|
وباؤنا المزمن: ”متلازمة ستوكهولم“
ياسين المصري
الحوار المتمدن-العدد: 6289 - 2019 / 7 / 13 - 21:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يوم 5 يونيو 1967 كان يومًا فارقًا في تاريخ مصر الحديث، وكانت له تداعيات لم يتخلص منها الشعب المصري ولن يتخلص منها بسهولة، فقد ألحقت ”دويلة“ إسرائيل هزيمة ساحقة ماحقة بالبكباشي والرئيس الفاشل عبد الناصر قبل أن يلقي بها في البحر، فكان من الطبيعي والمنطقي أن يتنحَّى عن السلطة في البلاد، بل ومن المتبع حصريًا في الدول المتحضرة أن يقدَّم لمحاكمة من نوع ما، هو وكل المتسبِّبين معه في الهزيمة النكراء، ولكن الشيء الغير طبيعي والامنطقي على الإطلاق هو خروج الشعب المصري بكامله (تقريبًا) في يوم التنحي (9 يونيو) صارخًا باكيًا، يطالبه بالبقاء. وبذلك قدم هذا الشعب في تعامله مع رئيس مجرم وديكتاتوري فاشل نموذجا واضحًا لـ"متلازمة ستوكهولم“ المتجذرة منذ زمن طويل في وجدان العربان جميعهم، والمتفشية في سلوكهم إلى جانب تفشَّي وَباء ”التقية والنفاق“ ! ما هي إذن هذه المتلازمة؟ في شهر أغسطس عام 1973 هاجم مسلحان بنك ” كريديتبانكين Kreditbanken“ في ستوكهولم - السويد، واحتجزا 4 رهائن (رجل وثلاث سيدات) لمدة 6 أيام متواصلة، تعرضوا خلالها لسوء المعاملة والخوف الشديد على حياتهم، وبعد انقاذهم بدى عليهم سلوكاً غريباً، إذ أظهرت اللقاءات معهم في وسائل الاعلام تأييداً وتعاطفًا للخاطفيْن بل والخوف من رجال القانون الذين أتوا لانقاذهم، وأعتبروا أن الخاطفَيْن يحميانهم من الشرطة، ورفضوا الشهادة ضدّهما، وحدث أنْ ارتبطت إحداهن بأحَدهما، واسست الاخرى صندوقا لجمع التبرعات لتحمُّل تكاليف الدفاع عنهما. لقد حدث ترابط عاطفي واضح بين الضحايا والجناة. أنظر التفاصيل وأحداث مشابهة على العنوان التالي: https://ar.m.wikipedia.org/wiki/متلازمة_ستوكهولم هذ الترابط العاطفي بين الضحية وجلادها أو مهينها له علاقة بالصدمة التي يتعرض لها أشخاص يوضَعون في موقف معين لا يملكون فيه القدرة على التحكّم بمصيرهم، ويشعرون فيه بالخوف الشديد على حياتهم من جراء الإيذاء الجسدي والنفسي، ويظنّون أنّ السيطرة تكمن في يد الشخص الخاطف أو المضطهِد لهم أو المسيء إليهم ، فيفكّرون بطريقة ما للنجاة، ومن ثم يخضع فكرهم تدريجيًّا للاستجابة النفسيّة نحو التعاطف معه ومساندته، فتظهر عليهم علامات الولاء له والانسجام معه، لدرجة الدفاع عنه، أي ينشأ نوع من الارتباط العاطفي القوي والوئام الشديد بين طرفين متناقضين أحدهما يعتدي على الآخر ويهدده ويضربه ويخيفه بشكل متقطع ومتناوب. وقد أظهر الطبيب النفسي الأمريكي فرانك أوشبيرغ اهتمامًا بهذه الظاهرة وقام في السبعينات من القرن الماضي بتعريفها وتوضيحها لمكتب التحقيقات الفدرالي وجهاز الشرطة البريطانية كالآتي: « في البداية، يتعرض الضحايا فجأة لصدمة من جراء الإحساس بالرعب في نفوسهم، ممَّا يدخلهم في حالة من اللاوعي، ويجعلهم متأكدين من أنهم مشرفون على الموت، ثم يمرون بعد ذلك بمرحلة يكونون فيها كالأطفال غير قادرين على الأكل أو الكلام أو حتى الذهاب لقضاء الحاجة دون الحصول على إذن ممن يسيطر عليه ويضطهده ويتحكم في مصيره، وبمجرد أن