|
الحلقة الثامنة..حراك الشعب السوري من الأمل بالتغيير إلى الكارثة
منذر خدام
الحوار المتمدن-العدد: 6359 - 2019 / 9 / 23 - 21:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
1-مقدمة في الفصل الثاني تم تشخيص طبيعة النظام السياسي الذي بناه حافظ الأسد وحافظ عليه ابنه في سورية قبل تفجر الأـزمة، و جرى البحث في مدى قابليته للإصلاح، او التغيير من داخله، وتم استعراض بعض الإجراءات الاصلاحية التي اتخذها النظام، خصوصا في السنة الأولى من بدء تمرد قطاعات واسعة من الشباب السوري عليه، والتي لم تغير في جوهر سلوكه شيئاً، فبقي على حاله نظاما استبداديا أمنيا شديد المحافظة. في هذا الفصل سوف يتم البحث في الأسباب الموضوعية المباشرة لـ "ثورة " الشعب السوري على نظامه، في محاولة لتحديد طبيعتها من خلال النظر في حقيقة ما يسمى " الربيع العربي"، من خلال ثورة الشعب التونسي، وثورة الشعب المصري. 2- ثورة الشعب التونسي وقوة الالهام لقد فاجأت الثورة الشعبية في تونس، أو ثورة الشعب التونسي(هكذا ينبغي أن تسمى، لا ثورة الياسمين ولا غيرها من الأسماء)، ثورة الجماهير المقهورة والمظلومة على جلاديها، الجميع، على الأقل في جانبها الإجرائي، وهذا ما أضفى عليها أهمية استثنائية في الظروف العربية. من الواضح أن الثورة قد اندلعت بدون تخطيط مسبق، وبلا قيادة ميدانية في البداية، رغم ذلك فقد تميزت بالانضباط إلى حد كبير، رغم التشوهات التي حاولت عصابات النظام البائد إلحاقها بها، من خلال عمليات السلب والنهب والتخريب التي قامت بها تجاه مؤسسات عمومية وخاصة. ومن الواضح أيضا أن الأحزاب التونسية التقليدية بدت منذ اللحظة الأولى لشرارة الثورة التي أطلقها بوعزيزي بحرق نفسه، مأخوذة بالحدث وبسرعة انتشاره وتوسعة، مما جعلها تلهث وراءه، في محاولة لإثبات الذات وللحصول على بعض المكاسب، وهذا ما بدا واضحا في سرعة استجابتها لدعوة بعض رموز النظام البائد للمشاركة في الحكومة دون تبصر، وبدون الإصرار على تبني خارطة طريق واضحة للتحول إلى النظام الديمقراطي الحقيقي. لقد بدت هذه المحاولات المستعجلة من رموز النظام السابق لتشكيل الحكومة، واستجابة بعض أحزاب المعارضة لهذا المسعى، وكأنها محاولة للالتفاف على الثورة، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، بتغيير بعض المظاهر الديكورية لا غير. غير أن استمرار حركة الشعب في الشارع، تحت شعارات سياسية واضحة وموقفها الحاسم بأنه لا بديل عن الحرية والديمقراطية، ولا مساومة على بقاء رموز العهد البائد في السلطة، خلال المرحلة الانتقالية، شكل نوعا من استمرارية قوة الضغط على بقايا النظام التي لا تزال فاعلة، وممسكة بالعديد من مفاصل الدولة، وكذلك على قيادات الأحزاب المعارضة، التي سارعت إلى قبول دعوة الغنوشي الوزير الأول للمشاركة في حكومة انتقالية، مما دفع بعض رموز النظام لإعلان انسحابهم من حزب التجمع الدستوري، وكذلك لانسحاب أغلب وزراء المعارضة من الائتلاف الحكومي. هذا يعني بوضوح أن الثورة بلغت مرحلة النضج وبالتالي لن تسمح بالعودة إلى الوراء. لقد دشنت ثورة الشعب التونسي على نظام بن علي الاستبدادي، حقبة تاريخية بالنسبة لجميع الشعوب العربية، سوف تؤرخ وتعاير بالقياس إليها جميع الأحداث التي سوف تجري، بلا أدنى شك، بهذا الشكل أو ذاك، في جميع الدول العربية. إنه النموذج العربي لثورة الشعوب على جلاديها، وهو نموذج أصيل بكل المعاني، وسوف يشكل موضوعا للتأمل والدراسة والاستلهام لفترة طويلة، خصوصاُ في وطننا العربي. لقد قدمت الثورة التونسية مجموعة من الدروس البليغة والمعبرة نذكر منها: الدرس الأول؛ هو أن الطبيعة الاستبدادية الأمنية للنظام التونسي لم تحمه من السقوط السريع. أهمية هذا الدرس تكمن في خصوصيته. مع ذلك ففي هذه الخصوصية الكثير مما يقبل التعميم على اوضاع أخرى مشابهة، ويبدو لي أن الشعوب العربية سرعان ما سوف تستوعب الدرس، وتستخلص منه العبر. الدرس الثاني؛ هو أن رهان زين العابدين بن علي على الجيش التونسي لكي يحمي نظامه الاستبدادي لم يكن في محله. لقد رفض قادة الجيش طلبه بتوجيه سلاحهم إلى الشعب، وفي لحظة من لحظات تفكك النظام، حسم الجيش خياره ، ووجه سلاحه إلى النظام ذاته، وأخذ يطارد أقرباء بن علي وحاشيته، وفلول ميليشياته. وهذا الدرس هو الآخر قابل للتعميم، ويمكن الرهان عليه في ظروف مشابهة. الدرس الثالث؛ إن إفراغ المجتمع من السياسة، من جراء تعميم القمع واستمراره، ومطاردة الخصوم السياسيين، وتوزيعهم على السجون أو المنافي، لم يعد صالحا للمحافظة على بقاء الأنظمة المستبدة. الدرس الرابع؛ إن الحزب "المليوني" الذي يشكله المستبد على شاكلته، وكذلك المنظمات الأهلية والمدنية والنقابية، التي يحولها الاستبداد إلى مجرد أجهزة بعد قتل الروح النقابية فيها، سرعان ما ترتد عليه في لحظة من لحظات السقوط لتعجل به. الدرس الخامس؛ من الواضح أن الثورة التونسية قد فاجأت الدول الغربية، وحصلت خارج أجندتها، مع ذلك فهي تحاول ضبط إيقاعها وتحديد اتجاها. لقد تبين بالملموس أن القوى الغربية التي تدعي حمل راية الحرية والديمقراطية، قد فضحت الثورة أمرها، وإنها في مجمل الأحوال لا تهتم سوى بمصالحها التي تؤمنها القوى المستبدة وحدها، أو نظام ديمقراطي من حيث الشكل، كما كان عليه نظام بن علي، وكما هو حال أغلبية الأنظمة العربية، يعيد إنتاج الاستبداد باستمرار. الدرس السادس؛ إن التضحيات التي قدمها الشعب التونسي، والقوى السياسية المعارضة، لم تذهب هدراً، لقد كانت بمثابة الوقود الذي جعل شعلة الحرية والديمقراطية متوهجة. يشكل هذا الدرس رسالة لجميع الأنظمة العربية المستبدة، تقول بوضوح العبارة: لم يعد ينفع معكم محاولاتكم الخائبة تشويه سمعة المناضلين في سبيل الحرية، والديمقراطية، والتنمية الوطنية في بلدانكم، بإلصاق تهمة العمالة للخارج بهم، فالثورة التونسية قد برهنت على أن هذا الخارج هو حليفكم والداعم لكم في مواجهة شعوبكم. من جهة أخرى، يشكل هذا الدرس رسالة واضحة أيضاً، لجميع القوى السياسية في عالمنا العربي التي راهنت، وربما لا تزال تراهن على الغرب لكي يضغط على الحكام العرب من أجل إجراء تغييرات في بلدانهم، أو في الحالة القصوى لكي يصنع التغيير بنفسه، كما حصل في العراق. الدرس السابع؛ لقد راهنت الأنظمة الاستبدادية العربية كثيرا، على تحييد دور الشباب في المجتمع، من خلال تسطيح وعيهم، والسيطرة على منظماتهم، ومؤسساتهم التعليمية. غير أن الثورة التونسية جاءت لتؤكد زيف هذا الرهان، ولتعيد الاعتبار للدور التاريخي للشباب. الدرس الثامن؛ وهو موجه إلى الحكام العرب، تقول فيه الثورة التونسية عليكم ان تنظروا وتتعظوا من تجربة زين العابدين بن علي، إذ رفض أقرب أصدقائه له( الفرنسيون) استقباله، كما رفضت إيطاليا ومالطا وغيرها ذلك، رغم ملياراته وأطنان الذهب التي سرقها من بلده، ولسان حالهم يقول: لقد انتهى دوره. ثم هم لا يستطيعون تجاهل شعوبهم، كما تفعلون. على الأرجح لن تستفيدوا من هذا الدرس ولن تستخلصوا العبر منه، إذ في السابق مرت أمام أعينكم عبر مماثلة شديدة الوضوح فلم تتعظوا. إن دروس الثورة التونسية كثيرة و بليغة في تعبيرها، وفي قوة الالهام التي أطلقتها، وليس من شك في أنها سوف تصل إلى غاياتها وأهدافها رغم كل العقبات التي لا تزال تعترضها، وأن تحقق لتونس الخضرا ولشعبها الحرية، والديمقراطيةـ وبهما تفتح طريق التنمية الشاملة. إن أهمية الثورة التونسية تكمن في قوة الالهام التي أطلقتها، والتي تتجاوز حدود تونس إلى الوطن العربي بأكمله، وهذا ما سوف يضاعف كثيراً من حجم المؤامرات عليها، لإجهاضها، أو تفريغها من مضمونها، إذ من غير المسموح في الاستراتيجيات الغربية حصول أي مناخ من الحرية والديمقراطية يمكن أن يعيد إلى السلطة قوى سياسية يكون همها التنمية الوطنية، أو يفسح في المجال لخيارات سياسية معبرة حقيقة عن إرادة الشعوب العربية. لذلك من الأهمية بمكان في هذه المرحلة الانتقالية ليس التركيز على هذا الشخص، أو ذاك، من حزب بن علي، ولا ينبغي في مجمل الأحوال التركيز على حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، بل على الإصلاح السياسي الجذري، بدء من إصلاح الدستور، بما يؤسس لدولة مؤسسات حقيقية، لا تسمح بعودة الاستبداد مرة أخرى. لا ينبغي تكرار الخطأ الذي وقع فيه العراقيون وذلك بحل حزب البعث ومؤسسات الدولة، التي كانت قائمة في عهد صدام حسين، باعتبارها مؤسسات حاملة للاستبداد، مما كلف شعب العراق كثيراً من الجهد والمال، مع أن هذا الخطأ كان مقصودا ومفروضا عليهم من الدولة الغازية. لا يجوز ديمقراطيا الوقوع في السلوك المستبد ذاته بإقصاء الآخرين المختلفين، حتى لو كانوا من حزب المستبد ذاته، بل ينبغي طمأنة جميع القوى الاجتماعية والسياسية التونسية، أنه في ظروف الحرية