|
من هنا تأتي داعش
محمد عودة الله
الحوار المتمدن-العدد: 6303 - 2019 / 7 / 27 - 12:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قال المثل الشعبي الفلسطيني: "من يده في النار، ليس كمن يتدفأ عليها" وفي لغة الماركسيين فإن من يركب سيارة دفع رباعي ليس كمن لا يملك ثمن الدواء. هناك فرق شاسع، فهناك من اعتاد أن يقبض ثمن موقفه ويجني ثمار إنتمائه الطبقي، وهناك من تعود أن يدفع ثمن موقفه ويكتوي بنار إنتمائه الطبقي، وشتان بين من يضحي من أجل الوطن ومن "يضحي" بالوطن، والوطن هو الفقراء.
يتابع الكثيرون برنامج "فلسطين الخير"، والذي يعرض فقراء يتسولون على شاشة معا الفضائية ويتحدثون عن مشاكلهم الشخصية وتفاصيل حياتهم، وقد هاتفت المحطة، وغيري كثيرين، مطالباً بتعتيم وجوه الفقراء حفظاً لما تبقى من كرامتهم، وكان الجواب بالرفض لأن "المحسنين" يطلبون رؤية الوجوه، وهو بالتأكيد مطلب يختلف كثيراً عن بث فيديوهات الفقراء، واقترحت عليهم أن يعرضوا صور الفقراء للمتبرعين وأن يقوموا بتعتيم الوجوه أثناء البث، ولكن لا حياة لمن تنادي، وتقوم مؤسسات خيرية أخرى بتصوير الفقراء عند تلقيهم المنح والهبات ومن ثم نشر الصور، بمعنى أن القضية ظاهرة وليس تصرف فردي لمحطة بعينها، ومشاركة الفقراء في مثل هذه المجزرة غير الأخلاقية بحقهم لا ينم عن قبولهم بها بقدر ما يعكس عجزهم عن الرفض.
دعنا نتأمل في الإنتماء الطبقي لمحطة معا، فهي تبث كل يوم أسعار العملات والذهب والفضة وسوق رام الله المالي، ولا تذكر القدرة الشرائية لدى المواطن أو معدلات الفقر أو التضخم ...إلخ، ويعزف مديرها كثيراً عن ذكر معدلات البطالة في الضفة الغربية بدعوى أنه لا يعرف الرقم! هو لا يعرف، فهو ليس ممن ألقى بهم نظام البوليس في صفوف العاطلين عن العمل، وعليه يمكن القول إن ما تبثه المحطة هو مركز إهتمام من يملكون "الوطن"، أما من لا يملكون فيتم عرضهم على شاشات المحطة.
مشكلة الفقر بنيوية في إقتصاد السوق الحر، فكلما صعد ثري إلى طبقة المليارديرات، سقط عشرات الآلاف في مستنقع الفقر، وعليه فإن حلها يتم بتغيير البنية إلى الإشتراكية مثلاً، وصحيح أنه ليس عيباً أن تكون فقيراً في نظام عفن، بل العيب في نظري أن تتكسب من كونك امتداداً لنظام يتاجر بالإنسان الفلسطيني ليملأ جيوب الأغنياء، وعلينا أن نتذكر أن المجتمع الفلسطيني مجتمع فلاحين في أصوله، وأن الاكتفاء الذاتي وعدم العوز كانا وما زالا مصدر فخر للإنسان الفلسطيني، وأن المحطة وغيرها تشترط على الفقير التخلي عن كرامته في سبيل نيل المساعدة في وقت يكون فيه الفقير أعجز عن الرفض، وهكذا تكتمل الحلقة على الفقراء، حيث يجردهم إقتصاد السوق من لقمة العيش، ثم يأتي من يدعي الرغبة في المساعدة، ليجردهم حقاً من كرامتهم، ماذا يسمى ذلك؟