يقوم الجاني ببعض ردود الأفعال الإيجابية تجاههم، كتقديم "الأكل والشرب والاهتمام" يحفز لديهم شعورًا بالامتنان «لمنحهم الحياة»، ويتولد لديهم بعض من الارتياح فيرفضون من خلاله فكرة أن ذلك الشخص هو من عرضهم للخطر». وبذلك ومن منطلق علم النفس التطوري (Evolutionary Psychology) تكون ظاهرة "متلازمة ستوكهولم" أي التعاطف مع المعتدي هي أفضل الحلول في نظر الضحية من أجل الحفاظ على حياتها، فهي تدرك بأنها مسلوبة الإرادة كليًا، ومغلوبة على أمرها وكل ما يجب عليها فعله، هو أن تحاول البقاء على قيد الحياة قدر استطاعتها. فيكون التعاطف مع العدو المعتدي والإيمان بنفس أفكاره وقيمه هي الاستجابة الطبيعية للصدمة. يحدث لدي الضحية ما يسمَّى بـ ”التنافر الإدراكي“ الذي يعني عدم الاطمئنان ومواجهة تصرفات مؤلمة أو معلومات تتناقض مع المعتقدات والقيم التي نشأت عليها عندما تتصرف بنفسها، فيكون رد فعلها هو تبني نوع آخر مختلف من الأفكار، هذا ما نراه مثلًا وبوضوح لدي الزوجة التي لا ينقطع اعتداء زوجها عليها؛ تظل تخشى الانفصال خوفًا على مصيرها أو على أبنائها، وتشعر بالقلق للصراع بين فكرتين: الحياة معه أو الانفصال عنه، فتظهر في عقلها فكرة ثالثة جديدة تتمثل في الاعتقاد بأن زوجها متوتر، أو يعاني من ضغوط حياتية متزايدة تجعله يضربها رغمًا عنه، فتقبل منه الإساءة، وفي الحالة المرضية قد تتعجب عندما يتوقف عن ضربها! إن غريزة ”حب البقاء على قيد الحياة“ تعد الغريزة الفطرية الأساسية والطبيعية للغالبية العظمى من البشر، ولكن اعتبارات الراحة النفسية والسلامة الشخصية تأتي دائمًا متأخرة عندما يواجه المرء مواقفًا حرجة، توصف بأنها حياة أو موت، فتكون النتيجة حدوث ضعف في مهارة التفكير المنطقي والعقلاني عند الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة، ممَّا ينعكس لدي الضحية على تقبل المُعتدي والتعاطف معه؛ فيشعر بالابتعاد عن خطر الموت. التعبير الشعبي المصري: (القط لا يحب إلَّا خنَّاقَه) يلخص مفهوم متلازمة ستوكهولم، وهو بشكله المبسط، يمكن أن يمتد إلى نسبة كبيرة من شعوب بلاد بأكملها، في فترات معينة من تاريخها، حدث في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية والعديد من دول العالم الأخرى. ولكنه وباء متأصل في شعوب العربان والمتأسلمة منذ فجر التاريخ، حيث تخضع باستمرار لحكَّام جهلة وعجزة جاءوا إلى السلطة من الأبواب الخلفية ولا يملكون شرعية، هذه الأنظمة وصلت معظمها إذ لم يكن جميعها عن طريق الانقلابات العسكرية أو المؤامرات والدسائس أو الحكم الملكي المطلق، ولذلك تكون وسيلة الحكم القمعية والإرهابية والإجرامية هي الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامهم، ومن ثم يمارسون الكثير من القهر والاستبداد والضغوط المادية والمعنوية على شعوبهم. بطبيعة الحال، تحاول تلك الشعوب جاهدةً التحرر من سيطرة الحكام واستبدادهم، ولكن مع استمرار القهر والاستبداد وازدياد الضغوط اليومية يحدث لديها تطوير لعلاقة الخوف من الحكام وأنظمتهم القمعية الإرهابية الإجرامية إلى شكل من أشكال العيش معهم، والولاء لهم، ومع ما يمارسونه عليها من قمع واستبداد وضغوط. النظم الحاكمة في بلدان العربان والمتأسلمين تعمل كل ما في وسعها للتضييق على شعوبها وحرمانهم من أبسط مقومات الحياة لتتعدى سلب حق إبداء الرأي والممارسة السياسية وتعمد إلى تصفية من يغرد خارج السرب، ومع ذلك تجد رد فعل من شعوبها يتماشى مع مخرجاتها، وقد يصل الأمر حتى إلى التعاطف معها بالرغم من أن قراراتها مجحفة وغير مؤسسة وتتنافى مع جميع المبادئ الإنسانية والأخلاقية، والأكثر من ذلك هي ضارة أكثر من أن تكون ذا منفعة؟ تعتقد تلك الأنظمة أن شعوبها أصبحت ملكًا لها وأن قراراتها فعالة ومقبولة وتحتضنها شعوبها وتلتف حولها، ومن ثم أصبح نمط عيش شعوبها مشابه لحكوماتهم وأصبح القمع والذل يمشي في عروق الجميع، فتحتم على شعوبها العيش بأسلوب هذه الأنظمة لفترات طويلة، حتى يحدث نوع من الاعتياد على أسلوبها والخوف من الخروج على ذلك الأسلوب مما يجعل المجتمعات تلبس لباس الضحية بعدما تفنن النظام في استعبادها. الحُكَّام من ناحيتهم ومع مرور الوقت أدركوا هذه الحقيقة وراحوا يتفننون في ابتزاز الشعوب قدر استطاعتهم، وبالتالي اعتادت الشعوب على طريقتهم في الحكم من القمع والذل والاستبداد لدرجة تجعلها تخشى من التغيير حتى ولو كان إلى الأفضل، وترفض استحداث إصلاحات جذرية أو المطالبة بتغيير نظام الحكم أو الوجوه التي تتمسك بالسلطة، وتتحول للدفاع عن هذه الأنظمة القمعية وذكر محاسنها القليلة إن وجدت، أو إدِّعائها إن لم توجد، بغض النظر عن ممارسات القمع والابتزاز والإجرام التي تمارس بحقها ومظاهر الفساد التي تنخر في جسدها. ظهرت متلازمة ستوكهولم بأجلى صورها في مصر مع البكباشي (الفاشل) عبد الناصر، فمن المفارقات التي لا تحدث كثيرًا، أو إن شئنا الدقة لا تحدث على الإطلاق، أن يحكم رئيس شعبَه بالحديد والنار، ويتسبب لبلاده في هزيمة عسكرية فادحة، ثم يعلن تنحيه، فتخرج مظاهرات جماهيرية صارخة تطالبه بالبقاء، وبدلًا من أن يعلقه الشعب على المشانق، كما توقع هو، (بحسب زعم مستشاره الإعلامي وكاتب خطاباته الصحفي محمد حسنين هيكل في كتابه: الانفجار، ص 845) يتمسك به ويهتف بحياته في جنون كما لو كان قد تمكّن من غزو تل أبيب تبعًا لما أشاعته أجهزته الدعائية والإعلامية بقيادة هذا الصحفي! صحيج أن خطاب التنحي الذي استمر على غير المألوف 25 دقيقة، لم يُقْصَد به التنحِّي بالفعل، خاصة وأنه قبل إذاعته مباشرة قال:« أمامنا الآن عدة مهام عاجلة، المهمة الأولى أن نزيل آثار العدوان… المهمة الثانية أن ندرس درس النكسة ». وبعد إذاعته مباشرة عدَّد بعض الحقًائق الدون كيشوتية التي لا تسمن ولا تغني من جوع: « لقد حقق جيل الثورة جلاء الاستعمار البريطاني، وحقق استقلال مصر، وحدد شخصيتها العربية، وحارب سياسة مناطق النفوذ في العالم العربي، وقاد الثورة الاجتماعية، وأحدث تحولًا عميقًا في الواقع المصري أكد تحقيق سيطرة الشعب على موارد ثروته وعلى ناتج العمل الوطني، واسترد قناة السويس، ووضع أسس الانطلاق الصناعي في مصر، وبنى السد العالي ليفرش الخضرة الخصبة على الصحراء المجدبة، ومد شبكات الكهرباء المحركة فوق وادي النيل الشمالي كله، وفجر موارد البترول بعد انتظار طويل». وبصرف النظر عن هذا الهراء الذي اتضح عدم جدواه فيما بعد، فإن الطريف في إعلان التنحي كانت