أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - مناف الحمد - تطور الفكر الإداري بين سياقين















المزيد.....



تطور الفكر الإداري بين سياقين


مناف الحمد

الحوار المتمدن-العدد: 6296 - 2019 / 7 / 20 - 08:38
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


مقدمة
تنشأ المدارس الفكرية وتنمو وتتبلور وفق السياقات التاريخية التي تكتنفها، ولهذا فإن مما يجعلها غير واضحة المعالم من حيث نشأتها وتطورها واندثارها فصلها عن السياق بأبعاده المختلفة.
فقد نشأت التايلورية استجابة للثورة الصناعية، وعجز الأساليب السابقة لها في إدارة المؤسسات عن القدرة على مواكبة التطورات، وظهرت مدرسة العلاقات الإنسانية استجابة للحاجة إلى معالجة مواضع الخلل في تطبيق التايلورية التي أغفلت العامل النفسي والاجتماعي، وركزت على الإنتاجية معتمدة على اعتبارات عقلانية حسابية مجردة.
كما انبثقت ما بعد التايلورية وما بعد العلاقات الإنسانية نتيجة لعجز النظريتين السابقتين عن إيجاد حلول لمشاكل جاءتا لحلها.
ولذلك فإن مشكلة البحث تتلخص في:
مشكلة البحث
لا يمكن الوصول إلى فهم عميق لجوهر النظريات الإدارية من دون رصد السياق الذي ظهرت فيه سواء أكان من خارج الحقل، أم من داخله، والذي يتفاعل تفاعلًا جدليًا معها مساهمًا في نشأتها وبلورتها، وأحيانًا في اندثارها.
أسئلة البحث
السؤال الأول: هل كانت التايلورية استجابة لظروف منتصف القرن التاسع عشر وما بعدها في الولايات المتحدة الأمريكية؟
السؤال الثاني:
هل ساهمت التايلورية في مفاقمة مشاكل جاءت لحلها؟.
السؤال الثالث:
هل ظهرت مدرسة العلاقات الإنسانية كنوع من اقتراح حلول لمواضع القصور في التايلورية.
السؤال الرابع:
هل تمكنت ما بعد التايلورية وما بعد مدرسة العلاقات الإنسانية من الخروج من الصندوق الذي وضعته النظريتان السابقتان؟.

منهج البحث
منهج وصفي تحليلي

أهداف البحث
1- إثبات وجود صلة وطيدة بين نظريات الفكر الإداري من جهة، وبين السياقات التاريخية من جهة أخرى.
2- إثبات أثر السياق الداخلي في نشوء وتطور نظريات الفكر الإداري.

هيكلية البحث
الفصل الأول: السياق التاريخي لنشوء التايلورية.
أولًا-الرأسمالية المهيمنة تبحث عن حلول لتقلباتها.
ثانيًا-البعد النخبوي لليبرالية.
الفصل الثاني: نشوء التايلورية.
الفصل الثالث: مدرسة العلاقات الإنسانية ومحاولة معالجة جوانب قصور التايلورية.
الفصل الرابع: ما بعد التايلورية ومدرسة العلاقات الإنسانية.
الفصل الخامس: نظرية النظم.
خاتمة.
توصيات.








