|
أبي أعدل من الله !
شفيق عنوري
الحوار المتمدن-العدد: 6344 - 2019 / 9 / 7 - 23:04
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كانوا ثلاثة إخوة، الأول اسمه رائد، والثاني جمال، والثالث حسن، نشأوا في بيت لأسرة متوسطة الحال، أبوهم محمد يعمل موظفا بسيطا في إحدى الشركات، كبروا في نفس الظروف، قضوا طفولتهم بين الشارع والبيت، تربوا في البيئة نفسها، درسوا في مدرسة عمومية والتحقوا بالثانوية الإعدادية ثم التأهيلية ومنها إلى الجامعة، والتخرج، ولحدود اللحظة كانت الأمور على ما يرام، لكن بعدها، بدأت الأفكار تفرق الأشقاء شيئا فشيئا.
بعدما جاوز رائد الـ25 من عمره، تغيرت أفكاره بشكل كبير للغاية، في البداية بدأ يشكك في والده، حيث كان يتساءل دائما هل حقا هو من أنجبني؟ لأني لا أملك بصراحة أي دليل حقيقي، فقط أن الأمر متواتر والكل يقول لي أني ابنه، لكن هناك فرضية أن تكون القصة كلها بدأت بكذبة، لأن الناس تردد ما تسمع، فكان بإمكان "أبي" أن يتفق مع عشرة أشخاص ليشيعوا في الحي بأنه أنجب ابنا سيسميه رائد، لينتشر الأمر كالنار في الهشيم ويصبح الكل يعلمه، وهكذا، وبعدها توصل لقناعة بأن محمد ليس والده، وكان يجاهره بالأمر، الشيء الذي شكل صدمة كبيرة لأبيه، كلما سمع رائد يقول له ذلك ويصرخ في وجهه متهما إياه بالكذب عليه لسنوات طويلة.
أما جمال، فلم يدخل في هذا النفق، وكان مقتنعا بأن محمد هو الأب الحقيقي له، غير أنه لم يكن من الأشخاص الذين يحبون مدح الآخرين، فهو دائم الغضب، لأنه كان يرى بأن وضعيته الاجتماعية الحالية تسبب فيها والده بشكل مباشر، فلو كان الأب يفكر في أبنائه لعمل على توفير المال من أجل مستقبلهم، غير أن أنانية الأب جعلته يعيش لنفسه دون التفكير في أولاده، لذلك لم يكن يمدح أباه، بل كان يتحاشى الحديث عنه بالأمور الجيدة، هو بالرغم من كل ذلك لم يكن يسيء معاملته، لكنه ليس ممن يحبون المدح، بل لا يطيقه لأنه يعتقد بأن أباه لم يفعل ما يستحق أن يمدح عليه.
أما الصغير حسن، فقد كان اسما على مسمى، يحسن معاملة والده ويمدحه، ويرى الأمور من زاوية ثانية، حيث يقول دائما بأن كل ما هو عليه الآن جاء بفضل أبيه، لذلك لم يكن يكف عن مدحه، لا يكاد يمر يوم إلا وكان حسن يثني على والده محمد، لقد كان الأب سعيدا جدا بابنه الصغير، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لإنسان، فكل شخص يأمل أن يكون ابنه محبا له ومقدرا لما قام به تجاهه منذ أن كان صغيرا، إلى أن كبر.
الأب وبالرغم من كل المشاعر التي في قلبه تجاه ما أصبح عليه ابنه الأكبر، والأسى على ابنه جمال، إلا أنه لم يسبق أن سعى لقتلهما، أو حرقهما أو تعذيب أحدهما، لأنهما فقط لم يعترفا به أو يمدحاه ويتذللا له، فقد كانت مشاعر الأبوة تجاه أبناه نفسها بالرغم من أنهم مختلفين في معاملتهم له، إلا أنه لم يكن يتمنى أن يحدث أي مكروه لابنه الأكبر ولا الثاني ولا الثالث، كانوا سواسية من هذه الناحية، حتى وإن بدا غاضبا جدا من رائد، غير أن غضبه ينطفئ بمجرد أن يسمع بأن مكروها كاد يصبه. ومثل محمد، هناك عدد هائل من الآباء الذين سيتصرفون بنفس الطريقة، لن يحبوا لأبناهم سوى الخير، حتى وإن كانت معاملة ألولادهم لهم سيئة.
القصة السابقة تمثل لخالق الكون، وأصناف المخلوقات، وبالضبط "الإنسان"، وهي مدخل لموضوع المقال الذي يتمحور حول مسألة العدالة الإلهية وإشكالية "العذاب"، فالله حسب الأديان، سيعاقب كل من لم يؤمن بـ"الطريق الحق"، والذي هو عند كل المؤمنين دينهم دون غيره، أي أن المسلم يرى الطريق في الإيمان بمحمد نبي الإسلام، والمسيحي يراه في الإيمان بـ"المسيح المخلص"، واليهودي يعتقد أنه في اتباع "العهد القديم" و"التلمود"، وقس على ذلك.