عبارة جاءت عفوية.. هي « لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير». هذه العبارة، تخبرنا بموقع الجماهير داخل العمل السياسي في منظومة يوليو 52 العسكرية، وتشير إلى رؤيتها للسياسة بوصفها حكرًا على العسكر أصحاب السلطة وحدهم، وتحمل اعترافًا ضمنيًا من رأس النظام، ومستشاره الإعلامي، بالطلاق الذي حدث بين الجماهير والسياسة منذ استيلائهم على السلطة في البلاد، فيجب ألَّا تلعب الجماهير دورًا سياسيًا ولا تشارك فيه، حتى أن عبد الناصر نفسه لن يستطيع أن يشارك سياسيًا طالما أنه عاد لصفوف الجماهير، وكل ما سيفعله، إذا تنحى بالفعل، أنه سيؤدي واجبه كأي مواطن آخر أو بالأحرى« كأي مواطن غير سياسي آخر»، يجلس على الكنبة مشاهدًا دون حراك. وإلى جانب المصريين الذين سخروا من هذا التنحي الكاذب، عكف المتخصصون على تحليل ظاهرة 9 يونيو، واندفاع الجماهير للتمسك به رغم هزيمته، فقال الدكتور شريف يونس في ص13 – 14 من كتابه :الزحف المقدس : مظاهرات التنحي وتشكل عبادة ناصر، دار مريت، القاهرة 2005: « فهذه المظاهرات كانت محصلة لعمل أجهزة الدولة السياسية والأيديولوجية على مدار عقد ونصف أكثر منه محصلة مؤامرة دبرتها أجهزة الاتحاد الاشتراكي في بضع ساعات، بعدما طرحت الدولة الاستبدادية للناس شخصًا بوصفه رمزًا ومعبودًا». لا شك في أن سلوكيات الشعوب وردود أفعالها في إطار معرفتها بالحقائق يختلف عنها في إطار جهلها بها. فالدكتور عبدالعظيم رمضان يقول: « الحقيقة أن الشعب المصري لم يكن يعي حتى 9 يونيو طبيعة النظام الذي كان يحكمه، لقد أفلحت وسائل الإعلام منذ أزمة مارس 1954 إلى حرب يونيو 1967 في إقامة جدار سميك بينه وبين الحقائق، فصورت له أخطاء حرب 56 في صورة أمجاد، وصورت له قادته العسكريين في صورة كبار القادة العالميين، وأخفت عنه أخطاء القيادة العسكرية في أزمة الانفصال السوري، كذلك أخفت عنه صدام ناصر وعامر في 1962، وصورت له الديكتاتورية في شكل استنارة وحماية وتقدم، وزورت تاريخه حتى بات يقتنع بأنه بدأ منذ 23 يوليو. وبالغت في إنجازات الثورة وأخفت أخطاءها». أنظر كتاب (د. عبد العظيم رمضان، تحطيم الآلهة، مكتبة مدبولي،ج1، ط 2، القاهرة 1988، ص 235). أما الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، فقط تطرق في كتابه المرجعي الهام «الطاغية» إلى تلك الظاهرة في 9 يونيو، محاولًا الإجابة عن سؤال: كيف رفضت الجماهير رحيل عبد الناصر بعدما انهار عالمه في ست ساعات فقط؟، وتتكرر نفس الظاهرة في أغسطس 1967 حين استقبلت جماهير السودان نفس القائد المهزوم باستقبال حار خلال حضوره مؤتمر قمة ”اللآت الثلاث“ في الخرطوم. يشير إمام إلى أن التوحيد الذي حدث بين الحاكم والشعب يعد مدخلًا قويًا لفهم تلك الظاهرة، فـ«الزعيم الأوحد» هو مصدر كل السلطات، وهو القائد، والمعلم، والمخلص، والمنقذ، ومبعوث العناية الإلهية، الذي تعمل أجهزته على ترويض الجماهير لتصبح أداة طيعة في يد الزعيم الأوحد، فلا تستطيع أن تأخذ قرارًا مستقلًا بمعزل عنه حتى وهو مهزوم. (الطاغية، ص262). لقد جبلت الطبيعة البشرية على تحطيم آلهتها وإعادة بناء آلهة جديدة، والجماهير المقهورة التي تساق كالنعاج أمام طغيان الديكتاتور