أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم إستنبولي - لا تقاوموا الشر















المزيد.....

لا تقاوموا الشر


إبراهيم إستنبولي

الحوار المتمدن-العدد: 1552 - 2006 / 5 / 16 - 17:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


التناغــم
(الهارمونيا)

الهارمونيا – هي التي تخلق الجمال، فالجمال بحد ذاته لا قيمة لـه. ما هو جميل في لحظة معينة وفي مكان معين قد لا يبدو جميلا في ظروف أخرى مغايرة . هذا ينطبق أيضاً على الأفكار، الكلمات، على الأفعال. فالذي نعتبره رائعاً هو يكون كذلك فقط في وقت محدد وفي ظروف معينة -تجعله رائعاً. لذلك فإن الوسيلة الوحيدة التي بواسطتها يمكن أن نَصِفَ الجمال بالحقيقي – هي التناغم. إن التناغم في اختلاط الألوان، التناغم بين الخطوط والرسومات يشكل ما نسميه نحن الجمال. والكلمة، الفكرة، الإحساس أو الفعل، اللواتي تصنع التناغم، هي من مشتقات الجمال. من أين يُخلق السعي إلى الهارمونيا، ومن أين يظهر السعي إلى اللا تناغم؟ إن طموح كل نفس إلى الهارمونيا هو ميزة فطرية، بينما الميل إلى اللا تناغم هو عبارة عن حالة غير طبيعية للعقل أو الأفعال. عملياً، كل ما هو غير طبيعي - يجعل الروحَ تفقد الجمالية. إن التركيبة النفسية للإنسان مبنية هكذا لكي يرتكس على الهارمونيا وعلى اللا تناغم سواء بسواء. وهو لا يستطيع المساعدة في ذلك، لأنه هكذا مُصَمّم. أي يستجيب عقلياً وجسدياً لكل ما يأتيه، سواء كان ذلك متناغماً أو غير متناغم.
نداء المسيح أن: "لا تقاوموا الشر" – هو نصيحة أن لا تردوا على اللا تناغم. على سبيل المثال، كلمات الخير والتودد، أفعال المحبة أو الإلهام يجب أن تجد صدى واستجابة، لكن إذا كانت كلمات الإهانة والأفعال النابعة عن الاشمئزاز والكراهية تلقى صدى أيضاً، فإن هذا سيخلق اضطراباً أكبر في التناغم الكوني. مفسحين الطريق أمام اللا تناغم، نحن نسمح لـه بالنمو والتكاثر . مِن أين ظهرت الخلافات الكبيرة، الاضطرابات والشقاقات، التي هي الغالبة والمسيطرة في العالم كما نرى الآن؟ على الأرجح، من الاستهانة بتلك الحقيقة حول أن اللا تناغم يولّد اللا تناغم وأن هذا سيتكاثر. عندما يتعرض الإنسان للازدراء فسوف تظهر لديه حاجة طبيعية لأن يرد بازدراء أكبر. في النتيجة هو يحصل على لذة عابرة من أنه حسناً أجاب. لكن الطاقة التي صدرت عن المؤذي، قد أثرت عليه، وأن هاتين القوتين، إحداهما سلبية و الأخرى إيجابية، قد ولّدا اضطراباً كبيراً في التناغم.
"عدم مقاومة الشر" لا تعني أنه يجب على المرء أن يحملَ الشر في داخله. هذا يعني أن لا تُعيدَ اللاتناغم الذي وقع عليك، أن لا تتماثل مع لاعب كرة التنس، الذي يُرجع الكرة بمضربه. لكن، من ناحية أخرى، هذا لا يفترض أن تتلقى الكرة بيدين عاريتين.
يمكن مقارنة السعي إلى التناغم بالجلمود الصخري في البحر: يقف بثبات في الهواء وفي العاصفة؛ تتناطحه الأمواج بضرواة، لكن الجلمود يصمد أمام هجومها، تاركاً لها أن تتكسر عليه. عندما نحارب اللاتناغم، إنما نحن بذلك نسمح لـه بالتفاقم. وحين نتخلى عن مقاومته، فكأنما نحن نمتنع عن صب الزيت في النار، التي كانت ستضرم أكثر في الحالة المعاكسة ولكانت بالتالي تركت وراءها خراباً أكبر. لا شك في أنه كلما ازددنا حكمةً، كلما اصطدمنا بصعوبات أكبر في حياتنا، لأن أي شكل من اللاتناغم سيتجه ضدنا بالضبط من منطلق أننا لا نقاومه. لكن يجب أن ندرك أن كل تلك الصعوبات إنما هي ستساعد في تفكيك اللاتناغم، الذي كان سيتكاثر في الحالة المعاكسة. لهذه العملية ميزات إيجابية، ذلك أنه في كل مرة نصمد أمام ضغط اللاتناغم – تزداد قوانا، أي أننا نكسب في جميع الاحوال، حتى وإنْ بدا الأمر كما لو أننا نخسر. إن ذاك الذي يدرك ازدياد قوته ويعي ذلك الانتصار – ذلك لن يشعر أبداً فيما بعد بالهزيمة. وسيأتي يوم يفهم فيه الإنسان، الذي كان يصدر عنه اللاتناغم، أنه قد هُزِمَ بالضبط.
