|
مدارات تشادية -2-
إبراهيم الوراق
الحوار المتمدن-العدد: 6329 - 2019 / 8 / 23 - 02:10
المحور:
سيرة ذاتية
يتبع إلى صديقي تشادي، وهو كل من يحمل جنسية هذا البلد الجميل بتعدده وتنوعه. هكذا كان وضع النطق في الزمن الذي تراه دانيا من الحضارة الخادعة للأعين الشاردة عما يختزنه جوفها من بؤس الإنسان وشقائه، وهكذا صار موضوع الكلام فيما نتوسل به إلى حياض هذه البداوة التي تراها سبة على جبينك، ومعرة في كينونتك، ونحن في دفاعنا عن بساطة الحياة ولطفها، ونضالنا من أجل أن تبقى متسامية ببراءتها الفطرية، نتعرى من أسمال غيرها، لنتدثر بدثارها، ونمزق غشاء ذلك العهد المفجع بأغراضه المخزية، ونلبس برنسا جديدا يقينا وقائع هذه الحياة المحزنة. فدعني أخي أعود بك إلى الوراء، لأقول لك محاورا: إذا كان الفقر عارا مستَوجَبا في حق الإنسان المعذب بآلام الحرمان، فإن الغنى أيضا شنار يلطخ سمعة من لم يبن به عزا، ولم يؤثل به مجدا، لأن هدفهما في دورة الحياة التي نمشي بين حفرها العميقة بوجع وهلع، هو أن نحدث ذلك التصافف حول معنى "الإنسان الكوني" مع كل من يشاكلوننا في حقيقة الجنس، ويماثلوننا في طبيعة خصائصنا البشرية. وإذا لم يتم لنا ذلك في تمام القضية المحكوم عليها بالصحة، أو بالفساد، فإن الفقر يجب أن يحارب بكل ما ندرأ مغبتَه بدافع الرحيل والانتقال، وربما في بعض الانكسارات التي لا جبر لهزيمتها القاتلة، قد لا نطيق أن ننجز معنى الهروب منه إلا بالفناء والزوال والموت المعجل، لأن هامتك السامقة ستبرز بلا ظلال في سوح المستكبرين والمستهترين، وإذ ذاك، لن تصير شيئا حقيقيا في بناء المشتركات الإنسانية، ما انفكت الصلات المقدسُ وثاقُها تُفتل من رديء الهمم الساقطة. وتلك هي الملامة التي لصقت بالصدور المكتومةِ فيها أسرارُ الفكر والنظر، واللعنة التي لحقت الرؤوس المقطوعةَ أوردةُ عطائها وسخائها بلا رحمة، ولا شفقة، إذ ما تراه حين تخرج من دارك سارحا النظر في مراح يرقص عليه الصبيان بانتشاء، ليس هو ما يراه غيرك حين يفتح عينيه على سواد الذكريات الأليمة، ويصرف وجهه يمنة ويسرة فلا يرى حياله إلا بؤسا ساطعا، وشؤما طالعا، وإن بدا لك أنكما تتحدثان في سياق واحد، ويجمعكما مدار محدد في القصة المتآلفة من آلامكما البائسة، وآهاتكما اليائسة، لأن رحابة صدر العائلة الكبرى، ووجاهتها في اعتبار الذين يقدسون معنى الجماعة، وما تنطوي عليه من أحضان وجنان، وتدل عليه من التزام وانسجام، يزيح عنك غشاوة الألم الوكيد، ويعلمك كيف تستظل في بنائك بشاهق بناء غيرك، لتكون القرية ناطقة بحقيقة واحدة، لا شذوذ فيها عن الطبيعة الأولى لعنصر الإنسان السوي، أو الكائن الكامل. إنني حين استمع إليك تندب حظك، وتولول بملء شدقيك، وتتسخط لاطما خديك، وتقول لائذا بحقوك: يا أُخَي، إياك إياك أن تغامر في هذا القفر الموحش، والقعر المخيف، حيث لاشيءَ إلا قيعانٌ ينفجر منها السراب، ويعوي فيها الخراب، ويصفر فيها الريح، ويتيه فيها النزيح.! أتدري أي شيء تفعل بي في تلك اللحظة الغاضبة.؟ أتدري أي شيء أفهمه من صوتك الفادح النبرات.؟ تالله، إنك لتغرس في أحشائي دبابيس الحزن، وسكاكين الألم، وحراب العناء، ورماح الهوان. فياليتك جردت السيف من غمده، وأسقطت عنقا يعشق الموت أكثر مما يأمل أن يحيى بلا كرامة بين أمداء تلك الحياة الباسمة.! ستقول لي: أنت حزين أكثر مني.! كلا، لست حزينا حين أحدد المفاهيم الملتبسة على العقول، وأرصف المعاني على صحيفة القلوب، ولو اختلفنا في طريقة وضع أساس القضية، وبناء رسم محورها الذي يرتكز عليه منطقها، ويترسخ بها واقع استدلالنا عليها، لأني حين بدأت أقاوم الفوت، وأواجه الموت، وجدتني أشعر بأن بقية الحياة ما زالت تدب في بدني، وتسري في زمني، وهي التي أدرايها حين أناجي صمت الركب السائرين إلى محلات الطرب والأنس.! وأنا أقول لهم: قد حم القضاء، وضاق الفضاء، ولم يبق لنا ركض يردده هذا الصدى، ولا سير يحتويه هذا المدى. ألا فاحملوا تحيتي إلى من يبصر منارات الشوق بين روابي المنى، وقولوا له: غريب يطير بجناح الكمد حيال بؤرة الأمل، ويخب مشدودا بضعفه حول لهيب الأجل. ألا، ففكوا وثاقه، وارخوا زمامه، وقولوا له: هنا، قف متفانيا بوجد العشاق.! هنا كعبة الصفاء بلا عناء.! هنا زمزم الوجود بلا شقاء.! كلا، لو استسلمت لهذا الصوت الشاحب في عمقي، لما بحثت عن ظلك بين الأكنة المحصورة كون وجودها بكون حضورك يا خليليَّ تشادي. أجل، هل تدري يا أخي، ما معنى أن تفقد حقيقة الإنسان، وتبحث عنه بين الديار النائحة أعماقها، والشاحبة أبوابها، فلا ترى له أثرا، ولا عينا.؟ هل تدري يا أخي ما معنى أن تشك في نسبة الإنسان إلى نفسه، فلا تجده في جونك الممرع بالحزن إلا منفصلا ومعلولا.؟ هل تدري يا أخي ما معنى أن تبحث عمن تأمن مكره، ولا تخشى غدره، فلا تسمع له في صدرك المعلول ببوائق الزمن صوتا ولا لحنا..؟ يا أخي، إني لم أدرك شيئا أصعب علي في فقده من أن يضيع مسمى الإنسان بين معاني حياتك المثلى، وأنت تنقب عنه في جؤار أعماقك الحرى، فلا تكاد تعثر على بعض آثاره الكابية، إلا وغاب ما تبقى منه بين عيون القوم الحيارى. فهل زال الإنسان عن الدائرة الإنسانية، وبقي النسناس دالا عليه بالاستعارة، أو بالكناية.؟ شيء لا أريد أن أجزم به في الواقعة، ولا أن أحكم به في سابق التجربة، لكني واثق من أن كثيرا من هؤلاء الذي واجهنا معهم طراوة السماء الفيحاء، قد صاروا تماسيح حين سرقوا غضارة ما تهديه الأرض بلا استحياء. فهل تراني فيما عَنَّ لي من جزم العزيمة أني لا أجيد أن أسطر سطرا أقرر به مصير بدايتي، أو نهايتي.؟ أم ما كتبته في سالف الرواية، قد علاه الغبار، فصار مدعاة للهلاك والبوار.؟ كلا، لست ممن يأبه بهذا الكائن الذي امتص الغدر ما فيه من دماء المنة والرحمة، وغدا في يبس شعوره رِمَّة شبح منعدم الفتوة، وفاقد المروءة، لكني، أدركت أن في تخوم الصحراء مكانا يقيني ريب المنون، فاخترت أن اجتر حشرجة أحاديثه وأشعاره ونوادره وطرائفه، لأكون بحب تاريخه حفيا وبهيا وسنيا، ثم أرسم لي على جيد المخاطر صورا لصفاء الأرومة، ونقاء الأمثولة، فأقول في جمع قفاة الأثر: إني، ومهما كانت الأرض مقلقة، والأجواء متقلبة، لن أخون مخبئك، ولن أخذل مخدعك. فاجعليني مضافا إلى محتدك يا سيدة الديار، فإني رأيت المدبر بالولاء، كيف يكسب في دير العشق صفة الانتماء، وكيف يكون مضموما إلى غيره بلا عناء، وكيف يصير عضوا لا يُفصل إلا وبترت معه سائر الأعضاء. أجل، إن فقد معنى الإنسان من قاموس المعاني المؤسسة لميزان التأملات الوجدانية، أو لمنطق المراجعات الفكرية، لا يعني سوى أن تخرج إلى الشارع الذي كان يغريك بجلبة الواقفين والسائرين، فترى أنك في خذلان الأشياء لذاكرتك المهزومة، لا صلة لك بما يروج ويموج، ولا علاقة لك بما يخور ويمور، ثم تشعر بأنك دفين في قفص ذاتك، وسجين في كدورة انتظارك لما يخفيه الزمن بين غياباته من عقبات كأداء، لا تدري لها بداية، ولا تتغيى لها نهاية. وهب أنك أحسست بهذه الشوراع المكتظة ببلايين الأحلام الطازجة، تحمل علامات رفضك ونبذك وهجرك، وترسل إليك إشارات إنهاكك وإيلامك وإبعادك، كيف سيكون قرارك المتصدع جوفُه حين يخبرك مصدَّق في قوله بأن بتشاد قوما يهللون بأريحية الشجعان، ويقولون: حيهلا، نحن إخوانك في الخليقة.!! أجل، أليست هي الكلمةَ التي غازلتَ الحياةَ سنين طويلة لتمنحك َليَّ عنقها، فتأبت أن تكون على جيد صدرك دفئا وحنانا.!؟ فها هي تنفطر عنها الألسن باذخة بلا تورية، وتسمعها بصوت جهوري جهور بلا تفخيم ولا ترقيق، وتحس بحسيس خمرتها يتسلل إلى كيانك الخامد الأعضاء، فتخدرك بصدقها عن النظر إلى ما سواها، وأنت في حقيقة وجودك توقن بأنك محتاج إلى أن يقولها من قالها، ولو كانت كلمة جارية في الفضاء الساهم بلا حدود. بل الأغرب أنك حين سمعتها جزلة الحقيقة، وأحس بها فؤادك المتضرم الأحشاء، وأدرك عقلك أنها نابعة من معدنها، كيف كان مبناها يدل على معناها في حدسك.؟ وكيف كان أثر تذوق حقيقها على ذوقك.؟ ألن تشهد رحابة الكون بين عينيك، فتطلق أنفاسا تسرح بك في آفاقك العلوية، ثم تقول: هنا سأختار أن يكون قبري شاهدا على أنني عشت لحظة في زمن الكون بلا لواعج الأسى، وأشجان الونى.؟ ألن ترى في هادئ اللحظات الجميلة التي تمشيها على ضفاف نهر شاري، والزمن يلقنك كيف ترى الكون مشتركا فيما بينك وبين غيرك، أنك تعيش بين إخوانك في الطبيعة بلا اغتراب ولا احتراب.؟ ألن تشعر بمفهوم الجماعة بعد أن فتكت بك هموم الغربة، وكدورات الوحشة.؟ شيء جميل في هذه الحياة الدنيا التي نعيش بين متاهات أتراحها وأفراحها، لا نعبأ باحتياجنا إليه في وجودنا، ولا نأبه بجماليته في حياتنا، ولا نقيم له وزنا في ميزان تقديرنا، ولا نوليه أهمية في مقياس تدبيرنا، وربما نتغافل عنه لجهالة، أو لبلادة، ونظنه غير جدير بالتقدير والاحترام في سلوكنا الخاص، أو العام، لاسيما إذا تضخمت "أنا المخالف لنا" بالاتهامات الجافية عن قواعد التحاور، وحدود التواصل، وضوابط التفاعل، وزعم أن كل انتماء إلى حقيقة وجودية مكتسبة بالطبيعة الأصلية، يستوجب في طيِّه ولاء قلبيا، باطنيا. وأن كلَّ ولاء يحدد مناطَ تحقُّقنا بالأشياء وجودا وعدما، هو عقيدةٌ تستلزم موالاتُها معاداةَ ما يقابلها من أنساق تماثلها، لاستحالة وقوع التمازج بين الضدين في حقيقتها الموحدة أزلا، أو حكما، أو اعتبارا. وأن كل عقيدة حصل بها الحكم على الأشياء المحبوبة والمكروهة، يجب أن تشرح على مشرحة النظر لمعرفة ما فيها من أدوات الاستدال على الرفض، أو القبول. وأن كل استدلال لا يكون صادق النزول على المكلف بطبيعتة البشرية، إلا إذا كان صادرا من مورد المؤصلين والمؤثلين. وأن هذا المورد في حرصه على نقاء أدلته، وصفائه في واقعه، ينفي عنه كل ما هو وجداني وشعوري وانطباعي، لاعتبارها متغيرة بتغير الأحوال التي يؤثر فيها ما يتناوب على الطبائع البشرية من أخلاط وأمزجة مختلفة. وأن ما هو متغير بتغير موضعه، لا يمكن أن يحكُم ما هو ثابت في مكمنه، لتنافي المرتبتين فيما بينهما كما وكيفا، إذ المتغيِّر يدل على الصيرورة المتصلة بالفعل في مدار الزمان والمكان، وهما الثابتان في تجربة الإنسان، والحاضنان لصورة كل تفاعلاته مع الفعل والترك. لكن، ومهما كان هذا المورد قابلا لأن تُحَدِّد مقاصدَه كلياتٌ متنوعة؛ هي الضابط الأساس الذي تعود إليه الفتوى قبل وجوب العمل بها إلزاما وضرورة، فإن ما سواه من الموارد الأخرى التي هي متعددة في عقل المجتهد الفاحص للأدلة المتنوعة، قد تكتمل به الصورة في أبعادها الكونية والتشريعية والإنسانية، إذ الشرع لم يقتل بأدوات إنجازه للفعل السوي المقابل لمراد الله في كونه كلَّ ما تختزنه الأعماق من مظاهر الاحتفاء بالأشياء الجميلة. وإلا كانت كل فنون القول حراما مبينا، لكونها قامت بما هو متغير، ولا ثبات له في الطبيعة البشرية، لاسيما مادة الشعر منها، إذ هو نابع من الشعور الذي يمنح اللغة قدرة على نقل الصورة الحسية إلى الصورة الخيالية، ويهب التعبير قوة على إبراز تلك الموصوفات في حلة تغري النفوس والعقول والقلوب. وهكذا كل أدوات التعبير التي تعتمد الحركة والإشارة والصوت والصورة والإخراج، لأنها نابعة من جمال الأشياء، وفطرتها الأولى في التكوين الأزلي. لكن، إذا نظرنا إليها من حيث الاستحسان والاستكراه العقليان، فإننا نحكم على مقدار الجمال في مقابل مقدار القبح فيها، لتكون الموافقة لصنع الله دليلا على جواز الاختراع لكل ما هو جميل الإبداع، إذ الجمال والحب والخير من خصائص الإنسان التي ترافقه في ذاته، ولا يمكن له أن يخلو منها في مسيره بين دروب حياته، لأنه يتميز بها عن غيره من الكائنات الحية. ومن هنا فإن هذا المعنى الذي لا نحفل به، وهو قريب منا ولو تناءينا عنه، هو معنى "القبيلة" التي ننتمي إلى جذورها، وننتسب إلى فروعها، إذ حين ننفي عنا حقيقتها، ونرى لنا هوية الوجود فقط، ونقول