|
الحلقة التاسعة. حراك الشعب السوري من الأمل بالتغيير إلى الكارثة
منذر خدام
الحوار المتمدن-العدد: 6362 - 2019 / 9 / 26 - 09:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الفصل الثالث 5-أفاق الزمن القادم في سورية احدى المفارقات التي سبقت تفجر الأزمة السورية ان يتفق مثقفو السلطة ومثقفو المعارضة على رؤية تفيد باستحالة أن ينتفض الشعب السوري ضد حكامه، كما حصل في تونس، وفي مصر كل على طريقته. واذا كان يمكن تفهم موقف ورؤية مثقفي السلطة، الذين كانوا يحسبون نظامهم محصنا نظرا لمناعته الأمنية ولكونه نظاما ممانعا، ورئيسه شاب يمتلك "رؤية وبرنامجا" للتطوير والتحديث، يصعب تفهم مواقف مثقفي المعارضة الذين غفلوا عن القوة التحفيزية الكبيرة لانتفاضة الشعب التونسي، وخصوصا لانتفاضة الشعب المصري بالنسبة للشعب السوري. غير أن ملاحظة الكيفية التي كان السوريون يتابعون بها انتفاضة الشعبين التونسي والمصري، عداك عن أن الظروف الموضوعية في سورية لحصول تمرد مجتمعي واسع، لم تكن أقل نضجا من مثيلتها في مصر وتونس وبقية البلدان العربية، كانت تقود إلى استنتاج يفيد بحتمية انتفاضة الشعب السوري ضد السلطة الحاكمة. لقد توصلت إلى هذا الاستنتاج وعبرت عنه في بداية شهر آذار من عام 2011 في سياق مقالة حوارية مع ما كتبته في حينة المستشارة الرئاسية بثينة شعبان في جريدة تشرين السورية في 28/2/2011، بعنوان " خصائص أفاق الزمن القادم". تقول الدكتورة شعبان " إن ما يجري في عالمنا العربي اليوم هو بداية تاريخ عربي جديد" وهي في قولها هذا توافق الحقيقة دون مواربة. لقد دشنت الثورة التونسية، ومن بعدها الثورة المصرية عصرا جديدا ليس على المستوى العربي، بل والعالمي أيضاً. ليس من باب المغالاة القول: لقد قدم العرب نموذجا غير مسبوق للثورة ضد الطغاة، وهو نموذج يمتلك كل سمات وخصائص التعميم على وضعيات مشابه، وعلى وضعيات أخرى يغلب عليها الطابع المطلبي. ومن حق الدكتورة أن تشعر بشيء من النشوة لكون " الملايين" من الجماهير العربية استطاعت " بمداد دمائها وكفاحها السلمي" أن تدفن "أنظمة المومياءات" إلى غير رجعة. غير أن ما غفلت عنه الدكتورة وكشف عن خوفها وامتعاضها مما يجري، هو أن هذه الجماهير في انتفاضتها السلمية قد أسقطت إمكانية الحكام المستبدين المتاجرة السياسية بالعمالة للخارج، وكيل التهم بالخيانة لكل من يطالب بالتغيير، و لتكشف عن حقيقة أن الأنظمة الاستبدادية ذاتها هي العميلة لهذا الخارج. إن الأسلوب الجديد الذي ابتكرته الشعوب العربية في الانتفاضة على حكامها المستبدين، هو الذي جعل جميع الحكام العرب ترتعد فرائصهم بما فيهم النظام السوري. لم يعد بإمكان الحكام العرب التهويل من شأن التدخلات الخارجية للحؤول دون تحقيق مطالب التغيير، فها هي الجماهير المليونية تصنع التغيير وتأخذه بيدها، رغم أنفهم. وها هي المستشارة تصرخ " كفانا زمن الإحباط والترهل واليأس الممتد منذ استيلاد الطغاة أنظمة الاستبداد العربية، قديمها وحديثها" . بالتأكيد الدكتورة شعبان لا تقصد جميع "أنظمة الاستبداد العربية"، فهي تستثني النظام السوري من بينها، وتبقيه خارج "التاريخ الجديد القادم" على المنطقة العربية، لعدم انطباق المواصفات الاستبدادية عليه، فهو لم يكمل عقده الخامس بعد، ولا يشبه بقية الأنظمة العربية إلا في التفاصيل، بل في أدق التفاصيل!!. لقد راهنت الدكتورة بثينة بحسب ما جاء في مقالتها " كغيرها " من المثقفين والكتاب العرب، في كل ما كتبته على " أصالة قيم الحرية، والكرامة، والعدالة، لدى شعبنا العربي، وعلى حيوية هذا الشعب، وحتمية رفضه لأساليب الذل، والهوان التي تفرضها أجهزة قمعية، ينفق على تجهيزها بأحدث معدات القمع المستوردة من الغرب، بأكثر مما ينفق على التعليم والجامعات". ما جاء في هذا المقتطف من مقالة المستشارة بثينة ينطبق اشد انطباق على النظام السوري، بل هو من أشد الأنظمة الاستبدادية قهراً لشعبه، وهو يصرف على أجهزته الأمنية، التي لا وظيفة لها سوى قمع الشعب وإذلاله، أكثر بكثير مما يصرف على التعليم بكل مراحله. ويمكن التأكد من صدقية ذلك من خلال النظر في مخصصات هذه الأجهزة في ميزانية الدولة، ومقارنتها بمخصصات وزارة التربية، ووزارة التعليم العالي، وإن ما هو تحت تصرفها من خارج الميزانية لأكبر بكثير. نعم هناك كثير من المثقفين العرب، والسوريين منهم على وجه الخصوص، ما انفكوا يراهنون على أصالة النزوع إلى الحرية، والدفاع عن الكرامة، والنضال في سبيل العدالة، لدى شعبنا العربي، حتى في أقسى الظروف، وتحملوا في سبيل ذلك السجن الطويل، والتعذيب الجسدي والنفسي، ومنهم من استشهد، وما بدلوا تبديلا. بل هم الآن أشد رهانا على أصالة هذه القيم لدى شعبنا السوري، الذي لا أخاله إلا منتفضاً، في سبيل حريته، وكرامته، ولقمة عيشه، و كأنني أراه يملأ الساحات رافعا ذات الشعارات التي رفعها الشعب العربي في تونس وفي مصر وفي غيرها: الشعب يريد إسقاط النظام.... أفتح قوسين لأذكر بحوار جرى بيننا في مؤتمر عقد في فندق الميريديان بدمشق وكان تحت رعاية المستشارة شعبان، وكنت مدعوا كمحكم على بعض الأوراق الاقتصادية، واستمعنا