هل كانت هذه الحرب الدموية هي الطريق الوحيد للإطاحة بنظام صدام حسين؟ أم أن أهدافها الأبعد هي التي عجلت باندلاعها..؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من عودة إلى الماضي القريب.
يروي زميل صحفي عراقي غادر العراق إثر حرب الخليج الثانية، أن مسؤولا من وزارة الخارجية الأمريكية التقاه في أول أيام رحلته للمنفى في العاصمة التركية وحاوره حول الأوضاع في العراق، وخطط الأمريكان لفرض قرارات الأمم المتحدة للحصار الاقتصادي باعتبارها وسيلة للضغط على النظام وإسقاطه.
يقول الزميل: قلت له إن صدام حسين سيقبل كل القرارات الدولية إلا قرارا واحدا هو القرار 688، ومن سوء الحظ فإن هذا القرار لم يندرج في لائحة القرارات الواجبة التنفيذ.. يضيف الزميل: استغربت تماما من أن الموظف الأمريكي الدبلوماسي سألني: وما هو فحوى هذا القرار؟
ويضيف: بعد أن أوضحت له القرار وطبيعته قلت له: إنه القرار الوحيد الذي يمكن أن يسقط النظام دون حرب..
سكت ولم يعلق..
ولعل هذا مدخل مفيد للوقوف على طروحات سياسية سبقت اشتعال الحرب. في أوساط المعارضة العراقية كان هنالك ثلاثة تيارات أولها يقف في مقدمته حزبا (الدعوة) و (الشيوعي) ومستقلون ديمقراطيون وإسلاميون ظل يحاول نفخ الروح في هذا القرار ومحاولة اتخاذه وسيلة لإسقاط النظام. والثاني كان يتحدث عن هذا القرار بين الفينة والأخرى دون أن يعطيه تلك الأهمية، أما الأخير فأغفل القرار وسعى لإقناع الإدارة الأمريكية بأن لا وسيلة لإسقاط النظام سوى الحرب. وصور هذا التيار للإدارة أن الحرب ستكون (نزهة) للقوات الأمريكية، فما أن تندلع شرارتها حتى يلتحق بها كل أبناء الشعب العراقي، ولعل هؤلاء لعبوا دورا كبيرا في (توريط) التيار الداعي للحرب في الإدارة الأمريكية للتعجيل بإشعالها.
وأعترف بأنني شخصيا، حالي حال عدد كبير من عراقيي الشتات المستقلين المتابعين للأحداث، سلمنا بالمنطق القائل بأن النظام لن يجد من يدافع عنه، لمعرفتنا التفصيلية بمواقف هذا النظام ودمويته وإرهابه ومصادرته للحريات، والتي أضعفت الروح الوطنية العراقية، يضاف لها الممارسات اليومية له وحاشيته في الشارع العراقي والتي جعلته نظاما ممقوتا من أغلبية السكان. وأختلف هنا مع من يحاول أن يصور تلك الممارسات بأنها استهدفت طائفة معينة من طوائف العراق، فقد كان الإرهاب موزعا على جميع العراقيين، والأمثلة لا تعد ولا تحصى. كما أختلف مع الذين يصورون نظام صدام حسين بأنه نظام طائفة، فهو وإن كانت على قمة هرمه السياسي مجموعة من طائفة معينة، إلا أنه نظام ذو طبيعة ايديولوجية قومية فاشية يضم في قيادته وقواعده أفرادا من مختلف الطوائف والقوميات بل إن بعض أبناء الطوائف كانوا أشد قسوة وعدوانية ضد أبناء طائفتهم من الطوائف الأخرى، وما حصل أيام انتفاضة آذار أكد هذه الحقيقة وعكس طبيعة المجموعة الحاكمة وحزبها..
استنادا إلى ذلك أسقطنا من حساباتنا خطأ الحساسيات التاريخية للعراقيين من الاحتلال الأجنبي، فماذا حصل فعلا؟
عشية إصدار الرئيس الأمريكي إنذاره للرئيس العراقي بالتنحي أعلنت الإدارة الأمريكية على لسان الناطق الرسمي اري فلايشر أن الجيش الأمريكي سيدخل أراضي العراق حتى لو امتثل صدام حسين للإنذار وغادر البلد. جاء هذا بعد (تسريبات) إعلامية حول تعيين حاكم عسكري للعراق وتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق إدارية يديرها جنرالان متقاعدان وسفيرة سابقة.. الخ.. وغيرها من الأنباء التي خلفت ردود أفعال في الشارع العراقي ، وحتى في أوساط بعض أطراف المعارضة العراقية التي كانت لا تعارض الحرب علنا..
