|
من قاسيون أُطلُّ يا وطني!
عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري
الحوار المتمدن-العدد: 6344 - 2019 / 9 / 7 - 21:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
سبقنا الأوائل في القول: حبُّ الأوطان من الإيمان. نعم، بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة، هي مسقط رأسي، ومجمع أهلي وناسي، وملعب إخواني وخلاني. والشاعر يقول: شكوت وما الشكوى لمثلي عادة/ ولكن تفيض العين عند املائها. وعلمي أن محاسن الأوطان كثيرة لا تُستقصى. وأبو الطيب يُنشد: لا خَيْلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ/ فليُسْعِدِ النطقُ إن لم بُسعِدِ الحالُ. و السوريون يذهبون إلى البعيد مع نغمات لحن أغنية دلال الشمالي التي تنشد قصيدة خليل خوري: من قاسيون أطل يا وطني/فأرى دمشق تُعانق السحبا. كُلنا يعلم بأن آراء الناس تختلف من زمن إلى آخر، وهذا من حقهم، ولكنهم يحتاجون إلى التعاون من أجل نهضة الأوطان، وأساس التعاون والعيش المشترك هو التفاهم الذي يزيل الخلاف بين الأطراف ذات العلاقة في عالم متنوع. وأذهب معكم إلى قول فولتير العظيم ونحن في أشدِّ ما نكون إلى تمثله اليوم: "قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعداد لأدافع حتى الموت عن حقك في التعبير عن رأيك".
وكُلنا يعلم أيضاً بأن الوطنية هي هذا الشعور العميق الذي يحدو صاحبه إلى مؤاخاة جميع الناس، لأنهم يشاركونه في مُثُلٍ عليا يُقدسها وهي تستلزم حقوقاً وواجبات. فما الذي تغيَّر هكذا فجأة حتى ضاقت الأرض على أهلها؟ فأصبح الواحد منّا مثل طائر وحيد، أضاع اتجاهه، وها هو بلا عشِّ، يحطُّ منكمشاً، على غصن أجرد يابس، يضايقه البقاء هنا، ولكن إلى أين يطير؟ ماذا حدث بين ليلة وضُحاها حتى فقدت الطيور أعشاشها وتاهت عن أشجارها؟ خربت الأرض وتغيرت معالمها، نكَّست الأزهار تيجانها بذلِّ تاركة لرائحة الموت والحرائق الخانقة تلوين المدى. سمعت الغربان وعصائب البوم بهذا الخراب فتوافدت جماعات تتلوى جماعات، وأخذت تنعق وتنعب مُمجّدة المذبحة. كانت بلادنا تتسع لمن يُغني كما تتسع لمن يُصلي. كيف انقلب المناخ العام وتغيرت درجات الحرارة على المقياس الوطني؟
وكيف بدأ هذا القحط في الوجدان الذي ضرب مساحة الوطن سبع سنين عجاف؟ تسونامي من الرعب والخوف ضرب المشهد السوري، فاستيقظ على لوحة سريالية من لوحات سلفادور دالي.
تعود بي الذاكرة إلى لوحة أخرى حيَّة نضرة في ألوانها أواخر العقد السادس من القرن العشرين من خلال شخصية جدي الذي عاش ومات فلاحاً مرابعاً، وقد كنتُ قريباً منه في تلك الأيام قبل سنّ المدرسة، أذهب في أول فصل الصيف لمعاونته في شتل البندورة. كان الفلاح السوري يعيش ويحرص على أن لا تتجاوز مطالبه ما يمكن تحقيقه. يأكل خبزاً من حنطته وسمناً وجبناً ولبناً من بقراته وعنزاته الشامية، أو نعاجه العواس، ويأكل زيتوناً ودبساً وعسلاً إن توفر، ويحرص على مؤونة الشتاء من تين وزبيب وجوز ولوز وقمر الدين وملبن ودبس العنب، ويخفي عن أعين الثقلاء عرقه ونبيذه. وتعود بي الذاكرة أيضاً إلى العلّامة عبد الله بن محمد البدري، الذي عاش في الشام في القرن الرابع عشر من ميلاد السيد المسيح، إذ يُخبرنا في كتابه "نزهة الأنام في محاسن الشام" بأن أصحاب البساتين في ربوع الشام كانوا يضعون الفاكهة المتنوعة في أجران حجرية ضخمة على أبواب البساتين، ومن يحتاج من أبناء السبيل يأخذ منها حاجته.
وفي الشمال كان الفلاح السوري يزرع أشجاراً مثمرة: تين، رمان، لوز، جوز، مشمش، خوخ، سفرجل، زعرور، فستق حلبي، للفقراء والمساكين يعرفونها بالتكرار، وغالباً ما تزرع قرب الطرقات ليسهل تناولها. وكان جدي عثمان دحنون_ رحمه الله_ يستأجر الأرض ويأخذ ربع إنتاجها، ومع ذلك يحمل من حصته من ثمر التين والعنب وخضار الصيف إلى بيوت الفقراء والمساكين.
شعور المواطنة هذا كان مشتركاً عندنا، له قيمة وجدانية وفكرية وأخلاقية عالية تستوجب الدفاع عنها من أجل مصلحة الشعب، كل الشعب. وقد ربطنا الوطنية بالأخلاق الإيجابية التي تتطلب الجرأة والإقدام والعمل، والنهي عن التفرقة في المجتمع، والسعي لنقد الأخطاء وتقويم الاعوجاج وبث روح العدالة في الأفراد. فمن لا يستطيع أن يقول لأهل الظلم والعسف: كفّوا! فهو عبد فاقد لحريته، والمعتقل الحقيقي هو من اعتُقل لسانه عن قول الحق، والحر الحقيقي هو من يقول كلمة الحق، ولو كان قابعاً وراء القضبان.
إن الوطنية الحقة التي تلتزم الوجدان الجمعي لا تعني التقوقع على الإطلاق، ولا التمترس خلف الأوهام القومية أو الدينية أو العقائدية، التي تؤدي بدورها إلى الفاشية المقيتة. أعتقد أن الحميّة والحماسة والشعور الوطني الوقاد هي الدافع الحقيقي الذي يُساهم في الجمع ما بين الغيرة الوطنية والمعرفة المستنيرة والممارسة الهادفة إلى تحرير الإنسان والوطن، وتحرير العقل والفكر من الأوهام، والبحث عن أنجع السبل لتحقيق هذه الأهداف النبيلة. وفي الحق، أن سهولة الاتصال بين أفراد الوطن الواحد أصبح المعيار الحقيقي لقياس وطنية هذا الفرد، ومدى صحوة وجدانه حتى يرى بلاده تُعانق السُّحبا.
#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تفتيش المرأة جسدياً
-
الإرهاب والكباب
-
صورة فيدل كاسترو
-
في رحيل الرفيق إبراهيم الخياط
-
فيلسوف معرة النعمان
-
ماركس فيلسوفاً
-
حكايةاختطاف أدغاردو مورتارا
-
مناقب الترك
-
كان الحمام يطير محترقاً
-
يهشّون عند المائدة
-
الكانطيون الجدد وعمي أحمد
-
أين أنت يا جهاد أسعد محمد؟
-
استعمل مخَّك و إلَّا فقدته
-
فدائيون في جدارية بيروت آب 1982
-
نساء بيكاسو الجميلات
-
الجسارة في مشروع طيب تيزيني الفكري
-
فيتامين الأشعة الشمسية
-
هل كان لينين شيوعياً؟
-
قومي إذا ما أيسروا أنا موسر
-
فيلسوف معرة النعمان بين سجع الحمام وزئير الأسد
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|