|
الديمقراطية التونسية على محكّ النقد : المسار المتعثر وماذا بعد؟
علي الظاهري
الحوار المتمدن-العدد: 6306 - 2019 / 7 / 31 - 17:34
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
توطئة منذ الحراك الثوري بتونس، وتحديدا مع جانفي- يناير2011، برز مطلب الديمقراطية بالتوازي مع الرغبة الملحّة في الحرية والعدالة والشغل والكرامة. وهو مطلب أساسيّ لدى عموم التونسيين. الديمقراطية التونسية، بعد تجربتين من حكمي: الترويكا 2011-2013، والتوافق 2014-2019 بين حركتي النهضة والنداء، كأبرز حركتين سياسيتين في البلاد. نسائلها -هاهنا- بعيدا عن منطق التحزب والايدولوجيا الضيقة، المحكومة باتجاهات سياسية ليست ببريئة، أي ما الذي تحقّق ديمقراطيا في تونس طيلة هذا المسار؟ مسار، بدت فيه الديمقراطية التونسية حمّالة لأوجه عديدة، ليس في الحقل السياسي فحسب، إنّما في كل الحقول الأخرى: الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والتربوية أيضا... والديمقراطية، باعتبارها إحدى المقولات الأساسية في علم الاجتماع السياسي، قد لا تُفهم إلاّ بنقيضيها كالديكتاتورية والاستبداد. البحث في التجارب المقارنة - على أهميتها- قد يحيد بنا كثيرا عن المعنى المراد بلوغه، في علاقة بالديمقراطية التونسية، أو الديمقراطية "الناشئة" كما يحلُو للبعض تسميتها... لذلك ارتأينا مدخلا سوسيولوجيا، فهما ومساءلة ونقدا، لما تحيل عليه هذه الأخيرة في الواقع التونسي المعاش من نزاع وصراع وتنافس، ليس على الحكم فحسب، وإنّما في مختلف المواقع والوضعيات الاجتماعية. 1- في معنى الديمقراطيّة "المفهوم والممارسة": يحيلنا البحث في مفهوم الديمقراطية، الى سياقاتها التاريخيّة والاجتماعية، أي كيف نشأ المفهوم وتطوّر؟ وكيف خضع للبحث العلمي: النظري والتجريبي، على حدّ السّواء؟ لم تعد الديمقراطية، تلك الكلمة ذات الأصل الإغريقي المشتقّة منdemos الشعب وkratos الحكم، بمعنى حكم الشعب لنفسه، أو هي حكم الأغلبية في المجتمع الذي تسود فيه المساواة أمام القانون، والذي يُسألُ فيه الحكّام عن أفعالهم، كما يعرّفها هيرودوت. التعريف العملي المعاصر للديمقراطية، حسب عالم الاجتماع البريطاني انتوني غيدنز: "هي نظام سياسي يُمكّن المواطنين من المشاركة في إتّخاذ القرار السياسي إمّا مباشرة أو من خلال انتخاب ممثّلين سياسيّين". في المعنى والتأويل، تحوّلت الديمقراطية إلى ديمقراطيات: تشاركية، لبيرالية، توافقية، مباشرة، غير مباشرة، شعبية... يتحدّث البعض عن ديمقراطية غربية وديمقراطية عربية، غالبا ما تُمجّد الأولى، وتُنتقد الثانية منظورا إليها من خلال الممارسة، وطبيعة النظم الحاكمة، وعلاقات القوى والسلطة والقوّة، وأيضا، طبيعة المجتمع وثقافته ومختلف تشكيلاته ومُكوّناته. رغم استمرارية الأهميّة، تواجه الديمقراطية انتقادات كثيرة، حتى في أعتي الديمقراطيات الغربية الراسخة، في بريطانيا وأمريكا وفرنسا، وفي مختلف أنحاء العالم. يُقدّم غيدنز مثالا عن ذلك، حين فقد المواطنون البريطانيون ثقتهم بالسياسيين، أثناء فضيحة نفقات 2009. ويقول "هناك ما يدلّ أيضا على أنّ الناس(...)