|
باسم "صدام الحضارات"
طارق علي
الحوار المتمدن-العدد: 23 - 2002 / 1 / 1 - 19:10
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
العالم الدبلوماسي
طارق علي Tariq ALI
تخرج المسوخ من علبة باندور (الموسيقية) الاميركية الفاغرة لتنتشر في عالم لا تسيطر عليه الولايات المتحدة بعد، تمام السيطرة. ومنذ الحادي عشر من ايلول /سبتمبر يقفز احدها من استديو تلفزيون الى آخر ليدين ما يمثله هؤلاء البرابرة من تهديد لحضارتنا الرأسمالية.
في العام 1993 اقدم صموئيل ب. هنتنغتون، الخبير السابق في ادارة ليندون جونسون بمحاربة التمرد في فيتنام، ومن ثم مدير مؤسسة الدراسات الاستراتيجية في هارفرد، على نشر كتابه المعروف، "صدام الحضارات" (2) الذي اعتبر رداً على المنظّر المنافس في وزارة الخارجية، فرنسيس فوكوياما، صاحب اطروحة "نهاية التاريخ". فبالنسبة الى هنتنغتون لقد وضعت هزيمة الاتحاد السوفياتي حداً لجميع الخلافات الايديوليوجية لكنها لم تنه التاريخ. فالثقافة، وليس السياسة او الاقتصاد، هي التي سوف تحكم العالم.
وقد عدد ثماني ثقافات: الغربية والكنفوشيوسية واليابانية والاسلامية والهندوسية والسلافية الارثوذكسية والاميركية اللاتينية وربما الافريقية (لم يتأكد أن افريقيا هي فعلاً في طور الحضارة!). وتمثل كل واحدة منها انظمة قيم مختلفة يتجسد كل نظام منها في دين "يشكل على الارجح القوة المركزية الدافعة والمحركة للشعوب". اما خط الفصل الرئيسي فيمر بين "الغرب وبقية العالم"، لان الغرب وحده يرفع قيم "الفردية والليبيرالية والدستور وحقوق الانسان من مساواة وحرية وسيادة القانون والديموقراطية والاسواق الحرة". لذا، فان على الغرب (أي اميركا) الاستعداد عسكرياً لمواجهة الحضارات المنافسة وخصوصاً الاكثر خطورة بينها وهما الاسلام والكونفوشيوسية اللتان تشكلان اذا ما اتحدتا خطراً على قلب الحضارة. ويختم المؤلف: "العالم ليس واحداً. الحضارات توحد العالم وتقسمه... الدم والايمان، هذا ما يؤمن به الناس ويقاتلون ويموتون من اجله". لن يكون صعباً على اسامة بن لادن التوقيع على اعلان من هذا النوع.
يؤمّن هذا التحليل التبسيطي والملائم سياسياً تغطية مفيدة لاصحاب القرار والمنظّرين في واشنطن وغيرها. اذا كان الاسلام يمثل التهديد الرئيسي فلأن ايران والعراق والسعودية تنتج القسم الاكبر من نفط العالم. كان عمر الجمهورية الاسلامية في ايران 14 عاماً وتحارب "الشيطان الاكبر"، حرب الخليج وذيولها وجهت ضربة قوية الى العراق لكن السعودية بقيت ملجأ آمناً تحكمها ملكية تقوم القوات الاميركية بحراستها. هكذا قامت "الحضارة الغربية" المدعومة للمناسبة من نظيرتيها الكونفوشيوسية والسلافية الارثوذكسية بتنظيم الموت البطيء لعشرات الألوف من الاطفال العراقيين حرمتهم العقوبات التي تفرضها الامم المتحدة الغذاء والدواء...
تستدعي هذه الأطروحات جوابين اساسيين: الاول هو ان الاسلام ومنذ الف عام لم يكن قط من لون واحد. فالفروقات بين المسلمين السنغاليين والصينيين والاندونيسيين والعرب وفي جنوب آسيا اكبر بكثير من الفروقات بينهم وبين غير المسلمين من ابناء اوطانهم. وفي القرن المنصرم شهد العالم الاسلامي حروباً وثورات مثل غيره من المجتمعات. فالنزاع الذي دام سبعين عاماً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قد أثر على جميع تلك "الحضارات". فقد لقيت بعض الاحزاب الشيوعية دعماً واسعاً ليس فقط في المانيا اللوثرية بل ايضاً في الصين الكونفوشيوسية واندونيسيا الاسلامية. وخلال العشرينات والثلاثينات اوقع النداء الكوسموبوليتي للماركسية والتحدي الشعبوي لهتلر وموسوليني الانقسام في اوساط المثقفين العرب كما الاوروبيين. اما الليبيرالية التي كانت تعتبر بمثابة ايديولوجيا الامبراطورية البريطانية فكانت تحظى بشعبية اقل. يمكن اليوم اعتبار الاصوليين انهم الصيغة الاسلامية للجبهة الوطنية الفرنسية (اليمينية المتطرفة) او للفاشيين الجدد في الحكومة الايطالية. ويعد الكسي كاريل، داعية نقاوة الاعراق ومؤيد الماريشال بيتان (المتعاون مع هتلر) والعزيز على قلب انصار جان-ماري لوبين، من المنظّرين الغربيين الذين يلاقون التقدير من جانب بعض المفكرين المسلمين ممن يغذون التطرف الاصولي.
