحصول على معلوماته بشكل كبير، وحسب ما أرود على أرشيف الأهالي والأرشيف البريطاني والفرنسي وأرشيف بلدية المدينة، قدم لنا الكتاب من خلالها قراءة للتاريخ الاجتماعي للمدينة مستقبا من مما كان سائدا من تفاعلات وممارسات يومية بين المركبات الاجتماعية المختلفة ، "كالتركيبة السوسيو اقتصادية" للمدينة، والتركيبة التعليمية والثقافية ، و "عادات المدينة الاجتماعية"، والإنماط الاستهلاكية" والبنى الدينية وعلاقات الطوائف المختلفة، والبني و"الحراكات السياسية" الخ: "هذه القراءة هي جزء من الاهتمام التخصصي السوسيوتاريخي الذي يقوم على إعطاء دور مهم لتاريخ العلاقات الاجتماعية والأشكال الاجتماعية وعلاقات القوة" (ص 24)
VI. غياب "الحداثة" المٌستحقة دونا عن نظيراتها من المدن الفلسطينية، كيافا وحيفا، غابت فكرة الحداثة عن مدينة غزة رغم وجود ميناء هام فيها، ولكن هذا الميناء غزة بقي"مبتورا" كما وصفه السقا ، وغير مؤهل "بسب عدم تطور مرفأ المدينة" من شأنه أن يعمل بشكل دائم على تطوير وتفعيل أو تنشيط حركة التجارة (265). ومن هنا، يرى السقا، أن هذا الإهمال لتطوير المرفأ، أفقد المدينة الكثير من الامتيازات "الحداثية"، بل أقصى المدينة تماما عن موضوع الحداثة، الذي استحق لمدن اخرى طورت مرافئها. "البنى الخدماتية" في تلك الفترة،كالمياه، والإنارة ووسائل التنقل، كانت وافرة، وعليه فإنه من الخطأ الحكم على مدينة ثرية بمواردها ووصفها بمدينة الفقر والبؤس. فوفرة المصادر، كانت كفيلة بوضع غزة في مستوى اقتصاد لائق أو مقبول، على غرار كثير من المدن الفلسطينية. رغم أن الفروقات الطبقية أو الاجتماعية كانت عالية جدا في المدينة، وذلك بسبب سيطرة شرائح سكانية وامتلاكها للأراضي ورغبتها في إدارة شؤون المدينة كما ذكر سابقا ( ص 153-173). " لم تعان غزة تاريخيا يوما في تلك الحقبة من مشكلات في مواردها المائية" (ص 153) من ناحية ثانية، لفت السقا النظر إلى حقيقة هامة تتعلق "بالتغيرات الحضرية" التي طرات على تلك المدينة في الحقبة المدروسة، خاصة بعد ان فقدت المدينة خلال الفترة العثمانية الكثير من إرتها الحضاري (131-134). دور الأهالي في عملية التنمية المحلية للمدينة كان طاغ خاصة في إعادة عمران مدينة غزة مثل فتح شوارع جديدة وإصلاح أخرى وإنشاء أحياء جديدة والمبادرة بترقيم تلك الشوارع. إضافة إلى دور البلدية في تغيير نمط العمارة الداخلية" (140) مما ساعد على توسع حدود المدينة وازداد عدد سكانها بفعل عودة اللاجئين اليها (145). ناهيك عن اهتمام البلدية بالبنى التعليمية في تلك الحقبة، مثل بناء واصلاح المدارس. (179ص-182). أما "البنى الثقافية" في تلك الفترة فبدت تمثلاتها واضحة من خلال ظهور دور فاعل للصحافة، وللمكتبات وللنوادي الترفيهية والرياضية ولدور السينما وغير ذلك. أما الحياة الاجتماعية "الحياة اليومية" لأهالي مدينة غزة فقد كانت مطابقة- برأي الكاتب_ للحياة اليومية لأهالي المجتمع الفلسطيني بشكل عام، حيث سادت نفس العادات الاجتماعية وكانت تقام نفس المقامات والمواسم وتمارس نفس طقوس التدين، ونفس طقوس علاقات المصاهره والزواج (195-207)