جميعا في أحد المحاور إلى ورقة أعدها البروفسور رايمون هانيبوش من مركز الدراسات الشرقية في جامعة سانت أندروز في سكوتلندا، وكانت بعنوان "ممكنات الديمقراطية في الشرق: سورية نموذجا". وتميزت محاضرته بأكاديمية رفيعة، وبتحليل على درجة عالية من الرصانة، واستخدم معطيات لا تتوفر لدينا نحن الباحثين السوريين. وقامت المستشارة بالتعقيب عليه، وقدمت خطابا رسمياً بامتياز: لدينا خصوصيتنا، لدينا تجربتنا في التعددية، من خلال الجبهة الوطنية التقدمية، لدينا نقابات.. ، واسترسلت في ذكر التفاصيل، متجاهلة وجود نخبة من السوريين، من الكتاب، والمثقفين، والأكاديميين، والإعلاميين، الذين يعيشون في ظل ديمقراطية النظام، ولا يقدرون على ممارسة أبسط حقوقهم في التعبير عن رأيهم بحرية. قلت في حينه ما هذه الديمقراطية التي لا تستطيع أن تتسامح مع نخبة من المثقفين والمهتمين بالشأن العام في سورية، الذين وقعوا على بيان يعرضون فيه وجهة نظرهم في بناء علاقات جيدة مع لبنان، فتدفع بعضهم إلى السجن، وتفصل آخرين من وظائفهم وتحرمهم من مصدر عيشهم. ما هذه الديمقراطية التي لا تستطيع تحمل آراء مفكر سوري كميشيل كيلو، وآراء الاقتصادي السوري المعروف عارف دليلة فتحكم عليهم بالسجن، مع الكثير من الحقوقيين والاعلاميين الذين طالبوا بتحسين الأوضاع في بلدهم. وبالعودة إلى المؤتمر المشار إليه، قلت للمستشارة بأنه لا يجوز شطب محور القضية الكردية من جدول الأعمال، الذي كان سيتدخل به السياسي الكردي السوري المعروف فيصل يوسف، وهو لا يقل وطنية عن أي عربي معتز بوطنيته، لا متاجرا بها، وطالبتك بالتدخل لكي يبقى هذا المحور، وكنا حريصين على سمعة سورية وسمعة المؤتمر، إذ لا يجوز شطبه بعد أن وزع برنامج المؤتمر على الضيوف الأجانب، هذا عدا عن حقنا المبدئي نحن السوريين بمختلف انتماءاتنا القومية مناقشة القضايا التي تخص الوطن وشعبه، فجاء جوابها: هذه أوامر عليا. نعم هي الأوامر العليا التي تتدخل وتقرر أية صغيرة، وكبيرة في أنظمة الاستبداد العربي، فتخذل إرادة الشعوب، وتحول جميع هيئات المجتمع المدنية، والنقابية، والحزبية، التي تسمح بها على صورتها إلى أجهزة لتوصيل الأوامر وتطبيقها، ويكاد يكون النظام السوري نموذجا صارخا عنها. لقد كتبت المستشارة شعبان عن أنظمة عربية لا تمثل تطلعات شعوبها، إذ في 20 كانون الأول من عام 2003، نشرت مقالة في جريدة تشرين السورية الرسمية بعنوان " إفلاس العقلية الفردية " تناولت فيها الشأن العراقي ودور النظام الاستبدادي الحاكم فيه في تخريب العراق وإذلال شعبه. في ذلك الحين كتبت بدوري مقالة بعنوان " المجتمع يشارك بفعالية إذا كان حراً "، أناقش فيها ما ورد في مقالتها، وقلت فيها يمكن حذف كلمة العراق أو النسبة إليه من مقالتها واستبدالها بكلمة سورية، لنجد أن ما ورد في مقالتها ينطبق أشد الانطباق على النظام الحاكم في سورية. وإذ تدعو المستشارة في مقالتها التي نحاورها الآن للنظر كيف " تتصرف " هذه الأنظمة التي "لا تمثل شعوبها" بموارد هذه الشعوب ومقدراتها، وهي تقصد طبعا النظام المصري والنظام التونسي وربما الليبي، والمقدرة " بالمليارات من الدولارات التي هربت ووضعت في حسابات في البنوك الأجنبية من قبل الطغاة وأولادهم وزوجاتهم وأقاربهم، فيما يذل الشباب العربي بالفقر وبالبطالة في بلادهم". المشهد ذاته يتكرر في سورية وربما هو أفظع بالقياس إلى ثروة الشعب السوري المتواضعة. ففي دراسة عن حالة الفقر في سورية قام بها نخبة من الباحثين السوريين وكنت واحد منهم تبين أن نحو 33% من الشعب السوري يعيش اليوم(بداية 2011) تحت خط الفقر( نحو 3000 ل.س/شهر) بحسب المصادر الرسمية، وهناك أكثر من مليون شخص عاطل عن العمل جلهم من الشباب وخريجي الجامعات. هنا أيضا جرت سرقة منظمة لثروة الشعب من قبل رجالات النظام وعائلاتهم وأقربائهم، ونقلت إلى الخارج، وهي أيضا تقاس بعشرات المليارات من الدولارات. هل علينا أن نذكر مرة أخرى بثروة رفعت الأسد، أو عبد الحليم خدام المهربة إلى الخارج، والتي أصبح الحديث عنها بعد انشقاقهما لا يثير مشكلة مع النظام، أو بثروة آخرين (نتحفظ على ذكر أسمائهم) فهم لم ينشقوا بعد، وهي أكبر بكثير. والأخطر من ذلك فقد فتح النظام شهية كل من يتولى وظيفة عامة على استغلال منصبه من أجل الإثراء غير المشروع، حتى تحول الفساد، والإفساد في سورية إلى أسلوب في إدارة المجتمع والدولة. يتساءل السوريون من أين جاءت الأموال التي بنيت بها هذه القصور المنتشرة في كل مكان من سورية، والتي يفوق بعضها خيال الحالمين في أبهته، هذا عداك عن المبالغ الطائلة التي هربت إلى الخارج في عهد حكم الأب والتي قدرتها بعض المراجع الرسمية بنحو 135 مليار دولار. وإذا كانت" الأمور في غاية التعقيد" كما تقول المستشارة، لكنها لا تتساءل من المسؤول عن تعقيدها؟!.