الفصل الأول
السياق التاريخي لنشوء التايلورية
أولًا-الرأسمالية المهيمنة تبحث عن حلول لتقلباتها.
ثمة إجماع على أن حقبة منتصف القرن التاسع عشر وما بعدها قد كرست سيادة الطابع الرأسمالي على الاقتصاد الأمريكي والأوروبي، وهو تكريس لم يعدم أسبابه الموضوعية التي يأتي في مقدمتها حاجة الرأسمالية إلى تسخير الموارد في أي مكان توجد فيه، وإتباع المناطق المتأخرة عن مواكبة التطور الرأسمالي للميكانيزمات الحاكمة للاقتصاد الرأسمالي، فقد صار العالم موحدًا بفضل شبكات السكك الحديدية واختراع السفن البخارية والتلغراف، وأصبح القطاع الاقتصادي حقلًا يلمع فيه المهندسون بما هو قطاع يتوسل التقنية.
وقد كان الابتكار الصناعي ميزة أساسية من ميزات ذلك العصر، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في هندسة الإنتاج الجماعي، وهو نوع من الإنتاج الذي لا بد منه لإنتاج كميات هائلة من السلع موحدة الصفات التي لا يستطيع الصناع الأفراد إنتاجها خارج المؤسسات والشركات.
وعلى الرغم من أن النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد شهد فترات كساد حاد و انهيارات في الكثير من القطاعات، وهي حالات وانهيارات أصابت قلوب المؤمنين بالليبرالية وسيرورة تقدمها التي لا تنتهي بالاضطراب، حيث ثبت نتيجة حالات التعثر تلك أنها ليست منظومة كفيلة بتحقيق نمو اقتصادي لا يتزعزع، ولا تحقيق مسيرة تقنية لا تتوقف، فإن الرأسمالية الصناعية بما حققته من إنجازات مذهلة قد وسمت العالم كله، وفي مقدمته بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية الكبرى.
الإطار العام الذي نشأت الإدارة العلمية فيه إذن، هو إطار يحكمه الفكر الرأسمالي، وتجلياته، فقد انبثقت الرأسمالية في نهاية القرن التاسع عشر عن طرق لتنسيق العمليات في المصانع والتحكم بالعمال، وقد كان هذا البحث مترافقًا مع التطور التكنولوجي ومحاولات التكيف مع قوى السوق .
كما أدت التغييرات في الآلات إلى اختلالات في الإنتاج، وفرضت ضرورة إعادة تنظيم العمل.
ولكن هذه التعديلات في تنظيم العمل لم تلق نجاحًا؛ لأن العمال كانوا تقريبًا خارج نطاق السيطرة؛ لأنهم عمال مهرة ومعدل دوراتهم عال، وأجورهم مرتفعة؛ الأمر الذي جعل السيطرة من الأعلى محدودة.
فالسيطرة في الحقيقة كانت للعمال الذين اتبعوا إجراءات يوجهها رئيس يستخدم نموذج قيادة استبدادي.
هذا الوضع كان ينظر إليه من جانب الملاك وكبار المديرين على أنه وضع يفضي إلى تخطيط غير فعال، وتنسيق غير فعال، وإلى عدم توفر معلومات كافية عن التكاليف وإلى جداول غير نظامية، وعائدات متقطعة.
نتيجة لذلك قرر الملاك والمدراء إحكام قبضتهم أكثر عن طريق تأسيس نظام مؤسسي جديد ظل النظام التقليدي يقاومه حتى حلول القرن العشرين.
وظلت المحاولات قائمة لإدخال اصلاحات بيروقراطية مدعومة بإصلاحات سياسية مصممة لتحقيق استقرار المنافسة وتحفيز الانتاج.
كانت النتيجة الطبيعية لما سبق نقل مقاليد السلطة في المشروعات من المرؤوسين الذين قيدت الآلة والتخصص حريتهم في التصرف إلى الرؤساء الذين توسعت سلطاتهم
هذه التغيرات ساهمت في إنقاص كلف الاجور بما أن استخدام عمال شبه مهرة قد أنقص تكاليف دوران العمل.
فرضت سلطة الرؤساء هذه مع التخصص والمكننة تجانسًا في المهارات المطلوبة ترافق مع تقسيم طبقي في الوضع الاجتماعي والدخل.
وبالمقابل صار قياس الأداء الفردي أيسر وفقًا لمعايير تنظيمية، وأصبح ممكنًا تحريض العمال أكثر من خلال أجور تعتمد على الانتاجية، وفي النتيجة ساعدت الوظائف المتجانسة في تبسيط وظائف الإدارة.
هذه التغييرات التي فرضتها الظروف التي حفت بالرأسمالية، هي التي بحثت عمن يقننها، ويصوغها في نظرية؛ لأن كل هذه التغييرات لم يكن جزءًا من خطة شاملة.
ثانيًا- البعد النخبوي لليبرالية
كما لا يمكن إغفال تفاعل التايلورية مع بعد جوهري من أبعاد الفلسفة الليبرالية، وهو البعد النخبوي، الذي اتخذ شكلين:
النخبوية الثقافية التي دعا روادها مثل ميل وتوكفيل إلى طبقة حاكمة لنخبة ثقافية تقع على عاتقها مسؤولية تعليم الجماهير من أجل ما يسمى بديمقراطية نحيفة ( و هي ديمقراطية تفسح المجال لمستوى أدنى من المشاركة الديمقراطية و نظام تصويت يعطي النخبة تمثيلاً أكثر ) حيث تعمل النخبة على تدريب الجماهير على الاستماع على ما هو أفضل لهم
القلق المشار إليه من استبداد الأكثرية ناجم عن قناعة متبنّي هذا النوع من النخبوية بأن معظم الناس غير عقلانيين و غير ناضجين ، و هو ما يقدمونه كتبرير لمطالبتهم بالمستوى الأدنى من المشاركة الديمقراطية و لمطالبتهم بنظام تصويت يعطي النخبة تمثيلاُ أكثر.
والنخبوية المعرفية التي كان ارتباط التايلورية بها أكثر وضوحًا، وهي تجد ظلالها في الإصرار على أن الخبراء في المجتمع العلمي و الاقتصاد السياسي يمكن أن يعطوا أصواتاً أكثر و سلطة أكثر من أي شخص آخر.
ظهور الاحترافية في العلوم السلوكية و ظهور التايلورية ترافق مع بروز هذا الشكل من النخبوية.
و ما يلزم عن هذه الرؤية أن السياسيات تصبح حكراً على نخبة المعرفة، و ما تنطوي عليه هذه النخبوية هو اعتبار الديموقراطية وظيفية ، إجراءً تنظيمي لصيانة المساواة، و قد توجت وظيفية بارسونز هذا التطور لهذه النظرة.
فظهور الفروع الأكاديمية و خصوصاً في العلوم السلوكية و الاجتماعية منحت النخب دوراً أكبر ؛ مما ساهم في غرس روح الطاعة لسلطة الخبراء، و ساعد على تقويض الأفعال التشاركية.
لقد ساد افتراض من وحي هذه التطورات هو أن الناس يجب أن يعدّلوا منذ الولادة لكي يصبحوا أكثر كفاية و إنتاجية في نظام الشركات.
كما ازدهر علم النفس الصناعي و الفروع التطبيقية المتنوعة لعلم النفس الذي نظر إليها كإنجازات تؤكد تقليد الداروينية الاجتماعية ؛ حيث إنها استخدمت في الصناعة اختبار العمال و مساعدتهم على التكيف.
إن الخبراء –بحسب النخبوية المعرفية- كائنات بشرية أفضل أخلاقياُ من غيرهم ، و هي رؤية مدعومة من أخلاقيات دوركهايم و من قبل نظرة فيبرية للمدرسي و السياسي على أنهما الأفضل أخلاقيا.ً
وكانت رؤية فيبر للمعرفة و القيم على أنهما ميدانان منفصلان، و أن الأولى هي المهمة أما الثانية فهي ليست موضوعية كالمعرفة العلمية التي تزود العلماء و القادة و مستشاري السياسة بالقدرة على ضبط المجتمع و التحكم به عامل أساسي في ترسيخ هذا النوع من النخبوية.
من هنا فإن الناس الأقل انسجاماً سيكونون أقل أخلاقية و لا يمكن جعلهم أسوياء و مقبولين إلا بتعليمهم كيف يتكيفون مع النظام الذي يكون لخير الجميع إذا ما تكيفوا معه بالشكل المناسب و هو الشكل الذي يعرفه الخبراء و يدربون الآخرين عليه.
إن التايلورية نتيجة هذه الصبغة النخبوية، وهو واضح من خلال عدم اكتراثها بالجانب القيمي في تعاملها مع العمال وقد ساهمت بدورها في إغناء هذه النخبوية.






