والديمقراطية، ودولة القانون والمؤسسات تتاح فرص متساوية للجميع ليؤدي كل منهم دوره، وليدافع عن مصالحه. بطبيعة الحال هذا لا يعني تطبيق القاعدة ذاتها على من ارتكب أفعالا جرمية جنائية بحق الشعب، في هذه الحالات ينبغي تحكيم القانون وعدم التساهل معهم. لقد تلقت الجماهير العربية الثورة التونسية بفرحة عارمة، وتعاطف وتضامن شديدين، بل حاول بعض العرب تقليد بوعزيزي في احتجاجه على الظلم الذي لحق به، على أمل أن تشتعل الثورة في بلدانهم. ثورة الشعب التونسي سوف تغير من حالة الشعوب العربية، وعلى الأرجح فإن كل منها بحسب ظروفه سوف يهتدي إلى طريقة مناسبة للضغط على الحكام المستبدين، من اجل إجراء إصلاحات سياسية حاسمة في أنظمة بلدانها السياسية، وإلا فإن الثورة عليهم قادمة. ومن جهة أخرى تلقى الحكام العرب الثورة بخوف وتوجس شديدين، وإن حالهم بعد الثورة التونسية هو غيره بعدها. منهم من اخذ يتشدد في إجراءاته الأمنية، ومنهم من حاول التظاهر بتجاهل الثورة، مع أنه في حقيقة الأمر سوف يكون مشغولا بها حتى في نومه، ومنهم من بدأ يلاقي بعض مفاعيلها باتخاذ بعض الإجراءات الاقتصادية من قبيل تخفيض أسعار بعض السلع الغذائية، أو تقديم الدعم والمنح هنا أو هناك. ما نود قوله لهم: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولا بديل بعد اليوم عن الحرية والديمقراطية والتنمية الشاملة. 3-عندما ينكشف المستور " لماذا التاريخ لا يفتح سوى باب واحد لحكام الدول العربية، هو الباب المفضي إلى نفاياته ، رغم كل الألقاب المهيبة التي يمنحوها لأنفسهم ( المهيب، حكيم الأمة، القائد، الزعيم.....)، ويرغمون شعوبهم على تردادها مصحوبة بالروح بالدم... حتى صدقوها هم أنفسهم"؟!! كثيرا ما طرح هذا التساؤل كنوع من الاستنكار لبقاء الحكام العرب في كراسيهم طيلة حياتهم، بل ومحاولة توريث الكرسي بعدهم لأبنائهم . لكن الثورة التونسية ومن بعدها الثورة المصرية على وجه الخصوص جعلت كراسي الحكام العرب غير ثابتة، فها هي أصوات الملايين تصدح عالية : تريد الحرية.. تريد الديمقراطية .. تريد الكرامة .. تريد إسقاط الأنظمة الفاسدة ومحاسبتها، صارت أقوى من كراسيهم. إنهم غالبية الشعوب العربية، التي سئمت معالجة المنكرات بأضعف الإيمان، فأعملت فيها عقولها وأيديها. لقد فتح البوعزيزي، وخالد سعيد، و وغيرهما من شهداء ثورة الشعب في تونس وفي مصر الباب الآخر للتاريخ، الباب المفضي إلى المجد، بعد أن كان قد انتهى من تعبيد الطريق إليه عشرات الآلاف من المناضلين العرب في سبيل الحرية، والديمقراطية، والكرامة، والتنمية الوطنية، الذين زجت بهم أنظمة الاستبداد العربي في غياهب السجون خلال العقود الماضية. لقد كشفت ثورة الشعب العربي التونسي، وكذلك ثورة الشعب العربي المصري المستور عن الحكام، وأجهزتهم، وأدواتهم، فظهر تحته لصوص وعملاء وقتلة، سرقوا خيرات بلادهم، ورهنوا بلدانهم لمشيئة الخارج، وسلطوا كلابهم، وأدوات قمعهم على المثقفين، والمفكرين، والعلماء والإعلاميين، وطلاب العيش بكرامة.... على كل ما يكون عقل الأمة وإرادتها الحرة. لقد صار معلوماً حجم ثروة بن علي وحاشيته وعائلته، المنهوبة من عرق وجهد الشعب التونسي، والتي تفوق حسب بعض التقديرات بضع عشرات من المليارات من الدولارات المهربة إلى الخارج. كما صار معلوما حجم ثروة مبارك في مصر، وعائلته، وحاشيته في مصر، التي فاقت المديونية العامة لمصر. ومنذ بعض الوقت، وبعد أن كشف المستور أيضا، تتداول أوساط سورية واسعة أكاديمية، وغير أكاديمية بعض الأرقام عن الأموال التي هربت من سورية خلال العقود الأربعة الماضية، والتي تبلغ نحو 135 مليار دولار. وتتداول هذه الأوساط أيضاً أرقاماً عن ثروة رفعت الأسد، وعبد الحليم خدام التي هرباها إلى الخارج، والتي تقدر بالنسبة للأول بأكثر من عشرة مليارات دولار، وللثاني بنحو بضعة مليارات، ولا شك بأن المستور أعظم بكثير.. لقد صار أي تونسي أو مصري يدرك اليوم، بل وكل عربي على امتداد الوطن العربي سبب البؤس والشقاء الذي يعانيه، ففي كل قطر عربي ثمة زين وحسني وقزافي....