|
الهدية الملغومة
جاسم ألصفار
كاتب ومحلل سياسي
(Jassim Al-saffar)
الحوار المتمدن-العدد: 6291 - 2019 / 7 / 15 - 21:43
المحور:
سيرة ذاتية
الهدية الملغومة في سبعينات القرن الماضي، وبينما كنت عائدا من المسرح الكبير (البولشوي) في موسكو بعد مشاهدة عرض باليه "لوجافيرول" أو نجمة الصباح للشاعر السوفيتي ميخايا ايمينسكو (من الشعراء الملدافيين)، غادرت مترو دوبرينينسكايا لأقل باصا يوصلني الى القسم الداخلي الجامعي الذي كنت اقيم فيه. كان الجو باردا والثلج يهطل بكثافة والوقت كان متأخرا. لذا فكانت الباصات نادرة في ذلك الوقت من الليل. صادف ان رجلا روسيا كان ينتظر الباص في المحطة، ويبدو عليه البرد وتأثير خمرة شربها في حانة قريبة. وحال اقترابي منه سألني عن الوقت ففهمت انه ضجرا بسبب طول الانتظار ويحتاج لمن يتكلم معه. بدأنا الحديث بالتعارف كالعادة، فقال لي معرفا بنفسه انه باحث علمي في مجال البيولوجيا، وهو مجال قريب من اختصاصي الدراسي في علوم الزراعة، لذا تواصل الحديث في المجال العلمي. بعدها سألني من اين اتيت في هذا الوقت المتأخر والى اين انا ذاهب، فأجبته بأني كنت في مسرح البولشوي (الكبير) بعد مشاهدتي لعرض باليه وانا عائد الى سكني في القسم الداخلي للطلاب. سألني عن العرض وانطباعاتي عنه، فحكيت له رأيي الذي على ما بدى لي قد اعجبه وتأثر به كثيرا، لدرجة انه مد لي حقيبة جلدية كان يحملها وقال لي: "هنا ستجد ما يمكن تناوله في العشاء". ومع محاولاتي الاعتذار عن قبول هديته الا انه اصر الا ان اخذها منه. والروس معروفون بكرمهم خاصة اذا ما كانت الخمرة قد فتحت الباب على نفوسهم الطيبة. عدت الى القسم الداخلي وفي يدي حقيبة جلدية ثقيلة كان في داخلها انواع غالية من اللحوم المقددة والصوصج والزبدة ومعلبات الكفيار وحتى الخبز الاسود. مما يؤكد ان صاحبها كانت له علاقات بمحلات بيع الاغذية المستوردة التي يصعب الحصول عليها في الاماكن العادية التي يتسوق منها عامة الناس. وهو بالتالي، حسب تصوري كان يعمل في مختبرات تابعة لأجهزة الرقابة على المواد الغذائية. تناولت مع زملائي في الغرفة جزء من محتويات الحقيبة ووضعنا الباقي في كيس، علقناه من خلال النافذة الى الخارج، الذي هو بمثابة الفريزر بالنسبة لنا، لكي يبقى محافظا على صلاحيته للايام القادمة لأننا لم نكن نملك وقتها ثلاجة لحفظ الاطعمة. أما الحقيبة فقد بقت عندي محتفظة باناقتها حتى هذا اليوم. تمر السنوات لأنتقل من موسكو الى قرية قريبة من مدينة بيرسلافل التابعة لاقليم يرسلافل، لدواعي البحث العلمي وكتابة رسالة الدكتوراه، ويقدر لي ان اتزوج هناك واستقر في فضاء القرية الرحب بطبيعته وبساطة وطيبة اهله، بعيدا عن ضوضاء العاصمة وكسبا للوقت الذي كنت اضيعه في التنقل بين اطرافها المتباعدة سواء للتواصل مع اصدقائي ومعارفي او لقضاء حاجاتي الاخرى كالتسوق وغيرها. ذات يوم عادت زوجتي من العمل لتخبرني بأنها قرأت في صحيفة متخصصة بنشر برامج التلفزيون في قنواته المعدودة ايام الاتحاد السوفيتي، وكان من بين ما قرأته اعلان عن فلم سينمائي عن هدية في شنطة