الفصل الثاني
نشوء التايلورية
يمكن للتمهيد السابق أن يكون عاملًا تفسيريًا لنشوء التايلورية، فقد قدم فريدريك تايلور من عالم التقنيين وليس الأكاديميين، وهو عالم أجدر بمنح صاحبه جواز سفر دخول عالم المؤسسات والشركات؛ لأنها تتسع للتقنيين أكثر من الأخيرين كما ذكرنا، وأيضًا كان يتحرك ضمن أفق تفسحه هندسة الإنتاج الجماعي التي برع فيها الصناعيون الأمريكان، والهامش الذي تحرك فيه وأبدع نظريته هو الهامش الذي تتطلبه التحسينات التي تفرضها ضرورة الاستجابة لمراحل التعثر والأزمات.
ومن المعروف أن التايلورية قد ظهرت في البداية لحل مشاكل متعلقة بتوسع الاقتصاد الأمريكي التي تمحورت حول نقص اليد العاملة والكفاية الإنتاجية، والطرق الكفيلة بتخفيض التكاليف.
فقد شهدت ثمانينيات القرن التاسع عشر انهيارًا حادًا في قطاع السكك الحديدية مثلًا في أمريكا، حيث تهاوى (21) ألف ميل من الخطوط الحديدية الأمريكية، وتوقفت العديد من المعامل المنتجة للحديد، وانكمش عدد المهاجرين الذين يصلون إلى الولايات المتحدة الأمريكية من 200 ألف مهاجر إلى 63 ألف مهاجر عام 1877، وهو ما سبب نقصًا حادًا في اليد العاملة.
في هذا السياق وبعد تجربة طويلة غنية أورثت تايلور خبرة في عمل المصانع أبدع نظرية تقوم على مبادئ إدارية أطلق عليها مبادئ الإدارة العلمية.
نشر تايلور كتابه: " مبادئ الإدارة لعلمية عام 1911، وقد بنى الكتاب على الأفكار التالية:
-إن انخفاض مستوى الكفاية الإنتاجية في كافة الأعمال سيترتب عليه خسائر فادحة.
-إن علاج عدم الكفاية يكون بالإدارة العلمية، فهي الضمانة الأساسية لرفع معدلات الإنتاج.
-إن الإدارة علم يعتمد على مجموعة من القوانين والقواعد والمبادئ المحددة بوضوح، وإن الوصول إلى الأهداف غير ممكن بدون تطبيق هذه القوانين والقواعد والمبادئ.
وقد شكلت الإدارة العلمية التايلورية جاذبية لرجال الأعمال والأكاديميين التكنوقراط.
اقترح تايلور أن يكون المدراء علميين يدرسون تنظيم العمل ويبتكرون طرائق للتغلب على الصراعات بين العمال، وبين العمال ورؤسائهم.
وقد ادعى تايلور أن التغلب على النزاعات غير ممكن بدون ثورة في عقول العمال ورؤسائهم ورجال الأعمال، وهي ثورة تتحقق إذا أدركوا أن مصلحتهم المشتركة كامنة في تعظيم الدخل من خلال تعظيم الخرج.
ومن شأن إدراك وجود هدف مشترك أن يجعل إدارة المؤسسات مسألة تقنية خالصة تتوخى اكتشاف الطريقة الأفضل.
وبذلك سوف تصبح القدرة القصوى للعامل معروفة، ويمكن بمعرفتها تحديد يوم عمل عادل بأجر عادل.
وفي ظل التعاون المفترض النابع من الاتفاق على المصلحة المشتركة، فإن العمال سوف يستفيدون وسوف تعتمد سياسات الشركات على الانسجام وليس على الخلاف.
ما يجب إدراكه أن التايلورية قد جاءت من رحم الرأسمالية، ولذلك فإنها في جوهرها فلسفة تعتبر الرأسمالية حالة طبيعية، وينبغي قبول أهدافها المتمحورة حول النمو الإنتاجيّ، والتي لا تنشغل بجدالات حول القيم لاعتمادها على صنع قرارات تقوم على حسابات علمية بحتة، ويلتزم فيها الموظفون بأداء أدوار محددة.
لقيت الإدارة العليمة التايلورية قبولًا سريعًا من جانب مجتمع الإدارة الأمريكيّ؛ لأنها ساعدت في خلق أجندة للمدراء في الشركات الناشئة حديثًا، والأساتذة في مدارس إدارة الأعمال الذين استخدموها لصوغ دراسات علمية لتحسن إدارة البيروقراطية.
وقد اعتبرها بعض الباحثين المساهمة الأكثر أهمية التي قدمتها أمريكا للفكر الغربي منذ وضع الوثائق الفدرالية.
