|
السرد الفلسفي للحياة الطبيعية عند ابن طفيل
زهير الخويلدي
الحوار المتمدن-العدد: 6364 - 2019 / 9 / 29 - 01:52
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
"قد ثبت في علوم التعاليم بالبراهين إن الشمس كروية الشكل وان الأرض كذلك"1 يعتبر ابن طفيل فيلسوفا ساردا وتعد قصة حي ابن يقظان سردا فلسفيا تاما وليست مجرد قصة أدبية ، فهي تضم شخصيتين سرديتين رئيسيتين هما أبسال وسلامان وثيمة سردية كبرى هي الحياة في الطبيعة ممثلة في جزيرة منعزلة وتتكون من بنية سردية ومن أسلوبين في الحكي هما أسلوب النظر العقلي وأسلوب الرمز الوجداني وتستهدف إثبات غائية وجودية وهي الانسجام السعيد بين الإنسان وغيره ونظام الكون. ينطلق السرد الفلسفي للطبيعة بالتطرق إلى تولد الإنسان من غير أب وأم في بعض الجزر النائية وهي إشارة إلى فكرة النشوء والارتقاء التي أصبحت تعني فيما بعد في علوم الأحياء والطبيعة فكرة التطور، وينتقل إلى الحديث عن الأرض من حيث هي كروية الشكل وهو ما ينتافى مع النظرية القديمة التي ترى بأنها مسطحة ومنبسطة، ويشرع في وصف عملية تولد حي حينما تخمرت طينة وتعلق بها جسم هوائي لطيف يسميه بالروح، فيتكون فيه القلب وبعد ذلك الدماغ ثم الكبد فيتساوى بذلك الطفل المتولد من الطينة والطفل الخارج من رحم أمه، ويقص بعد ذلك كيفية تربيته واكتسابه اللغة من خلال محاكاته أصوات الحيوانات وظهور القوتين الضروريتين لكي يتصل بالعالم ويشعر به وهي القوة النزوعية والقوة المتخيلة. تبدأ رحلة الوعي لدى الإنسان في بحثه عن طرائق للحماية من البرد والحرارة وامتلاك شيء للدفاع عن النفس ولذلك فقد فكر في اتخاذ ريش النسر ثوبا، ثم صنع من أوراق الشجر ثيابا ومن أغصانها سلاحا. بعد ذلك قام بتشريح جثث الحيوانات لكي يتعرف عن المخفي داخلها ولكي يذهب من الظاهر إلى الباطن والمظهر إلى الجوهر وبدأ بالرئتين والقلب واكتشف بالإدراك والحركة الحياتية الموجودة في القلب الأيسر وانتهى إلى تحديد الجسد بكونه مجرد آلة للروح معرض للعطب ويستمر في البقاء بعد الولادة و ولكنه أثناء الوفاة يدثر ويعود إلى الأرض، ولقد احتاج أن يعرف كيفية الدفن تحت التراب من الغراب والى إدراك النار من مشاهدة احتراق أعواد الأشجار بفعل سقوط الصواعق والزوابع عليها أو احتكاك أحجار الصوان واستعملها في شواء اللحوم وطهي الطعام وانتهى إلى التيقن من تعريف الروح بكونها هواء بخاري حار من جوهر النار وأدرك بالتجربة أن الإنسان متكثر بأعضاء جسده ولكنه واحد بروحه واهتدى إلى وجود اتصال وثيق وعلاقة متينة بين الروح الذي في القلب وبين الدماغ وأعضاء الحواس. علاوة على ذلك شعر بالحاجة إلى استعمال بعض الأدوات بيديه واستخدام الآلات للاندراج في الطبيعة ، فقام بتدجين الحيوانات والاستعانة بها والاستفادة من قوتها وأخرجها من حال الوحشية إلى وضع الأهلية. غير أنه ما لبث أن انتقل إلى البحث عن معرفة عناصر عالم الكون والفساد من جماد وتراب وكائنات حية في سكونها وحركتها سواء أثناء ولادتها وتشكلها أو تحللها واهتدى إلى التمييز بين ما يوجد فيها من نباتات وحيوانات وجبال وأودية ومياه وأنهر وبحار وسوائل أخرى وأغذية وأحجار ودخان وهواء وبخار. على إثر ذلك ينطلق في معرفة العالم الروحاني، فيقوم بالتفريق بين النفس الحيوانية والنفس النباتية ويحدد طبائع الجماد ويرى أن الأجسام تتركب من المادة والصورة وأن النفس الحيوانية صورة الروح الحيواني بينما النفس النباتية هي صورة الروح النباتي ويؤكد على أن الطبيعة هي خاصة الجمادات وأن من مهام النفس النباتية هي التغذية والنمو والتولد ومن مهام النفس الحيوانية هي الإحساس والإدراك والحركة. زد على ذلك يفهم أن العناصر الأربعة: الهواء والنار والتراب والماء هي أبسط الأجسام وأن معنى الجسمية