، إنه النظام الاستبدادي عينه، ومن يدور في فلكه ويقدم خداماته له؟!. أليس هو الذي سد الأفق أمام أي تطور سلمي طبيعي لسورية؟!. تقول المستشارة " إذا كنا نريد أن نكون مساهمين في صناعة مستقبل عربي زاهر بالحرية، والكرامة، نتطلع إليه منذ قرون، ونعمل من أجله منذ عقود جيلا بعد جيل، فلا بد أن نتبنى أسلوبا حضارياً في الحوار بعيداً عن القوالب الجامدة". الشعوب العربية حلمت منذ قرون بمستقبل زاهر بالحرية والكرامة والتقدم، غير أن أنظمة الاستبداد العربي، خربت كل شيء، وحالت بين الشعوب العربية وأحلامها، وكانت شريك الدول الغربية وإسرائيل في إذلالها، ومكنتها منها. الذين عملوا، ولا يزالون يعملون في سبيل هذا المستقبل، جيلا بعد جيل، وقدموا في سبيل ذلك كل غال ونفيس، وقدموا الشهداء، لم يتركوا الساحات، ولن يتركوها، بل ضاقت بهم الآن الساحات والميادين في تونس، وفي مصر، وغدا في سورية، وفي غيرها من البلدان العربية، بعد أن ضاقت بهم سجون الأنظمة الاستبدادية العربية، وبعد كل ذلك تطالبين بتبني أسلوب حضاري في الحوار. نحن نعلم كيف حاور النظام التونسي شعبه، وكيف حاور النظام المصري شعبه، وكيف يحاور النظام الليبي شعبه، وكيف حاور النظام السوري شعبه أيضاً. خلال أكثر من ثلاثة عقود والنظام السوري يحاور معارضيه ومثقفي الشعب السوري ومفكريه بالزج في السجن، أو المنع من السفر، أو الفصل من الوظائف. كم من مرة طالبت المعارضة السورية بالحوار مع السلطة من أجل انتقال سلمي آمن، ومتدرج للدولة والمجتمع من وضعية الاستبداد إلى وضعية الحرية والديمقراطية، إلا أنها سدت أذانها ولا تزال. ومع أنني لا أدعي تمثيل غير نفسي، مع ذلك دعوة المستشارة، احتراما لها كمثقفة، أن تطالب السلطة التي تقدم خدماتها الاستشارية لها بالإنصات إلى صوت العقل، إلى صوت الشعب، وتبادر إلى الدعوة إلى حوار وطني شامل يشارك فيه الجميع، من مؤيدي السلطة ومن معارضيها، ومن ممثلي هيئات المجتمع المدني والأهلي، ومن المثقفين ورجال الفكر ورجال الدين، ورجال القوات المسلحة، من جميع ممثلي الشعب بلا استثناء، وبلا شروط مسبقة، للبحث عن أفضل السبل، وأقصر الطرق لوضع سورية على طريق الحرية والديمقراطية. فالثورة لذاتها ليست مطلباُ، فهي إذ تفتح أفقا رحبا للحرية والتقدم والكرامة والديمقراطية، إلا أنها في الوقت ذاته تتسبب بخسائر كبيرة، وبآلام كثيرة ،سوف يمضي وقت طويل قبل تعويضها وتجاوزها. تدعو الدكتورة بثينة شعبان إلى "حوار شفاف" حول " أولويات شعوبنا، والسبل الحقيقية الكفيلة بتحقيق هذه الأولويات بأقل الخسائر الممكنة، وأنجع السبل المتاحة". إن دعوة الدكتورة بثينة للحوار الشفاف كان يمكن أن تكون موضوعاً للتفكر والنقاش، لو كانت تعنيها فعلا بحكم موقعها الرسمي. لعقود من السنين، وأنظمة الاستبداد العربي تسد آذانها عن أي مطلب شعبي مهما صغر، وتواجهه بالقمع. الآن بعد أن صارت الجماهير تُسمع صوتها لمن به صمم، تستمر الدكتورة بتجاهل أولويات هذه الجماهير، التي تقول بأعلى صوتها إنها تريد الحرية، تريد دولة ديمقراطية، دولة مدنية قوية تحميهم وتصون بلادهم، وتتيح لجميع أفراد الشعب بالتطور، والتقدم، بحرية وشفافية في إطار القانون الذي يشرعونه هم لا المفروض عليهم، في إطار الدستور الذي يعدونه هم كعقد اجتماعي لا الدستور الذي يكبلهم ويشلهم عن الفعل والحركة، في مناخ تسود فيها سياسات تستلهم مصالحهم لا مصالح الخارج وأعوانه في الداخل. في الحقيقة تقصد الدكتورة بثينة بالأولويات التي تطالب بالحوار حولها وتبنيها، أولوية تحرير الأرض، فسورية كما هو معلوم لا يزال جزء من أرضها محتل من قبل الكيان الصهيوني. مع ذلك، فإن كثيرين من هذا الشعب، يتساءلون ماذا فعل النظام من أجل تحرير هذه الأرض، التي يعدها أولوية له منذ نحو أربعة عقود. كم كنا كسوريين نشعر بالخجل، ونحن نسمع تصريحات المسؤولين في الكيان الصهيوني وهم يعلنون بأن الجولان صار المنطقة الأكثر أمناً بالنسبة للصهاينة، أكثر أمنا حتى من تل أبيب. أسأل السيدة المستشارة هل يمكن تحرير الأرض بالعبيد أم بالأحرار، بالفقراء والعاطلين عن العمل، أم بالذين يعيشون بكرامة، ويعملون ويكسبون رزقهم بعرق جبينهم، بدولة تمثل الشعب وتعبر عن مصالحة، أم بدولة أمنية جهازية، بسلطة تنبثق من الشعب عبر انتخابات حرة، ونزيهة تقوم على رعاية مصالحة، أم بسلطة مفروضة عليه، جل همها أن تسرق الشعب، وتذله وتهرب ثرواته إلى الخارج. تحرير الأرض يا سيادة المستشارة لا يكون بالعبيد والجوعانين والفقراء، تحرير الأرض لا يكون بتعميم الفساد والإفساد. تحرير الأرض بالقوة أم بالتفاوض يصير أولوية عندما يتم خلق الظروف الملائمة لبناء الإنسان الحر العزيز الكريم، لبناء دولة القانون، دولة المؤسسات الديمقراطية، دولة القيم الوطنية المعممة، الدولة القوية بشعبها وجيشها. ليس ثمة أي اكتشاف في القول بأن الثورة المتنقلة من قطر عربي إلى آخر دليل على تشابه هموم وقضايا الشعوب العربية، خصوصا بالنسبة لنا نحن السوريين، وأن الكفاح " من أجل حياة حرة، وعزيزة، ومستقلة من الاضطهاد الأجنبي، يترجمه اليوم ملايين الشباب، بالكفاح ضد الفساد، والبطالة، والفقر، والاستبداد." . في ظاهر المعنى يبدو أن الدكتورة قد ربطت وجود " الفساد والبطالة والفقر والاستبداد" بالأجنبي، هذا يعني ببساطة أن الأنظمة الاستبدادية العربية هي صنيعة هذا الأجنبي، تقوم على تنفيذ سياساته على الشعوب العربية، وليس من مجال للاستثناء. أما في باطن المعنى وهو الذي