ولكن شعبية الفلسفة التايلورية القائمة على مفهوم البيروقراطية لم تعنِ أن الإدارة قد حلت مشاكلها، فقد ساهمت البيروقراطية في خلق مشاكل جديدة تجلت من خلال ردود أفعال العمال الذين رأوا فيها فلسفة تقيد الاستقلالية، وتدمر المهارات الحرفية، وتحول العمال إلى مجرد آلات؛ ولأنها سرعت وتائر العمل فقد زادت الإنتاجية والأرباح، وأبقت الاجور تلهث وراءهما بدون أن تدركهما.
ردود فعل العمال على كل هذا استفادت مما أحدثته التايلورية بتخفيضها للمهارات من معدلات دوران عالية في العمل، وهو ما ساعدهم في التجمع للمطالبة بأجور أعلى، والانضمام إلى نقابات العمال وتنظيم إضرابات.
واستجابة لذلك شدد المدراء الانضباط والسيطرة، وفرضوا تجانسًا أكثر من السابق، وقد تجلى ذلك في ممارسات هنري فورد الذي مارس المراقبة اللصيقة للعمال حتى في أوقات الفراغ.
وهو ما صعّد احتجاجات العمال وحرض مزيدًا من الصراعات.
أدت هذه التغيرات إلى اعتراف بعض التايلوريين بأثر الادارة العلمية في تصعيد الصراع الطبقي الذي يُفترض أنها صممت لتقليصه.
وصبّ بعض المهندسين اللوم على رجال أعمال استخدموا التايلورية استخدامًا خاطئًا بزيادة استغلالهم للعمال بدلًا من توسيع الإنتاج.
وهو ما تفتق عنه اقتراحهم أن تمتزج الادارة العلمية مع المنهج الجماعي للنقابات الانكليزية الذي يشرك العمال مع خبراء في تخطيط الإنتاج. وهو اقتراح لم يلق صدى لدى العمال؛ لأنهم توقعوا أن هذا الاقتراح سوف يستبدل بالمدراء قادة جددًا من ذوي التعليم العالي.
والحقيقة أن هذا الاقتراح لم يخرج من صندوق التايلورية؛ لأن اصحابه ظلوا ينظرون إلى العمال كشيء يمكن هندسته.
ولكن محاولات إصلاح الخلل لم تتوقف، فحاول بعض التايلوريين التوصل إلى اتفاقات مع النقابات لإنهاء الصراع الطبقي عن طريق وضع قواعد عمل تفاوضية وإجراءات تظلم.
وهي محاولات لم تنجح؛ لأن المدراء العلميين لم يتعاونوا مع النقابات إلا في حالات نادرة كانوا مجبرين فيها على ذلك، ولا سيما عند نقص اليد العاملة في الحرب العالمية وعلى إثر حملات منظمة للمطالبة بالحقوق في ثلاثينيات القرن الماضي.
محاولات أخرى جاءت من أمثال هنري دنسن وروبرت وولف وهما بعض ورثة تايلور الذين دعموا إنشاء أقسام لشؤون الموظفين تزيل عدم الانسجام وقد اتخذت محاولتهم أشكالًا عديدة تبعًا لخلفيات من يقف وراءها.
فبعضهم كانوا باحثين اجتماعيين أرادوا أن يحاكوا شركات الأعمال في دولة الرفاه التي قادت إلى تحسينات في مجالات عديدة كالصحة والأمن والإسكان ومرافق الترفيه.
آخرون كانوا أساتذة أرادوا أن يجعلوا المؤسسة مدرسة تسعى إلى ترقية المهارات وترسيخ المهنية ووضع العمال في مواقع مناسبة لمعرفتهم.
بينما نظر آخرون إلى أنفسهم كتقدميين يحاولون أن يجلبوا الديموقراطية إلى الشركة بمنح العمال أصواتًا لبعض القضايا.
في المحصلة لم يستطع أي من هؤلاء أن يتجاوز التايلورية، وظلوا يحبسون الموظفين في قفصها بستره بستائر من قطن.
كل هذا فرض التزود بأساليب جديدة لمعالجة الاختلالات في تطبيق التايلورية من خارج فضائها.
فطور العديد من الأكاديميين في العشرينيات أساليب جديدة للتعامل مع هذه الاختلالات، فصمم علماء نفس اختبار ذكاء شبيهة للاختبارات المستخدمة في المؤسسة العسكرية؛ من أجل مساعدة المدراء في اختيار موظفين لأعمال محددة.
وعمد علماء اجتماع إلى نقل أبحاث من العلاقات الاجتماعية إلى العمل بالتركيز على استخلاص معلومات تساعد المدراء، وقد كان باحثو هارفارد روادًا في تلك المحاولات في الثلاثينيات، حيث أجروا دراسات عن التعب وآثار الاضاءة على الإنتاج، ولكن هذه الدراسات استُثمرت من جانب المدراء استخدامًا خبيثًا بمحاولتهم خداع العمال من خلالها من أجل تعظيم الإنتاج.