وثمة طرابلسي، واحمد عز، وجمال، وسيف، ورفعت وغيرهم. والأهم انه أصبح يدرك أكثر أيضا، أن حريته وكرامته المستردة، لا تقدر بكل ثروة بن علي، ومبارك، وعائلتيهما، وزبانيتهما، وثروات أمثالهما من الحكام العرب. لقد ظن حكام الدول العربية المستبدون أن باستطاعتهم إبقاء شعوبهم كائنات بيولوجية فحسب، غير أن البوعزيزي ورفاقه من شهداء ثورة تونس، وانتفاضة شعب مصر كشفوا المستور عن الشعوب العربية ، فتبين تحته ثوار كبار، وحكماء عظام، وإرادات لا تلين، إنهم الشباب الذين لم تلوثهم السياسة الاستبدادية الحاكمة، أو المعارضة، إنهم صناع المستقبل الحر الكريم، المستقبل الذي " يسمح لي بممارسة حقي بالانتخاب بحرية كاملة" على حد قول المخرج الكبير الراحل عمر أميرالاي. كم كان حلمة متواضعا في ظاهره، لكنه كم كان عظيماً في مغزاه. لقد ارتفعت الأصوات عاليا في وجه الاستبداد مطالبة بالحرية والديمقراطية و ممارسة الحق في الانتخاب بحرية، فهي تريد أن تكون مناصب الدولة وظائف مسؤولة لا امتيازاً، وتريد من اللذين يتولوها أن يكونوا جديرين بها، أناس عاديون من أمثال وائل غنيم، أو نوارة نجم، أو هشام مرسي وغيرهم. إن ثورة الشعب التونسي، وخصوصا انتفاضة الشعب المصري المؤسسة لثورة عظيمة من ثورات التاريخ، قد فتحتا حقبة جديدة في تاريخ المنطقة العربية وشعوبها، سوف يتجاوز تأثيرها حدود إقليمها إلى مناطق أخرى في العالم، وذلك لأنها أولا ثورات شعبية بكل معنى الكلمة، وقد اندلعت خارج أية أجندة أيديولوجية ثانياً، ، وقد تميزت بانضباط عال، وسرعة في التنظيم مذهلة ثالثا، وقد شكل الشباب متسلحين بالتكنولوجيا الحديثة محركها الأقوى رابعا، وهناك كثير غيرها مما يمكن عده لهذه الثورات لم يكن متوفراً في ثورات أخرى. إن ثورة من هذا الطراز وبما تملكه من قوة الهام كبيرة من الصعوبة أن تبقى ساحة وطنية عربية عصية عليها. 4-ثورات " الربيع العربي" محاولة للفهم. من الفضائل الكثيرة للثورة في تونس وخصوصاً، للثورة في مصر أنها خلقت موضوعا جديداً، لكثير من المشتغلين في الحقل الفكري والسياسي، سوف يشغل فراغاتهم العقلية المتسعة، ويعيد السيولة إلى محابرهم التي كادت أن تخثر لقلة الاستخدام، أو يبهت لون السائل فيها لكثرة اجترار المنهجيات القديمة في مقاربة قضايا الثورة في كلا البلدين، وكذلك الانتفاضات الشعبية في بلدان عربية أخرى. وأكثر من ذلك فهي قد خلقت موضوعات كثيرة ومتنوعة للعاملين في مجال الإعلام، والأدب، والفن، وفي مجال العلوم الاجتماعية المختلفة، فالثورة لا تكون كذلك إذا لم تشغل جميع حقول المعرفة والسلوك على حد سواء. وبالفعل لا تخلو وسيلة إعلامية من أخبار الثورات العربية، وهي تلهث لتوصيف ما يجري، وتكاد تكون الصفحات الثقافية في وسائل الإعلام المكتوبة قد حجزت للكتابة عن هذه الثورات لأمد طويل في المستقبل. ومما لا شك فيه أيضاً بأن الدوريات الفكرية تستعد لتخصيص أعداد غير معروفة من إصداراتها عن هذه الثورات والقضايا التي أثارتها، وإن مؤلفي الكتب قد وجدوا عملا إضافياً. وبالانتقال إلى حقول التفكير اليومي، فإن قضايا الثورة صارت الموضوع الوحيد تقريبا الذي تنعقد حوله مسايا الناس وحلقات سمرهم، ولأول مرة صارت تزاحم موضوعات الحب، والصداقة في خلوات العشاق، وتنافس الدروس على الفوز بالوقت لدى التلاميذ، والطلاب في المدارس والجامعات. باختصار صارت الثورة قضية الجميع. وحتى لا نبتعد عن ميدان التفكير الهادئ والرصين، إلى فضاء الشعارات الصاخب، بودي أن أعرض في هذه المبحث نوعا من التفسير لأسباب قيام الثورة في تونس، وفي مصر، وفي سورية، وفي غيرها من الدول العربية. لكن قبل ذلك لا بد من تسجيل الملاحظات الآتية: الملاحظة الأولى؛ كثرت الحوارات في الآونة الأخيرة، حول الثورة في تونس وفي مصر، وفي سورية، وحول الانتفاضات الشعبية في العديد من الدول العربية، حول أسبابها ونتائجها المحققة والمحتملة، حول أدواتها، وقابليتها للتعميم في ظروف أخرى. البعض يعد مسألة الفقر، وسوء توزيع الثروة، وانتشار البطالة، هي التي حركت الجماهير لكي تثور على حكامها. وبعض آخر يحسب مسألة استعادة الكرامة المهدورة هي السبب. وفئة ثالثة تجد في قضية فلسطين وما تعرض له الفلسطينيون من مجازر وإذلال السبب. وهناك من وجد في الهيمنة الأمريكية سبباً.. بلا شك أن لجميع هذه القضايا حضورها ودورها في الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت الدول العربية في موجتها الأولى بدرجات مختلفة، وهي حاضرة اليوم أيضا في موجتها الثانية( الجزائر والسودان ومصر). لكن السبب الأكثر عمومية من وجهة نظرنا يكمن في طبيعة النظام السياسي في الدول العربية، ودخوله في تناقض كارثي مع ضرورة تطور هذه الدول. الملاحظة