الملاحظة الثانية: قامت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بدعم العناصر الاكثر رجعية كحاجز في وجه الشيوعية او القومية التقدمية. وغالباً ما جندت الحلفاء في اوساط الاصوليين الدينيين: "الاخوان المسلمين" ضد عبد الناصر، "الحزب الاسلامي" ضد سوكارنو في اندونيسيا، "الجماعة الاسلامية" ضد بوتو في باكستان، ولاحقاً في افغانستان اسامة بن لادن وغيره ضد الشيوعي العلماني نجيب الله الذي اخرج من وكره (مكاتب الامم المتحدة في كابول) قبل ان يقتل وتعلق جثته في كابول وقد قطعت اعضاؤه التناسلية ووضعت في فمه من دون ان يبدي مسؤول غربي واحد اعتراضه على ذلك.
مثلت بغداد وطهران الاستثناءين الوحيدين. ففي الستينات لم يشكل العراق معيناً مؤهلاً لقيام مجموعة سياسية طائفية. فكان الحزب الشيوعي يمثل القوة الاكثر شعبية وكان من غير الوارد تشجيعه للوصول الى السلطة. فقامت واشنطن بدعم الجناح المافيوي في حزب البعث من اجل القضاء على الشيوعيين ومن بعدهم على نقابات عمال النفط. فتكفل صدام حسين المهمة وحصل من باب المكافأة على اسلحة واتفاقيات تجارية الى أن وقع في سؤ التقدير القاتل في آب/اغسطس 1991. في ايران ساند الغرب الشاه فتصرف كمستبد لا يعبأ بحقوق شعبه وقضى من طريق التعذيب والنفي على حزب توده الشيوعي. استغل رجال الدين الفراغ السياسي وقادوا الانتفاضة الشعبية التي اطاحت الملكية.
في الشرق الاوسط قامت استراتيجيا الغرب على ركيزتين: السعودية التي تغيرت كلياً مع اكتشاف البترول وقيام العملاق النفطي الاميركي ارامكو في الثلاثينات. وكانت شركة ارامكو في حاجة الى دولة محلية تحمي مصالحها. في تلك الفترة كانت قبيلة آل سعود قد خرجت منتصرة من الحرب الطاحنة التي خاضتها ضد قبائل الحجاز. هكذا دانت السيطرة للاتجاه الاسلامي المتطرف والمتشدد، الوهابيون، على اسم مؤسسهم محمد عبد الوهاب الذي كان يدعو الى الجهاد المستمر ضد دعاة التحديث الاسلامي والكفار وقد انتصر في العام 1744 عبر تحالفه مع محمد بن سعود الراغب بدوره في استخدام هذا الايمان المتوقد لتسهيل غزواته العسكرية. ويسيطر الاتجاه الوهابي الحاكم في السعودية على البنية الاجتماعية برمتها وهو عمد الى تصدير دعوته بواسطة اموال النفط ليموّل الاصولية في العالم الاسلامي اجمع بما فيه المدارس الدينية في باكستان.
اما الركيزة الثانية فهي اسرائيل، الحلقة الاقليمية الموثوق بها من الولايات المتحدة. في الماضي كان المسلمون واليهود يعيشون في انسجام نسبي في المنطقة حتى ان القادة المسلمين كانوا يؤمّنون الحماية لليهود في اسبانيا المسلمة. وهكذا فعل صلاح الدين في الشرق الاوسط العربي عندما استرجع القدس من الصليبيين واعاد المسلمين واليهود اليها. واثر انتصار الغزو الكاثوليكي المضاد في اسبانيا، أمّنت السلطنة العثمانية الملجأ لليهود. وقد مثلت النكبة عام 1948 ذروة الصراع بين الفلسطينيين والمهاجرين اليهود وشكلت القطيعة الحقيقية بين اليهود والعرب. وفي ردة فعل على شعورهم الكامن بالذنب حيال الفلسطينيين المهاجرين، تصرف المسؤولون الاسرائيليون بعدائية وكبرياء ولعبوا دورهم بكل سرور في الاعوام 1956 (حرب السويس) و1967 (حرب حزيران) و1982 (حرب لبنان) وصولاً الى يومنا هذا.
خشية زعزعة ذراعه العسكرية الرئيسية في المنطقة، بدا الغرب عاجزاً عن ضمان قيام دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة. وقد عزز هذا الفشل الاستياء في العالم العربي والاسلامي لا سيما في مصر والسعودية التي ينتمي اليها بعض الارهابيين المسؤولين عن مأساة الحادي عشر من ايلول/سبتمبر. هذا ما يفسر ان السبب العميق للازمة الراهنة نابع من الاستراتيجيا السياسية والاقتصادية التي اعتمدها الغرب، أي سياسة الكيل بمكيالين. ولا يمكن اندلاع حرب جديدة الا ان تؤدي الى موجة عارمة من المرارة.
(1) كاتب باكستاني وبريطاني مؤلف The Stone Woman (Verso Books, London, 2000) وكذلك كتاب Introducing Trotsky and Marxism (Totem Books, 2000)
(2) Le Choc des civilisations, Odile Jacob, Paris, 1997
#طارق_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|