الفصل الثالث
مدرسة العلاقات الإنسانية ومحاولة معالجة جوانب قصور التايلورية
كان فشل المحاولات كفيلًا بتقنين مفاهيم إدارية جديدة عبر عنها بوضوح طبيب النفس الأسترالي إلتون مايو الذي كان متأثرًا إلى حد كبير بعلم النفس الاجتماعي لدوركهايم.
وكان مايو قد أشرف على تجارب من النمط الذي تحدثنا عنه آنفًا في شركة ويسترن الكتريك الأمريكية في مصانع هاوثورن في شيكاغو، ولهذا سميت تجاربه تجارب هاوثورن ، ومن أهم هذه التجارب تجارب الإضاءة وتجارب غرفة التجميع .
اعتقد مايو أن التصنيع وتدمير النظام الحرفي قد تسببا في التفكك الاجتماعي والسلوك غير المنضبط، وجعلا العمال يعانون من خلل في علاقاتهم الاجتماعية مع غيرهم من الناس ناتج بشكل أساسي من عدم الثقة برؤسائهم، انعكست على علاقاتهم الأخرى.
وهو ما ساهم فيه المدراء باهتمامهم بالفعالية الاقتصادية أكثر من اهتمامهم بالتضامن الاجتماعي، وهو ما ألجأ العمال الى اصطناع مجموعات عمل غير رسمية، وهي مجموعات لم تكن في نظر مايو إيجابية؛ لأنها أعاقت النمو الاقتصادي، ولذلك فقد اعتبر مايو مشكلة الإدارة الفعلية هي عينها مشكلة الحضارة الصناعية، وليست المركزية والتخصصية المتأصلتين في البيروقراطية.
ولأن مايو اعتبر شذوذ العمال تجليًا من تجليات خلل الحضارة الصناعية صابًا اللوم على العمال، فقد كانت رؤيته تقوم على نموذج لإدارة ودية تكيف العمال مع الحياة البيروقراطية عن طريق جعل مجموعاته الرسمية منسجمة مع أهداف الإدارة.
سوف يقتنع العمال -كما يأمل مايو- أن المدراء أصدقاؤهم، وأن البيروقراطيات مجتمعات محلية، ومن ثم سوف يمنحون إحساسًا بالمشاركة والتحرر من القيود، ولكن التخصص والمركزية سوف تبقيان.
وما سيشارك فيه العمال هو القرارات الاجتماعية فقط مثل ألوان الجدران، وليس القرارات الإدارية للمنظمة أو موظفيها. وسوف يكتشفون حلولًا لمشاكلهم الشخصية عبر مشاورات ودية.
وهي رؤية وصفها رايت ميلز بأنها تلاعب بعواطف العمال لخلق جزر نعيم زائفة وسط مستنقعات بؤس.
الفصل الرابع
ما بعد التايلورية ومدرسة العلاقات الإنسانية
انتقد باحثون عديدون مدرسة العلاقات الانسانية لمايو لمحاولتها معالجة اختلالات البيروقراطية من دون الغوص إلى جوهر عيوبها.
لقد افترضت مدرسة مايو أن المؤسسة البيروقراطية مؤسسة خيرة ومنسجمة طبيعيًا، وأن مقاومة العمال هي الظاهرة المرضية، ولهذا فقد اقترحت المدرسة أن الاشراف الأبوي والصداقة يمكن أن يجعلا العمال يشاركون المدراء بسهولة. وهو منطق رفضه الكثيرون لأنه اعتبروه مجرد مسكنات لمحاربة وباء.
استمر علماء الاجتماع في دراسة الصراعات في المؤسسات خلال عقد ي الأربعينيات والخمسينيات، وأشاروا إلى الكيفية التي قيدت بها النتائج غير المقصودة للبيروقراطية حرية العمال، وكيف ولد نظامها السلطوي سلوكًا متمردًا، وكيف قضى فصل التخطيط عن العمل على المهارات الهندسية والريادية، وما أدى إليه كل ذلك من صراعات قوضت الإنتاج والأرباح.
وقد قادهم تشخصهم للحالة إلى تبني فلسفات سياسية هي تنويعات على الاشتراكية في الدرجة الأولى.
فلسفات صنفت بين الليبرالية الكلاسيكية ونموذج الشركة الخاصة من جهة، واشتراكية الدولة وحكومة الحزب الواحد من جهة أخرى.
وهو ما يؤكد ما افترضناه من تأثير السياق بأبعاده المختلفة على الفكر الإداري، فقد راح الراغبون في إصلاح التايلورية ومدرسة العلاقات الإنسانية يطلبون العون من فلسفات عصرهم، ويحذرون من فلسفات سائدة تريد أن تهيمن على الفكر الإداري.
ضمت هذه الاتجاهات أرستقراطيين محافظين، ورجال دين مثل البابا ليو الثالث عشر، وفوضويين، ومفكرين اشتراكيين حالمين مثل سان سيمون وبرودون ، وقادة عمل حرفي مثل بلانك وعلماء اجتماع بورجوازيين مثل دوركهايم وصناعيين تكنوقراطيين مثل ارنست مرسيه وفاشيين مثل موسو ليني.
تشارك كل هؤلاء العداء لليبرالية التي رأى اليمينيون أنها غير فعالة ومدمرة للنظام الاجتماعي التقليدي، و اعتبرها اليساريون خطرة على أمن وتضامن الطبقة العاملة.
كما تشاركوا العداء للاشتراكية الماركسية التي رأى اليمينيون أنها تهدد حقوق الملكية الخاصة، ورأى اليساريون أنها تهدد السيطرة المحلية والحكم الذاتي.
إضافة لذلك تشاركوا الانجذاب إلى المجتمعات الاقتصادية المنسجمة، واعتقدوا أن الانسجام قيمة معادية للفردانية والصراع الطبقي، وأنها يمكن توجد نظامًا جديدًا.
وتصوروا مجتمعات منتجين جديدة متحدة بواسطة أهداف جماعية ومؤلفة من أعضاء، أهدافهم الفردية يمكن أن تنجز من خلال أهداف اجتماعية.
ونتيجة لذلك فقد اقترحوا اتباع أساليب غير سياسية يمكن أن تتوسط بين الطبقات المتصارعة تتمثل في نقابات العمال والتجمعات الأخرى، أما الديموقراطية فقد كانت فكرتها عن صوت واحد لمواطن واحد موضع خشية من جانب اليمينيين؛ لأنها يمكن أن تهدد سلكتهم الراسخة وميزاتهم