يتحاشى المتصوف أية أفعال غير متناسقة؛ هو يحافظ على إيقاع الكلام تحت رقابة الصبر، لذلك لن يقول أبداً كلمة قبل أوانها ولن يبدأ بالجواب قبل أن يسمع كل السؤال. أما " كلمة " عدم الموافقة التي تنطق ولو أثناء الجدل، هو سيعتبرها مجرد تنافر وأن الجدل بحد ذاته يتجه لينقلب لحناً متناغماً. وأما بخصوص ميل الإنسان نحو الرفض والتناقض سيتفجر في رغبة جامحة لأن يناقض المرء في النهاية أفكاره الخاصة، إذا ما أعرب عنها شخص آخر. لكي يحافظ على الانسجام، إن المتصوف " يلحن " كلامه من مفتاح إلى آخر، أي بكلمة أخرى، ينظر إلى المسألة من وجهة نظر الشخص الآخر ويتبنى رأيه، بدلاً من أن يصرّ على رأيه الخاص. أما رأيه فيشكل القاعدة لأي حديث بمساعدة المقدمة، مما يساعد على تحضير أذني المستمع بحيث يتلقى صدى مكتملاً. هو، أي الصوفي، يراقب بانتباه كل حركة من حركاته وكل تعبير من تعابيره، بنفس الدرجة التي يراقب الآخرين، محاولاً تشكيل تَوافُق يلائم الهارمونيا بينه وبين الآخرين.
إن بلوغ الهارمونيا في الحياة يتحقق عن ذات الطريق، الذي بواسطته يتم تعلم العزف على الآلة الموسيقية؛ لكن الأمر هناك يتطلب دراسة أطول و أعمق و أكثر جدية مما يتطلبه تطوير الأذن الموسيقية والصوت الموسيقي. بالنسبة للصوفي كلُّ كلمة منطوقة تعتبر كما لو أنها نوتة – حقيقية، إذا كانت الكلمة تناغمية، وكاذبة، إذا كانت الكلمة غير انسجامية. هو يجعل سُلَّمَ حديثه عالياً (ماجور) حيناً، وحيناً آخر يجعله صغيراً، حزيناً ومنكسراً (مينور) أو متلوناً، حسبما يقتضيه الظرف. إن كلمة الصوفي ، سواء كانت رفيعة (ديوز) ، منخفضة (بي مول) أو ذي نغمة نظيفة ، فهي تنسكب في اللحن وفق قوانين الهارمونيا.
للحياة الدنيوية تأثير مهيج ومخرّش بشكل مستمر، وكلما أصبحنا أكثر رقة كلما صار الأمر أصعب بالنسبة لنا. يحين زمن عندما تصير الحياة أكثر فأكثر قسوة بالنسبة للإنسان الذي يميل أكثر نحو المسالمة، الإنسان المملوء بالإرادة الطيبة، الأكثر برءاة و الأكثر تقوى . وتحت تأثير اليأس والإحباط ينحدر ذلك الإنسان للأسفل؛ لكن إنْ هو حافظ على رباطة جأشه، ففي نهاية الأمر سيكتشف أن ذلك ليس خسارة، لأن قواه قد زادت لدرجة كبيرة وبلغت حداً أصبح معها حضوره، كلمته ، وتصرفه ستتحكم بأفكار، بمشاعر وبأفعال الآخرين . سيصبح إيقاعه عظيماً وسيمنح إيقاعا خاصاً لكل فرد يسير وراءه. هذه الخاصية في الشرق تدعى نوعية عقل الآمر. لكن من أجل أن تصمد أمام ضغط اللا توافق، الآتي من الخارج، علينا بداية أن نتدرب على المناعة ضد كل شيء يأتي من الداخل، من "الأنا " الخاصة. التحكم بـ " الأنا " خاصتك أصعب بكثير من التحكم بـ " الأنا " العائدة لغيرك. وإذا كان الإنسان عاجزاً عن ضبط الذات فلسوف يصاب بالفشل. ومع ذلك يبقى الصمود بوجه اللاتناغم القادم من الخارج هو الأصعب.
فما الذي يولّد اضطراب الهارمونيا فينا نحن؟ إنه الضعف. الضعف الفيزيائي أو النفسي، لكنه دائماً الضعف. لذلك كثيراً ما نلاحظ أن المرض الجسدي يسبب اضطراب الهارمونيا Dysharmonic والميل نحو اللا انسجام. واللا تناغم. عدا ذلك هناك مجموعة من أمراض العقل، التي ما زالت غير واضحة بالنسبة للعلماء. أحياناً يعتبر الناس صحة وسلامة ما هو في الواقع مرض العقل. لا يُعطى اهتمام كبير للعاهات الخلقية التي تصيب الوعي، والمصاب نفسه لا يملك حظوظاً كثيرة كي يكتشفها بنفسه. هو دوماً يكتشف الأخطاء لدى الآخرين، سواء أثناء العمل في مكتب، في منصب عالٍ، في البيت، أو في مكان ما، فهو يخلق اللا تناغم. لا أحد يدرك هذا، ولكي يخضع للعلاج، يجب الإقرار أولاً بأنه مريض.
إن سبب كل نوع من عدم الراحة وكل فشل هو اللا تناغم؛ والشيء الأكثر أهمية الذي يتوجب التصريح به أثناء التعليم – هو حس الهارمونيا. إن تطوير الشعور بالتناغم عند الأطفال ولفت أنظارهم إلى ذلك ليس بتلك الصعوبة كما يبدو للوهلة الأولى. من الضروري أن نبين للطفل ببساطة مختلف تظاهرات اللا تناغم في مختلف جوانب الحياة .