الثانية؛ بما أن الثورة في مفهومها النظري هي عملية مستمرة، وليست حدثاً أو أحداثا منفصلة، فمن المبكر أن تكشف الثورات العربية المشار إليها عن خباياها، وعن ممكناتها النظرية، لذلك فإن مقاربتنا الفكرية لها سوف تكون مفتوحة على أي تعديل، يرقى إلى مستوى التعميم النظري، يمكن أن تكشف عنه هذه الثورات في سياق تحققها التاريخي. وبعد ينبغي الاعتراف، بداية، أن الأدب الماركسي يكاد يكون الأدب الوحيد الذي تحدث عن الثورة بالمعنى الاجتماعي، ورغم وحدة مرجعياته إلا أنه شهد تنوعا كبيراً في معالجاته النظرية لمفهوم الثورة، ومارس معتنقوه تطبيقات عملية هي الأخرى كانت متنوعة، ليتبين لا حقاً، في امتحان التاريخ، أنها لم تكن ثورات بالمعنى الماركسي للثورة، أي إنها لم تؤدي إلى قطع بنيوي مع الرأسمالية، بل إلى تطويرها فقط. تحصل الثورة بحسب الفهم الماركسي عندما يحصل تناقض كارثي بين مستوى تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج السائدة، يؤسس بدوره لتناقض كارثي بين ما اصطلح على تسميته بالبناء التحتي والبناء الفوقي بمستوياته المختلفة السياسية والاجتماعية والأيديولوجية. في التطبيق العملي لهذا المفهوم اختلف لينين عن ماركس إلى حد التفارق. لقد رأى ماركس أن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية( أي حصول الثورة بالمعنى البنيوي على حد قول مهدي عامل) يحصل عندما تستنفذ الرأسمالية قدرتها على تطوير قوى الإنتاج. في فهمنا لهذا القول ما يعني، من ضمن معانيه، امتداد الثورة على كامل الزمن البنيوي للتشكيلة هذا أولا، وثانياً إن حصول لحظة القطع بين تشكيلة وأخرى عملية صيرورة هي الأخرى ممتدة على كامل الزمن البنيوي للتشكيلة. بمعنى آخر إن مفهوم الثورة يطابق في داخله بين عملية نمو وتصير التشكيلة، ونمو وتصير نقيضها إنما في اتجاهين مختلفين. لقد تحدث ماركس عن الثورة بالمعنى البنيوي(أي كعملية انتقال من تشكيلة اجتماعية اقتصادية إلى تشكيلة أخرى أرقى منها)، ولم يتحدث عن الثورة بالمعنى التطوري. من جهته لينين خلط بين الثورة بالمعنى التطوري (السياسي) والثورة بالمعنى البنيوي، وعد الأولى عملية خلق للثانية، فاخضع بذلك الثورة لفعل إرادي فج، متوهما أنه يمكنه أن يلوي عنق التاريخ. يقول لينين وهو يساجل المناشفة: " إذا كانت الثورة الاشتراكية تتطلب وجود مستوى ثقافي معين، فلماذا لا نخلقه بطريقة ثورية". مفهوم الثورة بالمعنى التطوري كان غريباً على الماركسية التقليدية(المدرسية)، لكنه يمتلك جميع المقومات لكي يحافظ على تطويره من داخلها. ثمة إشارات جزئية إليه يمكن ملاحظتها عند كاوتسكي في تركيزه على أهمية الاكتشافات العلمية، وولادة الفروع الاقتصادية الجديدة، في خلق فضاء أرحب بحدود مرنة نسبياً، لتطور النظام الاجتماعي الرأسمالي. مثل هذه الإشارات يمكن ملاحظتها عند روزا لوكسمبورغ، في دور الفضاء السياسي المفتوح(الديمقراطية) في تطور الرأسمالية، وعند غرامشي في دور الأيديولوجيا المنفتحة في قراءة مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة، وعند مهدي عامل في الاستقلالية النسبية لمستويات البناء الاجتماعي، الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، وتحذيره الشهير من اعتبارها مساقط بعضها لبعض الآخر. هذه الثورة تحصل في داخل الزمن البنيوي للتشكيلة، دافعة إياها للانتقال من وضعية إلى وضعية أخرى، أي أنها تعمل على تطويرها. فالتطور الداخلي للتشكيلة يحصل دائما على شكل ثورات تطورية، لكل منها زمنه السياسي، الذي يطول أو يقصر بحسب كون المستوى السياسي مفتوحا على التغير المرن(كما في حال الأنظمة الديمقراطية) أو معرضا للجمود كما في حال الأنظمة الدكتاتورية أو الاستبدادية. تتحدد الثورة التطورية إذا بالعلاقة مع المستوى السياسي الذي فيه بالضبط تعبر مصالح الناس عن نفسها، وهذا المستوى هو الذي بطبيعته يقبل الجمود أكثر من غيره من المستويات التي تخترق، وتشكل الزمن البنيوي للتشكيلة. وعندما يجمد هذا المستوى أو يفقد مرونته فإنه يعمل على دفع بقية المستويات إلى الجمود، من خلال تزايد الضغط عليها. لكن وبالنظر إلى الاستقلالية النسبية لمستويات التشكيلة، فإن بعضها يفقد مرونته بسرعة أكثر من غيره. مثلا يستجيب المستوى الأيديولوجي لجمود المستوى السياسي أكثر من المستوى الاقتصادي، هذا على صعيد مستويات البناء الفوقي. أما على مستوى