|
الحفرية الثالثة
اسماعيل شاكر الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 6308 - 2019 / 8 / 2 - 23:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تحدثنا في الموضوعات السابقة عن الخطوط العامة لأنتشار الأسلام ، وهي خطوط خضعت لتفاعل عوامل داخلية هي بمجملها أرضية وليست سماوية . ومن يبحث عن تفاصيل المعارك والغزوات وعمليات اجلاء المستوطنات اليهودية وما سبقها ورافقها من تكتيكات ومناورات يمكن له العودة الى كتاب " شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة 3 أجزاء " لخليل عبد الكريم ، والى كتاب : حروب دولة الرسول " بجزئيه لسيد القمني لما قاما به من اسقاط للكثير من روايات الخرافة والجن وأساطير القوة الغيبية التي كانت تتدخل لصالح جيش محمد . لم يؤرخ محمد لأحداث دعوته بنفسه ، أو يساعده في هذه المهمة مؤرخ من اصحابه ، أو حتى من المناوئين لدعوته ، وهذا ما يشير الى تدني المستوى الحضاري الذي يعيشه المكيون وعموم الحجاز . وفي هذا المستوى الحضاري الذي لم تمتلك فيه المجموعة البشرية : الكتابة ، تكون الرواية الشفاهية هي الأداة المعتمدة لديها في نقل معارفها الى الأجيال اللاحقة ، فيما تعتمدعلى الذاكرة في حفظها . لقد بدأت الكتابة عن تاريخ الأسلام وعن سيرة محمد في ما سماه أحمد أمين ، بعصر التدوين حوالي 150 هجرية ، واعتمده الكاتب المغربي الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه عن نقد العقل العربي بجزئيه : تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي . وكان للعباسيين الذين جرت بداية التدوين تحت ظلال دولتهم : الباع الطويل في الأيحاء بتصوير الأحداث والشخصيات المؤثرة من المهاجرين والأنصار بما يرفع من مكانة العباسيين ويقوي من حجة أحقيتهم في الحكم على حساب باقي القرشيين كالعلويين والأمويين . وكان اضفاء هالة اسطورية على مؤسس الديانة هدفاً من أهدافهم الأولية ، رغم خلو القرآن تماماً من أي تصوير اسطوري لمحمد ونفيه القاطع عن قدرة محمد على ايجاد المعجزات : ( قل لا املك لنفسي نفعاً ولا ضراً الاّ ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن انا الا نذير وبشير لقوم يؤمنون . الأعراف 188 ) وقد صور محمد نفسه في القرآن : لا فوق دائرة البشر ولا دونها ، وهو خاضع مثلهم للأجل المحدد له : ( قل لا املك لنفسي ضراً ولا نفعاً الا ما شاء الله لكل أمة أجل اذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . يونس : 49 ) وكان لجدهم عبد الله بن عباس الكأس المعلى في الرواية ، الى جانب رواة يقول عنهم دارسو الرواية من المؤرخين بانهم كانوا على حظ كبير من الموضوعية والمنطق كأبي مخنف والزهري وابن سعد . ويوجد في عصرنا الحديث من كتب بالموضوعية نفسها مثل محمد حسين هيكل في كتابه عن محمد ، وكتاب الشخصية المحمدية للرصافي ومستشرقين من أمثال مونتغمري ، والمؤرخ الكبير هشام جعيط في ثلاثيته عن سيرة محمد ، ونضيف الى ذلك كتاب : هل قرأنا القرآن للدكتور يوسف صديق . نقول اذا ما تحولت هذه الغربلة لمرويات السلف عن محمد ، وبتنا ننظر بعين نقدية لها ، مسقطين ألأساطير التي تكتظ بها مرويات السلف عن محمد ، فسوف تتجسد أمامنا صورة لشخصية محمد لا تختلف عن شخصيات ابناء جلدته : من حيث ارتباطه ببيت وبعائلة ، وما يتطلبه ذلك من نفقات تضطره الى ان يمارس عملاً محدداً ، وكان عمل محمد التجارة التي تفرض عليه استطلاع الأسعار أو الترويج لبضاعته في الأسواق والحديث مع اقرانه من التجار ، ولا بد وانه كان يأكل مما اعتاد أهل مكة على أكله ويشرب مثلهم من الآبار ، متقيداً بالتقاليد نفسها وبالأعراف العشائرية السائدة . وقد عبر القرآن عن رأي أبناء قومه به على شكل تساؤل : ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل اليه ملك فيكون معه نذيراً . نالفرقان : 7 ) وكل ذلك يشير الى ان " الملأ المكي " لم يجد ما يثير الريبة في رجل يدعو الى نبذ عبادة الأصنام ، والأستعاضة عنها بعبادة اله واحد . لقد استولد محمد الخوف