يحمل رسالة الدكتورة، يبدو الأمر مختلفا جداً، وهذا ما توضحه عبارتها التالية مباشرة، والتي تنص بانه " لا يجب مساواة من دافع دائما عن عروبة قضايانا، ودفع ثمنا باهظاً من أجل مواقفه، بمن تلقى المكافآت والمعونات من أعداء أمته على مواقفه..". وبما أن النظام السوري كان يدافع دائما عن عروبة القضايا العربية (كيف تكون القضايا عربية ويتم الدفاع عن عروبتها؟!!) لا ينبغي مساءلته عن قضايا " الفساد والفقر والبطالة والاستبداد"، فهذه مسائل ثانوية بالقياس إلى المواقف "العروبية" الكبيرة التي لم تفرط بالحق العربي. السوريون، بلا شك، يقدرون جيداً مواقف النظام السوري تجاه قضية فلسطين، وفي المفاوضات مع إسرائيل، التي استمعت وإياها إلى عرض مسهب لمجرياتها، منذ أن بدأت من عضوين في الوفد السوري المفاوض، لا ضرورة لذكر اسميهما، وكذلك مواقفه من دعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية ضد إسرائيل، وبين مواقف بقية الأنظمة الاستبدادية العربية، خصوصا مواقف النظام المصري، والنظام الأردني. لكن المفارقة تكمن في الجمع بين هذه المواقف الخارجية، التي تبدو جيدة وتدعمها غالبية الجمهور السوري، وبين انتشار الفقر والبطالة والفساد في الداخل. هل يمكن بناء أية مواقف سياسية خارجية قوية ومقنعة، على كيان سياسي ضعيف ينخره الفساد، والبطالة، والفقر، والاستبداد المعمم؟!!. يعلم السوريون جيداً أن النظام يتجنب استفزازات إسرائيل التي وصل تماديها فيها إلى حد التحليق فوق القصر الجمهوري في اللاذقية، حتى ان لا ينجر إلى أية مواجهة غير محسوبة؟!!. لا شك بان الحرب مع عدو قوي ومدجج بالسلاح ليس مطلباً، ومن الحكمة أن لا ننجر وراء استفزازاته، لكن من غير المعقول والمقبول إضعاف الدولة والمجتمع بصورة ممنهجة من خلال إفقار الناس وإفسادهم، بحيث لا تقدر على التصدي لهذه الاستفزازات في داخل سورية، بل والسكوت المريب عن المسؤولين المباشرين عن عدم التصدي لطيران العدو الذي استباح سماءنا. الشعوب العربية المنتفضة، والثائرة على حكامها المستبدين بلا شك تضع نصب أعينها قضية تحرير فلسطين، وإن الطريق إلى تحريرها يتم اكتشافها، لأول مرة، بصورة صحيحة وصائبة، بعد أن حالت أنظمة الاستبداد العربي دون ذلك، وهو طريق الحرية والديمقراطية، طريق محاربة الفساد والفقر، طريق اسقاط الاستبداد. لقد غيرت الثورات العربية الحسابات الاستراتيجية لدى المسؤولين الإسرائيليين، بحسب ما يصرحون به، وباتوا اليوم أشد قلقاً على مستقبل وجودهم في فلسطين، ولذلك نراهم يعملون بنشاط لتخريب هذه الثورات وحرفها عن مسارها . ويبلغ التناقض ذروته عند السيدة المستشارة بين مستوى القول حيث تدعونا للتمسك بما هو مهم اليوم وهو " مشاركة الجميع في التعبير عن الرأي، والمساهمة في الحكم، وفي إدارة شؤون البلاد، وتحقيق مصالح الجماهير.." وبين مستوى الفعل حيث تؤدي خدماتها. عن أية حرية تعبير تتحدث المستشارة؟!!، وأجهزة النظام الأمنية تحصي علي السوريين الأنفاس، وإذا استطاع بعضهم تهريب بعض الآراء فذلك بفضل التكنولوجيا الحديثة. لكن من يقع منهم فالمحاكم الصورية بانتظارهم، وهي تجري في سورية يوميا لنشطاء الرأي وحقوق الإنسان، لكل من ينتقد خطأ هنا، وسرقة هناك، وهدر للمال العام هنا وهناك، تحت عنوان " وهن عزيمة الأمة، ونشر أخبار كاذبة". ويبدو أن السيدة المستشارة مصرة على الإدهاش في دعوتها الجميع للمشاركة "في الحكم، وفي إدارة شؤون البلاد". الغريب إنها لا توجه كلامها لمن حولها مع أنهم هم، لا غيرهم، من يستأثر بالسلطة منذ نحو خمسة عقود، ويديرونها من خلال الأجهزة الأمنية الفاسدة. ثم كيف يمكن الجمع بين السارق والمسروق، بين الفاسد ومن يمارس عليه الفساد، بين الظالم والمظلوم، بين المستبد وطالب الحرية في "إدارة شؤون البلاد، وتحقيق مصالح الجماهير"، ومع ذلك تصر الدكتورة على وجود " العديد من الطرق لفعل ذلك" وأن " آليات العمل متاحة أو يجب أن تتاح" دون أن تبين ما هي هذه الطرق، وأين هي هذه الآليات المتاحة، في ظل نظام استبدادي شمولي. لقد صار الطريق لتحقيق ما تصبوا إليه الجماهير معلوما لديها بفضل وعيها ومعاناتها، إنه طريق الثورة في وجه من يكابر، ويصر على تجاهل مطالبها بالتغيير، وسوف تهتدي أيضا إلى آليات تحقيق ذلك. وإذا كانت المستشارة حريصة فعلاً على حرية التعبير، والمشاركة في الحكم، والدفاع عن مصالح الجماهير السورية، فما عليها إلا ان تنصح من تقدم خدماتها الاستشارية لهم لملاقاة الجماهير في تحقيق مطالبها، قبل فوات الأوان. بعد نحو ثلاث وعشرين عاما يقول زين العابدين لشعب تونس الثائر" فهمتكم.. والله فهمتكم .."، وبعد نحو ثلاثة عقود يقول زميله حسني مبارك للشعب المصري الثائر" لم أكن أنوي الترشح لدورة رئاسية جديدة.. أمهلوني ستة أشهر فقط لكي أمنحكم نظاما ديمقراطيا...."