جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 6345 - 2019 / 9 / 8 - 16:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ولأن كل النظريات النفسية تؤكد على أن شخصية المرء وصِفاته الأساسية ومنابع سلوكه تعتمد على مكان وزمان الطفولة والنشأة المبكرة فإنه لم يكن مقدرا والحالة هذه أن يأتينا الزمان بغير ما كان أتانا به المكان.
أما أولئك الذين إعتمدوا مفردة (الترييف) لوصف مقادير العصف الذي أحدثه "صدام" بقيم المدينة فإني أراهم وكأنهم خففوا, دون دراية وقصد, من وطأة ذلك العصف وحدَّة أضراره. فالريف العراقي لم يكن على تلك الدرجة من التقاطع الأخلاقي مع قيم المدينة, لذلك رأينا كيف أن النقلة من حياة الريف إلى حياة المدينة كانت في معظم الأحيان نقلة سياقية وهادئة, إذ لم يكن هناك تقاطع قيم ورؤى, حتى كأن بعضهما كان مكملا للأخر.
وكان طبيعيا جدا أن تتغلب المدينة على كثير من مظاهر العوق أو التخلف الريفي وتحسم معاركها بشكل ودي وبدون سلوكيات عدوانية وقهرية لأن المدينة كانت تملك قوة التأثير الفعلية على أنماط السلوكيات الريفية التي لم تكن أصلا بالكيفية التي تجعلها خصما لقيم الريف ونقيضا لها.
وأتخيل أن من الصعوبة حقا ان نعثر على وجود ثقافتين متقاطعتين, واحدة مدينية وأخرى ريفية, بالمستوى الذي يجعلنا نقول أن ثمة صراع كان أو ظل يجري بينهما, فالمدينة العراقية الحديثة كانت قد ولدت من رحم الريف, أما الريف نفسه فقد كان في الأصل بمثابة مدن مُرَّيفة, وهذا ما نستطيع العثور عليه إبان النشأة الجديدة للحالة العراقية بعد إنهيار الإحتلال العثماني ونشوء العراق الجديد.
قبلها فإن طبيعة الأحتلال العثماني كان حول العراق إلى مناطق متخلفة بالتساوي بحيث يصعب القول بوجود فروق بين الريف والمدينة من تلك التي يمكن إعتمادها للتنظير لحالة متقاطعة بين ثقافة مدينية وبين أخرى ريفية وبما يؤدي إلى وجود إنسانين متخاصمين أو متقاطعين في الثقافة والسلوك, واحدٌ من المدينة وآخرٌ من الريف.
والتقاطع الذي نقصده هنا هو ذلك الذي له علاقة بمفردة الخصومة وليس بمفردة التفوق التعليمي أو الثقافي, وهو الذي يؤشر وجود ثقافتين متضادتين ومتصارعتين ونسِقيْن متخاصميْن من السلوك الإجتماعي وطريقة تصريف العادات والتقاليد, كما هي الحال بين الصحراء والمدينة.
ولعلنا سنخرج بالنتيجة نفسها التي خرج بها علماء إجتماعيون كان أستاذهم في الأصل العلامة بن خلدون الذي كان أول من نظَّر لثقافة الصراع بين المدينة والبداوة ولكن على شرط أن ننتبه إلى أن ذلك لا يمكن تطبيقه على العلاقة بين الريف والمدينة وإنما على العلاقة بين الصحراء والمدينة.
وكما ذكرت فإن الإحتلال العثماني الطويل الأمد للعراق (1534م إلى 1920) كان قد أدى بشكل كبير إلى تضيع الحدود الفاصلة بين الريف والمدينة بحث كانت المدن وكأنها كلها أرياف. وبهذا فإن علينا أن لا نسقط على المدينة العراقية وأريافها تلك النظريات الأكاديمية التي تحاول أن تضغط الحالة العراقية في قالب تفسيراتها النمطية فتفصل أو تعزل على ضوء ذلك ما بين نمو ريفي قيمي كان إمتلك فرصة التكون في غير المساحة التي تكونت فيها قيم المدينة.
