|
تأملات فلسفية 14
شادي كسحو
الحوار المتمدن-العدد: 6337 - 2019 / 8 / 31 - 05:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عن الميتافيزيقا الأخيرة ما معنى الميتافيزيقا الأخيرة أو الوجود الأخير ؟. إنها لا تعني واقعنا الموضوعي الذي تعامل معه الفلاسفة منذ أفلاطون إلى اليوم، إنما هي اعتراف أولًا، ودفاع ثانيًا، عن الظلي والشبحي والاصطناعي والافتراضي التي لطالما تم التعامل معها كـ وجود ضعيف. إنها دفاع عن إنسان الحاضر بما هو نبت انطولوجي جديد ينتمي إلى مجال البشرية الأكثر تقدمًا. إن إنسان الحاضر هو ابن السوق، والشاشات، والسطوح، والاستهلاك، والافتراض، والاصطناع، إنه شكل لخروج الوجود برمته عن طوره المرآوي، واقترابه من معاني الصدمة والانذهال والغواية. عندما تهرب الدوال من مرجعياتها، وعندما تهجر الأشكال مضامينها، وعندما تتنصل الموضوعات من قابليتها للقياس، نكون وجها لوجه مع شكل لانفجار العالم نفسه. أمام مسخ، أو كائن خارق. نكون أمام إنسان الحاضر تحديدًا. لكن إنسان الحاضر هذا، ليس أعلى ولا أدنى، ليس إنسان روسو ولا إنسان غوته ولا إنسان شوبنهور ولا إنسان نيتشه، ولا إنسان ميشيل سير، بل هو أخير على الدوام. لقد سحب إنسان الحاضر الكرسي من تحت شخصية الداندي الحداثية، وشخصية المتلقي المسرحية، وشخصية الغاوي الدون جوانية الكلاسيكية، وحولها إلى شخصية المستهلك السعيد. المفتون بحمقه الخاص أو بلادته المعممة. إن إنسان الحاضر هو بله عدمي. نموذج نموذجي للمستهلك في عصر الشاشات والسطوح الذكية. وحده الذي يستقبل صور الأشياء دون أن يفهم معناها يمكن أن يسمى إنسانًا حاضرًا أو فائقًا. إنسان الحاضر ذاتية بلا ذات. سطح للاستقبال وليس منصة للإرسال. إنه ستاند متحرك لا ليرى الأشياء، بل ليعكس عبره صور الأشياء. إنه فرجة محضة. أو هو بعبارات أخرى: انفعال عدمي بامتياز، شغف خاص بنمط الزوال. نحن مبهورون بكل أشكال الزوال. بزوالنا. إن وضعنا الطبيعي في زمن الميتافيزيقا الأخيرة وضع سوداوي وعدمي ومنبهر. هكذا هو إنسان الحاضر بالذات والإسم. اسم متمرد للهاوية. اسم لا منطوق .هوية منسحبة. إنية مشعة في غير أوانها. نصف الوجود هو لا وجود. إنسان الحاضر هو عين اللا مكان الليزرية. إنه ماض يتم محوه في غير اتجاهه. وجود تعاد كتابته بلا تربة. إنسان الحاضر زقاق نسي اسمه. طريق لا مبالية تشبه لا مبالاة النجوم إزاء الليل الذي جعلها تسطع. تشع. تلمع. انسان الحاضر هو طبعة من كتاب الوجود بلا تاريخ.