أحد حقوق الإنسان المتعارف عليه دولياً هو الحق في الخصوصية، والسلطة الفلسطينية ملتزمة بحقوق الإنسان على مستوى الشعارات، والقانون الأساسي الفلسطيني تحدث عن حرمة المساكن، فهل من حرمة المساكن أن تقتحم كاميرات التصوير للفضائيات غرف نوم الفقراء؟ إن الخصوصية هي حاجة وحق لجميع البشر، حتى الحيوانات تبحث عن الخلوة بعض الوقت، فهل مسموح تجريد الإنسان من خصوصيته وكرامته بهذا الشكل؟ لقد دعوت طاقم برنامج "فلسطين الخير" إلى الحديث عن مشاكلهم الخاصة على الهواء ليحسوا بالمعاناة التي يسببوها للفقراء ولم يستجيبوا، واليوم أخفض السقف لهم ليستضيفوا أحد "المحسنين" ليس للحديث عن مشاكله الخاصة، بل عن حساباته البنكية فقط، وهذه دعوة مفتوحة، وإن لم يستجيبوا فيمكن الاستنتاج أن المحطة تعتبر الخصوصية وكرامة الإنسان امتيازاً طبقياً للأغنياء فقط، إن تصوير الفقراء بهذا الشكل عمل لا أخلاقي وينتهك حقوق الإنسان وكرامته.
بدون خصوصية لا يوجد حرية، والنظام البوليسي متعدد الطبقات في فلسطين أسقطنا في العبودية، حتى الوزراء لا يفلتون من التنصت وملاحقة أجهزة الأمن البوليسية، فإذا كان من هو برتبة وزير غير قادر على الهروب من مراقبة هاتفه المحمول، فما بالك فيمن لا يملك لقمة عيشه؟ لم يحلم الشعب الفلسطيني بتحطيم زنزانة الإحتلال للهروب إلى زنزانة "فلسطينية"، والنظام الفلسطيني حول حلم الحرية والإنعتاق إلى كابوس.
عن ضرورة الخصوصية، إليكم هذه الفقرة المترجمة:"عادة ما تتسم المحادثة الحرة بالمبالغة والبذاءة والمغالطات المتفق عليها والتعبير عن الرغبات المعادية للمجتمع أو آراء ليس المقصود منها أن تحمل على محمل الجد، إن الصيغة غير المحررة (غير المدققة) للمحادثة ضرورية للمحافظة على الطابع الحميمي والشخصي وغير الرسمي للمحادثة" (Raymond Wacks)، وعليه فإن الخصوصية أساسية لتلاحم المجتمع واقتراب الأفراد من بعضهم البعض وأن دولة البوليس وتسجيلات الهواتف الذكية وصفة، آسف للقول، للإنحطاط الأخلاقي وتذرير المجتمع (تحويله إلى أفراد مجزئين)، وبعد ذلك تلومنا القيادة على التقاعس بعد أن أصابتنا بالشلل!
قال الرسول عن سبعة يظلهم الله بظله": رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
إذاً لماذا هذا الإصرار على ذبح الفقراء بهذه الطريقة؟ أولاً، هذا يندرج تحت إطار الحرب الشعواء التي تشنها الطبقة المهيمنة وأدواتها من سلطة وإعلام ومؤسسات على الطبقات الشعبية، هذه الحرب طالت لقمة العيش والعمل والصحة والتعليم والضرائب الظالمة والآن تطال الكرامة، إن فقدان الكرامة يبعث على التعصب والراديكالية، والسلطة الفلسطينية جاهزة بالتدريبات على مكافحة "الإرهاب"، ولكنها غير جاهزة في مواجهة الإحتلال والفقر والجهل والبطالة والمخدرات وإهدار كرامة الإنسان، لأن ولائها للطبقات الغنية والإستعمار يحتم عليها المساهمة وليس المواجهة. ثانياً، إن إهدار كرامة الفقراء بهذا الشكل الفظ والمستهجن والفظيع يرهب الناس من الوقوع تحت خط الفقر ورحمة "المحسنين"، الرسالة تقول فيما بين السطور أن على الفلسطيني عمل أي شيء حتى لا يقع في الفقر، وعمل "أي شيء" يشمل طبعا التخلي حتى عن القيم الأخلاقية والوطنية؟ ثالثاً، رسالة أخرى هي أن نقبل يد السلطان شاكرين على ما هو قائم لأن أغلبنا خارج مستنقع القبول بمثل هذه "الخيارات" وبالتالي فإننا بخير أو نحب أن نفكر كذلك، كان مذيع في راديو الكيان يقول دائما:"إحمد ربك على ما عندك، لأن ما عندك هو حلم كبير لغيرك"! نحن لسنا بخير والواقع ليس بخير وفلسطين ليست بخير، ولو فرضنا جدلاً أننا بخير (مجافي للواقع السوداوي)، فما زال من حقنا أن نحلم بواقع أفضل مما هو قائم. رابعاً، عمليات التصوير وشرح الفقراء لسوء أوضاعهم الشخصية على الهواء تشير إلى واقع لا يحمي من لا يملكون ومنظومة قيم وحقوق وقوانين حصرياً لحماية الأغنياء، فلا أحد من الحكومة بالحد الأدنى، حسب ما أعلم، تدخل لمنع هذا الهدر لكرامة الإنسان، ولو كان الموضوع يمس أحد الأثرياء لتدخل الرئيس شخصياً وفورا في حله، بمعنى أن المال صار مصدر القيمة وليس الإنسان في ذاته، وهذا واقع يشجع النهم والتسلق والإثراء بأي ثمن وليس قيم حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والحرية والخصوصية.
لا يمكنك أن تحلم بالتطور والنجاح وتسلق السلم الإجتماعي بالكد والعمل في الواقع الفلسطيني، وعليه فإن إعلام الكومبرادور يسعى إلى "حسن" تربيتنا كعبيد خوفاً من الفقر، وعلى العكس من ذلك فإن رسالة الإعلام الحر ستظل صوتاً لمن لا صوت له، وليس تجريد الحفاة من أبسط معاني الكرامة، وحتما ليس إستخدام الفقراء كأدوات في سياسات الخوف لنظام فاقد للمشروع وقيادة فاقدة حتى للكاريزما.
#محمد_عودة_الله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأخلاق...أين الطريق؟
-
سلاح المقاطعة
-
الفردية مقابل الجماعية
-
ملاحظات حول القانون الأساسي الفلسطيني المعدل
-
ألف باء دعاية الحرب الأمريكية والإسرائيلية
-
في البلدان التي دمرها الغرب، على الناس التوقف عن الإعجاب بأم
...
-
زواج الاغنياء بالسلطة
-
قضية أخلاقية ضد التطبيع مع إسرائيل
-
بعيداعن التخوين
-
شكل التعليم الفلسطيني -2-
-
شكل التعليم الفلسطيني-1-
-
مدخلة إلى العنصرية
-
العنصرية والحرب على الارهاب
-
أكذوبة اللوبي الصهيوني
-
في منهاج العلوم الفلسطيني
المزيد.....
-
إيران تعلن البدء بتشغيل أجهزة الطرد المركزي
-
مراسلنا في لبنان: سلسلة غارات عنيفة على ضاحية بيروت الجنوبية
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. قرارت لجامعة الدول العربية دعما
...
-
سيناتور أمريكي: كييف لا تنوي مهاجمة موسكو وسانت بطرسبرغ بصوا
...
-
مايك والتز: إدارة ترامب ستنخرط في مفاوضات تسوية الأزمة الأوك
...
-
خبير عسكري يوضح احتمال تزويد واشنطن لكييف بمنظومة -ثاد- المض
...
-
-إطلاق الصواريخ وآثار الدمار-.. -حزب الله- يعرض مشاهد استهدا
...
-
بيل كلينتون يكسر جدار الصمت بشأن تقارير شغلت الرأي العام الأ
...
-
وجهة نظر: الرئيس ترامب والمخاوف التي يثيرها في بكين
-
إسرائيل تشن غارتين في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بعشرات
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|