بأن محددنا كونيٌ كليٌ، لا طبعيٌ جزئيٌ، فإننا نطعن في أنسابنا، وننكر تاريخنا؛ وهو الحبل السري الذي يربطنا بوجودنا، ويصلنا بكوننا، لأن ما تعنيه الهوية في الاصطلاح؛ هو ما تعرف به الماهية في تجسدها الباطني والظاهري؛ وهو ما يحددنا بالخصوصية التي تميزنا عن غيرنا، وتكون صفة ملازمة لنا، إذ لا يمكن أن نتماثل في كل شيء، ولا أن نتحد على سياق واحد، ولو حاولنا أن نقدم أرواحنا ضحايا لولادة تلك اللحظة، وصناعة مهاد لمبرتها ومسرتها، لأنها غير موجودة إلا في خيال الحكماء والشعراء، أو في خلد المحرومين والمجذوذين، إذ تعني أن نقتسم بيننا كل ما في الكون من خيرات وبركات، لئلا يشعر أحد منا بتميز أو دونية. وذلك متعذر الوجود في عوالم البشرية المتغيرة، ومنعدم الحدوث في واقع المثال الذي ترسمه الفلسفات المثالية، وإذا وجد ذلك مكتوبا في نص من نصوص القواعد الأخلاقية، أو في بند من بنود الضوابط القانونية، فإنه لم ينل حظه في التطبيق والتنفيذ، ولم يكتب لهذا الإنسان التعيس أن يعيش تحت ظل رحمته في زمن من الأزمنة المنصرمة، لأن هذه اللحظة الهاربة من حياة البشر جميعا، هي التي تَفْنى مع التَخَلِّي غير الإرادي عن طفولتنا البريئة، لكي ندخل قهرا بحكم تضخم أحلامنا بالأنا (الفردثية، أو الجماعية) إلى عالم المشاكسة والمحاصصة على المكاسب والمجالب. وهب أننا تساوينا في كل شيء بعدالة، وتعادلت معدلات الحصص فيما بيننا بالسوية، ألا يعني هذا أننا سنعيش الملالة والكآبة على كوكبنا الأرضي.؟ ألا يعني هذا أننا لن نحتاج إلى مؤسسات تقيم الحق فينا، وتعين المهتدي، وتصد المعتدي.؟ كلا، إن نكهة الحياة في هذا الاختلاف الذي يدعو كلَّ واحد منا إلى بناء سياقه ضمن إطار المجموع الذي تتصاقب فيه المصالح بعضها مع بعض، وتتفاعل في مركز الوحدة الكلية الجامعة للأجزاء والأفراد. ومن هنا، فإن معنى القبيلة "أنطلوجي"، لأنه يعني أنك موجود بقوة فاعلة فيك بالإيجاد والانبثاق من العدم، وأن وجودك غير مستقل عن وجوديات أخرى، تتفاعل معها، وتتقابل كلها في الصيرورة المتعاركة مع الزمان والمكان، لتشكل قاعدة لهذا الهرم المتسلسلة ضمنه وحدات الأعراق والأنساب واللغات، لأن هذا الانتماء الذي نعني به "الحتمية الوجودية"، ينعكس على قيمتك وطبيعتك وحياتك، وينطبع على مساقك الفكري والثقافي والاجتماعي. وكأنه كوجيتو جديد تنبني عليه مفاهيمنا في لغة البادية الخالدة، فنقول: (أنا ابن القبيلة؛ إذن أنا موجود). وعلى هذا تكون القبيلة بؤرة تفجَّر منها الوجود الأول لكُنهِك المادي، وتكون أنت هو الدالَّ عليها بالفعل الساري في الطبيعة بالظهور، والجاري في الحياة بالحضور، لأننا لسنا في البداية والنهاية إلا كيانا واحدا بالقوة الفاعلة، وعقلا جماعيا بالفعل المنفعل، وإذا تخلينا عنه لفوضى الأوهام الحسية المتعالية بما نسميه تجربة، أو خبرة، أو ملاحظة، حصل لنا الضياع في حضارة الفراغ والتيه والتوهان، إذ ما تعنيه طاقات الشعور