البناء التحتي فإن العلاقات الخاصة بإنتاج الإنسان ككائن ثقافي، أكثر قابلية للجمود، من علاقات الإنتاج المادي وهكذا دواليك. يمكن التعبير عن آلية تحقق ذلك على الشكل التالي: في سياق تفاعل الإنسان مع الطبيعة فإنه يخلق ما نصطلح على تسميته بالوسط الصناعي الملائم لإشباع حاجاته. الوسط الصناعي يحتوي على قوى الإنتاج، وعلاقات الإنتاج وشروط الانتاج المختلفة، بما فيها من أشكال لتنظيم الوجود الاجتماعي، وأشكال الوعي المطابق لها. من جهتها الحاجات متنوعة كثيراً، وهي تشمل الحاجات المادية، والثقافية، والنفسية، وغيرها. تتحدد العلاقة بين الحاجات والوسط الصناعي على شكل قصور نسبي في الوسط الصناعي بالمقارنة مع الحاجات. فالحاجات تتقدم دائما على ممكنات إشباعها في الوسط الصناعي، مما يدفع مكونات الوسط الصناعي للتفاعل مع الوسط الطبيعي، لتحويل ما هو ممكن فيه إلى وسط صناعي جديد يلاءم إشباع الحاجات، وما إن يتحقق لها ذلك حتى تقفز الحاجات إلى وضعية جديدة، لتبدأ من جديد عملية تفاعلية جديدة وهكذا دواليك. إن ما ينتج عن عملية تفاعل الوسط الصناعي مع الوسط الطبيعي بداية هو مركب معقد من الأفكار التي سرعان ما تبحث عن تحققها في قوى إنتاج، وعلاقات إنتاج، وشروط إنتاج جديدة. تتميز هذه الأوالية العامة بالموضوعية، بمعنى أنه لا يمكن إيقافها، فهي تتعلق بوجود الإنسان ذاته. فلكي يوجد الإنسان ككائن بيولوجي أولا، وككائن ثقافي ثانيا، عليه أن يستهلك( أن يشبع حاجاته)، ولكي يستهلك عليه أن ينتج ما يستهلكه. مع ذلك فإن هذه العملية الموضوعية تتعرض لتشوهات كثيرة، بسبب اختلاف، وتباين مصالح الفواعل الاجتماعية، سواء تجاه الاستهلاك أم تجاه الإنتاج، وهذا ما يظهر أولا في المستوى السياسي على شكل جمود. ومع استمرار الجمود في هذا المستوى يتشكل ضغط متزايد على الوسط الصناعي، مما يدفعه في لحظة معينة إلى الانفجار دافعا أمامه المستوى السياسي إلى التغير، وإذ يتغير فإنه يؤسس لتفاعل جديد بين الوسط الصناعي والوسط الطبيعي ينجم عنه إشباع الحاجات الجديدة. إن ما حصل في تونس وفي مصر، وفي سورية يشكل نموذجا كاملاً للثورة التطورية، سوف ينقل الرأسمالية إلى مستوى جديد من التطور. في العقود الأخيرة حصلت تطورات نوعية على الوسط الصناعي خصوصا في مستوى تطور قوى الإنتاج ، فدخلت الآلة الحديثة جميع الميادين مسببة إزاحة كبيرة لقوة العمل غير المؤهلة مما زاد في أزمة التشغيل، فكثر العاطلون عن العمل. إضافة إلى ذلك فإن نهج التنمية المتبع المعتمد أساسا على الاستثمار المكثف لرأس المال لا يتيح فرصاً لاستيعاب العمالة الوافدة الجديدة من خريجي الجامعات فكثرت البطالة في وسط الخريجين الذين يتميزون بالنوعية، مما فاقم كثيرا من أزمة التشغيل العامة التي لم تعد تقتصر على العمالة غير المؤهلة بل شملت أيضا العمالة المؤهلة. إن أولى النتائج المترتبة على تفاقم أزمة التشغيل تزايد حالة الفقر في المجتمع. أنظر الجدول(1). ومما يفاقم من هذا الوضع معدلات الإعاشة العالية، التي لا تقل عن ثلاثة أشخاص لكل شخص عامل، وقد تزيد عن ذلك في بعض الدول العربية وذلك بسبب تزايد عدد السكان الذين هم دون سن التشغيل. تبين بعض المعطيات أن عدد السكان في الدول العربية الذين هم دون سن العشرين يزيد عن 50 % من عدد السكان الإجمالي. غير أن السبب الأكثر أهمية في تفاقم ظاهرة الفقر في الدول العربية يكمن في سوء توزيع الثروة، واستغلال الدولة لتحقيق كسب غير جدول(1) معدلات الفقر في بعض الدول العربية بالقياس إلى خط الفقر الوطني البلد معدل الفقر % من السكان في عام 2009 نسبة الفقراء من السكان في عام2015 نسبة الفقراء المدقعين من السكان في عام 2015 الأردن 13.3 14.4 5.7 تونس 10 15 5.5 الجزائر 40 23 8.7 السودان 45-90 46.5 25 سوريا 33 35.2 30 الصومال 75 73 40 العراق 40 25 22 لبنان 8.4 28.6 7.1 ليبيا 20 33 8 مصر 40 25.2 13.7 المغرب 15 15 8.7 موريتانيا 70 42 22.1 اليمن 45 54 35 المصدر: http://www.irfaasawtak.com و http://www.sasapost.com و http://www.ar.wfp.org تاريخ الدخول 13/4/2018 (يمكن العودة إلى برنامج الأمم المتحدة الغذائي، وإلى تقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والنشرة السنوية حول الفقر في العالم تصدرها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وغيرها من تقارير وطنية.) مشروع، من خلال تعميم