VII. "ما تبقى" من غزة لا نبالغ القول بأن الكتاب يأخذنا في رحلة ممتعة إلى عوالم مدينة غزة في فترة الانتداب أو الاستعمار البريطاني (1920-1948). رحلة "دسمة" على "متن" الكثير من السرديات والحكايات والمقابلات والتفاصيل والملاحق والمراسلات الهامة، بل وأسماء الكثير من الشخصيات التي كانت فاعلة في تلك المرحلة. متن رصين، ، يشير أولا واخيرا إلى جهد بحثي عال، كشف عن زخم اجتماعي أسس للحياة اليومية للمدينة في الفترة المدروسة، وأعاد الاعتبار لمدينة ضاربة جذورها عبر التاريخ وعبر القِدم، كواحدة "من أقدم المدن في التاريخ" (السقا، 2018 ص 25) إن المهين على أجواء هذا الكتاب، هوتسليط الضوء على كيف تم تهميش الاجتماعي الأصيل من حياة تلك المدينة لصالح السياسي المفتعَل، عبر تقليب مكثف للعديد من الأراشيف (ارشيف فرنسي، بريطاني، ارشيف بلدية المدينة وغير ) واستخلاص معرفة كانت حبيسة لوثائق أدرجت على الرفوف لقرون عدة. أراشيف كثيرة، وتراجم ومناقب وسير ذاتية ومقابلات، حرص الكاتب من خلالها على رصد دقيق وأحيانا تفصيلي لكافة المكونات والبنى التي وسمت حياة المدينة في الفترة المدروسة. فالتاريخ الاجتماعي لمدينة غزة مكون أصيل وأصلي حضر بقوة في حقبة الاستعمار البريطاني، خاصة ما بقي منه أو ما "تورَث" أو "ترحَلَ" من الحقبة العثمانية، واستمر فيما ما بعد من خلال ما اسسه الأهالي والعمل المحلي الجماعي من عمران وتنمية لتلك المدينة الضاربة جذورها في "عبق التاريخ"، وعبر القدم. تاريخ المدينة الاجتماعي في الفترة العثمانية، وجد بحثا أكاديميا يرصده، وبقي حالها تحت الاستعمار الصهيوني، وليدا للمحطات الاخبارية ووسائل الإعلام التي تتصارع على فرض أجدنتها السياسية الخاصة بها، في وقت نحن أحوج فيه للبحث عن ما ماكان وعن ما تبقى من مدينة غزة اجتماعيا وعمرانيا واقتصاديا كما فعل السقا. هل سلخ الاستعمار الصهويني ما تبقى من إرث حضاري للمدينة ، وهل هدم ما توراثته الأجيال من بني تحتية وثقافية وا جتماعية وفنية، وهل ما حل بمدينة غزة الآن يحيل إلى "حضارية" الاستعمار البريطاني مقارنة بالاستعمار الصهيوني . ما الذي تبقى من مدينة غزة وقطاعها غير صور القتل والدم والمجارز والهدم . وما الذي تبقى منا ومن مدراسنا ومناهجنا لنعيد ترميم المشهد في الذاكرة الفلسطينية، ولنصحح ما شوهه السياسي "المفتعل".
#فيليتسيا_البرغوثي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطاهي الداهي
-
على هامش اللقاء الذي أجرته فضائية الميادين مع أحد الدواعش
-
رمزية الفنانة فيروز في الثقافة الفلسطينية.
-
-فوضى- الحب في انضباط القلب
-
مايا أنجيلو: الأيقونة السوداء
-
روح المعنى
-
الطلق والطلَق
المزيد.....
-
-العين بالعين-.. كيف سترد الصين على أمريكا بعد فرض ترامب رسو
...
-
ساعة رونالد وثمنها بلقطة مع تركي آل الشيخ بحلبة UFC
-
دراسة صادمة .. الأرض قد تحتوي على 6 قارات فقط!
-
قوانين جديدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي تدخل حيز التنفيذ في ا
...
-
تسع دول تشكل -مجموعة لاهاي لدعم فلسطين-
-
وفاة الرئيس الألماني الأسبق هورست كوهلر
-
مهاجم مدرسة قازان أراد تدميرها بالكامل
-
دراسة جديدة تفنّد الفرضيات السابقة حول علاقة صحة الأم باضطرا
...
-
من السلطان سليمان إلى أردوغان: تطور الاستخبارات في تركيا
-
عصر القطب الواحد انتهى – ماذا ستفعل الولايات المتحدة؟
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|