بصدد التحوّل إلى طرائق أقلّ رسميّة لممارسة السياسة، مثل إنشاء الحركات الاجتماعية أو الجماعات التطوّعيّة، لإدارة الحملات حول قضايا مُحدّدة". إجمالا، لم يُهدر معنى كلمة أو يُشوّه مضمونها، بقدر ما حدث للديمقراطية، والديمقراطية العربية على وجه الخصوص، كما تنصّ على ذلك الموسوعة العربية لعلم الاجتماع، فقد تمسّحت بها كلّ النظم، بما فيها أكثرها استبدادا وانتهاكا لحقوق الإنسان. تطوّر مفهوم الديمقراطية، نظريّا، لكنّه لا يزال يثير إشكاليات حقيقيّة، في مستوى الممارسة العمليّة، التي تختلف من مجتمع إلى آخر. 2-الديمقراطية في "الأحزاب السياسية التونسية": معطيات كميّة الحقيقة، لا نعرف الكثير عن أصول المنتسبين إلى الأحزاب التونسية، أي القاعدة الجماهيرية المنخرطة فيها، وإن كنّا نعلم رموزها السياسية، المتصدّرة للمواقع الأولى منذ زمن طويل. وهم أصبحوا معروفين لدى عموم التونسيين، دون سواهم. يتّفق أغلب المهتمين بالشأن السياسي التونسي، على تواجد ثلاث تشكيلات كبرى: يمينية ويسارية ووسطية. برزت هذه التشكيلات السياسية، بشكل علني منذ 2011، وتزايد عددها مع سنتي 2012 و2013 حتى بلغت ما يزيد عن ألمائتي حزب سنة 2019. تتداخل هذه التشكيلات، في كثير من الوضعيات السياسية، الأولى مع الثانية، والثالثة مع الأولى، والأولى والثانية مع الثالثة، ممّا يُصعّب على التونسيين التمييز بينها. المعطى ألأول، ملحوظ، يكشف عن تطوّر كمّي، يوازيه تعثّر في البرامج والرؤى. فالكثير من الأحزاب، استطاعت أن تنتظم بسرعة، في غياب واضح لرؤى اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية ... المعطى الثاني، في علاقة بمقولة الديمقراطية، إذ نلاحظ أنّ أكثر من نصف هذه الأحزاب، هي مشتقات للكلمة -التسمية، مثل الاتحادات الديمقراطية، ممثلة في الأحزاب والجبهات والكتل، وغيرها، وهذا يزداد يوما بعد يوم، وبالإمكان العودة إلى الخارطة الحزبية التونسية، والإطلاع عن كثب عن مسمياتها ونعوتها. المعطى الثالث، في علاقة بالكتل أو الجبهات، التي أعلنت عن نفسها باعتبارها وصيّة عن الديمقراطية، وهي كما اشرنا – سابقا- من مختلف الاتجاهات الإيديولوجية، وهو ما يوحي بخلط في المفاهيم والمبادئ والمنطلقات، والغايات أيضا... المستنتج من كلّ هذه المعطيات، أوّلا، يمثل هذا التسارع نحو التسمية والتدافع عليها: إمّا شغفا بها، أو اعتمادها مطيّة لتموقع في الحكم أو المعارضة. الشغف بها، لعلّه نتيجة لسنين طويلة من الاستبداد، في غياب حكم ديمقراطي عادل. وقد فسح الحراك الثوري لتحرّر في الكلمات والشعارات، والمصطلحات الموازية للديمقراطية، كالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. التسارع نحو التسمية، كما نعتقد، ليس ببريء، إنّما بمثابة الطريق المعبّد بسحر الكلمة وشعاراتها، بحثا عن شرعية اجتماعية ومشروعية سياسية لدى عموم المواطنين التونسيين، وهو الأقرب لفهمنا في غياب ممارسة ناجعة، والاستثناء نراه نادرا ويحفظ ولا يقاس عليه، أي ليس قاعدة. ثانيا، باسم الشرعية الاجتماعية للديمقراطية، قد يكسب السياسيون رضا مجتمعهم، ولكن الأهمّ بالنسبة لكثير منهم، هو الاعتراف وكسب شرعية خارج الوطن، باعتبار ما للكلمة من رمزية كونية معاصرة، وهي المقياس الذي به تمنح أحقيّة الحكم، وتقاس به الشرعية من عدمها. لا يخفى على أحد، ما للقوى العظمى من هيمنة، وهي المانحة لفعل الديمقراطية في العالم، وعلى رأسها المنظومة الرأسمالية الليبرالية، التي تتزعّمها أمريكا. الديمقراطية، حينئذ، تصنع في مختبراتها ومراكزها البحثية و من خلالها يُشرّع للاعتراف والوصاية، في آن معا. 3-الفاعلون السياسيون: هل هم ديمقراطيون؟ أن تكون في الحكم أو المعارضة، ليس بالضرورة أن تكون ديمقراطيا. هذا ما أثبتته تجارب كثيرة في تاريخ البشرية، على اختلاف نظم الحكم فيها. ما يزيد عن ثمانية سنوات، وسياسيو تونس، المتحزبين خاصّة، يُردّدون مفردات من قبيل التدرّب على الديمقراطية، والتربية على المواطنة، وغيرها، وهي مفردات ملّها معظم التونسيين، حين لا يرونها واقعا معاشا. من يمثّل من؟ وعلى أيّة قاعدة؟ ووفق أيّة رؤيا؟ وأيّ منهج؟ وهل يصحّ الحديث عن ديمقراطية في غياب فاعلين ديمقراطيين؟ يُظهر الحقل السياسي التونسي، صراعات حادة حول الزعامة: في الظاهر تُعلن ديمقراطيتها، وفي الخفاء تكشّر عن أنيابها، وهي أبعد ما تكون عن التنافس النزيه الشفاف. ما عرفته البلاد من اغتيالات، لا يمكن فصلها، في اعتقادنا، عن وهم وزيف الديمقراطية. ديمقراطية بأقنعة استبدادية، ديمقراطية ملغومة، ذهب ضحيّتها شهداء كثر، منذ 2011، مواطنون وأمنيون وعسكريون وسياسيون. تقتضي الديمقراطية، احترام المنتخبين، الذين فوّضوا أمرهم لسياسيين، لم يكونوا في الأصل، محلّ ثقة. يتبيّن ذلك، من عدم التزامهم لمنظوريهم، ولمبادئهم. تنقّل الكثير منهم، بين كتل وأحزاب، ترضية لمصالحهم التي أصبحت معلومة ومفضوحة. المثير للانتباه، أيضا، أنّ اغلب الفاعلين السياسيين، لم يتزحزحوا من مواقعهم الرئاسية في أحزابهم، في تغييب واضح لكفاءات شبابية، قادرة أن تقدّم رأيا بديلا، و تثري المشهد السياسي نحو مسار أفضل. إجمالا، لا يمكن نعت كلّ السياسيين التونسيين باللاديمقراطيين، ولكنّ الواضح أنّ غالبيتهم، ليسوا ديمقراطيين وليسوا أهلا للديمقراطية؟ وألاّ لماذا كلّ هذا التعثّر في تحقيق انتقال ديمقراطي منشود لكلّ التونسيين؟ 4- نحو ديمقراطية حقّانيّة: تحريكا لمسار متعثّر ...بحثا عن أمل. الديمقراطية، من حيث هي فعل، هي أيضا بنية. تحتاج البنية إلى أسس تقوّمها وتقوّيها، وترتكز الأسس على فاعلين حقّانيّين. يُعرف الفاعلون بالحق لا بالزيف. الحق منطلقهم، وهو المبتدى والمنتهى. حينئذ، لا خير في ديمقراطية زائفة. ولا خير فيها دون فاعلين، بهم تُعرف وبهم تتحقّق. الديمقراطية، ليست حدثا كما يعتقد الكثيرون، إنّما هي مسار، والمسار في أوجهه اللغوية التونسية، إمّا أن يكون حقّانيّا أو لا معنى له. الحقّاني والحقّانية، هي من صميم المتداول اللفظي المقدّس في اللهجة التونسية. أن تكون حقّانيّا في معجم المعاني للغة العربية، هو أن تنتسب إلى الحق، والحقّاني هو من يرعى حقوق الآخرين. الحقّاني لا يعرف الكذب والمراوغة "إلي فمّ فمّ باللهجة التونسية". الحقّانية في