ظاهرة الفساد. لقد بينت الثورة التونسية وكذلك الثورة المصرية حجم الأموال الهائلة التي استحوذ عليها الحكام وحاشيتهم في هذين البلدين، والتي يمكنها في حال استثمارها في صالح شعوبهما أن تقضي على ظاهرة الفقر وتؤمن تشغيلا كاملا لقوة العمل فيهما. يكاد يكون الوضع ذاته في جميع الدول العربية. ففي سورية مثلا نحو 60% من الناتج الوطني يذهب كحصة للأرباح والريوع (أي لـ10% من السكان) في حين يذهب 40% لتغطية حصة الأجور والرواتب( أي لـ 90% من السكان). ما نود قوله أن التناقض بين الحاجة للعمل وممكنات التشغيل المتاحة في الوسط الصناعي، أخذ بعداً كارثياً لا يمكن تسويته إلا بإزالة المستوى السياسي الذي يحول دون تحقيق ذلك. الوجه الأخر لهذا التناقض يكمن في زيادة حدة الاستقطاب في المجتمع، بين الفقراء والأغنياء، بين الذين يكسبون من عملهم، وبين الذين يكسبون بوسائل سياسية، وهو أيضا قد أخذ بعدا كارثيا لا يمكن تسويته إلا بإزالة المستوى السياسي المسؤول عنه أيضاً. عند هذا المستوى من التحليل نستنتج أن المطالب المعيشية على اختلافها كانت من الأسباب الرئيسة لاندلاع الثورة في تونس وفي مصر، وهي حاضرة أيضا في انتفاضة الشعب السوري، وفي جميع الانتفاضات الجارية في بعض الدول العربية، وسوف تكون حاضرة أيضا في الانتفاضات المحتملة في الدول العربية الأخرى. من جهة أخرى، فإن المطالب المعيشية قد ولدت نوعاً أخر من المطالب المرتبط بها، مثل تحديد خيارات العيش، وطرق تحقيقها، والمشاركة في تأمين الظروف اللازمة لإشباعها. بكلام آخر صارت المطالب في تحسين إدارة الدولة، والمشاركة فيها، ومحاربة الفساد ملحة كثيراً، خصوصا وإن تحقيقها كان يصطدم دوما بجمود المستوى السياسي، الذي يقوم على رعايته حلف طغموي بين المال والقوة. لقد استخدم نظام الطغمة الفساد كأسلوب في إدارة الدولة والمجتمع، بحيث لم يعد بالإمكان تسيير أي شأن من شؤون الدولة والمجتمع إلا عبر آليات الفساد، فأزيحت القوانين إلى الرفوف، أو تقدمت قراءات لها تخدم آليات الفساد. في هذا المناخ المعمم غابت فكرة وأخلاقيات القانون، وحلت محلها منظومة قيم وأخلاق الفساد. من الزاوية المجتمعية فإن الطبقة الوسطى كانت أكثر الفئات الاجتماعية تضررا من الفساد، وبالنظر إلى مستوى وعيها المرتفع نسبيا، فقد كانت شديدة الحساسية تجاهه، مما دفعها إلى مقدمة المطالبين بمحاربته، وإعادة بناء الدولة على أسس القانون والعدالة. بكلام آخر فإن الحاجة إلى بناء دولة القانون والعدالة وصلت إلى حد التفارق الكارثي مع ممكنات تحققها في الوسط الصناعي بسبب طبيعة وجمود المستوى السياسي، الأمر الذي جعل من مهمة إزالته في مقدمة مطالب الحركة الاجتماعية في الدول المشار إليها. " ليس بالخبز وحده يحي الإنسان"، فالخبز يحافظ عليه ككائن حي، لكنه لا يحافظ عليه ككائن ثقافي. بكلام آخر ثمة حاجات كثيرة من طبيعة غير مادية، مثل الحاجة للتقدير، الحاجة للكرامة، الحاجة لتأكيد الذات والمنافسة، الحاجة للسكينة والاطمئنان، الحاجة إلى الحلم والسعي في سبيله، وكثير غيرها من الحاجات المعنوية والنفسية. جميع هذه الحاجات كانت تصطدم بعدم قابلية الوسط الصناعي لتحقيقها بسبب جمود المستوى السياسي، وضعف مرونة بقية مستويات البناء الاجتماعي بسبب منه. لقد تحول الإذلال إلى نهج عام في المجتمع، يمارسه السياسي، و المسؤول الحكومي، في مختلف مستويات الدولة وأجهزتها، من الشرطي إلى الوزير، وما فوق الوزير، تجاه جميع المواطنين، ويمارسه أصحاب رؤوس الأموال تجاه مستخدميهم، بحيث لم يعد ثمة من فسحة في المجتمع لا يتم فيها امتهان كرامة الناس بدرجات مختلفة. ويتحقق كل ذلك عبر آليات الرشوة والسرقة المكشوفة أو المستترة، وكذلك من خلال منع أية إمكانية للاحتجاج. بعبارة أخرى حصل نوع من التناقض الكارثي بين الحاجة إلى تأكيد الذات وبين ممكنات تحقيق ذلك في الوسط الصناعي. وقد زاد من حدة هذا التناقض انتشار التعليم وإحساس الفئات الوسطى بالمهانة، الأمر الذي جعل من مهمة التغيير قضية من قضايا الثورة التونسية والمصرية، والسورية، وهي حاضرة بقوة في الانتفاضات العربية الأخرى. هناك حاجات تتجاوز الحدود الفردية إلى ما يسمى بالإنسان الجمعي، حاجات من طبيعة وطنية وقومية وإنسانية عامة، بعضها يتعلق بمصالح البلد، وكرامة البلد، واستقلال سياساته، وبعضها الأخر يتعلق بدور البلد . هذا النوع من الحاجات لعب دورا