، وها هو علي عبد الله الصالح في اليمن يصرخ" لا أريد التجديد.. ولا أريد التوريث.. أمهلوني فقط لأكمل ولايتي الدستورية.." وها هو زميله القذافي يأبى أن يغادر قبل تدمير بلده، وإذ يفعل فلن يجد في النهاية مكاناً يأويه. إلى متى الصمت والمكابرة في سورية، والرهان على تخويف المواطنين من حرب طائفية، أو أثنية لا وجود لها في وعيهم، ولا في سلوكهم، بل هي من جملة فزاعات بعض أبواق النظام، أو ربما، وهو الأصح، هي فعلا من الاحتياطات الاستراتيجية للنظام السوري للرد على أي تحرك شعبي يطالب بتغييره، وكذلك لمن يريد تدمير سورية من قوى خارجية متربصة بها. الشعب يا سيادة المستشارة يتوق فعلا إلى حرية التعبير، وإلى المشاركة في إدارة البلاد، دفاعا عن مصالحه، وهو في حال أرغم على الانتفاضة، فهو يعرف جيدا كيف يصون الممتلكات الخاصة والعامة، وكيف يحافظ على دماء الناس ومصائرهم. ألم تنظري في الدرس الذي قدمه الشعب التونسي والمصري في الوعي والانضباط اللذين أذهلا العالم. كوني على ثقة لن يكون الشعب السوري أقل وعيا وانضباطا من الشعبين التونسي والمصري، المهم أن لا تتحرك بلطجية نظامك. إن لغة "التخوين والانتقام والإقصاء والعزل والمنع.."، ليست لغة الجماهير، بل هي لغة الحكام المستبدين. وإن شعار " من ليس معنا فهو ضدنا" الذي تنسبيه لجورج بوش الابن، هو بضاعة مكتوب عليها صناعة النظام السوري التي استخدمها في وجه معارضيه، من كل الاتجاهات السياسية، في ثمانينات القرن الماضي، وكان من نتيجتها الانتقام من عشرات الآلاف من المواطنين السوريين، الذين لم يكن لهم لا ناقة ولا جمل، في كل ما جرى بين النظام والإخوان المسلمين، وكان ذنب البعض منهم أنهم وطنيون باعتراف بعض مسؤولي النظام.( أذكر جيداً في أول لقاء لنا في سجن تدمر مع مدير السجن، بعد حفلة تعارف بواسطة الكابلات الرباعية مشفوعة بسيل من السباب، يقول لنا أنتم وطنيون انتم شرفاء، لكن تقتضي المرحلة وجودكم في السجن"، وأي سجن؟!!. قيل لنا هذا نحن - البعثيين الديمقراطيين- في ذلك الحين، كما قيل لغيرنا من الشيوعيين، والناصريين ولآلاف المستقلين، والرهائن بأساليب مختلفة). الشعب لا ينسى، لكنه لا ينتقم يا سيادة المستشارة، بل يطالب بمحاكمات عادلة وعلنية وشفافة، يمتلك فيها المتهم حق الدفاع عن النفس بكل وسائل الدفاع القانونية المتاحة، أو الممكن إتاحتها في ضوء شرعة حقوق الإنسان، لكل من ارتكب جرائم بحقه. نعم سوف يكون الهم الأول للشعب هو تحقيق " الانجاز الأكبر في نشر الحرية، وسيادة القانون، وسوف يعلي من شأن الاختلاف، والحق فيه، والحق في الدفاع عن الوجود المختلف، إلى مستوى القيم العامة. حقيقة الشعب سوري طيب، يعتز فيه العربي بعروبته، والكردي بكرديته والأشوري بأشوريته والأرمني بأرمنيته، وكل وجود أقوامي بقوميته، لكنهم جميعهم يعتزون أيضا بسوريتهم. وإذا كانت ثمة محاولات خائبة للتفريق بينهم فهي محاولات تقوم بها أجهزة النظام السوري لا غيرها. في ختام مقالة السيدة المستشارة تتحفنا ببعض النصائح التي كان عليها أن توجهها لمن تقدم خدماتها الاستشارية، على أمل " أن يغيروا ما بأنفسهم أولاً، وأن ينظروا إلى ما يحدث ويعوا ما يرون وينظرون، وان يسمعوا صوت الجماهير، ويدركوا ما يسمعون، وألا يستسهلوا إعطاء أنفسهم الحق بالطغيان على الآخر، أو الاستبداد..." . وإذا كانت الجماهير بطبيعتها لا تخلط في القضايا الوطنية الكبرى، بين بعض المواقف المشرفة تجاه العدو الصهيوني، وبين من باع القضية، فإنها ترى أن مسؤولية من يزعم أن مواقفه مشرفة تجاه مطالب شعبه هي أكبر بكثير. إن ما كتبته الدكتورة بثينة شعبان في جريدة تشرين بعنوان " خصائص الزمن القادم" حسبه بعض السوريين أنه بوحي من الرئيس، كنوع من التأكيد على عزمه المضي ببرنامجه الاصلاحي، وأنه جاد هذه المرة بإجراء إصلاحات ذات مغزى يرسم من خلالها فارقا عن زملائه من الحكام العرب. فهو، من جهة، ليس مسؤولاً عن كل ما عانته سورية وشعبها، ومن جهة ثانية فهو لا يزال يتمتع بمحبة قطاع لا يستهان به من الشعب السوري. وإذا كان فعلا جادا عليه ان ينفذ ما يأتي خلال ستة أشهر على أبعد مدى: أولا" اصدار عفو عام عن جميع سجناء الرأي، والشروع في تسوية أوضاع من تعرضوا للسجن سابقا بسبب آرائهم السياسية، والكف عن سياسة الملاحقة، والقمع، والمنع من السفر وغيرها، وكذلك الشروع فورا بتسوية الأوضاع المدنية للسوريين من غير العرب مثل الأكراد ومن في حكمهم. ثانياً؛ إلغاء حالة الطوارئ وجميع القوانين الاستثنائية، ومنها المرسوم رقم 6، والقانون رقم 49، والمحاكم المبنية عليها، والشروع في تشكيل لجنة من الاختصاصيين للبحث عن أفضل الطرق لتعديل الدستور، أو كتابة دستور جديد يحول سورية إلى جمهورية ديمقراطية برلمانية. ثالثا؛ وحتى يتم تعديل الدستور، أو إعداد دستور جديد، ينبغي استصدار مرسوم يسمح بحرية التعبير، والإعلام، وممارسة الحياة السياسية بحرية، وإنشاء الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والنقابية، بعيداً عن تدخل الدولة، والفصل بين الدولة ومؤسساتها، والأحزاب السياسية والنقابات وهيئات المجتمع المدني، وفي مقدمتها حزب البعث. رابعا، إشراك القوى السياسية جميعها، من في السلطة ومن في المعارضة، في مناقشة وإعداد وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات خلفية تمثيلية واسعة، تقوم على متابعة تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، على أن يتم حسم الخلاف على بعض القضايا