*****
لا تقاوموا الشر



هذه العبارة من الإنجيل: " لا تقاوموا من يسيء إليكم " غالباً ما تسبب الدهشة ونادراً ما يتم تفسيرها بشكل صحيح. لكي نفهمها يجب علينا في البداية أن نحدد ما هو الشر. هل توجد أفعال محددة أو أشياء يمكن الإشارة إليها على أنها الشر؟ من دون شك، إن الناس حاولوا مراراً القيام بذلك، لكنه لا وجود للشر طبقاً لقواعد راسخة. إذن، ما هو الشر؟ إنه عبارة عن كل ما ينقصه التوافق والانسجام (الهارمونيا)، هو ما يعوزه الحب والجمال ، وفوق ذلك ، هو ما لا يدخل في حياتنا بشكل صحيح . أما ما يتفق مع شروط الحياة، لا يمكن له أن يكون شراً.
يمكن مقارنة الشر بالنار. جوهر النار يقوم في تدمير كل ما يتواجد في دربها؛ ومع أن قوة الشر عظيمة كقوة النار، فإن الشر هو مع ذلك ضعيف – كما هي النار ضعيفة . كما النار لا تقدر على البقاء طويلاً جداً، هكذا هو الشر – ليس أبدياً. كما النار تخرِّب ذاتها ، الشر أيضاً يتحول إلى مدمر للذات . لماذا قيل : " لا تقاوم الشر " ؟ لأن مقاومته تمنح الحياة للشر. أما عدم الممانعة فتسمح لـه بالاحتراق حتى النهاية. تمكن مشاهدة الشر في صيغة الغضب، الشهوة، البخل، وكذلك العناد، أو الخيانة؛ لكن جذر الشر دائماً واحد – الانانية. قد يتظاهر الشر عند أحدهم على السطح، وعند آخر – قد يكون مختبئاً في أعماق القلب.
يوجد في الشرق قول مأثور: " لا تنطق اسم الشيطان، كي لا يخرج من قبره ". إن الناس غير الحذرين أو الساذجين كثيراً ما يخطئون إذ يوقظون الشيطان النائم، لأنهم لا يعرفوا موسيقى الحياة. كي تتعلم العيش بسلام في الدنيا، يجب أن تكون موسيقاراً في هذه الحياة. كل إنسان في العالم – هو عبارة عن نوتة؛ بالتالي إن الإنسان الذي يستقبل العالم بهذا الشكل، إنما هو يستلم بيديه آلة موسيقية. ويصبح العالم بأكمله مجرد فرقة أوركسترا، مدعوة لعزف مقطوعة سيمفونية.
تمكن ملاحظة تأثير ذلك القانون في أبسط الأمور. إن أصعب مشاكل الحياة غالباً ما تنشأ ليس عن الصعوبات، التي يصنعها لنا الآخرون، بل بسبب عدم قدرة الشخص نفسه على فهم الطبيعة البشرية. بالنسبة لمن أدرك الطبيعة البشرية، يصبح واضحاً أن الدرس الأول والأخير، الذي يجب تعلمه في الحياة – لا تقاوم الشر . ذلك أن المقاومة تتحول مادة مشعلة بالنسبة للنار. وأنت تقول لآخر : " لا تفعل هذا " ، أو وأنت تسأل: " لماذا أنت تفعل ذلك؟، أن تعاقبه: " عليك القيام بهذا وبذلك "، إنما أنت تمارس الشر بشكل أكثر قوة، كما أنك تربط الإنسان بشدة إلى الخطيئة.
كل شخص في هذا العالم يمكنه أن يكون لحدٍّ ما معلّما، لكن ليس معلما بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأن المعلم الفعلي هو ذاك، الذي يعلّمُ نفسه دائماً؛ وكلما علّم نفسه أكثر، كلما أدرك بشكل أوضح، أن عليه تعلم الكثير من الأشياء في هذه الدنيا، بحيث لن تكفي الحياة من أجل ذلك. كلما تعلم الإنسان أكثر، كلما لاحظ الشر أقل عند الآخرين. هذا لا يعني أن الشر أكثر أو أقل في الآخرين، - بل يعني أن الشخص المحدد يدرك: العدو، الذي اعتاد رؤيته في الآخرين، هو بالواقع موجود فيه بالذات . أسوأ عدو، الذي سنحت الفرصة بلقائه في الحياة، يكتشف في قلب المرء نفسه. إن ذلك يسبب الشعور بالإهانة، لكن هذا هو درس الحق : ابحث في نفسك عن العنصر، الذي تحاول مقاومته في الشخص الآخر.