مهما في ثورة تونس، وخصوصا في ثورة مصر، وسوف يكون حاضرا في ثورات أخرى على الطريق في دول عربية أخرى. لقد حول النظام السياسي المصري مصر من دولة قائدة، من دولة فاعلة ومقررة في إقليمها، وعلى الصعيد العالمي، من دولة ترعى مصالحها ،وتدافع عن مصالح العرب، إلى دولة تابعة، منكفئة على ذاتها، لا دور لها. وأكثر من ذلك صارت تتلقى الإذلال يوميا من قبل أمريكا وإسرائيل، من خلال توجيه وتوظيف إمكانيات مصر، ودورها في خدمة المصالح الأمريكية، والإسرائيلية. لقد أرغمت مصر على التخلي عن دورها في إفريقيا، وخصوصا في السودان المجاور، علما أن جانبا مصيريا من الأمن القومي المصري يتقرر في السودان، الذي يتعرض للتمزق تحت أنظار المصريين. بل أرغمت على التخلي عما يسمى بفكرة الأمن القومي، و لم يعد لدى مصر سياسات ، عداك عن خطط، وبرامج للدفاع عن أمن مصر، والعرب بالمعنى الاستراتيجي. وقد أُزلت مصر أيضا من خلال اتفاقيات كامب ديفيد، التي مدت الحدود الأمنية الإسرائيلية إلى مشارف قناة السويس، وأزلت أيضا من خلال صفقة بيع الغاز لإسرائيل، وأُزلت، ولا تزال تزل يومياً من خلال شل إرادتها تجاه ما يتعرض له الفلسطينيون في فلسطين المحتلة، وخصوصا في قطاع غزة المحاصر. لقد صار كل عربي يتطلع إلى تركيا، أو إلى إيران ليستلهم منها بعض الشعور بالكرامة، في حين هو أحوج إلى الكرامة النابعة من دوره، ومن سياسات حكومات بلدانهم. وحتى الشعور بالكرامة الذي ظهر لدى قطاعات واسعة من العرب نتيجة لما تقوم به حركات المقاومة العربية، وخصوصا المقاومة اللبنانية شرعت تتآمر عليه أغلبية الحكومات العربية، وخصوصا الحكومة المصرية. باختصار إن الحاجة للكرامة الوطنية، والحاجة للدفاع عن المصالح الوطنية والدور الوطني دخلت في حالة تناقض كارثي مع ممكنات تحققها في الوسط الصناعي، من جراء جمود المستوى السياسي، الأمر الذي كان حاضرا في الثورة المصرية والتونسية بقوة، وكان من محركاتها الأساسية. ثمة حاجات أخرى من طبيعة إنسانية عامة ناجمة عن ظروف العولمة وسرعة تبادل المعلومات، بين مختلف مناطق وشعوب العالم، واستلهام طريقة عيش الآخرين في الدول الديمقراطية، أو انتفاضات الشعوب التي ثارت على حكامها وانتقلت إلى النظام الديمقراطي. لم يعد مقنعاً ما تقول به الأنظمة العربية من خصوصية الدول العربية، ومن أن الديمقراطية لا تلائمها، أو إنها يمكن أن تؤدي إلى تفتيت الكيانات السياسية إلى قبائل وطوائف وجهويات متصارعة، أو عودة الإسلام السياسي السلفي المتطرف إلى السلطة، إلى غير هذه الحجج غير المقنعة. لقد برهنت ثورة مصر وثورة تونس مدى زيف هذه الادعاءات، التي لا تعدو كونها بضاعة السلطات ذاتها، وإن اللحمة الوطنية على العكس من تهويل هذه السلطات، قد اشتدت وقويت ولم تضعف في سياق الثورة. يمكن اختصار المشهد برمته في عبارة واحدة: الشعب العربي لم يعد يريد الحياة في ظل الظروف السابقة المفروضة عليه، ببساطة إنه يريد الحرية، يريد الكرامة، يريد العدالة، يريد أن يكون إنسانا كامل الأهلية في بلدان مستقلة حرة قوية وكريمة، ولذلك فهو يريد إسقاط الأنظمة السياسية الاستبدادية المتكلسة، المسؤولة عن كل ما يعانيه.
#منذر_خدام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحلقة السابعة..حراك الشعب السوري من الحلم بالتغيير إلى الكا
...
-
الحلقة السادسة-حراك الشعب السوري من الحلم بالتغيير إلى ال كا
...
-
الحلقة الخامسة-طبيعة النظام السوري وقابليته للاصلاح
-
الحلقة الرابعة...حلم التغيير للدولة والسلطة في سورية
-
الحلقة الثالثة..حلم التغيير للدولة والسلطة في سورية
-
حلم التغيير في الدولة والسلطة في سورية
-
نحن العرب قوم نجيد الانحطاط
-
خارطة طريق للحوار من أجل الخروج من الأزمة السورية
-
من أجل مزيد من الوطنية في المادرة الوطنية السورية
-
سأظل أمانع حتى آخر سوري
-
كان عليها ان تفشل
-
ثمان سنوات من عمر الأزمة السورية والمستقبل لا يزال مجهولا
-
لماذا اللامركزية والعلمانية ضروريتان لسورية
-
عقدة ادلب
-
السياسة الأمريكية الجديدة في سورية
-
قراءة متأنية في المرسوم (16) الناظم لعمل وزارة الأوقاف
-
من -أبو طشت - إلى - ابن العم - إلى - مانديلا سورية- ألقاب تب
...
-
- المعارضة السورية ودورها في هزيمة شعبها
-
هزيمة الشعب
-
المفاوضات في غياب القطب الديمقراطي
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|