|
ماتريوشكا الممانعة
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 6314 - 2019 / 8 / 8 - 14:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يكن ابتكار مصطلح "الممانعة" مجرد تنويع شكلي أو لغوي على مصطلح "المقاومة". ولا تعدو المجاورة الإعلامية والصحفية بين المفردتين أن تكون غشاً سياسياً يحمل من التضليل المتعمد أكثر مما يحمل من الجهل. للمقاومة تاريخ طويل حمل في طياته فاعلية تغييرية لصالح شعوب قاومت الاحتلال وفرضت إرادتها عليه، رغم التفوق العسكري والإجرامي للمستعمِرين. للمقاومة أدب وفن وجماليات احتفت بإرادة الشعوب في رد الظلم عبر العصور. للمقاومة حضور متألق فرض ذاته في الصفحات الحقوقية للبشرية. وللمقاومة مكانة رفيعة في سجل الحضارات. العمل على دحر الظلم والظالمين هو الفعل المقاوم بالتعريف. وذلك فعل لا يمكن لضمير البشرية أن يحقّره أو أن يحط من قيمته. أما الممانعة فهي ابتذال المقاومة. أو قل إنها "المقاومة" كما تمارسها الأنظمة. تقوم الممانعة على ثلاثة عناصر (سلطة وعدو وشعب) تجمعهم علاقة تنزع إلى الديمومة أو حتى التأبيد، حصيلتها الواقعية والمرجوة هي الحفاظ على موقع كل عنصر فيها: العدو يحافظ على ما كسبه ويكسبه بالعدوان، والسلطة تحافظ على ديمومتها وتكريس ذاتها، ويبقى الشعب بالتالي محافظاً على موقعه المهمش والمسود. من منظور الشعب هناك عدوّان، داخلي وخارجي، وتقضي الممانعة بقبول عدو على عدو، ليس وفق الكلام عن "أهون الشرين"، بل وفق منطق الأولويات. أي السكوت عن العدو الداخلي (الديكتاتورية الفاسدة) لدرء مخاطر العدو الخارجي وربما للخلاص منه. هذا يقتضي أن الخطوة التالية بعد الخلاص من العدو الخارجي، إن تم له ذلك، هي التوجه للخلاص من العدو الداخلي. ما يعني أن "شرعية" السلطة الداخلية، وهي العدو الداخلي لشعبها، باعتبارها سلطة ديكتاتورية فاسدة، مستمدة من استمرارية العدو الخارجي. وهذا يفضي إلى أنه لا مصلحة للسلطة "الممانعة" في الخلاص من العدو الخارجي بصفته ركيزة "شرعيتها"، الأمر الذي يضع "العدوّان" في موقع المستفيد أحدهما من الآخر، أي في علاقة تعايش. من زاوية السلطة "الممانعة"، هناك "عدو" خارجي يهدد الشعب ومصالح الشعب، باعتداءاته واحتلالاته، وهذا يعيّن على السلطة تبني خطاب ومواقف سياسية معادية للعدو بما يرضي الشعب ويَعِدُ باسترداد حقوقه، دون التمادي إلى حد الدخول في صراع جدي مع هذا العدو، طالما أنه لا يشكل تهديداً على استمرار السلطة "الممانعة". بكلام آخر يتعين على السلطة، في علاقة الممانعة، مخاطبة العدو كعدو والتصرف تجاهه كصديق. وهناك عدو داخلي مخيف حقاً هو الشعب الذي يجب مخاطبته كصديق والتصرف معه كعدو. تخدم الممانعة هنا كتبرير دائم لكل أشكال القمع التي يتعرض لها المحكومون. هنا يرتدي القمع المعمم للنظام الممانع ثوباً مشرفاً من الغيرة الوطنية على الشعب. فالسلطة الممانعة تعمل على احتكار العداء "لعدو الأمة" بما يتيح لها إحالة أي فعل داخلي معارض إلى فعل معاد للعداء للعدو، أي إلى فعل خياني. أما من زاوية العدو الخارجي، لا تعني الممانعة سوى آلية سياسية تشلّ فاعلية الشعب (العدو الحقيقي) على يد "السلطة الوطنية"، وتحيل الصراع لاسترداد الحقوق إلى صراع كلامي لا أكثر، تمارسه نوافذ إعلامية وثقافية تعمل على تغذية خوف الناس من العدو، وعلى المزاودات السياسية التي يستوجبها فن احتكار العداء للعدو. في هذه العلاقة، يفترض بالعدو الخارجي أن يذكّر دائماً بوجوده واستعداده للعدوان والوحشية، ويفترض بالسلطة الممانعة أن تستنكر وتحذر وتحقن الشعب بكلام متواصل عن ضرورة تكريس الجهود من أجل تحقيق التوازن مع العدو كي لا يتمكن من تنفيذ مخططات شريرة تطال "وجود الأمة". ويفترض بالشعب أن يقتنع مراراً بعدوانية العدو الخارجي ووحشيته من جهة، وأن يقتنع مراراً أيضاً بتسليم مهمة استرداد الحقوق ولجم هذا العدو "للسلطة الوطنية"، وإعطاء هذه السلطة الصلاحيات الكاملة في سعيها إلى تحقيق "التوازن العسكري" أو "التوزان الاستراتيجي" مع العدو. المقاومة تكتسب شرعيتها من الفعل المقاوم