تُحْمَل على التمسك به كرجل أوحد، نتيجة لتمجيد «إعلام الدولة» أو «إعلام الحاشية» له، وتصويره في أذهانها على أنه إله لا يخطئ، ولديه المقدر على تدمير الأعداء بإصبع واحد من يده، طالما أن تلك الجماهير لا تعرف غيره ولا توجد لديها أي إمكانيات أو مؤهلات لمعرفة أو استكشاف غيره، فضلًا عن انعدام الرغبة في ذلك، لقد أدركت الجماهير، أو أُريد لها أن تدرك، أن هذا الرجل الذي تزين صورته جدران بيوتهم من الداخل والخارج، هو (أب) في المقام الأول، ونحن لم نعرف ابنًا نصَب لأبيه محاكمةً على أخطائه مهما كانت جسيمة. يقول الطبيب الفرنسي «جوستاف لوبون» في كتابه الأشهر «سيكولوجية الجماهير»:« الجماهير مجنونة بطبيعتها، فالجماهير التي تصفق بحماسة شديدة للقائد العظيم الذي تؤيده تعيش لحظة هلوسة وجنون، والجماهير المهتاجة التي تهجم على شخص لكي تذبحه دون أن تتأكد من أنه هو المذنب هي مجنونة أيضًا، فإذا ما أحبت الجماهير دينًا ما أو رجلًا ما تبعته حتى الموت، كما يفعل اليهود مع نبيهم والمسيحيون المتعصبون وراء رهبانهم والمسلمون وراء شيوخهم، والجماهير اليوم تحرق ما كانت قد عبدته بالأمس، وتغير أفكارها كما تغير قمصانها…» إنها أذن متلازمة ستوكهولم المتجذرة في وجدان شعوب المنطقة برمتها، فتجد صعوبة في التفكير المنطقي للخروج من أسر الطغيان والقهر والاستبداد، حيث إن التحرر من هذا الأسر ليست خيارًا، وأن فرصتها الوحيدة في البقاء على قيد الحياة هي التماهي مع الطغاة وطاعتهم والتمسك بتلابيبهم ولا شيء غير ذلك. وإذا حاول أحد إنقاذها من طغيانهم يبدو لها وكأنه يريد إيذاءها بإيذائهم، فهم بمثابة الحماية لها من الأضرار، مع أنهم في الحقيقة هم مصدر الضرر الفعلي لها. وبذلك تدفن تلك الشعوب نفسها كما تدفن زعماءها في مراحل عملية خداع الذات المستمرة. إن بوصلة تاريخ العربان وحُكَّامهم تشير بوضوح إلى أن صناعة «الإفك والافتراء على الله» بدأها نبيهم (الكريم) أثناء حياته ثم تبناها أتباعه من بعده، حيث تركوه على فراش الموت، وراحوا يتصارعون على السلطة تحت تعريشة بني ساعدة، وكل منهم يقدم أدلة دينية افترائية على لسانه لإثبات أحقيته المزعومة في خلافته. بعد ذلك أشاع الأمويون في المساجد وبين العوام أن معاصيهم وأعمالهم « تسير بقدر الله، فلا راد لقضائه» وأن أي اعتراض على أفعالهم إنما هو اعتراض على قدر الله! وهو ما يسمى في التاريخ «بالجبرية»، ونسميه نحن «الحكم بالحق الإلهي». وبذلك توسلوا عقيدة فاسدة ليشرعوا حكمًا ظالمًا جائرًا، واستخدموا فقهاء السلطان كأداة لفرض هذه العقيدة، ونشروا أحاديث مكذوبة لتأييدها. مازال العربان بنتهجون تلك الأساليب باختلاف مضامينها؛ ويروجون لفكرة أن الحاكم هو الوطن، وبدونه لا يوجد الوطن، وأنه هبة ربانية مهما تجبر وطغى عليهم، ويبقى كل ما يفعله الشعب هو التصفيق والتهليل لسماع جرعات كلامية لأبوَّة حانية ممن يحكمهم ويعمل على إذلالهم عبر خطبه: ”إنتو مش عارفين إنكم نور عنينا ولا إيه؟!