انتهت مهلة الإنذار واندلعت الحرب.. وجاء خطأ قاتل آخر حين رفع العلم الأمريكي في جانب من قضاء أم قصر بعد اقتحامه، وفوجئ الجميع بالمقاومة بعد أن كانوا يتوقعون أن يحصل ما حصل في انتفاضة آذار 1990 بعد أن تشعل الحرب الشرارة.
في انتفاضة آذار 1990 التحم المنتفضون حول أبنائهم وإخوانهم، فحين كان العراقي البصري أو الناصري أو العماري أو النجفي أو الكربلائي يرى ابن عشيرته على رأس مجموعة منتفضين يلتحق به فورا منطلقا من إيمانه أن قضيته وقضية ابن عشيرته واحدة. حتى أن عددا من منتسبي حزب السلطة وبعض أعضاء مجلسها الوطني التحقوا بالانتفاضة، حين تلفت الناس صبيحة اجتياح أم قصر رأوا وجوها غريبة لا يمكنهم أن يثقوا بها، خاصة وأنها خذلتهم في انتفاضتهم الأولى، أيضا كانت قد سبقتها أخبار حرصت السلطة على ترويجها بين السكان حول تمويل الحرب من نفط العراق وحول مشاريع خصخصة قطاعات النفط وغير ذلك من أنباء تشير إلى عملية )شد أحزمة على البطون( من جديد ولصالح الأجنبي لاستفزاز مشاعرهم. هذا بالإضافة إلى الإرث الذي تحمله هذه الأجيال عمن سبقها حول الأجنبي والاحتلال وثورة 1920 والإنكليز، فالتفت قطاعات واسعة حول قضية (محاربة الاحتلال) والذين يعرفون مناطق العراق جيدا وأم قصر بالذات لا يمكنهم أن يصدقوا أن ثلاثة أيام من قتال المارينز المدربين في أم قصر كان ضد منظمة حزبية أو مجاميع عسكرية من الجيش النظامي، وهو جيش أتعبته الحروب وأنهكته السلطة نفسها بممارساتها القمعية والعدوانية..
إن الذي يحصل الآن هو مواجهة للاحتلال سببها السياسة الأمريكية قبل الحرب، وما حدث بعد اندلاعها والإصرار على لغة الاحتلال واستبعاد الأمم المتحدة وتجاهلها.. ولعل أبرز ما اكتشفته الإدارة الأمريكية من أيام الحرب الماضية هو أنها اعتمدت قبل بدء عملياتها العسكرية على معلومات قدمها (مستعرقون) لا يعرفون شيئا عن طبيعة المجتمع العراقي بحكم سنوات ابتعادهم الطويلة عن الوطن، وكانوا يحولون المبالغات اليومية إلى نوع من الحقائق، فسهلوا الأمر للإدارة الأمريكية، وفرشوا لها الطريق بالورد.
اليوم وكلما اشتد القصف الجوي والمدفعي على المدن، وكلما ازداد إيذاء المدنيين الفقراء ستزداد شراسة المقاومة.
قد يسقط صدام حسين غدا أو بعد أسبوع، وسينتهي النظام، ولكن مستقبل الوجود الأمريكي في العراق سيكون مرهونا بثارات لا تستطيع عقول (المستعرقين المرتاحين) في لندن أو واشنطن، أو الإدارة الأمريكية فهم تعقيداتها، حيث لن ينسى عراقيون، تفسخت جثث أبنائهم في طريق النجف أو الناصرية أو البصرة، من قتل هؤلاء الأبناء.. ونسأل مرة أخرى.. هل كان وضع القرار 688 في الخانة التي وضع فيها خطأ سياسي أم أنه تعمد لتنفيذ خطة بعيدة المدى؟ وهل كان تجاهل الإدارة الأمريكية خلال السنوات اللاحقة سماع الأصوات الوطنية العراقية التي طالبت بتفعيله هو الآخر خطأ سياسي؟ أم أنه إصرار على تنفيذ الخطة التي يتناقلها العديد من خبراء السياسة حول إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط السياسية والاقتصادية، ووضع اليد على أسعار النفط في المستقبل بعد إنهاء الأوبك، التصريحات التي أطلقها مسؤولو الإدارة الأمريكية منذ بداية الحرب والتي تصر على استبعاد الأمم المتحدة حتى في مرحلة ما بعد الحرب قد تجيب على السؤال الأخير..
نعم .. الدكتاتورية ساهمت بحماقاتها وجرائمها في إشعال هذه الحرب، والعراقيون يكرهون دكتاتورية صدام حسين وزمرته، ولكنهم، في الوقت نفسه، لا يحبون الاحتلال. تلك هي القضية التي لم تفهمها الإدارة الأمريكية لحد الآن..
إنهم يواجهون الاحتلال ولسان حالهم يقول:
اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وانصرنا عليهم أجمعين..
صحفي عراقي / كندا