إذا كان الأب في القصة لا يستطيع أن يعذب أبناءه، كيف يعقل لله، الذي خلق الناس أجمعيهم، وهو بلسان مسيحي أبونا، أن يعذب فئة من بني الإنسان، لأنهم لم يؤمنوا به ولم يعبدوه؟ إذا كان الأب الإنسان، لا يتحمل أن يرى ابنه "العاصي"، يتعذب، فكيف للأب الإله؟ ألا تأخذه الرحمة حين يبدل جلود مخلوقاته بعد أن تحرقها نار جهنم؟
لو كنت تؤمن بأن الكون صادر عن 3 آلهة على سبيل المثال لا الحصر، واحد خلق المسلمين والآخر المسيحيين والثالث اليهود، فقد تكون فكرة أن يعذب الإله من لا يتبعون دينه مقبولة نوعا ما، لكن في الحالة التي لدينا، الكل يؤمن بأن خالق الكون واحد لا شريك له، لذلك فمن غير المنطقي أن يعذب من لا يؤمن بدينه الحق، الذي هو عند للمسلمين الإسلام وعند غيرهم حزبهم، وكل فئة بما لديهم فرحون.
قد يقول قائل إن الأب كان سعيدا بتعامل ابنه الصغير الذي كان شاكرا مادحا له، فكذلك الله، أقول نعم، ولكن الأبناء الثلاثة يمثلون: جواد: الملحد، جمال: الربوبي، حسن: المؤمن، ولا يمثلون الأديان، لأن كل الأديان تعبد الله وتعلي من شأنه وتشكره وتمدحه على كل المنن التي من بها عليها، وكل بطريقته الخاصة.
إن كان الله واحدا لا شريك له، وسيعذب حقا، فإني أعتقد أن النقاش المنطقي هو هل سيعذب اللاديني، وليس هل سيعذب المؤمن، لأن المؤمنين سواسية، فكلهم يؤمنون به، ويعبدونه، وحتى الربوبي قد يكون عابدا شاكرا له، لكن بطريقته لا بطريقة الأديان.
سيقول آخر، إن الله لن يعذب المؤمن بغض النظر عن دينه، ولكنه سيعاقب من لم يمؤمن به ويمدحه، لكن يا صديقي، هل ستجعل الله أدنى رحمة من الإنسان، لأن الأب في مقالي تمنعه مشاعر الشفقة والرحمة من معاقبة ابنه الأول والثاني، وحتى إن وجد أب في العالم قد يفعل ذلك، فإن الله سيكون أرحم منه أليس كذلك؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، الأب الذي في الدنيا حرص على أن يكبر أبناءه في نفس الظروف الاجتماعية ووفر لهم نفس الشروط، لم يكن هناك تفاوت على مستوى المرتبة، لكن في العالم، قد يولد المؤمن وفي فمه "ملعقة من ذهب" كما يقال، في حين ينشأ الشخص الذي يصير فيما بعد ملحدا أو ربوبيا، في بيت من "قزدير"، في الرابعة من عمره هدم الكوخ، وبات في العراء مع أسرته لأسابيع قبل أن يجد والده ملاذا جديدا، أو نجد العكس، يعني أن هناك تفاوت كبير من الناحية الاجتماعية.
وإلى جانب المستوى الطبقي، فليس هناك أي مساواة بين شخص يولد معاقا وآخر يولد كاملا معافى، ما ذنب الأول الذي لن يقدر على فعل الأشياء التي يمكن للثاني القيام بها.. كيف لمن لا يستطيع المشي أن يفكر في العبادة وأسمى أمانيه أن يتمكن من الوقوف على قدمين مثل باقي الناس؟ كيف لمن أنجب أعمى ولم يبصر نورا طول حياته أن يتساوى مع من يستمتع بالنظر إلى البحر وأمواجه والربيع وأزهاره؟
إن القول بأن الله سيعذب أحدا، يتنافى مع عدالته، فلا يمكن أن يكون الأب الإنسان أكثر عدلا من الله، وإلا فسيكون المخلوق أفضل من الخالق في الرحمة، وأي شيء من هذا القبيل يمثل نقصا، والنقص يتنافى مع الألوهية ويجعل الخالق مخلوقا لخالق أكمل منه، وبذلك لن يكون هو موجد العالم، أي أنه أصلا ليس من يستحق العبادة، وهذا هو الإشكال في معضلة "العذاب"، إن الله ذو كمال مطلق، ولابد من أن تكون رحمته مطلقة وليست مقيدة لكي يكون إله حقا.
#شفيق_عنوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إيطاليا: اجتماع لمجموعة السبع يخيم عليه الصراع بالشرق الأوسط
...
-
إيران ترد على ادعاءات ضلوعها بمقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
بغداد.. إحباط بيع طفلة من قبل والدتها مقابل 80 ألف دولار
-
حريق ضخم يلتهم مجمعاً سكنياً في مانيلا ويشرد أكثر من 2000 عا
...
-
جروح حواف الورق أكثر ألمًا من السكين.. والسبب؟
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 250 صاروخا على إسرائيل يوم
...
-
اللحظات الأولى بعد تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL قرب مطار ا
...
-
الشرطة الجورجية تغلق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في تبليسي
...
-
مسؤول طبي شمال غزة: مستشفى -كمال عدوان- محاصر منذ 40 يوم ونن
...
-
إسرائيل تستولي على 52 ألف دونم بالضفة منذ بدء حرب غزة
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|