الجوهرية، من خلال أخذ رأي الشعب بها، عبر استفتاء ينظم لهذا الغرض. إن تنفيذ هذه المطالب، كما كان يأمل بعض عقلي السياسي، كان كفيلا بإنقاذ سورية ، لكن للأسف تبين أن الرهان على السلطة لكي تبادر للتغيير لم يكن في محله، إذ تبين ان حكامها لا يختلفون عن زملائهم في الدول العربية الأخرى، فهم مستبدون عضويون، وبدلا من ان يجنبون شعبهم وبلدهم الكارثة قادوه إليها مباشرة. ما إن نشرت هذه الحوارية مع بثينة شعبان في حينه حتى بادرت السلطة لربط ما جاء فيها بغير وجه حق وبدء الحراك الشعبي في مدينة درعا، ومن ثم في مدينة اللاذقية ، لينتقل بعد ذلك إلى بقية المدن، والمحافظات السورية، ويتحول فيها جميعا إلى انتفاضة شعبية جماهيرية عارمة. بناء على هذه الحوارية أصدر عدد كبير نسبيا من مثقفي اللاذقية، ومن المهتمين بالشأن العام بيانا في اللاذقية، يدعون السلطة فيه إلى ملاقاة الحراك الشعبي بالدعوة إلى مؤتمر وطني جامع وشامل، لتدارس الإصلاحات المطلوبة في بنية النظام الاستبدادي، تحوله إلى نظام ديمقراطي، فردت السلطة بإصدار بيان وزعته على نطاق واسع يتهم من وقع على البيان في اللاذقية، ومن روج لحواريتنا مع بثينة شعبان، بأنهم جزء من مؤامرة كونية على النظام، ينفذون مخططاً أعده سلفا بندر بن سلطان، الأمير السعودي المعروف، ومسؤول جهاز الأمن في المملكة العربية السعودية في حينه. اللافت ان السلطات الأمنية لم تتخذ أي اجراء ضد موقعي البيان ومروجيه، من قبيل اعتقالهم، كما تفعل عادة في مسائل اقل أهمية بكثير ، واكتفت بتشويه سمعتهم في اعلامها من خلال ربطهم بالمؤامرة على سورية، وعرابها بندر بن سلطان. في ذلك الوقت، على ما يبدو لم ترد خلق أسباب إضافية لتحفيز الخروج إلى الشارع، من خلال اعتقال نشطاء الحراك كما حصل مع تجمع بعض المثقفين والمعارضين أمام وزارة الداخلية في 15/3/2011، وكما حصل في سوق الحريقة مع بعض التجار، حيث ذهب وزير الداخلية بنفسه لحل الاشكال. 6-موازين القوى بين النظام والمعارضة من المفيد قبل ان نختم هذا الفصل إلقاء الضوء على موازين القوى بين النظام من جهة، وجبهة قوى المعارضة من جهة ثانية، في محاولة لفهم وتحديد المسارات المحتملة والممكنة التي سوف تسلكها الأزمة التي تفجرت بسبب تعنت النظام، كما كانت تبدو خلال الستة أشهر الأولى من عام 2011 1-في جبهة النظام تصطف قوى النظام الأمنية، وأحزاب جبهته، ونقاباته على اختلافها، وتحالف البرجوازية البيروقراطية، والطفيلية، والكمبرادورية، والزعامات الدينية، والعشائرية، وقوى الفساد على اختلافها. من بين هذه القوى فإن تحالف قوى النظام الأمنية، مع شرائح البرجوازية المشار إليها هو الأقوى، وهو الذي سوف يمشي مع النظام إلى النهاية. أما البرجوازية التقليدية التي تضررت كثيراً من طبيعة النظام الطغموية، وسكتت طويلا على ممارساته الاقتصادية، فإنها يمكن أن ترتد عليه مستفيدة من الحراك الشعبي، ومن الظروف الدولية الملائمة لها، وهذا ما حصل فعلا. أما بالنسبة للقاعدة الاجتماعية للبعث، والنقابات، وهيئات المجتمع المدني، والأهلي فإن مواقفها الفعلية هي أقرب إلى الحياد السلبي المتحفز لترك جبهة النظام، في حال فشل الحل الأمني أو تراجع. ثمة عوامل، ومؤثرات أخرى، تدعم جبهة النظام موضوعيا، وهو يحاول الاستفادة منها إلى أقصى درجة، نذكر منها تصريحات بعض القوى التي تحسب نفسها على المعارضة في الخارج، والتي تدعو للعنف، وإلى الطائفية، وتشجع على انقسام الجيش، وإلى تدخل القوى الدولية في الشأن الداخلي السوري، وكان أخطرها ما صرح به عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية السابق للقناة الاسرائيلية الثانية خلال مقابلة أجرتها معه بتاريخ14/5/ 2011 (23). يستفيد النظام أيضا من عمق الخوف المتراكم في نفوس قطاعات واسعة من الناس( فلا تزال أحداث أوائل الثمانينات حاضرة في الذاكرة)، وهو يعمل على استحضاره وترسيخه، من خلال التذكير دائما بما حصل في العراق بعد الغزو الأمريكي له،وما يحصل في ليبيا اليوم من جراء تدخل حلف الناتو. وفي هذا المجال حاول النظام الاستفادة من ظهور بعض العناصر العنيفة في الشارع، ومن بعض الشعارات الطائفية التي ظهرت هنا وهناك، كحالات عرضية للحراك الشعبي، بغض النظر عمن يقف وراءها( ثمة معطيات تؤكد وقوف اجهزة النظام وراءها في الأشهر الأولى لانطلاقة الحراك الشعبي)، لتمرير فكرة المؤامرة إلى وعي الكثيرين، وبالتالي لتعميق الخوف، والسلبية لديهم. ويستفيد النظام أيضا من تأييد فئات واسعة من الشعب السوري لبعض المواقف الوطنية للنظام، في مجال السياسة الخارجية، وفي مقدمتها الموقف من القضية الفلسطينية، ودعم المقاومات العربية، والمفاوضات مع إسرائيل بغض النظر عن كونها تعبر عن مواقف مبدئية، أو إنها مجرد تكتيكات تؤمن له غطاء سياسيا لتحسين وضعه التفاوضي مع إسرائيل. ومن المهم في هذا المجال أيضا التذكير بالقبول الواسع لشخصية الرئيس في أوساط معينة من الشعب، والتفريق بينه وبين النظام، أو بينه وبين بعض الحاشية، لذلك عندما يجري الحديث عن الرئيس يذكر دائما بالإيجابية، اقتناعا أو خوفا، أما نقد الحاشية فبدأ يخرج عن نطاق الهمس. لذلك كثيرا ما نسمع على مستوى الشارع أعطوا الرئيس فرصة، فهو جاد للقيام بالإصلاحات المطلوبة في النظام، وهو ليس مسؤولاً عن كل ما تعاني منه سورية. 