“، فيوقع الشعب أحلامه على «بياض» لإيمانه القوي بحديث العواطف والنوايا الطيبة والفضفاضة، ولأنه يعيش في وطن أحسن من غيره بكثير!. إننا نصنع طواغيتنا بأنفسنا، ولا نسلم من طاغية إلا ونأتي بطاغية غيره أكثر غلظة منه. ومع كل طاغية نظل نحن القتلى والقتلة في «هوجة الغضب»، نظل نحن الكاراهين العميان لكل شيء والمحكومون البائسون الذي ينتصرون في معركة الخبز ويخسرون في معركة «الإنسانية». في عالم الموتى حيث يطبق الظلام الدامس ويعم اليأس والقنوط يعيش الجميع بنفسه ولنفسه وحدها، الحكام القتلة والمجرمون وجلاوزتهم والمنتفعون من ورائهم يعيشون في عالمهم الخاص بعيدًا عن عالم شعوبهم. ولم يعد أحد ممن يحاول إنقاذ تلك الشعوب أن يعتمد عليها، لأنها لن ننصفه مهما أبلى في الدفاع عنها، فكم من الشخصيات العاقلة حظيت بشعبية كبيرة بسبب مواقفها الوطنية من الشعب والدفاع من أجل تحقيق مبادئ الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية له، وعندما تم القبض عليها وإيداعها في السجون، والاعتداء عليها جسديًا ونفسيًا، لم تتحرك شعرة واحدة من هذا الشعب! المجتمعات العربية تؤيد بقاء الحاكم القاتل واللص والفاسد في الحكم، لأن هذا هو الوسيلة الفعّالة الوحيدة للدفاع عن النفس، والضمان الغير مؤكد لبقائها في أمان. عملا بالقول الشعبي [إبعد عن الشر وغنيله]، ولكن ليس بالغناء وحده يسلم الإنسان من الشر. لذلك مازال القتلة والمجرمون وقطاع الطرق والفاسدون يتكاثرون جيلًا بعد جيل ويحكمون ويتحكمون في مصائر شعوبهم، ويدمرون بلادهم. ومازالت متلازمة ستوكهولم مستمرة في آداء عملها اليومي في هدوء.
#ياسين_المصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا يعيش العربان والمتأسلمون في ضلال مبين؟
-
رمضان كريم ! كيف ولماذا؟
-
عندما يتحَكَّم الرعاع
-
مشكلة المتأسلمين في أوروبا
-
الديكتاتور النرجسي
-
إيه اللي بيحصل في البلد دي؟ (2/2)
-
إيه اللي حصل في البلد دي؟ (1/2)
-
الإسلاموية وخصوبة العنف الخبيث
-
لماذا لا تصلح الديموقراطية في المجتمعات الإسلاموية؟ محاولة ت
...
-
لماذا لا تصلح الديموقراطية في المجتمعات الإسلاموية؟ محاولة ت
...
-
لماذا لا تصلح الديموقراطية في المجتمعات الإسلاموية؟ محاولة ت
...
-
لماذا لا تصلح الديموقراطية في المجتمعات الإسلاموية؟ محاولة ت
...
-
لماذا لا تصلح الديموقراطية في المجتمعات الإسلاموية؟ محاولة ت
...
-
هل (دحية الكلبي) هو (جبريل محمد)؟!
-
مجرد رأي بخصوص الوثيقة الفرنسية
-
معركة صفين
-
الخلاصة
-
الزنادقة أو الهراطقة
-
الحجر الأسود كان سيِّد الموقف!
-
الإسلام والتأسلم القهري!
المزيد.....
-
الولائي يهنئ بانتصار لبنان والمقاومة الاسلامية على العدو الا
...
-
شيخ الأزهر يوجه رسالة حول الدراما الغربية و-الغزو الفكري-
-
هل انتهى دور المؤسسات الدينية الرسمية؟
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2024 على ال
...
-
الكشف عن خفايا واقعة مقتل الحاخام اليهودي في الإمارات
-
الجهاد الاسلامي:الاتفاق أحبط مسعى ايجاد شرق اوسط حسب اوهام ا
...
-
الجهاد الاسلامي:نؤكد على وحدة الدماء وصلابة الارادة التي تجم
...
-
الجهاد الاسلامي:نثمن البطولات التي قدمتها المقاومة بلبنان اس
...
-
الجهاد الاسلامي:اتفاق وقف اطلاق النار انجاز مهم يكسر مسار عن
...
-
حماس تشيد بالدور المحوري للمقاومة الإسلامية في لبنان
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|