الحياة – هي المكان، حيث يجب التحرك بلطف. في الأفكار، الكلام أو الأفعال يجب التزام الإيقاع؛ في كل شيء تفعله، يجب التقيد بقانون الهارمونيا. حتى لو كنتَ تمشي حافياً على الشوك، لن تتحاشى التهم: الأشواك نفسها ستتهمك بأنك تدوسها. إذا كانت الحياة في هذه الدنيا – أمر غاية في الدقة، هل يمكن لأحد أن يدعي أنه امتلك الحكمة الكافية؟ وهل بإمكان أحد أن يأمل بالعيش في هذا العالم، دون أن يفكر بهذه المشكلة؟
سألوني في أحد الأيام، كيف يمكن لرئيس شركة أو مؤسسة أن يتبع قانون عدم مواجهة الشر. كان جوابي: إني رأيت أشخاصاً يقودون مصانع، وقد استطاعوا السيطرة على عقل وقلب كل عامل هناك، بينما رؤساء آخرون كانوا مكروهين من قبل الجميع. ربما أن هؤلاء الأخيرين حققوا أرباحاً أكثر من الأوائل، بالرغم من أنه تبين في نهاية الأمر، أن نجاحات الأوائل كانت أكثر ثباتاً وأكثر تفاؤلاً. لا يجوز وصف دروب الحكمة واللطف ضمن قوالب ثابتة، التي يجب على الناس التقيد بها. الفرشاة لن تستطيع الحلول مكان السكين، لذلك يجب على كل منا أن يستخدم أية وسيلة حسب الظروف. لكن في أساس كل شيء يجب أن تقوم الفكرة حول عدم مقاومة الشر.
إن قضية الشر شائكة وعظيمة. والكثيرون لا يرغبون أن يسمعوا بالشر، على الرغم من أنهم يصطدمون به في كل لحظة من حياتهم، وبقاء المشكلة من دون حل لن يخفف المصيبة. كل شخص مستعد لأن يقرر، أن يشاهد أو يلاحظ الشر في الآخر، دون أن يجهد نفسه بالتفكير في أن سطح الأشياء يختلف عنها في العمق. على الرغم من أن ما قد يبدو شراً – ربما هو يخفي خيراً في جوهره، وما قد يبدو خيراً – يحتوي شرارة من الشر. وطبقاً لأي مقياس يمكننا معرفة الشر من الخير، ومَن هو الذي يستطيع الحكم بخصوص الخير والشر في شخص آخر؟ إذا كان بإمكان الشخص أن يحكم، فعلى الأرجح حول الخير والشر عنده هو نفسه. لا يحق لأحد، باستثناء الله ، الحكم على الآخر. إن الإحساس بالعدل معطى للإنسان فقط لكي يستطيع تقييم أفعاله فقط؛ من أجل ذلك بالضبط أعطي الإنسان ذلك الإحساس.
لو نظرنا إلى الحياة، لوجدنا أنها ليست سوى كفاح – فردي وجماعي. يبدو، أنه إذا كان هناك من شيء في الحياة غير الكفاح، فإنما هو المقدرة على منح وقبول البر والمحبة، وكذلك القيام بأعمال غير نفعية. مهما يكن الإنسان خبيراً في مختلف شؤون الحياة، فإن تجربته تطال نقطة معينة وهو لن يستطيع الذهاب أبعد. أن ما يحوجه بالفعل هو فهم الحياة، فهم القانون، الذي يقوم خلف كل ذلك. إن هذه المعرفة بالتحديد هي قادرة على التقليل من الكفاح المستمر للإنسان، لأنها تجبره على المقاومة بدرجة أقل. هي تجعله أكثر صبراً لحالة الناس الطبيعية. بمجرد أن يدرك الإنسان ضرورة عدم مطالبة الآخرين بالمستحيل، هو يصبح أكثر صبراً.