2-على جبهة المعارضة، أي جبهة الانتفاضة، والقوى السياسية المعارضة، فيمكن رصد عناصر القوة الآتية: أ-إن حراك الشعب السوري جاء في سياق الثورات العربية الجارية، مستمداً منها العزم على التظاهر السلمي، مقاوما خوفه، متحديا أجهزة أمنية لطالما أرهبته. الشجاعة والجرأة المستجدة هي عامل قوة لا يقهر. ب-إن قضية الشعب السوري هي قضية عادلة، إنه يريد الحرية والكرامة، وأن يحكم نفسه بنفسه في إطار نظام ديمقراطي يختاره بإرادته. إنه يريد أن يكون جزءا من العصر، فاعلا فيه، لا متخلفا عنه، وعبئا عليه. ت- إن الغالبية الساحقة من الشعب السوري تريد التغيير، وسئمت من النظام وفساده، لكنها لا تستطيع التعبير عن رغبتها هذه، لأسباب عديدة منها الخوف من النظام. ث-الانتفاضة في الشارع هي انتفاضة شعبية في حقيقتها، وفي دلالتها، وفي أهدافها، رغم محدودية المشاركين فيها، خلال هذه الفترة ، مع انها تمتلك كل الأسباب الموضوعية لكي تتحول إلى انتفاضة جماهيرية حقيقية، مع ذلك فإن الرمزية العادلة هنا عنصر قوة في مواجه قوة النظام الغاشمة. ج-الظروف الدولية، ومواقف الأطراف الفاعلة فيها، على اختلاف اتجاهاتها تصب جميعها في صالح عملية التغيير، وسوف يكون لها دورها المهم في إنجازها. بطبيعة الحال يحاول النظام الاستفادة من حساسية الشعب السوري تجاه تدخل القوى الخارجية في شؤونه الداخلية لتخويف قطاعات منه وشل إرادتها عن النزول إلى الشارع والمطالبة بالتغيير. لدينا إذا المعادلة الآتية، بين القوى الفاعلة على الأرض: النظام وأجهزته الأمنية من جهة، في مواجهة انتفاضة بعض جماهير الشعب في الشارع مدعومة من القوى السياسية المعارضة وبعض النخب الثقافية، مع بقاء الكتلة الرئيسية من الشعب صامته. تتعرض هذه المعادلة لتغيرات مستمرة لكنها بطيئة بعض الشيء. فاستخدام القمع وسقوط مزيد من الشهداء يشجع كثيرين على النزول إلى الشارع كاسرين حاجز الخوف. من جهة أخرى سحب الخيار الأمني من الشارع سوف يسرع كثيرا من نزول الناس إليه. هذا يعني أن النظام يبدو كبالع الموس، وهذا شيء طبيعي فهو المسؤول الأول عما آلت إليه الأوضاع في البلاد. في هذه المعادلة سوف يخسر النظام الاستبدادي في النهاية، ليس بالضرورة كما حصل في تونس او مصر، لكن السؤال هو حول الثمن الذي سوف يتم دفعه لقاء هزيمته؟ وهل ثمة قدرة على تحمله؟ ومن أجل تقدير هذا الثمن والبحث عن الخيارات التي يمكن أن تقلل منه، ينبغي التذكير بأن النظام سوف يقاوم حتى النهاية في حال تم حشره في الزاوية، وسوف يتسبب في دمار واسع في البلاد قد يصعب تحمله، وفي حال تم تحمله سوف يحتاج الشعب السوري ربما إلى عقود من السنين لتعويضه وتجاوزه. من جهة أخرى الشعب السوري كما هو واضح لن يتراجع عن مطالبه المحقة، وهو في كل يوم يمر، يكتسب عزيمة، وتصميما كبيرين، وهو مصمم على إنجاز التغيير مهما كلفه ذلك من ثمن. إن النظر في المعادلة على هذه الصورة الجامدة والحدية، يقود إلى استنتاج وحيد لا ثان له وهو أن الكارثة قادمة لا محالة، النصر فيها بالمعنى التاريخي هو هزيمة مدوية بالمعنى المباشر. ولا ينبغي لأي تحليل رصين أن يغفل عن احتمال أن يفرض توازن القوى على الأرض حالة من الجمود لأجل طويل من الزمن، هو بحد ذاته هزيمة مدوية للجميع. هنا لا بد من طرح السؤال الآتي: هل النظام كتلة صماء؟ ألا يمكن المناورة في خطاب سياسي مدروس على تفكيكه خلال زمن قد يطول قليلا لكن بثمن أقل؟ من جهة أخرى، توجد مخاطر حقيقة من احتمال انهيار الدولة، وهو احتمال تعمل عليه قوى خارجية عديدة. ثم ألا يعني انهيار الدولة الارتداد إلى البنى الأهلية؟!، بما يعني تمزيق النسيج الاجتماعي إلى كيانات طائفية سوف يصعب توحيدها لاحقا على أسس وطنية؟ هذه أسئلة مشروعة جدا لا ينبغي أن تتجاهلها القوى الوطنية الديمقراطية، وقوى التغيير في الشارع، تحت أي ذريعة كانت، لأن في تجاهلها تعبير عن تجريبية مدمرة ، وقصور سياسي لا يخدم طموح الشعب السوري إلى إنشاء نظام ديمقراطي، يؤسس لبناء دولة مدنية ديمقراطية عادلة. جوابا على السؤال الأول أقول بان ثمة همس بدأ يسمع في أوساط بعد الدوائر الفاعلة في النظام، بأنها ليست مستعدة للتضحية بكل المكاسب المادية والاجتماعية التي جنتها بطرق مختلفة اغلبها غير مشروعة من اجل الدفاع عن نظام هو في النهاية آيل للسقوط. لذلك فهي تضغط من أجل ملاقاة الشعب في بعض مطالبه التي صارت تصفها بالمشروعة. وهذه الدوائر يبدو أنها تدرك اليوم أهمية الإصلاح للمحافظة على بعض المكاسب المادية والأدبية التي جنتها، حتى لو خرجت من السلطة بعد حين في إطار مشروع إصلاحي حقيقي تشارك فيه(لقد تم تصفية هذا الاتجاه مع اغتيال خلية الأزمة، واعفاء فاروق الشرع من مهامه كنائب للرئيس). في الجهة الأخرى يلاحظ أن الحركة الاحتجاجية في الشارع تفتقر إلى القيادة التي تعبر عنها، وتبلور مطالبها بصورة مشاريع للتغير، فهي لا تزال تتحرك تحت شعارات عريضة، ليس بالضرورة أن تكون قراءتها واحدة أو متقاربة من مختلف القوى