على الأرض، أما الممانعة فإنها "فلسفة" سلطات قائمة سلفاً ولا يعنيها من أمر الدنيا شيئاً سوى ديمومتها واختراع الفلسفات التي تؤبدها وإن كان ذلك على حساب أي شيء. المقاومة تنتصر لحق الأمة وتكتسب المصداقية بقدر خدمتها لهذا الحق العام، أما الممانعة فإنها تنتصر لاحتكار حق الأمة كوسيلة لقمع سياسي معمم. تستمد المقاومة شرعيتها من النضال ضد ظلم يمارسه مستعمِر بحق أمة أخرى أو شعب آخر، أما الممانعة فإن غرضها إضفاء الشرعية على الممارسة القمعية والتعسفية التي يمارسها النظام الممانع ضد شعبه، بآلية يحيل القمع نفسه إلى فعل "مقاومة" يستهدف عملاء العدو في الداخل. فيما العدو يمارس حرياته العدوانية التي تتيحها له فلسفة الممانعة، الفلسفة نفسها التي توفر وسيلة تصون بها علاقة الممانعة من الانهيار، لا بل تعززها. فالعدو بممارساته العدوانية يفترض أن يعزز قناعة الشعب بأن "نظامه الممانع" مستهدف، وبأن العدو الخارجي شديد العدوانية. هكذا تثبت "فلسفة" الممانعة جدواها. إنها فلسفة عصية على النقض. إذا اعتدى العدو فإن "النظام الممانع" مستهدف وعلى الشعب أن يلتف حوله. وإذا كف العدو عن عدوانه، فلأن نظام الممانعة استطاع بممانعته أن يضع حداً للعدوان وعلى الشعب أن يلتف حوله ويعزز صموده. وحتى إذا امتنع نظام الممانعة عن الرد على العدوان، فذلك لأنه يريد أن يختار المكان والزمان المناسبين، وعلى الشعب أن يلتف حوله. كيفما سارت الأمور، تخرج فلسفة الممانعة بنتيجة واحدة هي ضرورة أن يلتف الشعب حول النظام الممانع الذي يبقى دائماً في حالة استنفار تحتم عليه، ومن أجل مصالح الشعب وخيره، أن يقمع كل صوت معارض. فالصوت المعارض ليس إلا ثغرة، أو ضعف في جدار الصمود يمكن للعدو استغلاله وتقويض "الممانعة" من الداخل بعد أن عجز عن تقويضها من الخارج. ومن المألوف أن تميل حركات المقاومة إلى السقوط في إغراء فلسفة الممانعة، وذلك كلما غلب منطق الحُكم فيها على منطق المقاومة. ولا تتطلب غلبة منطق الحكم أن تتحول حركة المقاومة إلى سلطة دولة، كما جرى في الجزائر أو الفيتنام، إذ يمكن للحركة المقاومة أن تغريها فلسفة الممانعة قبل ذلك، فتمارس الحكم من خارج الدولة (كما في حالة حزب الله اللبناني) أو من دون دولة (كما في حالة حركة فتح الفلسطينية). وحين ذاك تغلب حالة التعايش على حالة الصراع، ويصبح الصراع مجرد جزء من حلقة التعايش المستدامة. فنجد أنفسنا أمام ممانعات متشابهة تحتوي بعضها البعض كما تحتوي بعضها البعض دمى الماتريوشكا الروسية.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مأزق لحاق الأقليات بالثورة السورية
-
معركة الساحل الثالثة، خيار خاطئ
-
لون جديد
-
عن الانتفاضات العربية ومآلاتها
-
من الرئيس إلى البلد.. والمعنى واحد
-
منطقان في الثورة السورية
-
من التشبيح الاقتصادي إلى التشبيح السياسي
-
نظام قتل عالمي
-
رحلة شيوعي صغير
-
منكوبون ولامبالون
-
تسلية مأساوية
-
الخطاب الموالي للنظام السوري: مواجهة الداخل بالخارج (2)
-
الخطاب الموالي للنظام السوري: مواجهة الداخل بالخارج (1)
-
يحدث في الثورة السودانية
-
الجهاديون مرض الثورة السورية
-
بماذا يفكر القناص؟
-
التشبيح الموازي
-
بورتريه ريفي
-
التحديق في الموت
-
رثاء الأحياء
المزيد.....
-
الأردن.. ماذا نعلم عن مطلق النار في منطقة الرابية بعمّان؟
-
من هو الإسرائيلي الذي عثر عليه ميتا بالإمارات بجريمة؟
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
إصابة إسرائيلي جراء سقوط صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الجليل
...
-
التغير المناخي.. اتفاق كوب 29 بين الإشادة وتحفظ الدول النامي
...
-
هل تناول السمك يحد فعلاً من طنين الأذن؟
-
مقتل مُسلح في إطلاق نار قرب سفارة إسرائيل في الأردن
-
إسرائيل تحذر مواطنيها من السفر إلى الإمارات بعد مقتل الحاخام
...
-
الأمن الأردني يكشف تفاصيل جديدة عن حادث إطلاق النار بالرابية
...
-
الصفدي: حادث الاعتداء على رجال الأمن العام في الرابية عمل إر
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|