منه والريبة به يوم تهجم في السنة الثالثة من الهجرة بآيات واضحات على الآلهة المعبودة من قريش : ( ان هي الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ... النجم : 23 ) أو : ( قل يا ايها الكافرون ... سورة الكافرون : 1 ) " 1 " ، لكن ريبة " الملأ المكي " الذي ادرك ما تتضمنه عبادة الاه واحد من حتمية حدوث تغيير داخلي : سياسي واجتماعي حفزته الى محاربتها ، لم تنتقل الى القوى الدولية المجاورة المتمثلة بالأمبراطوريتين : الساسانية والبيزنطية . فبالنسبة لهاتين الأمبراطوريتين لم تكن دعوة محمد الى عبادة الاه واحد ، تختلف في جوهرها عن ديانة الأمبراطورية البيزنطية المسيحية المكرسة لعبادة الاه واحد ، وهي قريبة في هيكلها العام ( نبوة واله واحد وجنة ونار ويوم حساب ) من الديانة المانوية المنتشرة في بلاد فارس . فدعوة محمد في رأي هاتين الأمبراطوريتين ليست أكثر من ملة أو نحلة دينية من هذه الملل والنحل المتكاثرة العدد ، والتي تتوالد من بعضها البعض بالتفاعل الثقافي وتبادل التأثير . لقد سبق محمد في عبادة اله واحد نفر من المكيين أنفسهم هم الأحناف ، وكتب آخرون شعراً دينياً خالصاً وردت فيه الموضوعات ذاتها عن اله كلي القدرة ، خالق للكون والحياة ، ومهيمن على هذا الوجود الذي خلقه ، ولا تجري فيه الأمور : من سقوط ورقة من شجرة الى قيام الآفات الفتّاكة كالفيضانات والجفاف والزلازل والمجاعات وألامراض والحروب ، الّا بأذنه . وهو اله متعال وغائب ، ولكنه عادل سيجري الحساب في يوم معلوم وسيكافيء المؤمنين به بالخلود في الجنة ، وسيعاقب الناكرين لوجوده بتخليدهم في النار . لم تثر هذه الموضوعات ريبة الأمبراطوريتين في الأحناف وفي محمد ، أنها في عرفهم موضوعات لا خوف منها بل هي امتداد أو تفرع ديني من دياناتهم ، ستكيف نفسها للبيئة الثقافية في العربيا ، قد تضيف وقد تحذف من موضوعات عالم الغيب بما يلائم هذه البيئة الصحراوية ، ولكنها في كل الأحوال ستقرب عالم الصحراء المنطوي على ذاته وسط تلال وعواصف الرمال ـ من رؤاهم وافكارهم الدينية ، وتزج بهم شاؤا ام أبوا في عالم التحضر الزراعي . عدم اثارة ريبة الأمبراطوريتين يعني ان ديانة محمد المكية لم تتضمن بعداً سياسياً يدعو الى ازالة الأمبراطوريتين ، بل بالعكس كانت دعوة محمد مساندة ومؤيدة للدولة البيزنطية : ( غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم . الروم : 1 ـ 5 ) . الدين طريقة من طرق تهدئة الذات المتسائلة تساؤل الأطفال عن كنه كل شيء يرونه ، فقدم لهم الدين يوماً أجوبة تبدّت لهم شافية وكافية . لكن الديانات المتأخرة كاليهودية والمسيحية ، وألأسلامية في طورها المدني ، تضمنت ابعاداً سياسية : لقد طورت هذه الديانات الأعراف المتوارثة ورفعتها الى مستوى القانون المقدس أو الى " شريعة آلهية مقدسة " ، وهذا ما يتطلب الزام الناس بالتقيد بها عبر جهاز عنف منظم . ومن هنا ينشأ الأرهاب انه ربيب الشرائع التي يدعي انبيائها انها شرائع الله التي هبطت عليهم عن طريق الوحي . ولم تكن لدعوة محمد على مدى 13 عاما من الدعوة في مكة شريعة ، وخلو الديانات من الشرائع الملزمة يعني خلوها من الطموح السياسي وتكوين جهاز يتولى فرض الشرائع وتصديرها بالقوة الى أقوام أخرى والزامهم بها .
#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحفرية الثانية
-
حفريات الفصل الثاني
-
5 أفعال محمد
-
القسم الثالث والرابع من الفصل الثاني
-
الفصل الثاني : انتشار الأسلام
-
الرسالة والنبوة
-
2 في السيرة
-
حفريات ضرورية : 1 خصوصية البيئة الثقافية المكية
-
3 الأستعداد السياسي
-
2 الأستعداد البياني أو الموهبة الأدبية
-
حيرة المسلم بين الرؤيتين الدينية والبرلمانية
-
هوامش سياسية
-
فنجان ثالث من قهوة الصباح
-
قهوة صباحية
-
اشرف الخمايسي في رواية : جو العظيم
-
محنة رءيس الوزراء العراقي الجديد
-
ظاهرة يوسف زيدان
-
تنبوء ولي العهد السعودي
-
ثقافة تزداد تحجراً
-
جمال خاشقجي
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|