الفاعلة في الشارع. أضف إلى ذلك تأخرت القوى السياسية المعارضة عن تقديم رؤيتها للتغيير الوطني الديمقراطي المنشود، وشكل النظام السياسي الذي تسعى إليه. أمام هذا الاستعصاء الظاهر للخروج من الأزمة، التي تعصف بالبلاد، من جراء توازن القوى النسبي بين قوى النظام المختلفة وقوى المعارضة المختلفة، يتقدم إلى الواجهة المفتاح السحري للحل: وهو الحوار. والحوار هنا له معنى سياسي فقط، ولا يجوز تحميله أية حمولة أخلاقية، لأنه بطبيعته لا يستطيع حملها أو تحملها. وينبغي أن يكون واضحا أن الحوار لا يكون إلا بين أطراف مختلفة سواء في مصالحها، أو في رؤيتها لهذه المصالح، أو في طريقة دفاعها عن هذه المصالح. والحوار لا يعني دائما الوصول إلى حلول وسط، بل مساعدة المهزوم موضوعيا على تحقيق هزيمته فعلياً، بأقل ثمن يمكن أن يدفعه الطرف المنتصر، وربما الطرفين معاً. من الناحية الإجرائية أعلن النظام قبوله لمبدأ الحوار، في تراجع واضح عن نهجه السابق، وأعلن عن تشكيل وفد للحوار يضم في عضويته شخصيات رفيعة المقام في قيادته. لكنه مع ذلك لم يعلن عن مشروعه الإصلاحي الذي سوف يقدمه إلى طاولة الحوار، ولم يحدد القوى السياسية أو المجتمعية التي سوف يحاورها. من جهة أخرى، فإن قوى الانتفاضة الشعبية في الشارع لم تفرز قيادتها بعد، ولم تطرح برنامجها للتغير الوطني الديمقراطي. أما قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية بمختلف أطرافها ( التجمع الوطني الديمقراطي، قوى إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، تجمع الأحزاب الكردية، تجمع اليسار الماركسي(تيم)، والعديد من الأحزاب الأخرى غير المنضوية في إطار التحالفات السابقة، إضافة إلى النخب الثقافية المعارضة) كانت قد طالبت بالحوار منذ بداية حكم بشار الأسد، وهي التي طرحت شعار التغيير السلمي الآمن المتدرج، ولا تزال متمسكة به، رغم الظروف المستجدة، على الأقل خلال تلك المرحلة من انطلاقة الحراك الشعبي السوري. مع ذلك فإن هذه القوى مجتمعة بحاجة، في الظروف الراهنة، إلى تجاوز مرحلة الشعارات العريضة، التي كانت تتحرك تحت رايتها ولا تزال، وتنتقل لتقديم رؤيتها للتغير الذي تنشده، وتعلنه كورقة للحوار، أو على شكل مطالب. وربما هي بحاجة أكثر في هذا الظرف، لتشكيل لجنة تنسيق مركزية تعبر عن رؤيتها للمخارج الممكنة، والمحتملة من وضعية الاستبداد إلى وضعية الحرية والديمقراطية. في هذا المجال ثمة مساهمات مهمة لبعض النخب الثقافية، والنشطاء السياسيين المستقلين يمكن الاستئناس بها. في ضوء ذلك وخدمة لهذا الهدف السامي فإننا من موقعنا الثقافي والسياسي نود طرح الرؤية الآتية كخارطة طريق للحوار(لنقل للتفاوض) لتحقيق الانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي، بما يؤسس لبناء الدولة المدنية الديمقراطية العادلة، وهذا ما سوف نبحث فيه في الفصول القادمة. ( انظر في مبادرة الدكتور برهان غليون(24)، ومبادرتنا في " آفاق الزمن القادم"(25) وفي " بمثابة حل وطني..)(26). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 23-( http://www.youtube.com/watch?v=dEGIQB1hw4Q) تاريخ الدخول20/5/ 2011، و18/4/2018) 24-برهان غليون، حول المبادرة العربية، 28/10/2011، الحوار المتمدن، WWW.AHEWAR.ORG 25-منذر خدام، أفاق الزمن القادم، 5/3/2011، الحوار المتمدن، WWW.AHEWAR.ORG 26-منذر خدام ، بمثابة مبادرة وطنية للانتقال السلمي المتدرج والآمن من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي. الحوار المتمدن http://www.ahewar.org
#منذر_خدام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحلقة الثامنة..حراك الشعب السوري من الأمل بالتغيير إلى الكا
...
-
الحلقة السابعة..حراك الشعب السوري من الحلم بالتغيير إلى الكا
...
-
الحلقة السادسة-حراك الشعب السوري من الحلم بالتغيير إلى ال كا
...
-
الحلقة الخامسة-طبيعة النظام السوري وقابليته للاصلاح
-
الحلقة الرابعة...حلم التغيير للدولة والسلطة في سورية
-
الحلقة الثالثة..حلم التغيير للدولة والسلطة في سورية
-
حلم التغيير في الدولة والسلطة في سورية
-
نحن العرب قوم نجيد الانحطاط
-
خارطة طريق للحوار من أجل الخروج من الأزمة السورية
-
من أجل مزيد من الوطنية في المادرة الوطنية السورية
-
سأظل أمانع حتى آخر سوري
-
كان عليها ان تفشل
-
ثمان سنوات من عمر الأزمة السورية والمستقبل لا يزال مجهولا
-
لماذا اللامركزية والعلمانية ضروريتان لسورية
-
عقدة ادلب
-
السياسة الأمريكية الجديدة في سورية
-
قراءة متأنية في المرسوم (16) الناظم لعمل وزارة الأوقاف
-
من -أبو طشت - إلى - ابن العم - إلى - مانديلا سورية- ألقاب تب
...
-
- المعارضة السورية ودورها في هزيمة شعبها
-
هزيمة الشعب
المزيد.....
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
-
مدفيديف: لم نخطط لزيادة طويلة الأجل في الإنفاق العسكري في ظل
...
-
القوات الروسية تشن هجوما على بلدة رازدولنوي في جمهورية دونيت
...
-
الخارجية: روسيا لن تضع عراقيل أمام حذف -طالبان- من قائمة الت
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|