|
شذرات اقتصادية: هل هناك طبقة وسطى، وأي تعريف ودور لها؟
عائشة العلوي
(Aicha El Alaoui)
الحوار المتمدن-العدد: 6350 - 2019 / 9 / 13 - 11:34
المحور:
الادارة و الاقتصاد
من الصعب إعطاء تعريف محدد ودقيق لمفهوم الطبقة الوسطى، هل فعلا هناك فئة أو فئات في المجتمع يمكن تصنيفها على أنها طبقة وسطى؟
بالمقابل هناك أسئلة أخرى تفرض نفسها علينا كباحثين ومهتمين هو لماذا عندما نتحدث عن الطبقة الفقيرة والمهمشة، لا يعترينا الارتباك ونكون مستعدين أن نحدد تصنيفا أو تصنيفات من داخلها وبين الفئات المكونة لها؟ لماذا عندما نتحدث عن الفئة المسيطرة في المنظومة الاقتصادية، لا يعترينا، أيضا، أي ارتباك ونكون مستعدين لإعطاء تصنيف دقيق لها وتحديد منطق تَراتُبي لمدى غِنى أفرادها المكونين لها؟ إذا كان من المنطقي وجود طبقة أو طبقات ما بين الفئات الفقيرة والفئات الغنية، أي وجود فئة أو فئات لا تنتمي إلى أي واحدة منهما أو (بصيغة المنطق الرياضي) وجود مجموعة من الأشخاص داخل المجتمع هي خارج هذين التصنيفين وغير متقاطعة معهما، فإن القول بعدم وجود الطبقة الوسطى أمر غير مقبول علميا ومرفوض واقعيا.
التباين وأحيانا التناقض بين أفراد أو فئات الطبقة الوسطى، يجعل إمكانية إعطاء تعريف علمي ودقيق عملية صعبة وأحيانا مستحيلة، لأن هناك عوامل ومحددات متعددة تتداخل فيما بينها تعيق تصنيف أفراد المجتمع أو فئاته حتى يتم تحديد بالدقة المطلوبة مَنْهم داخل الطبقة الوسطى ومن هم خارجها. بيد أن الجواب -في اعتقادي- يكمن في تحديد العامل المحدد لباقي المؤشرات حتى لا نضيع في متاهات ربما تكون بعمق سياسي وطَمَع اقتصادي قد تَحْجُب عن المحلَّل والباحث جزءاً من حقيقة المجتمع الذي يشكل حقل اشتغاله، وبالتالي لن تُمكنه من صياغة النموذج التنموي الملائم للطبيعة البنيوية لهذا الحقل، أي لن تمكنه من تحديد المسار الصحيح لبناء النموذج التنموي لأنه يكون مُؤسس على معطيات "خاطئة" وفرضيات "مغلوطة".
الفئات الفقيرة والمهمشة محددها الأساسي هو المحدد المالي الذي يمكنها من تلبية حاجاتها الأساسية والاجتماعية الضرورية، أي يتم تحديده بعتبة الحد الأدنى لتحقيق هذا الهدف وهي امكانية علمية ممكنة، وعلى أساسها يتم تحديد المستفيدين من البرامج الموجهة لدعم وتحسين ظروفهم. أي أن التحديد المالي (أو بتعبير أكثر دقة تحديد ثروة الفرد : الدخل والممتلكات من شركات وعقارات ورساميل وغيرها ) يمكن من تصنيف وتحديد الفقير وكذا الغني. فماذا بشأن الطبقة الوسطى، هل يمكن الاكتفاء فقط بهذا المحدد؟
قبل الجواب عن السؤال لا بد من طرح سؤال آخر؟ لماذا يشكل المحدد الاقتصادي في تصنيف الفئات الفقيرة و"الغنية" محددا أساسيا وفعالا من الناحية العلمية، بينما في حالة الطبقة الوسطى يتم عدم الاكتفاء به وأحيانا تقزيم أهميته؟
الجواب يكمن في طبيعة الحاجات والطموحات المتعلقة بكل طبقة. فالفئات الفقيرة والمهمشة حدود مطالبهم وحاجاتهم تكمن أساسا في تلبية حاجاتهم الضرورية (besoins fondamentaux) وبالتالي فالقدرة المالية تحدد هذا الطموح. في الغالب لا تكترث هذه الطبقة للمطالب الاجتماعية والثقافية والسياسية الأخرى، بل يكون أفرادها المكونين لها، في معظمهم، غير فاعلين مدنيين أو سياسيين في المجتمع لأن هاجسهم الأساسي "البقاء على قيد الحياة" بشعار "الرضى" بالأوضاع. بل، أحيانا كثيرة ينتجون أوضاعا اجتماعية واقتصادية أكثر تأزما في حالة غياب برامج حكومية داعمة ومشجعة للنهوض بأوضاعهم والرقي بها ليكونوا أفرادا فاعلين ومحركين للتنمية بمختلف أبعادها، كبرنامج الدعم الاجتماعي المعتمد في المغرب (مبادرة التنمية البشرية وتيسير ورميد، الخ). أما بالنسبة للفئات الغنية، فوضعيتهم الاقتصادية تمكنهم من تلبية مختلف حاجاتهم الاجتماعية والثقافية. بل، أحيانا عديدة، طموحاتهم وحاجاتهم المتعددة والغير المتناهية جعلتهم يدخلون عالم السياسية حتى أن تعبيرهم أو تعبيراتهم السياسية أصبحت مع الوقت تبحث عن أساليب التحكم فيها لأنها وسيلة فعالة للحفاض على موقعهم الطبقي وأيضا لزيادة مكاسبهم والحفاظ على امتيازاتهم.