وحتى مع الإقرار بأن المدينة العراقية, التي كانت تطورت بانماط أسرع بعد إنتهاء الحقبة العثمانية, قد تعرضت وعلى فترات لنزوحات ريفية سريعة ومكثفة, وخاصة بعد الإنقلاب على النظام الملكي, وكنتيجة للتطبيق الخاطئ لقانون الإصلاح الزراعي, مما أفقدها القدرة الكافية للإحتواء والترويض, فإن المدينة العراقية ظلت هي الطرف الأقوى في معادلة التغير والتغيير بحيث يمكن القول إن الريف في النهاية هو الذي تمدَّن بدلا من القول أن المدينة هي التي تريَّفت.
وإن علينا أن نميز بين الإنسان (الريفي) الذي يعيش على الزراعة والإنسان (البدوي) الذي يعتاش على النشاط المتنقل, وهنا هنا سنعثر على المشاهد المتناقضة والمتحاربة.
في حالة الريف, حيث المزارع والدواجن, نحن نتحدث عن مجتمعات تخلت كثيرا عن قيم البداوة وعن إنسان فرد يميل لتكوين مجاميع بذات وقيم مُؤنسَنة, بمعنى العلاقات ذات العقد الإجتماعي الذي يؤسس لضوابط جامعة وكابحة للصراعات العنفية, أي حالات تعايش قائم على الثقة. وأما ناتجها فإنسان مُروض إجتماعيا.
في المقابل فإن حالة البداوة لم تملك المساحة الزمنية الكافية ولا الظروق الملائمة ولا طبيعة الحياة المتحضرة التي تدعوها إلى التمدن وإلى نزعة السلام والتعايش الإجتماعي. أما ناتجها فإنسان يحاول (صَحْرَنة) المدينة و(بَدوَنتها) لو إمتلك إلى ذلك سبيلا.
وإن من الخطأ حقا أن لا نلتفت إلى هذا الفرق الكبير ما بين الصحراء والريف من جهة, وما بين المدينة والريف على الجهة الأخرى, فالصحراء أو البداوة حيث التجمعات البشرية المتباعدة والبحث عن الرزق في الصيد والمطارة غير مدعوة لأنسنة التجمع بل هي مدعوة لوحشنته حتى يصار إلى تربية قيم الغزووسلوكيات العدوان المبيت والغادر. على عكس حالة الريف حيث التثقيف على قبول الآخر. إذ لا حياة معقولة للمجتمعات هنا ما لم تتم عملية التقارب بين الأفراد لبناء حالات من التعايش الذي لا خيار له سوى ترويض النزعات الفردية لصالح التجمع = المجتمع . هذا الأخيرهو عبارة عن تجمع مستقر في مساحة جغرافية متقاربة ومساحة زمنية كافية لإنتاج حالة سلوكية متجانسة بهوية موحدة والتحضر هنا في بعض تعريفاته هو قمع الغرائز وأنسنتها.
من تكريت وديالى والموصل وبغداد والنجف وكربلاء والبصرة والناصرية وسامراء, ومن جميع المدن والأرياف العراقية الأخرى النمسجمة والمتصالحة مع ذاتها ومجتمعاتها, جاء أغلب أعضاء الأحزاب العراقية, ومثالهم في حالة البعث الشهيد المغدورعبدالخالق السامرائي.
ولست أزعم هنا على أي مستوى أن العنف كان قد إبتدعه صدام ولم يكن له أثرا من قبله, فالحركات السياسية الشمولية كالشيوعية والبعثية بشكل خاص كانت مسؤولة عن العنف أيضا وذلك لِعلةٍ في نظرياتها الفكرية التي يصعب عليها الإعتراف بالآخر فتحاول أن تقصيه حال تصدرها للسلطة. غير أننا هنا نبحث بشكل خاص عن عنف خاص وذا صلة بالتركيبة النفسية المعقدة للشخص ذاته. وهناك أكثر من مشهد يؤكد على أن عبدالخالق السامرائي أراد (تلطيف العنف البعثي) وتهدئته في حين ان أكثر المشاهد مع صدام كانت أكدت على أنه (عَنْفّن العنف البعثي) وذهب به إلى أبعد نقطة متسببا باضرار يصعب محو تأثيراتها سواء لحزبه ورفاقه أو لشعبه ووطنه او للمنطقة المحيطة برمتها.
