كاتب عربي يقيم في وارسو
قد يعترض البعض على العجلة في إطلاق الأحكام والحرب سجال ولم تضع أوزارها بعد. اعتراض سليم لو كان الأمر تنبؤا بما قد يحصل أو قياسا على ما هو معلن من أهداف ومن غايات. إنما هو حكم على المراد الحقيقي من الحرب، وعلى الأساطير التي كانت تصاحب الغرض الأساسي من الحرب.
لقد خرجت الولايات المتحدة منذ بدء حملتها الفعلية على العراق بأهداف متنوعة صاحبت مسعاها حتى لحظة إعلان الحرب على العراق. وهي أهداف ذرائعية كما يعرف معظم الناس، وحتى إن كانت تريد تحقيق بعضها، لكنها لم تكن مقصودة بذاتها. ولو بدأنا بتدمير أسلحة الدمار الشامل لوجدنا بما يكاد يشبه اليقين أن العراق لم يكن يملكها حينما بدأت الحرب الحالية. وقد قام الدليل على ذلك من حزمتين من الشواهد.
الأولى، أن تقارير فرق التفتيش السابقة على عام 1998، وتقارير التفتيش اللاحقة قد أثبتت أمرين. الأول، أن معظم ما كان يملكه العراق قد دمر أثناء الحرب أو خلال التفتيش أو من لدن الحكومة العراقية نفسها. هذا ما قاله ريتر، وهذا ما قاله البرادعي ، وهذا ما قاله بليكس. الثاني، أن الجزء الضئيل المتبقي مما لم يثبت تدميره يحتاج إلى إثبات. وقد بدأت الحكومة العراقية بتقديم البيانات على صحة ما تقول. بل أنها ذهبت إلى التعاون الذي بدأ يلقى الثناء من المفتشين والدول على حد سواء.
أما حزمة الشواهد الثانية، فمصدرها الولايات المتحدة وبريطانيا. فقد قدمت الولايات المتحدة تقارير أثبت المفتشون أنفسهم كذبها، وكانت محل سخرية من الصحافة العالمية. فهي إما وثائق تزوير من الدرجة الثالثة لم يحتج المفتشون إلا ساعات لتبين حقيقتها، وإما سرقة معلومات من تقارير طلابية مضى عقد من الزمان عليها. ولطالما صرحت أمريكا بأن لديها معلومات وثيقة عن أماكن تواجد أسلحة الدمار الشامل في العراق، وتذرعت بحجج أمنية خطيرة لعدم تقديمها إلى المفتشين. وحينما قدمت بعض هذه المعلومات تبين أنها أشد إفكا من الوثائق المزورة، بل إن بليكس وصفها بأنها بائسة تلطيفا عن قذارتها.
ومع ذلك شنت أمريكا حربها. فلا يمكن أن يكون هذا غرضها. ونحن نعرف أن الولايات المتحدة المثال الصارخ للرأسمالية في نفسيتها وفي عقليتها، فهل من المعقول أن تدفع ثمنا رهيبا، الحرب، لهدف يمكن أن يتحقق بالمجان؟ كذلك ادعت الحكومة الأمريكية تلميحا وأحيانا تصريحا بوجود علاقة عراقية مع القاعدة. ولم تصمد هذه الدعوى للحظة واحدة فقد تحدت مصداقيتها أجهزة المخابرات الأمريكية قبل أن تكذبها البلدان الأخرى. بل أن الكثير في العالم أشار إلى التناقض بين العراق والقاعدة، وأصر على أمريكا هي أول من شجعت القاعدة وأنشطتها حينما كان ذلك مفيدا لها، وأنه إذا كان هناك من علاقة فعلى أمريكا أن تبحث عنها لدى أصدقائها من الحكومات العربية. ومع ذلك شنت أمريكا حربها على العراق. فلا يمكن أن تكون حربها لإضعاف القاعدة، لأنها تعلم علم اليقين كما أخبرها العقلاء في بلادها وفي العالم أنها بحربها ستفرخ أجيالا جديدة من أسامة بن لادن.
ثم إنها زعمت أنها تريد أن تخلص الشعب العراقي من الظلم وتحرره من الاستبداد حتى يلحق بالبلدان المزدهرة، ويتنعم بخيرات التقدم. وقد أخبرها الكثير من حكماء العالم أن ذلك ممكن من دون الحاجة للحرب. إذ يكفي أن يرفع الحصار عن الشعب العراقي حتى تدور عجلة المطالبة بالحقوق الأخرى. فقد أكد الكثير من الباحثين والسياسيين والمراقبين لشؤون العراق أن الناس مشغولة بأولى أولوياتها وهي توفير الغذاء من أجل البقاء. كما أن الحصار الاقتصادي الذي استمر على مدى عقد ونيف قد أظهر لمن له عين ترى، وعقل يفهم، وقلب يشعر، أن الحصار لا يؤذي إلا عموم الناس. والناس في العراق ليسوا بأغبياء فهم يرون أن الحصار مستمر بالإرادة الأمريكية فكيف يمكن لهم أن يحملوا حكومتهم صدقا تبعاتها. ومع ذلك أصرت على إبقاء الحصار، وحينما اضطرت تحت ضغط الرأي العام الدولي للتسهيل على الشعب العراقي وقبلت بما أسمي النفط مقابل الغذاء، عملت كل ما في وسعها لتعطيل سير هذا البرنامج بكل أساليب المراوغة. ثم قامت بشن الحرب على العراق. فهذه الحرب ليست لمجرد إزالة القيادة العراقية حتى ولو كان من نتائجها إزالتها.
