|
حلف الناتو في ستراتيجية الهيمنة الدولية لاميركا
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 6353 - 2019 / 9 / 17 - 13:03
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
في نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945 وبموجب اتفاقات يالطا ـ بوتسدام بين "المنتصرين"، لتنظيم عالم ما بعد الحرب، وضعت اوروبا الغربية تحت "السياسة الاحتلالية" لاميركا، مقابل وضع اوروبا الشرقية تحت النفوذ السوفياتي السابق. وفي 1946 وفي خطاب له اثناء زيارته للولايات المتحدة الاميركية اعلن الزعيم البريطاني المعروف ونستون تشرشل ان معسكر الدول "الدمقراطية" (اي اميركا وحلفاؤها)، وبعد سقوط النازية، كان يجب ان يتابع الحرب لاسقاط روسيا السوفياتية. وأعتبر ذلك الخطاب اشارة انطلاق للحرب الباردة بين المعسكرين: الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق (وقلبه روسيا)، والغربي بزعامة الولايات المتحدة الاميركية. وفي 1947 طرحت اميركا ما يسمى "مشروع مارشال" للمساهمة في اعادة إعمار اوروبا، تحت شعار انقاذ اوروبا الغربية من المد الشيوعي. وكان الهدف الاساسي لهذا المشروع هو وضع الاقتصاد الاوروبي تحت الهيمنة الاقتصادية لاميركا. وفي 1949 طرح مشروع اكثر اهمية واكثر خطورة وهو مشروع انشاء الحلف العسكري ـ السياسي الغربي المسمى "حلف شمالي الاطلسي" (حلف الناتو) الذي يضم الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الاميركية. وقد مر الان سبعون عاما على انشاء هذا الحلف. وحدد الامين العام الاول للحلف الجنرال البريطاني هاستنغز ليونيل إيسماي Hastings Lionel Ismay اهداف الحلف بالتعريف المقتضب التالي: "الإبقاء على روسيا خارج اوروبا، واميركا ـ في داخلها، والمانيا ـ في اسفلها". وفي 1957 نشأت السوق الاوروبية المشتركة بمبادرة شاركت فيها بشكل اساسي المانيا الغربية (حينذاك)، وفيما بعد تحولت السوق الاوروبية المشتركة الى "الاتحاد الاوروبي" الحالي. وبينما يعمل الاتحاد الاوروبي على التقريب بين الدول الاوروبية وتوحيدها، اقتصاديا وسياسيا وامنيا وعسكريا، والى شق طريق سياسة اوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة الاميركية؛ فإن الناتو كان يستخدم من قبل الولايات المتحدة الاميركية من اجل التفريق سياسيا وعسكريا بين الدول الاوروبية، والتقريب بين كل دولة اوروبية على حدة وبين اميركا، وتشجيعها بمختلف اشكال الترغيب والترهيب على شراء الاسلحة الاميركية. وقد ساهمت هذه السياسة في تطوير المجمع الصناعي الحربي الاميركي، وعبره في التخلص من الجمود الذي اصاب الاقتصاد الاميركي بعد الحرب العالمية الثانية ومن ثم في تسريع عجلة الاقتصاد الاميركي بشكل كبير وتحقيق طفرة اقتصادية في اميركا. وفي ظروف الحرب الباردة استخدمت اميركا "حلف الناتو" كأداة لوضع الدول الاوروبية تحت وصايتها، بحجة الحماية من "الخطر السوفياتي". وبعد انهيار المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي ذاته وانسحاب الجيوش السوفياتية من اوروبا الشرقية وحل "حلف فرصوفيا" العسكري، ومن ثم السقوط التام لحجة "الخطر السوفياتي"، مارست اميركا جميع اشكال الضغوط على الدول الاوروبية من اجل استمرار وجود "حلف الناتو". وفي هذا الصدد قام الامين العام العاشر للحلف، البريطاني جورج روبرتسون، في تسعينات القرن الماضي بالطواف على مختلف الدول الاوروبية لاقناعها بـ"ضرورة" استمرار وجود الحلف لاجل "الامن