والأحاسيس والعواطف في إنتاج غذاء ملكاتنا ومهاراتنا وقدراتنا، هو ما يؤسس لمدار نظراتنا وخواطرنا وتأملاتنا، ويبني سقفا لماهية استشرافنا لما هو كامن خلف الأشياء الكونية من حقائق غير منظورة، ومعان غير مسموعة، ومرام غير مقروءة. لكن، أليس هذا الشوق إلى حقيقة الانتساب إلى معنى كلي، له سلطة قوية على ماهية الكيان المادي، هو ما يُحدث ضجيجَه في صدر هذا الكليم الذي حث مطيته على الإسراع بخطاها، وأطلق لها الخِطام في مدى بصرها، لتنيخ بهودجه البالي لدى باب أنجمينا، فتحمله الرياح حملا خفيفا إلى شارع الأربعين، ثم تعرج به غرائب الأقدار بين الدروب الملتوية، فلا يدري، لم هي صامتة عن الانفعال.؟ وإذا نطقت، ماذا ستقول من أقاويل.؟ ليخصف بنعليه بين أبواب مفتوحة الجهات، فتستقبله الأفنية في غيبوبة نظره عما يراه، وتلاشي عقله فيما يتخيله، وهو لا يدري أنه سيعانق البعوض في حي الدمبي تحت سقف السماء المنكسرة الأضواء، أو أنه سيواجه أقسى ما ترسله الشمس من أشعة الغضب والعدوان.؟ أجل، تلك هي الحقيقة التي لم تدركها حين أجريت القياس بينك وبينه، وزعمت أن ما تعتقده من تصورات وتصديقات في خاصيتك، هو القضية التي تحكمه بعينها ونفسها، وتنطبق عليه انطباقا كليا وشاملا، لأنك نظرت إلى ذاتك المتصلة بواقعك، ولم تنظر إلى ذاته المتصلة بواقعه، فلم تدرك ما صلته بما يتفاعل من جدل السياقات الصاعدة والهابطة في حياته القلقة، ولم تعرف ما تختزنه طاقته من قدرة على استيعاب ما يُكسبه قوةَ الارتباط بأحلامه المرجوِّ بقاءُها تحت ستر الأمن، ووقاء الأمان، ولم تدر ما هي الموانع التي صرفته عن أشواقه في غضارة الحياة المادية، لكي ينتحي منحى آخر في نيات الجلب والطلب، ولو كان هو هذا التيهَ الذي يحاول خوض غمراته بلا اختبار لما يضمره من مفاجآت الوجود، أو مصادفات العدم، إذ لا يمكن أن يعمم الحكمُ على القضايا التي تخرج مخرج الغالب، ويقصد بمقتضاها الأغلبُ الأعمُ في الحدوث والبروز، لأن في وسط الغنى فقر لا يراه إلا من وعى الفرق بين فقر القلوب وفقر الجيوب، وأيقن بأن ذلة الفقراء سبب في ضراوة غُلمة الأغنياء، وعلةٌ في بُدُوِّ ما يجرهم من سوانح الرغبات إلى آسن الشهوات والنزوات. وإلا، فأي قيمة لليسار في الاعتبارات الطازجة بأحلام الكثرة والتكاثر، إذا لم يكن صفة للتميز بين المجدودين والمحرومين.؟ فواها واها، ما أقسى الحكم على الأعيان، إذا كانت المقدمات خاطئة، والأقيسة فاسدة، إذ لو أدركنا احتياجنا إلى قيمة القبيلة المعنوية، وما يحتويه وعاءها الاجتماعي من قيم السمو والعلو، لما أحسسنا بالاغتراب في فلسفة الحضارة الغازية، ولما عشنا الشتات في هذه المدن الكئيبة، ولما تألمنا بالتيه بين هذه النظم الثقيلة، إذ لو كان الفراغ جميلا في الصوت الذي ترشح به السماء، لما احتاج الكون إلى أن ينظمنا بقوانينه، ويضبطنا بنواميسه، لئلا نفقد خصوصيتنا الإنسانية، وثوابتنا البشرية، فنؤسس لحضارة الدمار على أنقاض