تكمن الصعوبة في أن أي منا يطالب الآخر باهتمام أكثر، بعقلانية، بالحب والمباركة، مما يفرضه على نفسه. الإنسان يطلب من الآخر عدالة ونقاء أكثر، مما هو مستعد لأن يقدم؛ وأن مقاييسه قد تكون مرتفعة جداً، بحيث يعجز الشخص الآخر عن الارتقاء إلى مستواها، ولهذا السبب يشعر بالخيبة. هاكم ما يحدث عادة: عندما يصطدم الإنسان بالظلم فهو يلجأ إلى الصمت، إنه يقاوم، وبهذه الطريقة يستمر الكفاح الحياتي. على الإنسان أن لا يتوقع من شجرة الزيتون أن تحمل الورود، أو من شجيرة الورد أن تحمل الياسمين. جميع الناس – كما النباتات، لكنهم غير متساويين. يمكننا أن نحب الورد، لكن ليس كل النباتات تحمل الورود؛ إذا كنا بحاجة للورد، توجب علينا البحث فقط على النبات، حيث يمكنها أن تنمو. فإذا ما اكتشفنا أن ما وجدناه ليس شجيرة ورود، فليس لنا أن نشعر بالخيبة. بهذه الطريقة نكون قد صححنا خداعنا الذاتي.
عندما يقول الناس، أن فلان سيئ، فهذا في الواقع يعني أن السطح قد صار سيئاً. أما العمق، الجوهر فلا يمكن أن يصبح نتناً ، مهما كان المرء كريهاً. ذلك أن الحياة بحد ذاتها هي خير، وأن الإنسان الذي يتألف من الشر فقط، لا يمكنه العيش ببساطة. إن مجرد كونه حي يبرهن على أنه يوجد فيه ومضات من الخير. عدا ذلك، إن تعدد نماذج البشر، كما تعدد نماذج الأشياء، هو غير محدود: يظهر البعض كما لو أنهم قساة في الظاهر بينما قلوبهم رقيقة في الواقع ، البعض يتظاهرون باللين بينما في الداخل هم قساة جداً، البعض طيبون جداً في الجوهر، لكنهم شريرون على السطح، آخرون شريرون في الظاهر، لكنهم طيبون للغاية في العمق. كلما ازداد التنوع في العالم، كلما كانت الأرواح أكثر تنوعاً.
أية تربية، أية وجهة نظر، أي تعامل مع الحياة - هي الأفضل والتي تمنح السعادة؟ إنها الحالة، عندما لا تلاحظ الشر، بدلاً من أن تقاومه. هناك ثلاث طرق للعيش، وكل منها يمكن مقارنته مع كفاح مَن يسبح في البحر، حيث الأمواج تارة تعلو وتارة تهبط. واحد سيتابع الكفاح طالما تسمح لـه الحياة؛ لكن ارتفاع الموج وهبوطه سيستمر وسيستمر، إلى أن يغرق في نهاية المطاف. نفس الشيء مع الإنسان. هو يناضل ، وقد أسكره الكفاح ، متابعاً إلى أن تنضب الطاقة. قد يتبين أنه قوي في ذلك الصراع، وقد يبدو أنه ينتصر على الآخرين، وقد يبدو مالكاً للأشياء أكثر من الآخرين، لكن ما هي المحصلة؟ هو سيغرق في النهاية. لكن يوجد إنسان آخر يعرف كيف يتحرك بخفة في المياه، هو يفهم إيقاع حركات اليدين والرجلين، أنه يسبح طبقاً لارتفاع وانخفاض الأمواج. هو لا يكافح. هكذا الإنسان يمكنه بلوغ الميناء، إذا كان الميناء قريباً. إذا لم يكن مثاله بعيداً جداً، فإنه سيحقق ما يريد. أما الإنسان الثالث – هو ذاك، الذي يمشي على الأمواج. هذا هو بالضبط المغزى من سير السيد المسيح على الأمواج.
إن الحياة أشبه بالحركة الدائمة للأمواج. مَن يسمح لها بإزعاجه، فإنه سيعيش متوتراً وقلقاً أكثر فأكثر مع كل يوم؛ أما ذاك الذي لا يهتم لها، فهو سيعيش دوماً بهدوء وبلا انفعال. أما مَن يرى كل شيء ومع ذلك هو يترفع فوق الأشياء – هو الذي يمشي على الأمواج. ليس هناك مَن يستطيع في لحظة واحدة بلوغ أرفع درجات الحكمة، أرفع مستويات الفهم للحياة. بل ربما سيكون العمر بكامله غير كاف لبلوغ الهدف . ومع ذلك ، إن الأمل ضروري ، لأن مَن يحدوه الأمل ويرى الإمكانية – هذا هو الذي يبلغ الذروة . بينما مَن يفقد الأمل ، هو كمثل من ليس لـه أرجل كي يتسلق جبل الحكمة، التي تعتبر ذروتها هي الغاية .