وللسبب نفسه غالبًا ما رفض رجال الأعمال اليمينيون ممارسة التعاون الذي نادوا به ما عدا في فترات الحرب أو ظروف محددة امتلك فيها العمال قدرة تفاوضية.
توقع رجال الدين والفاشيون والمحافظون والبورجوازيون من العمال أن يشاركوا بشروط مفضلة للنخب، وكانوا لا يتوانون عن استخدام الإكراه عندما يرفض العمال أن يطيعوا.
وفقًا لذلك، فإن المؤسسات التي أسسها اليمينيون كانت قمعية كما شوهد في إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية وفرنسا الفيشية.
واستمروا رغم ذلك في ادعاء أن مؤسساتهم تعاونية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية التي أضعفت مصداقيتهم، ومنحت بعض الشرعية لليسار الديموقراطي الذي حققت اتفاقياته بعض النجاح.
في أمريكا هيمن رجال الأعمال اليمينيون على الساحة، وكانوا يتصرفون كما لو أنهم يأخذون إشارات من سانت سيمون، و يلقون بالفوضويين واليوتوبيين اليساريين إلى الهوامش.
الرواد الأمريكيون من مثقفين تقدميين وعلماء سياسة واقتصاديين و علماء اجتماع وعلماء نفس ومهندسين كلهم امتلكوا وتبنوا أخلاقيات تعاونية.
أرادوا أن يستخدموا المناهج العلمية لإزالة الصراعات الاجتماعية، والقضاء على عدم الفعالية الاقتصادية، وحاولوا أن يتجنبوا ممارسة السلطة الصريحة مفضلين عليها الأساليب التثقيفية، وقد عبرت عقليتهم الإدارية عن رفض الليبرالية الكلاسيكية والماركسية، وبحثوا عن شكل جديد للرأسمالية الإدارية.
كان رائد هذه الرؤية ادوارد بيلامي الذي كان بورجوازيًا ومهنيًا، وقد تبنى العديد من المهنيين رؤيته وكتبت شروحات عديدة لها، وأصبح السعي حثيثًا نحو الانسجام.
المفارقة أن التايلورية نشأت في نفس البيئة الاجتماعية والفكرية للجماعاتية، وتايلور نفسه أراد أن يخلق انسجامًا طبقيًا، وتوقع أن الأعمال التي يصوغ خططها خبراء ستكون ذات نفع للفرد والمؤسسة.
وعلاوة على ذلك، فقد كانت دعوته إلى ثورة ذهنية معتمدة على لغة تعاونية خصوصًا عندما دعا إلى إدارة معتمدة على تعاون وليس إلى ادارة فردية . لكن فكرته عن المدير العلمي كانت غامضة بما يكفي لكي يفسرها أتباعه تفسيرات متضاربة، فقادتهم أبحاثهم عن العقلانية والانسجام بسرعة إلى الانقسام الى مدرستين فلسفيتين:
البيروقراطيون ما بعد تايلور.
والتعاونيون ما بعد مايو.
بقي معظم البيروقراطيين مقتنعين أن الحكومة العقلانية قد جاءت من السيطرة التراتبية والمهام التخصصية والمدراء المهنيين. وبقي التايلوريون المتأخرون يزدرون حكم غير المهنيين، وظلوا يحلمون ويبشرون بالمدير العالِم.
وسعيًا وراء الانسجام الذي وعد به تايلور، ولم يف بوعده، فقد حاولوا أن يتجاوزوا التايلورية، وبحثوا عن نظريات جديدة وتقنيات جديدة لحكم بيروقراطي يمكن أن يعالج مواضع الخلل.
في أواخر الثلاثينيات وأوائل الاربعينيات اتجهوا نحو ما ظنوه يحقق مبتغاهم، وهو النطاق الخالي من القيم، وهي طرق الرياضيات التي لا تأبه للقيم في صنع القرار ولنماذج اقتصاديات تشرح ميزات البيروقراطية وإلى نماذج محاكاة تكنولوجية تسهل السيطرة.
أما التعاونيون ما بعد مايو فقد بحثوا عن تحقيق مجتمعات مايو التعاونية، ولكنهم شكوا في إمكانية تحقيق الانسجام بدون لا مركزية في السلطة وتوحيد المهام، وبحثوا بناء على ذلك عن تفسير لمواضع الخلل في البيروقراطية، وهو ما قادهم إلى العلوم الاجتماعية والنفسية التي استفادوا من تقنياتها في أواخر الثلاثينيات، فأجروا تجارب على الأساليب الديموقراطية للقيادة وخلال الحرب أجروا تجارب على الإدارة التشاركية.
وفي الخمسينيات استخدموا افكارًا مثل فكرة تحقيق الذات لشرح الصراعات الناتجة عن التايلورية، ولتوجيهها الى الانسجام في العمل.
اعتبر البيروقراطيون التعاونيين فوضويين مهتمين بالانسجام الاجتماعي كغاية بحد ذاته، وواضعين رفاه الموظفين كأولوية تسبق بقاء المؤسسة.
بينما قال التعاونيون إن البيروقراطيين مستبدون يعاملون الناس كأدوات، وهو ما ينذر ليس بالقضاء على نموذج المؤسسة الرأسمالية وإنما على الرأسمالية ذاتها في المدى الطويل.
ومع كل هذا الخلاف تداخلت المدرستان الإداريتان، فتحول البيروقراطيون إلى لغة وتقنيات تشاركية عندما تعثرت مقارباتهم، ودافعوا عن إدارة تعاونية من أجل إقناع الناس بضرورة التعاون مع التكنوقراط.
وبالمقابل قبلت نظريات التعاونيين كسر التقاليد البيروقراطية بقبولهم مركزة السلطة والأعمال التخصصية، ونحت جهودهم منحى تكييف العمال مع البيروقراطية عندما واجهوا بعض المشاكل.
فعليًا كرر التعاونيون في أمريكا سلوك أسلافهم من اليمينيين الأوربيين، فبشروا بالتعاونية ومارسوا الخداع بانتهاج عكسها.




