أشلائنا المحترقة، وجماجمنا المهترئة، ثم يرمينا الاحتراب على كسب رهان الاستقواء إلى مجاهل الأمراض النفسية والعقلية والعصابية. فيا أُخَي، امنحني عز القبيلة، وشرفها، ومجدها، وما يتفاعل في أكنانها من آلامها وآمالها، وما يتعانق في رحابها من أفراحها وأقراحها، أهب لك زمام حياتي ومماتي، واجعل لك سلطة على مسيري ومصيري. فلا غرابة إذا كنت سيدا وكنت عبدا في رسم العقود المكتوبة لمناقبنا ومراتبنا، ما دمت لن أغيب عن مجموع الحصة التي لا قيمة لها بدون جميع أسهمها الأصلية، ولو كانت سهامي فيها هزيلة بالتعصيب، لا بالفروض. لكن، أليس الأهم بالنسبة لنا في هذا الانتماء الكوني إلى القبيلة، أن نُوجد حيث تُوجَد السادة، ونُحترم حيث تُحترم السيادة، ولو كانت مرتبتي الدنيةُ دون مرتبتك العلية.؟ وهل خضوعي لنظام الحقيقة التي خنعت لها القبائل بإذعان، سيجعلني موجودا في عمق هذا الغائب المفقود، والحاضر بين عيني حين أنادي: "أينك أيها الإنسان".؟ جميل أن تكون إنسانا حقيقيا، وتحس بأنك تساويه في كونك الشخصي، ويماثلك هو فيما يصدر عنك من أقوأل، أو أفعال. لكن، أنى لك أن تكونه وحدك، إلا إذا كنت فيه متطابقا مع غيرك، وكان غيرك الذي انحل فيك، هو أنت فيما تشتركانه من حقائق الوجود الباهرة، وكنتما في وحدتكما المتكاثرة ذلك الجمال الساري في الكون من الأزل، والجاري في الطبيعة التي وجدت للنماء والعطاء. وجميل أن تفتح عينيك على بسمة هذا الإنسان النقي النفس والطبع والخلق، لتقرأ في محياه ما معنى الأخوة، وما معنى المحبة، وما معنى البساطة، وما معنى الوداعة، وما معنى الجمال الموجود في كل شيء خَلق ليكون مثالا ساطعا على تمام الصناعة الإلهية. وجميل أن تدرك قيمة هذه الحضارة الزائفة، وتحس بغبنك في ماديتها الفاجرة، فتبحث عما ما ضاع من ذاتك في أجواف إخوانك، لعلك أن تشعر بما تكسبه من عنفوان حين توقن بأن قيمتك ومزيتك الوجودية في سياقك الإنساني، إذ حقيقةً لن نكون معنى معتبرا في تقدير الأمم التي نشترك معها هذه الطبيعة البشرية، إذا قطعنا الأواصر التي تربطنا بقيمنا وأخلاقنا، وفصلنا بيننا وبين تاريخنا وأنسابنا، ولن نصير حقيقة فاعلة في المنافع المشتركة، والمصالح المتداولة، إذا انزوى كل واحد منا إلى قاع همه وغمه، وانطوى كل واحد على سر نظره وخبره، ولم يعلم أن ماهية كيانه جزء من هذا الكل المركب لوحدتنا المتآلفة، وأن سمات صفاته لن تكون لها حقيقة إلا في هذه الكلية الجامعة، لأن ما يربط بيننا في الكون كثير جدا، وعظيم في الاعتبار، لكن حين انقطعنا عن بعضنا، وتفرقنا شذر مذر في شِعبنا، انحازت كل فئة منا إلى نوع خاص بها في الفكر والممارسة والسلوك، ليكون ذلك علامة تدل على نوعها في الجنس البشري، وسواء في هذا الأديان واللغات والثقافات والحضارات، بل يشمل كل ما تتميز به الأمم والشعوب من فنون وفكلور وعادات وتقاليد وأعراف ومواضعات اجتماعية. إن اعتداد الإنسان بهذه الثوابت الراسخة في كيانه المادي والمعنوي، يعد نوعا من الحماية التي يتقي بها خطورة الذوبان في الآخر، والانصهار معه في مركب مختلف النِّسب، ومعتل العلل. لكن، هل كنا موضوعيين حين أقمنا الحروب على هذه الخصوصيات، لنستبيح دائرتها بما يُجوِّز لنا الخروج عنها.؟ إن الاعتداد بالخصوصية، ومحاولات حفظها من كل شوب يقلل من أثرها على سلوكنا النفسي والاجتماعي، لا يعني أن نتحارب فيما بيننا، لكي نؤول حقائقها بما تفرضه الأنانيات الهجينة، بل يعني أننا حصرنا قناعاتنا في سياق معين للتفكير الجماعي، لنبني على أساسه كل ما نرفع عماد غده ومستقبله، وإن كنا لا ننفي في موضوعات وحدتنا أننا نقتسم هذا الكون مع غيرنا من بني الإنسان. وإلا، فإننا إذا انتهينا إلى أن تسفك دماءنا على أرضنا، ويشتم بعضنا بعضا في مجالسنا، سنكون قد تخلينا عن أصالة إنسانيتنا الكاملة، وولجنا عالم الحيوانات المفترسة، إذ هي التي تتحاكم إلى القوة الباطشة، وهي التي لا تصل إلى أهدافها إلا بلغة الافتراس، والقتل الشرس القاسي. لكن، إذا كان هذا سبيلا للإنسان الذي لا يحترم كل ما وُجد على هذا الكوكب الأرضي، فذلك لا يعني شيئا سوى أنه لم يستهد في أرضه بضياء سمائه، ولم يسترشد بما تركه أهل الحجى من وصايا خالدة، لو أخذت بنصوصها وفصوصها التالدة، لكانت كافية في أن لا يسل أحد سيفه من غمده على أخيه الإنسان. أجل، هذا هو الإنسان الذي ننقب عن جوهرته الثمينة بين رمال الأهواء والشهوات، وهو الذي نظن أننا قد عثرنا على نجم يدل عليه في صحرائنا العريقة والعميقة، وهو الذي نرمل في خطواتنا نحو دارة فلكه، لعلنا أن نصل إليه قبل أن تنتهي مسحة الأمل فينا، ونحن لم نحمل في أعماقنا إلى قبورنا إلا غصة مريرة، تشرَّب أصلالَها أبناءُنا الذين لم نعلمهم كيف يحترمون أصول الخصوصيات، وثوابت الحقائق التي ورثناها عن تاريخنا وحضارتنا. فهل وصلنا إلى هذا الأنموذج في الإنسان، واستمتعنا معه بالأحاديث الطريفة.؟ أم ما زال الحلم ينادي: أين أنت يا أخي "تشادي".؟
#إبراهيم_الوراق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدارات تشادية -1-
المزيد.....
-
تحليل للفيديو.. هذا ما تكشفه اللقطات التي تظهر اللحظة التي س
...
-
كينيا.. عودة التيار الكهربائي لمعظم أنحاء البلاد بعد ساعات م
...
-
أخطار عظيمة جدا: وزير الدفاع الروسي يتحدث عن حرب مع الناتو
-
ساليفان: أوكرانيا ستكون في موقف ضعف في المفاوضات مع روسيا دو
...
-
ترامب يقاضي صحيفة وشركة لاستطلاعات الرأي لأنها توقعت فوز هار
...
-
بسبب المرض.. محكمة سويسرية قد تلغي محاكمة رفعت الأسد
-
-من دعاة الحرب وداعم لأوكرانيا-.. كارلسون يعيق فرص بومبيو في
...
-
مجلة فرنسية تكشف تفاصيل الانفصال بين ثلاثي الساحل و-إيكواس-
...
-
حديث إسرائيلي عن -تقدم كبير- بمفاوضات غزة واتفاق محتمل خلال
...
-
فعاليات اليوم الوطني القطري أكثر من مجرد احتفالات
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|