الاوروبي". وكانت هذه "الضرورة" المزعومة احد اهم الاسباب لافتعال وتحريك الازمة الداخلية والفتن الدينية والاتنية داخل دولة يوغوسلافا السابقة، وتفكيكها، والتي انتهت باشعال ازمة كوسوفو وجر "حلف الناتو" الى القصف الوحشي لدولة صربيا سنة 1999، وفصل كوسوفو بالقوة عن صربيا، خلافا للقوانين الدولية ولقرارات الامم المتحدة ذاتها. وفيما كان النظام الاساسي لحلف الناتو ينص على انه حلف دفاعي، مهمته الدفاع المشترك في حال الاعتداء على اي دولة عضو في "الحلف"، بدأت اميركا تطرح افكارا مثل فكرة "الامن الوقائي" او "الاستباقي" للدول الاعضاء، وفكرة تحويل "الناتو" الى "ناتو عالمي" اي توسيع الناتو ليضم دولا جديدة خارج نطاق "شمالي الاطلسي"، اي خارج اوروبا الغربية واميركا. وقد اشتدت نزعة توسيع الناتو وتوسيع دائرة "مهماته العالمية"، خصوصا بعد فشل الهيمنة على روسيا في تسعينات القرن الماضي، وعودة روسيا القومية بزعامة فلاديمير بوتين الى الاضطلاع بدورها كدولة شرقية عظمى. ولكن ينبغي ان نسجل هنا نقطتين: ـ1ـ نجاح الدبلوماسية الاميركية في دفع عدد كبير من دول اوروبا الشرقية للانضمام الى حلف الناتو، تحت آلية تحويل "العداء للسوفيات" سابقا، الى "عداء لروسيا" راهنا. ـ2ـ جر دول "الناتو" وغيرها من الدول الدائرة في فلك النفوذ الاميركي الى"احلاف آنية" غير ثابتة وصورية، هدفها تأمين التغطية السياسية الواسعة، واحيانا الى المشاركة العسكرية الرمزية او الفعالة، في مخططات الهيمنة الاميركية الدولية والنزاعات و"الحروب الهجينة" التي استثارتها اميركا، كما جرى في افغانستان والعراق وليبيا وسوريا. ومع تصعيد السياسة العدوانية الاميركية وفرض العقوبات السياسية والمالية والاقتصادية والجمركية ضد روسيا والصين وايران وفينزويلا، ووضع العالم كله على شفير الحرب الشاملة، تستخدم الادارة الاميركية الحالية كل وسائل الضغط لديها، وعلى رأسها آلية "حلف الناتو"، لاجبار مختلف الدول، بما فيها الدول الاوروبية، للتقيد بسياسة العقوبات والمواقف الاميركية المعادية لروسيا والصين وايران وفينزويلا. ومع ذلك ظهر بشكل واضح خط السياسة الاوروبية المخالف للخط الاميركي. ولكن، اذا كانت روسيا والصين وايران وفينزويلا، المستندة الى ارادة شعوبها، قد وقفت بصلابة ضد الستراتيجية العدوانية لاميركا، فإن اوروبا المكبلة بقيود "السياسة الاحتلالية" لاميركا، التي تعود الى نهاية الحرب العالمية الثانية، تواجه صعوبات كبيرة في التخلص من ربقة الوصاية الاميركية. وفي الحقبة الاخيرة كان العالم شاهدا على الخروج الاستفزازي لاميركا من الاتفاقية النووية مع ايران ومن الاتفاقية الاميركية ـ الروسية المتعلقة بالصواريخ النووية قصيرة ومتوسطة المدى، واعلانها العودة الى انتاج هذه الصواريخ والرغبة في اعادة نشرها في اوروبا قريبا من الحدود الروسية، وهي تستخدم كل نفوذها وكل اشكال الضغط لتحقيق هذه الغاية، مما يهدد كل اوروبا بوجودها ذاته في حال الرد الروسي المؤكد. وقد اعلنت ايران انها ستواصل تحقيق برنامجها النووي السلمي، وانها لن تخضع لاي ابتزاز، وستتخلى عن التزاماتها بموجب الاتفاق النووي اذا لم تحافظ الدول الاوروبية واميركا ذاتها على هذا الاتفاق، وتسقط العقوبات العدوانية غير المبررة ضدها، اي ضد ايران. اما روسيا فأعلنت بلسان كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين فيها وفي مقدمتهم الرئيس فلاديمير بوتين انها ستقابل الخطوات العدائية الاميركية والناتوية بالمثل، وانها