دمرت مستقبل من استلمها، وهي تغمز مذكرة اياي بشنطة المواد الغذائية التي حكيت لها عنها. شاهدنا احاث الفلم السينمائي في وقته المعلن في الصحيفة، وكان يعرض لمشكلة اخوين احدهما حقق نجاحا في مسيرته الشخصية والعلمية فاصبح رئيس قسم متخصص في علوم البيولوجيا، متزوج وله اطفال يعيشون في بحبوحة وفرة مادية لا بأس بها في ذلك الوقت. أما الاخ الاخر فكان يحاصره الفشل في حياته الشخصية والمهنية ولم يحصل الا على مهنة عامل في البريد والاتصالات، بمرتب متواضع ويعيش وحيدا بعد زواج فاشل، لذا عاقر الفودكا وعاش حياة ضنك مادي. كان الاخ العامل حانقا على اخيه حسدا وبسبب شعوره بأن اخيه يقصر في تقديم المساعدة المادية له رغم تمكنه. وفي امسية من الاماسي الشتوية الباردة، جلس كعادته في حانة متواضعة ليحتسي كؤوس الفودكا مع جليس الى طاولته الذي لم يعرفه سابقا ولكن هندامه المهذب كان يشير الى انه من فئة المثقفين او المتعلمين (الانتلجنسيا) وكان يحمل حقيبة رديئة النوعية صغيرة الحجم. بعد ان لعبت الفودكا في رأسيهما بدأت اسئلة التعارف المعهودة، فقال العامل معرفا بنفسه على انه رئيس مهندسين كهربائي اما جليسه فعرف بنفسه على انه كاتب وباحث علمي. لم يصدق العامل جليسه وضن انه يكذب تفاخرا مثله لذا امطره بالاسئلة عن مكان عمله ومجال علمه، فعرف من اجاباته انه باحث في مجال علوم البيولوجيا، ولكي يثبت صحة اقواله بعد ان لاحظ الشك في نظرات العامل، استل من حقيبته مخطوطة مطبوعة على الالة الكاتبة القديمة ليطلع عليها العامل مبينا انها مخطوطة لاخر كتاب صدر له، وتأسف لأنه لا يحمل معه نسخة من الكتاب. هنا ومضت فكرة شيطانية في رأس العامل، فطلب من نادل الحانة ان يأتيهما بقنينة فودكا اخرى على حسابه، راجيا في نفس الوقت ان يهديه جليسه تلك النسخة "للذكرى". وبكل رحابة اعطاه جليسه النسخة مع الحقيبة ليضعها فيها خوفا عليها من التلف بسبب الثلوج المتساقطة في الخارج. ثم غادر الاثنان الحانة بعد ان احتسيا قنينة الفودكا وتناولا ما تبقى من طعام. قرر العامل، بعد خروجه من الحانة مباشرتا، ان يهدي اخيه نسخة مخطوطة الكتاب بعد ان ازال الصفحة الاولى التي تشير الى اسم الكاتب وهو جالس في المترو الذي يقله الى مسكن اخيه، لقاء بعض المال. وعندما ضرب على جرس الشقة خرج اخيه بالروب (البرنص)، وهو رداء لا يلبسه في الاتحاد السوفيتي الا علية القوم، وبغيض خاطب اخيه العامل، دون ان يدعوه للدخول، أن كيف سمح لنفسه بأن يزوره في هذا الوقت وهو سكران، وعقب بأن لا مال عنده ليعطيه اياه. وهنا ازداد الاخ العامل حنقا وشيطنة على اخيه فغير خطته على الفور وادعى بأنه جاء له بهدية لا تعوض وهو لم يأتي في طلب المال، ثم أخرج المخطوطة من الحقيبة وقال لأخيه انها مخطوطة لكتاب لم ينشر بعد، حصل عليه كهدية من عشيقته التي توفى زوجها قبل ان يتمكن من نشره، ونصحه بأن ينشره باسمه لترتفع مكانته ويعلو اسمه. قلٌب الاخ المخطوطة وادرك القيمة العلمية لما فيها من معلومات وبيانات، فشكر اخيه العامل على حرصه واهتمامه واعتذر عن سوء ضنه ودعاه لتناول الشاي معه