فينومينولوجيا الصحراء هل يمكن أن نسأل الصحراء لم هي كذلك؟. بالطبع لا. فالصحراء هي ما يفلت من كل علامة. ما يمتلك القدرة على التنصل من كل شيء ما عدا نفسه. الصحراء تلك الحركة التي لا يكون النهائي حدًا لها، الصحراء كما لو أنها نقد نشواني للثقافة، أو شكل نشواني للتلاشي. لا أفهم الصحراء إلا كـ شكل من أشكال التحييد الدائم لكل فكر، أو كما لو أنها وجود الوجود، خارج كل سيادة. إن الصحراء هي أيضًا بلاغة بصرية. لكنها بلاغة صامتة، أو وحود أصم. لا تخشى الصحراء الفراغ، بل تحتفل به. لا تخشى الصمت، بل تولده. أنقاض جيولوجية. أطلال سرمدية. خواء معمم. وجود عاقر. قد تتشكل الذات على شاكلة الصحراء تمامًا. الشساعة، والأفقية، واللامحدودية. بل قد تجرد الصحراء الذات من الحق أو القدرة على الالتفات للوراء. تحولها إلى انفصال خالص. تفرد يكرر نفسه بالطريقة التي تكرر بها الصحراء ذاتها كل يوم. تكرار بصري أو مشهدي حيث تنقلب شروط الرغبة كل يوم رأسًا على عقب، ويبعثها الليل إلى العدم. الصحراء هي من جهة الوجود، الوجود الذي لا ذاكرة له. إنها الأفق الممتد الذي لا يترك مجالًا لأي أمام او وراء، ولا يزول تأثيره عند الاقتراب منه. الصحراء التي لا تنفتح أمامنا إلا وقد ازدادت انغلاقًا وغورًا. لا سقف هناك، ولا جدران. الصحراء هي الافتقار الأقصى للذات. السطحية السلبية. المحو المهذب. الصحراء هي من جهة الشيء. مكان اللا شيء بامتياز. يختلط الوجود هنا بالرمل. أن توجد يعني أن تعاين الفراغ والخواء كل لحظة. الصحراء كما لو أنها شكل من غزو اللا نهائي. الصحراء أيضًا، انتصار العين. أيها الخواء المشع. أيها الفراغ اللاهب. أيها السراب. لست أرفع الصحراء إلى مرتبة المطلق، بل أقول: إن الصحراء تضلل المطلق، وتبدد المركز. إنها تحرره، تعينه، تفضحه، تفككه، تتهكم عليه. هذا هو المعنى الغاص للصحراء بما هي أفق، أو بما هي أفق نسي أنه كذلك. الصحراء تأتي وتذهب. أما المطلق فهو ثابت هناك بلا حراك. إنه يولد كاملًا في كل مرة. هي ذي بعض تمظهرات الصحراء. لا التعالي الجوهراني، بل الكثافة المحايثة. لا السر، بل العري. لا الهوية، بل الاختلاف. لا الانقطاع، بل التكرار. الصحراء كما لو أنها وجود قدري لا مرد له. سطح عائم نغرق في غوايته مما قبل الفكر ذاته. تستمد الصحراء أحد معانيها من الانشطار والتكرار اللا مبالي، لكن تكرار الصحراء ليس تكرار معاودة وتشبه، كما هو الحال مع الغابات أو المدن، بل هو تكرار وقح أو عارٍ. إنه كذلك لأنه معجب بقدرته على الإفلات والهروب من كل علاقة تربطه بالحياة. ربما كانت الصحراء شكلًا من الانتحار باللا شيء. كما لو أنها شكل من أشكال تصفية حساب وقحة مع الحياة ذاتها، أو كما لو أنها محاولة لتحرير عمق الموت من سطحية الحياة. الصحراء أخيرًا، أو تلك الفيافي الفارغة. أن نعيش تحت رقابة السطح. تحت برانية الشغف. ضد الإفراط في الدلالة. ضد الإفراط في المعنى. ضد الإفراط في الذاكرة. ضد الإفراط في التاريخ. ضد الإفراط في الأنا. فالمجد، كل المجد، في النسيان وحده.
خطأ هوميروس عندما خرج أوديسيوس في رحلته الشهيرة كان يعتقد أنه ذاهب في حملة صغير ستنتهي بعد أيام، لكنه لم يعد إلا بعد عشرين عام. ولكن السؤال: هل حقًا كان أوديسيوس يريد العودة؟. بالنسبة لي: لو كان هوميوس أعمق قليلًا لترك أوديسيوس هائمًا على وجهه إلى الأبد. لكان أخبرنا باكرًا جدًا بأن اللا مكان هو مصير العالم.
التاريخ ليس عقلًا عندما قطع بروسيوس رأس ميدوزا، ظن أنه حاز على الخلود النهائي. مأساة بروسيوس هي مأساة كل عصر، مأساة خلود الشر. ميدوزا تطل برأسها في كل لحظة من حياتنا، أما بروسيوس فلا أحد يعرفه.
التاريخ كجريمة أولئك الذين يفضلون التسامح على الحقد ويفضلون التضامن على حب السيطرة، ويفضلون الروتين على خرق القانون، هم سبب كل دمار لحق بالبشرية.. طوبى للحالمين والثوار والحاقدين على البشرية، فلولا هؤلاء لأصبح العالم مجرد مكب للنفايات. ما التاريخ؟ سوى موكب حماقات وأحقاد وأعمال إجرمية اقترفها فنانون وساسة وأنبياء لتتحول فيما بعد إلى ايديولوجيات وأفكار تسحرنا وتلهب مشاعرنا. الحق أقول لكم: الإنسانية كلمة جميلة في القاموس فقط، أما التاريخ فلا يحركه إلا الحقد وشهوة الحرب، وكل آداب العالم محاولة فاشلة للالتفاف على هذه الحقيقة العارية.