الديمقراطية، أو الديمقراطية الحقّانية، كما يفهمها عموم التونسيين، ليست حكرا على عالم السياسة والسياسيين، إنّما هي مقولة تحتاجها كل الحقول: الاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصادية... وكي نكون ديمقراطيين، ليس من منطلق سياسي فحسب، إنّما حيثما كانت الوضعية المعاشة. الديمقراطية: في الأسرة والمؤسسة، وفي الإدارة وفي التربية والشباب والثقافة، وفي كل المواقع... الديمقراطية بهذا المعنى، رهان اجتماعي ومجتمعي. يتطلب الرهان مقاومة مستمرة، بالفكر أولا وأخيرا. الديمقراطية، كما اعتقد، وعي ذاتي وجماعي، من اجل مقاومة الفساد والاحتكار في كل شبر من تونس. الديمقراطية إنتاج إنساني، إن هي وُجّهت وجهة صحيحة أثمرت، وإن هي حادت عن الحق عمّقت أزمتنا، والأزمة الكبرى حين نرى مبدعينا ومفكرينا ومثقفينا الأحرار في مؤخرة الركب... الديمقراطية، التي لا تُعطي لشبابها الممارسة الحقيقية، هي مقولة معلّقة مآلها إلى الفشل. الديمقراطية، إذا أعادت إنتاج الهيمنة، بلغة بيار بورديو، في كلّ الحقول والفضاءات الاجتماعية، تصبح مقولة فاسدة مكرّسة للهيمنة، ومبقية على سلطة القويّ على الضعيف. الديمقراطية بهذا المعنى، مطية لمزيد احتكار السلطة لمجموعات نافذة في تونس عبر تاريخنا الاجتماعي الطويل. المسار التونسي أو الانتقال الديمقراطي، لا سبيل لحبسه في أطر ضيّقة، ومن المبالغة أن لا نرى فيه سوى العيوب. هذا ليس صحيحا، فيه من المزايا الكثير. نراه متعثرا، ولكنّه في كل الأحوال، حينما يقارن بغيره، يصبح الأفضل في كثير مما يُسمّى بثورات الربيع العربي. وتبقى المراهنة على الانتقال الديمقراطي في تونس مبنية -أساسا- على جهد سياسي ومجتمعي، وأكثر من ذلك علمي، يقتضي تضافر جميع القوى للسير به نحو الأفضل والسير به عربيا. الديمقراطية، والديمقراطية العربية لا تبنى بالسياسيين وحدهم، إنّما بالفاعلين الحقانيين، وبخاصة في مختلف المؤسسات التربوية والثقافية، التي تنشر العلم والمعرفة، بدءا بنادي الأطفال ودار الشباب ودار الثقافة، مرورا بالمدرسة والجامعة... وكم نحتاج –ختاما- للديمقراطية، في كل تفاصيل حياتنا، وقبل ذلك حريّ بنا أن نفهمها ونضعها محل تساؤل دائم، إزاء نقاش عمومي واسع، تشارك فيه كل فئات المجتمع حيثما كانت أدوارهم ومواقعهم...
#علي_الظاهري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
-
تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل
...
-
في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو
...
-
التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل
...
-
السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي
...
-
الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو
...
-
بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
-
محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان
...
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
-
القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟
...
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|