ثم دس في يده بعض النقود وودعه بلطف مصطنع. بعد مناقشة المخطوطة في القسم العلمي ثم في الكلية وتقييمها كعمل رائد في المجال العلمي تم اقرارها من قبل الجامعة ورفعها الى اللجنة العلمية المشرفة على الانتاج العلمي في الاتحاد السوفيتي للموافقة على طباعتها على حساب الدولة ككتاب مرجعي هام. بعد ان نجح رئيس القسم في تمرير المخطوطة من اجل طباعتها باسمه اقام حفلة دعا اليها زملائه التدريسيين في الكلية دون ان يدعو صاحب الفضل عليه اخيه العامل. ولكنه لم ينسى فضله، والاصح انه خاف من غدره، فدعاه في يوم اخر ليكافئه بمبلغ كبير من المال ليضمن صمته احتياطا. لا اطيل عليكم في هذا السرد، فبدل ان يحصل صاحبنا على علو المكانة والمنصب الرفيع جاء كتاب بفصله من رئاسة القسم واحالته للتحقيق بتهمة التزوير. لا علاقة من حيث المضمون بين حكاية هذه الهدية مع الهدية التي استلمتها عندما كنت طالبا من شخص مجهول ولكني شعرت ببعض من الكآبة، أن ماذا لو كانت تلك الحقيبة التي قبلتها من رجل مجهول مصيدة لي. كان شعوري بعد ان انتهيت من مشاهدة الفلم مشابه لشعور لينين عندما شاهد ذات مرة مسرحية "الملجأ الليلي" لكوبرين. فقد انتابه حينها حالة من الضيق الشديد وهو يشاهد المسرحية، فقرر بعد ذلك الانقطاع عن دخول المسرح حتى لا يصاب بمثل تلك الحالة مرة ثانية.
#جاسم_ألصفار (هاشتاغ)
Jassim_Al-saffar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين معطفين......
-
حول التحالفات
-
الاذلال والمقاومة في ثلاث محطات....
-
في ذكرى العدوان النازي على الاتحاد السوفيتي
-
الحياة السعيدة
-
الوعي الثوري والحس الثوري
-
بين ثلاث معتقلات (الحلقة الثالثة)...
-
بين ثلاث معتقلات (الحلقة الثانية)...
-
بين ثلاث معتقلات (الحلقة الاولى)...
-
عثرة في الدبلوماسية الايرانية ام رؤيا منقوصة في السياسة الخا
...
-
تغريدات امريكية في غابة التويتر
-
الثورة السودانية وخياراتها الصعبة
-
قلف المراكب لا يثنيها عن الابحار
-
حوارات فكرية من اجل اشتراكية بضفاف واقعية
-
المدنيون وسياسة التحالفات
-
مفارقات العدوان الثلاثي على سوريا
-
العلاقات الصينية السورية
-
الحدث الايراني بين الافتعال والواقع
-
ترامب ولعبة خلط الاوراق
-
انقلاب القصر
المزيد.....
-
-حرب- التعريفات الجمركية بين الصين وأمريكا.. كيف ستستجيب بكي
...
-
نتنياهو يتوجه إلى الولايات المتحدة ليكون أول رئيس وزراء يلتق
...
-
إجلاء أطفال فلسطينيين جرحى إلى مصر مع إعادة فتح معبر رفح
-
تعيين اللواء إيال زمير رئيسا جديدا لأركان الجيش الإسرائيلي
-
كاميرا تلتقط لحظة انفجار طائرة في فيلادلفيا في كارثة جوية جد
...
-
بوتين يهنئ البطريرك كيريل بذكرى تنصيبه الكنسي
-
قتلى وجرحى في قصف إسرائيلي استهدف مركبتين في مدينة جنين (فيد
...
-
الحرس الثوري الإيراني يكشف عن صاروخ كروز البحري بمدى يتجاوز
...
-
طالبة صينية أول ضحية لقانون ترامب بترحيل الطلاب المؤيدين لفل
...
-
ترامب يأمر بتوجيه -ضربة دقيقة- لاستهداف أحد زعماء -داعش-
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|