الفصل الخامس

نظرية النظم
أثبت تجاوز تايلور ومايو صعوبة في أنه يمكن للتعاونية أن تتحول إلى بيروقراطية ويمكن للبيروقراطية أن تتحول إلى تعاونية، وهذا يثبت أن كلا منهما كان نوعًا مختلفًا لجنس واحد، وأن الفلسفة التعاونية كانت مجرد تمويه أيديولوجي فضله البيروقراطيون. ولكن نظرًا للتصميم الذي مارسه الناس في مجتمع الإدارة على السعي للكفاءة والانسجام، فقد كانت التعاونية حالة مثالية قال البعض إنهم يعملون على إنجازها بينما كانت البيروقراطية حالة واقعية قبلتها الغالبية.
بدأ استخدام الرياضيات في حل المشاكل الإدارية في بريطانيا في أواخر الثلاثينيات، حيث رغب سلاح الجو الملكي في اكتشاف كيفية استخدام الرادار بشكل فعال، وجند لذلك فريقًا من فيزيائيين ورياضيين. بعد ذلك استخدم سلاح البحرية فريقًا متنوع الاختصاصات لاكتشاف العمق المناسب لتفجير الغواصات.
ثم استخدم الأمريكان هذه الأساليب بدءًا من عام 1942 في مجالات عديدة.
بعد الحرب العالمية الثانية اعتمدت هذه التقنيات، وأصبحت نماذج لعمليات الباحثين في مجال الأعمال. وظهر عمل جورج كمبل وفيليب مورس الذي جمعا فيه تقارير تشرح التقنيات الرياضية وتناقش كيفية تطبيقها على الأعمال واطلق على هذا العمل اسم طرق بحوث العمليات. ونشر عام 1951.
المشاكل الإدارية التي سببتها التايلورية مثل صعوبة فهم كل الأجزاء جراء تشظية العمليات وتجزئة الأقسام والتي قادت الى عدم تناسق والى فعاليات متصارعة مثل الصراع بين قسم الهندسة الذي يفضل إنتاجًا استاتيكيًا يتبع خطوات محددة وقليلة وقسم التسويق الذي يفضل إنتاجًا ديناميكيًا تبعًا للطلب وبخطوات معقدة ومتغيرة.
جعل العلماء يحاولون تقديم أدوات جديدة لإدارة تحقق الانسجام، ومنها بحوث العمليات التي تسعى إلى تزويد المدراء بأساس علمي لحل المشاكل بطريقة تتضمن تفاعل عناصر المنظمة لتحقيق المصلحة الأكبر للمؤسسة ككل.
نظر رواد بحوث العمليات إلى المؤسسة كمنظومة متكاملة وليس كما نظرت إليها التايلورية كعمليات منفصلة، ولكنهم بنوا على التايلورية ولم يدفنوها، فقد ظلوا على الاعتقاد بضرورة تقسيم العمل وفصل التخطيط عن العمل، ولكنهم تجاوزوها بتطوير تقنيات منسجمة أكثر مع نظرية النظم، وذلك بافتراض أن الإنجاز الأفضل يكون عبر:
توضيح أهداف الشركة ككل.
التأكد من الأهداف الفرعية لكل جزء منسجمة مع الأهداف الكلية.
وتوحيد عمل كل جزء على حدى.
اعتبر رواد بحوث العمليات المؤسسات شبكات اتصال والمديرين منظمين للمعلومات ومتحكمين بالسلوك، وهي اعتبارات كان لا بد لها أن تهيمن بسبب استعارة بحوث العمليات نموذجها من عالم الاتصالات والسيبرنطيقا.
وقد تناسب نموذج تفكير النظم بشكل طبيعي مع أهداف التكنوقراط كما لاحظ عالم الاجتماع روبرت لينفيلد
وفي تأصيل لها يقول لينفيلد إن نظرية النظم هذه شكل جدي للأيديولوجية العضوية التي عبر عنها محافظون في القرن التاسع عشر.














خاتمة
يتضح مما سبق أن التايلورية ولدت من رحم الظروف المحيطة بها، وأنها لم تكن إلا استجابة لهيمنة الرأسمالية، وفلسفتها، ونهوضها وتعثرها، وأن إهمالها للبعد الإنساني لا يمكن فصله عن كونها إحدى تجليات الليبرالية النخبوية التي ساهمت هي في تكريسها.
وقد تبين بالممارسة أن ما جاءت التايلورية لمعالجته قد فاقم المشاكل، فقد كان إهمال البعد الإنساني، وما نتج عنه من تصعيد الصراع الطبقي، وارتفاع وتيرة احتجاجات العمال على فقدانهم استقلاليتهم، كلها عوامل ساهمت في جعل الإدارة العلمية التايلورية غير قادرة على تحقيق ما تصبو إليه من تعظيم للإنتاج وتخفيض للتكاليف.
وكانت محاولات مدرسة العلاقات الإنسانية رد فعل واضحًا على إخفاق التايلورية، واقتراحًا لمعالجة جوانب القصور فيها، ولكنها بقيت محاولات داخل الصندوق، ولم تستطع أن تجد حلولًا جذرية؛ لأنها ظلت تنظر إلى المبادئ المؤسسة للرأسمالية، و إلى المؤسسة البيروقراطية على أنها مبادئ ومؤسسة لا يعتورها النقص، ولذلك لم تستطع أن تستر عيوب سابقتها.
وقد كان الحل لمشاكل النظريتين السابقتين بتوسل فلسفات من خارج الحقل دليلًا على أن للسياق دورًا فاعلًا في تطور الفكر الإداري، وما لجوء منظري الإدارة اللاحقين إلى فلسفات اشتراكية وغيرها، وإلى الاستعانة بنظريات علم الاجتماع وعلم النفس المعاصرة لهم إلا دليل قاطع على علاقة الفكر الإداري بالسياق.
أما الصراع والتفاعل بين البيروقراطيين ما بعد تايلور والتعاونيين ما بعد مايو، وتقديم كل منهما تنازلات للآخر فهو مؤشر أكيد على أن الفكر الإداري تتنازعه بيئتان: بيئته الداخلية، وبيئته الخارجية.
وواضح من العرض السابق أن البيروقراطيين اللاحقين لتايلور والتعاونيين اللاحقين لمايو، كانوا يصدرون في صراعاتهم أو محاولاتهم التوفيقية عن مزاج عام لا ينفصل عن المنظومة الفكرية المهيمنة، وأن نظرية النظم التي وجدت الحل في إقصاء القيم هي رد فعل على ما يسببه تنازع القيم الذي تُشحن به النظريات السابقة من مشكلات لا سبيل إلى حلها.