كما أن بعض المسؤولين ألمحوا وكثيرا من المراقبين في العالم صرحوا أن هدف أمريكا هو السيطرة على النفط. ومع ذلك فإن حربها ليس لمجرد السيطرة على النفط، فهو متضمن في الهدف الأساسي، أي وسيلة من وسائل تحقيق غايتها النهائية. فأمريكا تعرف أنها بحربها ستحقق نزع سلاح العراق، بل أنها ستجعل العراق دولة بدون أي سلاح. كما أنها تدرك أنها بحربها ستبني العراق وفق نموذج اجتماعي واقتصادي وسياسي صنعته لها وللمنطقة. كما أنها ترى أن حربها ستزيل القيادة السياسية الحالية. نعم هذه أهداف كلها تقع ضمن الهدف الأساسي. فليس الحكم على إخفاق الولايات المتحدة نابع من قياس إنجازاتها في تحقيق هذه الأهداف. فهذه لا زالت بعيدة عن القياس النهائي.
أين يكمن الإخفاق الأمريكي؟ لقد خططت الإدارة الأمريكية من أجل أن تكون هذه الحرب نموذجا يخضع المنطقة، ومن ثم العالم لإرادتها. وقامت خطتها على ركنين أساسيين. التقانة المتفوقة، والإرادة المسلوبة. فقد رأت المجموعة التي تريد صياغة العالم وفق هواها أن العراق خير مكان مثالي لتحقيق الصدمة والذهول. فبعد أن حددت عدو أمريكا ومثلها بظاهرة الإرهاب، سارت شوطا أبعد بتجسيد هذا العدو بمحور الشر الثلاثي إيران والعراق وكوريا الشمالية. ثم نظرت في الثلاثة فوجدت أن الظروف المثلى لحرب سلسة ومريحة تتوفر في العراق أكثر منه في البلدين الآخرين. فهي رأت أن صلة الحاكم بالمحكوم أضعفها في العراق، ثم وجدت أن القدرة العسكرية أوهنها في العراق، ثم اعتبرت أن تعاطف البلدان المجاورة لهذه البلدان الثلاثة أقلها في العراق. ولذلك، اقتنع منظروا الخطة العسكرية الأمريكية أن نصرهم سيكون سريعا في العراق. وقد كان أوضح تصوير لهذا المزاج وصف تشيني نائب الرئيس الأمريكي للنظام في العراق بأنه " بيت من الكارتون". وهذا يفسر ظاهرتين غريبتين. الأولى، أن الولايات المتحدة تحدت الرأي العام الدولي الرسمي والشعبي وشنت الحرب. ثم أن القيادة الأمريكية المتطرفة لم ترد أن تزج بقوات بشرية ضخمة. فقد ظنت أن النصر السريع المصحوب برشق الزهور وقصف الزغاريد سيخرس كل نقد، وينهي كل ريب حول ما قالته الإدارة الأمريكية. كما تخيلت أن الصدمة ستجعل الجيش العراقي يهرع إلى خلع ملابسه ورفع الرايات البيضاء.
ولم ترد القيادة الأمريكية المتطرفة أن تتصور شيئا آخر. فلو تحقق هذا الحلم فسيحقق تغييرا سريعا في إيران، وتراجعا كبيرا في موقف كوريا الشمالية. فالهدف الأمريكي كان فعلا النصر السريع في أيام بالصدمة والترويع، وهذا الشعار لا يقصد منه العراق إلا في جانبه المادي. أما المقصود منه فهو جانبه المعنوي لأنه لو تحقق ما تريده لكان صدمة لكثير من البلدان الصغيرة والكبيرة وترويعا لها. وحينذاك سيسهل على أمريكا المضي قدما في مشروع الهيمنة وفرض إرادتها على العالم.
وقد كانت هذه الخطة لعبة بوكر كما سماها فعلا بوش، فلو نجحت فستجمع أمريكا كل ما وضع على مائدة القمار، أما إذا خسرت فسيذهب ما وضعته هي. وقد أخفقت أمريكا في تحقيق ما أرادت. وأصبحت الآن الصورة مختلفة في العالم. فإذا كان أضعف السلطات علاقة بشعبها وبجيرانها، وأقلها استعدادا عسكريا ماديا قلبت السحر على الساحر وجعل حربها في بدايتها صدمة وترويعا لها ولعسكرها فماذا سيكون حالها مع البلدان الأخرى؟ ولهذا بدأ التحدي الدولي لخطط أمريكا في العراق وفي العالم يقطر من كوريا الشمالية وإيران، ولكنه سرعان ما سينهمر.