يعود إلى الامتداد الذي يتكون من الطول والعرض والعمق وأن معنى الصورة يعود الى الهيولى. ثم ينتبه إلى ضرورة الخوض في مسالة علل حدوث الأشياء ويصعد من الحوادث إلى المحدث ويفتش في مبدأ السببية ويفترض وجود محدث للصور لكي تعاود الظهور على الأجسام يستند على وجود سبب أول. يقوده هذا التفكير في الأسباب إلى دراسة العالم السماوي ويدرك أن الأجرام متناهية وليست لامتناهية كما كان يظن علماء الفلك القديم لأن الحركة الدائرية المطلقة والكاملة وبحكم الرفعة بالدرجة والسمو بالجوهر ويقوم بالبرهنة على تناهي الأجرام ويستنتج من ذلك أن السماء كروية الشكل وتتكون من نجوم وكواكب. غير أنه لم يجب على سؤال خطر بباله وهو هل العالم حديث أم قديم؟ ولم يقدر على ترجيح أحد الحكمين على الآخر وتفطن أنه يلزم عن القول بالحدوث أو بالقدم الإقرار بوجود علة أولى وسبب أول وقوة مطلقة، فالحدوث يحتاج إلى محدث وتحريك القديم يحتاج إلى محرك أقدم منه واستنبط من ذلك وجود الله وبحث في ذاته وصفاته وعلمه ومعرفته وقدرته وعلاقته بالعالم المادي وعلاقة عقله بالعقل الإنساني. لقد قدم من أجل إثبات وجود الله دليل الصنع الذي يقر بأن الموجودات تحتاج إلى فاعل يوجدها ولكن الفرق بينهما يكمن في أن العالم متأخر عن الله بالذات لا بالزمان ، وقدم أيضا دليل النظام والتصميم وهي الغاية من وجود الله طالما أن الله كامل ومنزه عن النقص ومن علامات كماله أن الموجودات فاضت عن ذاته. لقد حكى أن الإنسان لا يدرك الله بواسطة بالحواس لأن الأعضاء الحسية لا تدرك سوى الأجسام بينما الله ليس بجسم ولذلك يدرك بواسطة الذات التي تتصف بالخلود وهي أشرف من الجسم ولا تفسد بفساده ولا تحل فيها صورة جديدة مكان صورة قديمة وإنما يتراوح إدراكها بين القوة والفعل وبين الزيادة والنقصان. على هذا الأساس نصح بأن تتعرف الذات على موجدها قبل الموت لكي تشتاق إليه وتصير إلى السعادة الأبدية من خلال مشاهدتها له وتحقق بذلك كمالها ولذتها المعنوية، والإنسان من دون سائر الموجودات مثل النبات والحيوان والجماد يعرف الله بواسطة روحه لأن الجوهر الإلهي لا يفسد ولا يدرك بالحواس. لقد أدى السرد الفلسفي للحياة الطبيعية الذي مارسه ابن طفيل في حي بن يقظان إلى عدد من النقاط الهامة وجملة من العبر التاريخية والدروس الفلسفية التالية: - إجراء نقد فلسفي شامل للكثير من الأفكار العلمية الخاطئة التي قال بها من سبقه من الحكماء العرب وخاصة الفارابي في قوله ببقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها وتحفظ على كتاب الشفاء لابن سينا الذي جرى فيه على مذهب أرسطو ودعا إلى اعتماد كتاب الفلسفة المشرقية وتعجب من مخاطبة الغزالي للجمهور في الكثير من رسائله وتكفيره للعلماء ونصح بعلم المكاشفة الذي تحدث عنه في كتاب المشكاة ، ورفض تصوف ابن باجة وما نسبه للحياة الطبيعية. - تأكيد معنى الجسمية في أصل الحياة من خلال إبراز أهمية الامتداد بقوله: " فعلم أن هذا المعنى هو للجسم من حيث هو جسم لكنه لم يتأت له بالحس وجود بهذه الصفة وحدها ، حتى لا يكون فيه معنى زائد على الامتداد ويكون بالجملة خلوا من سائر الصور" . "فرأى أن الامتداد وحده لا يمكن أن يقوم بنفسه ، كما أن ذلك الشيء الممتد لا يمكن أن يقوم بنفسه دون إمتداد" . - القول بكروية الأرض وتناهي الأجرام السماوية بقوله:" فعلم أن السماء وما فيها من الكواكب أجسام ، لأنها ممتدة في الأقطار الثلاثة: الطول والعرض والعمق. ثم تفكر هل هي ممتدة إلى غير نهاية وذاهبة أبدا في الطول والعرض والعمق إلى غير نهاية، أو هي متناهية محدودة بحدود تنقطع عندها ولا يمكن أن يكون وراءها شيء من الامتداد" . - قوله بحدوث العالم ولو من جهة الإمكان وليس من جهة الزمان ورفضه فكرة قدم العالم التي تسربت من