ستضرب ليس فقط الاراضي التي يتم نشر قواعد الصواريخ النووية الاميركية فيها، بل وستضرب مركز القرار الذي يدير تلك القواعد، اي اميركا ذاتها. كما اكدت روسيا انها لن تكون معتدية، ولكنها في حال نشوب مواجهة لا رجوع عنها، فلن تنتظر ان تتلقى الضربة الاولى كما حدث في الحرب العالمية الثانية، بل انها حينما تتأكد من نية العدوان عليها، فإن الضربة الاولى ستكون لها، اي لروسيا، وهي ستكون حتما، كما اكد بوتين، ضربة نووية ساحقة، وتكون بالتالي الضربة الاولى والاخيرة في الحرب العالمية القادمة اذا نشبت. وجدير بالذكر في هذا الصدد انه من ضمن المخططات العدوانية الاميركية، ان اميركا تستخدم كل نفوذها لخلق منطقة ستراتيجية عازلة بين روسيا واوروبا الغربية، تهدف الى ردع وعزل روسيا، والتمهيد للعدوان عليها، وتمتد تلك المنطقة من بحر البلطيق الى البحر الاسود الى البحر الادرياتيكي، اي بين دول البلطيق، واوكرانيا وجورجيا، والبانيا. ولهذه الغاية تعقد اجتماعات قمم دورية كان اخرها اجتماع قمة فرصوفيا سنة 1917 والذي حضره الرئيس الاميركي ترامب شخصيا. ويعلق بعض المحللين على ذلك بالقول إن نمط التفكير الستراتيجي الاميركي، السياسي والعسكري، لم يخرج بعد من مدرسة المفاهيم البالية للحرب العالمية الاولى. ولفهم كيف تقيّم الاوساط العسكرية في واشنطن القوة العسكرية لروسيا، نورد كلمات رئيس مجلس رؤساء اركان القوات المسلحة الاميركية الجنرال مارك ميلي، بمناسبة مرور 70 عاما على تأسيس الناتو، والتي يقول فيها: "ان روسيا، بما تمتلكه من ترسانة نووية مهيبة، تمثل التهديد الوجودي القائم الوحيد للولايات المتحدة الاميركية". وهذا يعني، في رأي الكثير من المحللين، ان روسيا اصبحت تمثل تهديدا مباشرا لاميركا "من فوق رأس" حلف الناتو، وبالتالي ان "حلف الناتو" قد سقط تاريخيا دوره كقوة مواجهة ستراتيجية مع روسيا، كما ارادت اميركا في 1949، ويحتفظ فقط بدوره كأداة للهيمنة الاميركية على الدول الاوروبية وغيرها من الدول التي يمكن ان تخضع للهيمنة الاميركية.
#جورج_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التناقضات الاميركية الاوروبية في نطاق تجارة الاسلحة
-
اميركا بدأت بالتراجع امام روسيا وامام الصين وايران
-
المسرحية الكراكوزية المعادية للشيوعية في المؤتمر الثاني للحز
...
-
ضرورة تقويض نظام الهيمنة العالمية للدولار
-
السياسة العدائية لاميركا تدفع روسيا والصين الى التحالف ضدها
-
ظهور المسيحية وانشقاقها من منظور اجتماعي قومي تاريخي
-
العثمانو اتاتوركية الجديدة المأزومة تبحث عن دورها الضائع
-
المبادرة الصينية الكبرى وتقويض الدور الاميركي
-
الصين الشعبية تتقدم لاحتلال مركز الصدارة في الاقتصاد العالمي
-
الصراع بين كارتيلات صناعة الاسلحة لاميركا والاتحاد الاوروبي
-
السياسة الاستفزازية الاميركية ستؤدي الى تدمير الاقتصاد الامي
...
-
التحالف الستراتيجي الروسي الصيني سيغير وجه العالم
-
افريقيا: من صيد البشر الى نهب الذهب والموارد الطبيعية
-
الابعاد الجيوستراتيجية للمواجهة المصيرية بين اميركا والصين
-
اوكرانيا على عتبة تحول مصيري جديد
-
فشل سياسة العقوبات الاميركية
-
تصدع العلاقات بين الاتحاد الاوروبي ودول اوروبا الشرقية
-
العلاقات الصينية الاوروبية الى أين؟
-
آفاق المواجهة بين اميركا والغرب وبين روسيا والشرق
-
تباطؤ الاقتصاد العالمي وحرب تجارية اميركية ضد اوروبا
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|