تنويه : هذان فصلان من كتاب " تعاليم المتصوفين " للمتصوف الكبير حضرة عنايت خان ، الذي صدر عن دار الفرقد في دمشق . يقع الكتاب في حوالي 300 صفحة من القطع الكبير . ترجمة إبراهيم إستنبولي



#إبراهيم_إستنبولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- و يحدثونك عن الإصلاح ! نهاية التضليل ؟
- كلمات بلا عنوان
- بعض الملاحظات على المشهد السياسي العام
- قوة الصمت و لغز النوم
- رمز الصليب
- انتصار حماس : بداية النهاية للخطاب القومي
- العروبة في خدمة ... أعدائها
- فولاند في شوارع موسكو - المعلّم و مارغريتا - في التلفزيون ال ...
- قيثارة أرمينيا- Ovanes Shiraz أوفانيس شيراز -
- سيرغي يسينين Sergey Esenin كمنجة روسيا الحزينة
- من مواطن سوري إلى الأكثرية النيابية في لبنان
- بؤس الإعلام الشمولي
- الحوار المتمدن ما بين الواقع و الطموح
- أفكار تستحق البوح
- Osip Mandelshtam - قبر مجهول في معسكر اعتقال
- من القصائد الأخيرة لرسول حمزاتوف( بمناسبة الذكرى الثانية لرح ...
- ليرمنتوف : الشاعر – النبي
- - ضريح لينين في موسكو : صنم من - لحم و دم
- نشيد الخلود
- سحر الشرق في الأدب الروسي - ايفان بونين في الأراضي المقدسة


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم إستنبولي - لا تقاوموا الشر