الفلسفة الأرسطية وهو ما يؤدي إلى القول بإمكانية انتهائه وزواله وتناهيه. - اعتباره بأن طريق السعادة والنجاة والفوز يكون بالكف عن العزلة والانفراد من أجل محاسبة النفس ومجاهدة الهوى وتفضيل المعاشرة وملازمة الجماعة والمدنية بقوله: كانت ملازمة الجماعة عنده مما يدرأ الوسواس ويزيل الظنون المعترضة ويعيذ من همزات الشياطين" . - تطرقه إلى الضروري في البقاء بالنسبة للنبات والحيوان والإنسان وهو ما يعني الرغبة في حفظ الكيان والتشبث بالحياة واستعمال كل القوى المتاحة في سبيل الدفاع عن النفس واثبات الذات. - أوجد حلا إجرائيا حول ثنائية الفلسفة والدين بتنزيله ضمن ثنائية الحياة الطبيعية وعالم الآخرة وقوله بالتوازي بين طريق النظر العقلي وطريق الكشف الذوقي ووصولهما إلى منبع الحق عينه ورأى بإمكانية تطابق المعقول والمنقول على صعيد المبدأ والغاية وألزم نفسه بالفهم والتأويل عند كل تعارض واختلاف بين النص والفكر والواقع ولذلك جعل من الوحي والعقل والطبيعة مسالك للمعرفة. لقد خلص ابن طفيل قصة حي بن يقظان من جوانبها الاشراقية وأبعادها التخيلية التي ضمنها كل من ابن سينا والسهروردي وركز فيها على أركان الحياة الطبيعية والطرق الدنيوية وضمنها جملة من المناهج التربوية لبلوغ السعادة وتمكين الإنسان من الارتقاء من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية ولقد استأنف ابن النفيس هذا التمشي وأعاد كتابتها بصورة طبية بحيث أثرت في جون لوك وروسو وظهر ذلك جليا في رواية روبنسون كروزوي التي ألفها دنيال ديفو وفي قصة ماوكلي فتى الأدغال وخاصة شخصية طرزان. لكن لماذا انتقد ابن طفيل العامة واعتبر أنه لا سبيل للجمهور إلى حكمة ولا طاقة له على المكاشفة وأنهم إذا حملوا على تلك الصناعة الشريفة تاهوا وأن دفعهم إلى الكلام والجدل لا يزيدهم إلا ضلالا وعراكا؟ وكيف عمل على ألجامهم عن علم الكلام وحرمهم من الفلسفة وتركهم بين علوم الدين والطريقة الصوفية؟ ألا تعد قصة حي بن يقظان دليلا بيداغوجيا بامكانه أن يطور هوية سردية ضمن جدلية الواحد والمتعدد؟ الهوامش والاحالات: [1] محمد ابن طفيل، حي بن يقظان، تقديم وتعليق علي بوملحم ، دار ومكتبة الهلال، بيروت، طبعة أولى، 1993. ص43. [2] محمد ابن طفيل، حي بن يقظان، نفس المصدر، ص77 [3] محمد ابن طفيل، حي بن يقظان، نفس المصدر، ص77 [4] محمد ابن طفيل، حي بن يقظان، نفس المصدر، ص81. [5] محمد ابن طفيل، حي بن يقظان، نفس المصدر، ص131. المصدر: محمد ابن طفيل، حي بن يقظان، تقديم وتعليق علي بوملحم ، دار ومكتبة الهلال، بيروت، طبعة أولى، 1993. 160 صفحة.
#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أهمية تدريس الفلسفة للأطفال
-
السلطة السياسية، نهاية اللاهوت السياسي حسب بول ريكور
-
العملية الانتخابية والسلوك الديمقراطي
-
الثورة الشعبية بين المد والجزر
-
النظرة الحسية والرؤية الوجودية والإبصار المعرفي
-
أدب المناظرة والتأسيس الديمقراطي للحياة السياسية
-
السباق نحو الرئاسة في الانتخابات التونسية
-
أسبقية الوجود على الماهية عند صدر الدين الشيرازي
-
نور الدين البطروجي وميلاد علم الفلك الحديث
-
الميزان الطبيعي عند أبي بكر الرازي
-
مجمع الأنا وفرضية الرجل المعلق عند ابن سينا
-
معنى حضور الإنسان في العالَم
-
صدور كتاب تطبيقات فلسفية
-
نظرية الأعداد وعلم الهندسة عند ثابت ابن قرة
-
كيف يتحقق الاستقرار الاجتماعي في ظل التفاوت بين الطبقات؟
-
تطور علم الميكانيكا عند ابن ملكا البغدادي
-
عمر الخيام واستخدام العدد المجهول
-
أدب السلاطين وحكمة المشرقيين عند ابن المقفع
-
رحيل الرئيس الباجي والانتقال السلمي للسلطة
-
خصائص علم الكيمياء عند جابر ابن حيان
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|