بالنسبة للطبقة الوسطى، فالأمر هو أكثر تعقيدا. إن عدم الانسجام بين فئاتها وأفرادها المتمثل أساسا في تناقض وتباين طموحاتها ومطالبها وحاجاتها، يجعل أن المحدد المالي/ الاكتساب (الدخل والممتلكات) ليس هو المحدد الأساسي. هذا يفسر اختلاف النتائج حول نسب السكان المنتمون للطبقة الوسطى في جميع دول العالم. على سبيل المثال، قدّرت هذه النسبة في المغرب ب53% و 25% حسب المندوبية السامية للتخطيط (2009) وPew Research Center (2015)، على التوالي. يعود الفرق الكبير بين النتيجتين إلى عملية تحديد عتبة الدخل المعتمد في التصنيف. لن ندخل في نقاش المقاربة التقنية لتحديد الانتماء، ما يهم هنا أن المحدد الاقتصادي لا يمكن أن يكون المحدد الأساسي الوحيد في تصنيف الفئات المنتمية للطبقة الوسطى، بحيث تعتبر المحددات الأخرى كالمحددات الاجتماعية والثقافية والمجالية عوامل أساسية في تحديد هذا الانتماء. لذا وجب إيجاد صيغ أخرى لحثها على التعبير والمشاركة في المجتمع لأن طموحاتها تظل داخل البلد وليس خارجه، كما أن غايتها تفوق تلبية الحاجات الضرورية الأساسية كتلك المعبر عنها من طرف الطبقة الفقيرة والمهمشة. باختصار أهدافها تفوق طموحات وحاجات الطبقة الفقيرة والمهمشة وتقل عن طموحات وحاجات الطبقة المسيطرة، لكن وضعيتها هي غير مستقرة وقابلة للتغيير نحو الأعلى أو الأسفل حسب أهداف السياسات المتبعة في البلد...
إن السياسة الحكومة المغربية المتبعة في السنوات الأخيرة ضربت في العمق القدرة الشرائية للطبقة الوسطى ودفعت بذلك إلى تقليص أدوارها المجتمعية، على سبيل المثال سياسة إلغاء الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات والإصلاحات التخريبية لصناديق التقاعد والتعليم والصحة ونظام الحماية الاجتماعية والتهميش المقصود للثقافة الأمازيغية والتراجعات الخطيرة في الحقوق المدنية وحرية التعبير والاعتقاد وغيرها. هذه النقط تشكل الحاجات الأساسية لهذه الطبقة بالإضافة إلى طموحاتها ورغبتها في تحمل المسؤوليات السياسية والاجتماعية والادارية وغيرها.
إضافة إلى غياب سياسة حكومية داعمة للطبقة الوسطى في المغرب، فإن الطبقة "الغنية" تمارس عدة ضغوطات تخنق وتعيق بها حاجات ومشاريع الطبقة الوسطى خاصة أن الأولى تتوفر على كل الامكانات والقدرات لتغليب الكفة لصالحها، فهي لا تقبل بأي تنافسية مستقبلية ترفع من امكانية تقليص هامش ربحها، وبالتالي تشكل الطبقة المسيطرة عائقا جوهريا لتحقيق التوزيع العادل للخيرات المنتجة بين كل من يساهم في إنتاجها.