توصيات
- إن الفهم العميق لنظريات الفكر الإداري غير ممكن بدون الحفر عميقًا في السياق العام الذي تولد النظريات من رحمه، فعبر فهم هذا السياق يمكن الكشف عن الفلسفة الكامنة خلف مبادئ النظريات.
- إن النظريات لا تبدأ من نقطة صفر، وسيكون منهجًا عقيمًا محاولة عزلها لدراستها مفصولة عما سبقها، وعن تأثرها بنجاحاته ونقاط ضعفه وقصوره.
- إن الشحنات الأيديولوجية تتغلغل إلى داخل الفكر الإداري بالضرورة؛ بحكم تداخل مجالات المعرفة، وهي مجالات تتأثر بالأيديولوجيات السائدة، عمدًا أو بدون عمد.
- لا تزال نظريات الفكر الإداري بحاجة إلى تطوير، فقد اتضح أن الاستناد إلى الفكر التجريبي الذي لا يقيم وزنًا للقيم معضلة من معضلات النظريات الإدارية في العالم الرأسمالي، وربما كان استيراد هذه النظريات وهي على حالها هذه سببًا في الفشل في تجذيرها في بيئات أخرى.















المراجع
-العربية

1- اريك هوبزباوم، عصر رأس المال، ترجمة فايز الصباغ، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2008.
2- رعد حسن الصرن، نظريات الإدارة والأعمال، دراسة لـ 401 نظرية في الإدارة وممارساتها ووظائفها، دار الرضا، دمشق، 2004.
3- صلاح الشنواني، إدارة الأفراد والعلاقات الإنسانية، مدخل الأهداف، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1994.
4-كامل برير، الإدارة عملية ونظام، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1996.
-الأجنبية
5-Drucker, Practice, Academy of Management, 2003
6-F. W. Taylor, Principles of Scientific Management, p. 128. For the popularity of Taylor s philosophy, see Haber, Efficiency and Uplift Stabile, Prophets of Order Merkle, Management and Ideology.
7- Robert Hollinger, The Dark Side of Liberalism: Elitism vs. Democracy, Contributors: Robert Hollinger - Author. Publisher: Praeger. Place of publication: Westport, CT. Publication year: 1996.
8-Stabile, Prophets of Order Wiebe, Search for Order
9-Stephen P. Waring, Taylorism Transformed: Scientific Management Theory since 1945, University of North Carolina Press, Chapel Hill, NC, .1991



#مناف_الحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنا في اليونان( عالمان وعالمة)
- اخرج منها يا ملعون!
- فلنطلق ثورتنا الآن
- أسئلة مختلفة ومنهج إجابة واحد
- ليبرالية رورتي (مفاهيم يجب أن تصحح وتحفظات)
- في البحث عن جذور الإرهاب
- مبادرة الخطيب
- ذكريات من أجل المكاشفة (لهذا الطباق أطروحته)
- داعش والفوات التاريخي
- الاتفاق النووي الإيراني :آفاقه وتحدياته
- لماذا انخفضت نسبة نجاح بشار الأسد ؟
- مقدمة بحث عن الدولة والقبيلة
- الكتل المتصارعة
- أحزاب الأزمات
- لا ديمقراطية بدون فردية
- الموت إحساساً بالذنب
- صديقي (س)
- في ذكرى السابع من نيسان
- لا تستخدموا الإسلام كأداة تسويق واسترضاء للأكثرية
- شبكات الثقة والتحول الديمقراطي


المزيد.....




- الحق اشتري.. سعر الدولار اليوم في السوق السوداء وجميع البنوك ...
- الكل هيتجوز دلوقتي “اسعار الذهب اليوم عيار 21 يتراجع من جديد ...
- مبادرة نسوية لإنتاج الخبز في خيام النزوح
- بن غفير يصف اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله بـ-الخطأ التار ...
- إيران تعلن التزامها باستمرار صادرات الغاز إلى العراق
- توقيف 4 موظفين في شركة أجنبية لتعدين الذهب في مالي
- فاكهة الشتاء الذهبية.. أكبر 10 دول تنتج وتصدر -الكاكا- بالعا ...
- كالكاليست: حكومة نتنياهو تفشل في التخطيط لإعادة الإعمار
- السعودية تقر موازنة 2025 بعجز متوقع بـ27 مليار دولار
- ماذا قالت ميركل في مذكراتها -حرية- عن ترامب وبوتين وقضايا سي ...


المزيد.....

- الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي ... / مجدى عبد الهادى
- الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق / مجدى عبد الهادى
- الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت ... / مجدى عبد الهادى
- ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري / مجدى عبد الهادى
- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - مناف الحمد - تطور الفكر الإداري بين سياقين