عن الكتابة كحرب لم تكن الكتابة ولا في أي لحظة من لحظات تطورها التاريخي مجرد انفعال تافه أو مجرد فسحة لتزجية الوقت. الكتابة آلة حرب أو آلة هزيمة واستسلام. هي آلة حرب، لأن تسمية الأشياء عبر الكتابة تعني الاستحواذ على جزء من الواقع والقبض عليه وجعله في نهاية المطاف أغنى مما كان عليه قبل حصوله في المكتوب. وهي آلة استسلام، لأن عدم قدرة الكتابة على تسمية الأشياء يعني تبديد هذه الأشياء وإنفاق كمية من الواقع وجعله في نهاية المطاف أفقر مما كان عليه قبل حصوله في المكتوب. أن نكتب يعني أن نحتل أراضٍ جديدة، أو أن نستسلم لمحتل آخر يجيد فنون الحرب أكثر منا.
ضد الواحد كيف بالإمكان التفكير طالما نحن مرغمون على أن نحيل كل أفكارنا ومعارفنا نحو نص ما/ إله ما؟. اعتمادًا على "الواحد" لا يمكن البحث عن شيء، بل لا داع لذلك مادام أن كل شيء قد قيل كاملًا مرة واحدة وإلى الأبد. العرب قبل الإسلام وعوا ذلك جيدًا، كانوا ضد النسق/ ضد الواحد، بل لم يعرفوه أصلًا، فكان الشعر والأدب والملاحم. في العصر الإسلامي الوسيط نشأ المفهوم الفلسفي على أنقاض فكرة الألوهية والتوحيد فكانت نصوص الفارابي وأبي حيان أنصع الأمثلة وأكثرها وضوحًا. بكلمة واحدة, أن نفكر اليوم يعني أن نقف مع الوجود وجهًا لوجه، أن نتمرد على الواحد بكل اشكاله وتدرجاته، أن نعلن زيفه وإفلاسه وخواء جعبته من المعاني.
انطولوجيا الرائحة لبعض الأجساد فتنة تفوق تلك المتعلقة بالشكل. إنها الرائحة. ذلك العطر الطبيعي الذي ينبعث من الأجساد ويحفها بميتافيزيقا من نوع خاص. الجمال في كثير من الأحيان: مسألة شم.
ميتافيزيقا البكاء بعض النصوص، لا تكون الدهشة باعثها الأساسي، بل الدموع. البكاء متنفس انطولوجي وترياق وعزاء ضد ظلاميات الحياة، وأكاد أجزم أن هذه القطرات التي تمتزج فيها الملوحة بالحرارة والألم بالنقاء، تختصر كل السيرة الذاتية للإنسان، وفيها يكمن السر الأصلي لتعثر الكائن أمام هذا الوجود.
براقع الوجود أحب العدم لكنني لا أتخلى عن الوجود. يقضمني الموت وتسيل مني الأبدية. أعشق العطر لكنني لا أنسى الدم. هذا الصراع الذي لا يمكن حسمه، يحيلني كينونةً مليئةً بالندوب. يجعلني فضيحة أو صرخة دائمة ضد الثبات. ها أنا. وردة ومقصلة.
#شادي_كسحو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأملات فلسفية 12: اعترافات
-
تأملات فلسفية 13
-
تأملات فلسفية 12
-
تأملات فلسفية - 11 -
-
تأملات فلسفية - 10 -
-
تأملات فلسفية - 9 -
-
تأملات فلسفية - 8 -
-
تأملات فلسفية - 7 -
-
تأملات فلسفية - 6 -
-
تأملات فلسفية - 5 -
-
تأملات فلسفية - 4 -
-
تأملات فلسفية -3-
-
تأملات فلسفية -2-
-
بحثاً عن ديونيسيوس
-
سطوح ونواتىء: الصحافة العربية مراسم مرعبة وكليشيهات فارغة
-
جينالوجيا الحقيقة الدينية
-
تأملات فلسفية -1-
-
ضد الذات أو في مديح المواطنة
-
لعنة الإصلاح
-
مثالب الفلاسفة
المزيد.....
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|