ولي شخصيا حق ان اشير إلى السامرائي كان المحرك الأساسي لتلطيف العلاقة مع خصوم حزبه وفي مقدمتهم الشيوعيين, أما مع الأحزاب الكردية فلقد كان له السبق أيضا في خلق المناخات التي أدت فيما بعد إلى إقامة علاقات ودية كانت قد أسست لإتفاقية الحكم الذاتي التي صادق عليها الأكراد بقيادة الملا مصطفى البارزاني, كما أنني شخصيا كنت شريكا في إجتماعات رسمية للمكتب الثقافي في بداية السبعينات, والذي كان السامرائي قد ترأسه حتى إقصائه وإستيلاء صدام على رئاسته, حيث تحدث السامرائي اكثر من مرة عن ضرورة إعادة النظر في الأفكار والمنطلقات النظرية للحزب من تلك التي تؤسس للعنف مؤمنا أن الأفراد الحزبيين هم ادوات تنفيذ أما أصل العيب فذلك الذي تؤسس له النظرية الشمولية للحزب والتي تجعله حزبا إقصائيا وميالا للإنفراد بالسلطة.
أما صدام حسين فقد نشأ بالأصل في مجتمع كان أقرب إلى البداوة منه إلى الريف. وحينما نضع الرجلين أحدهما قرب الآخر وننظر إلى داخل لباسهم المديني فسنعثر حينها على إنسانيْن مختلفيْن وحتى متناقضين من ناحية القيم والسلوك وطريقة تصريف المبادئ, الأول الشهيد المغدور عبدالخالق السامرائي القادم من حاضرة الدولة العباسية حيث الإرث الحضاري العميق, ومن مدينة الحضرتين المقدستين لدى (الشيعة) المؤتمن عليهما من قبل (سنة) سامراء خلال عصور طويلة, عكس صدام حسين الذي جاء من بيئة بدوية متناقضة ومتخاصمة مع قيم المدينة والتحضر, مضافا إليها بيئة عائلية كانت قد إمتهنت طفولته, ولم يكن مقدرا لإنسان أن ينشأ فيها دون أن يخرج منها وفي يده شهادة الثأر من كل شيء.
هنا هو جذر المشكلة. وحينما آتي على الفرق في حالة النشوء, بين القلعة في سامراء وبين العوجة خارج تكريت, بين المدينة والمدنية التي جاء منها السامرائي وبين البداوة والتصحر التي جاء منها صدام حسين, فليس لغرض إشتقاق قاعدة تتأسس عليها النظريات العامة, فثمة دول في منطقة الخليج إستطاع أهلها الصحراويون أن يؤسسوا مجتمعات متصالحة مع النفس ومع الجوار وقادمة إلى التحضر بمستويات مختلفة, وثمة العديد من أهالي (العوجة) المتصالحين مع أنفسهم ومجتمعاتهم والتي لم يعيشوا ذات العلاقات المريضة بين أهلهم وداخل بيوتهم ومع البيئة والمحيط.
لكن مع طبيعة النشاة العائلية لصدام, ومع صدام بالذات, هناك لوثات شخصية ما إن إجتمعت فيه حتى جعلت منه قاتلا قبل ان يدخل إلى الحزب ولعلها هي التي أيقظت فيه كل الجوانب المظلمة لسلوكيات البداوة والتصحر تلك التي تعتبر الغزو حق والغدر ذكاء.
وكأني بعبدالخالق السامرائي يوم غُدِر به وهو يردد ما كان قاله الإمام علي بن أبي طالب حينما أشاد أحدهم أمامه بدهاء معاوية (والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يمكر ويغدر ولو كنت أمكر وأغدر لكنت أدهى العرب).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*القسم (11) من مقالة موسعة بعنوان (بعض من بعض الذي كان)
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