إن الطبقة الوسطى تعتبر المنشط الاقتصادي الداخلي للبلد، فهي الدينامو المحرك لجميع الأنشطة الاقتصادية الصغيرة جدّا والصغيرة والمتوسطة، وتعتبر أيضا مصدر مهما لعائدات الدولة القارة من التحصيل الضريبي. كما أنها تلعب دورا اجتماعيا وتضامنيا مهما، بدءا من المساعدات المالية والعينية التي تقدمها تحت أسماء مختلفة، مرورا بديناميتها وفعاليتها المدنية والسياسية في المجتمع. لدى الطبقة الوسطى القوة الكافية لتلعب أدواراً جد مهمة في انجاح التوجهات السياسية للبلد وكذا في عرقلتها.
إن البناء المجتمعي على قاعدة تكافؤ الفرص والمساواة والعدالة يقتضي بالضرورة تشجيع الطبقة الوسطى على الانخراط الفعال والفاعل ومنحها كل الامكانات للقيام بذلك والمشاركة فيه. فالطبيعة البنيوية لهذه الطبقة لا تدفعها إلى الصراع، فهي تعتبر صمام الأمان للتوازن السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلد، إلا أن تهديد مصالحها وتأزيم أوضاعها بسياسات لا تراعي حجم أهميتها في التنشيط الاقتصادي والتماسك المجتمعي يُمْكن أن يدفعها إلى تحويل وتغيير المسارات السياسية للبلد، كما وقع في مجموعة من البلدان كتونس ومصر والصين وانجلترا وفرنسا وغيرها. لذا، فإن الضرورة تقضي بوجود تعبيرات سياسية ومدنية جريئة وواضحة البرامج والأهداف قادرة على جدبها للمشاركة المسؤولة لأنها الوسيلة الناجعة للاستقرار والأمن السياسي والاجتماعي وكذا لحثها على الانخراط في بناء مشاريع اقتصادية سيادية بغية بناء نموذج مغربي-مغربي.
تشكل الطبقة الوسطى العمود الفقري للمجتمع و نجاح النموذج التنموي المغربي-المغربي لا يمكن أن يتم إلا بوضع برامج ومخططات ترقى بأوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما أنها عماد أي تغيير أو انتقال ديموقراطي. لذا، لا يمكن تركها على الهامش أو تهميش مطالبها.
#عائشة_العلوي (هاشتاغ)
Aicha_El_Alaoui#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النموذج المغربي-المغربي للتنمية، أية أبعاد؟
-
شذرات اقتصادية: التنمية والتعليم
-
شذرات اقتصادية: النموذج التنموي - العدالة الاجتماعية
-
اقتصاد الريع، هل هناك سياسة لمواجهته؟...
-
صعود النزعة المقاولاتية والريعية للمجتمع المدني …
-
الهدف الرابع للتنمية المستدامة واستراتيجية التعليم بالمغرب-
...
-
استراتيجية الهدم ونموذج التنمية بالمغرب …الحصيلة الراهنة 201
...
-
التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية... أية علاقة؟
-
النموذج التنموي والعمل السياسي، أية علاقة ؟...
-
الدول المستفيدة من الديون… تحليل لمقال
-
اندثار معالم الحدود... (الجزء الثاني)
-
اندثار معالم الحدود... (الجزء الأول)
-
العمل الموسمي والمياوم للنساء بالمغرب عُملة لاضطهاد يومي واس
...
-
8مارس اليوم العالمي للمرأة، هل هو يوم للاحتفال أو لتخليد ذكر
...
-
-خديجة- المرأة المغربية و الاغتصاب الجماعي...
-
هل ساهمت الأزمة المالية العالمية 2008 في تقوية الحركات الاحت
...
المزيد.....
-
السعودية: إنتاج المملكة من المياه يعادل إنتاج العالم من البت
...
-
وول ستريت جورنال: قوة الدولار تزيد الضغوط على الصين واقتصادا
...
-
-خفض التكاليف وتسريح العمال-.. أزمات اقتصادية تضرب شركات الس
...
-
أرامكو السعودية تتجه لزيادة الديون و توزيعات الأرباح
-
أسعار النفط عند أعلى مستوى في نحو 10 أيام
-
قطر تطلق مشروعا سياحيا بـ3 مليارات دولار
-
السودان يعقد أول مؤتمر اقتصادي لزيادة الإيرادات في زمن الحرب
...
-
نائبة رئيس وزراء بلجيكا تدعو الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات
...
-
اقتصادي: التعداد سيؤدي لزيادة حصة بعض المحافظات من تنمية الأ
...
-
تركيا تضخ ملايين إضافية في الاقتصاد المصري
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|