رام الله المحتلة
حاولت الرأسمالية الأمريكية في طبعتها المعولمة احتلال المسيحية بعد اختطافها. وقد بدا للحظة أن العملية قد نجحت بالفعل. وكان علينا في مشرقنا التعس أن نتقبل قدراً غريب الأطوار أن يهرب أبناؤنا منا ويغتربوا حتى يتحولوا قوة تنكرنا ( كما أنكر بطرس يسوع قبيل صياح الديك ثلاث مرات)إنه الاغتراب بأصعب معانيه وأشدها على النفس أذى ومشقة. ولكن في آخر النهار عاد لنا ولدنا بعد شيء من الضلال. عاد ما أنجبناه نموذجاً للتسامح والمحبة التي تهدف إلى إنقاذ الخراف الضالة وليس قتل الحملان البريئة طمعا في صوفها أو نفطها لا فرق.
ولا بد أن جورج بوش والمسيحية الصهيونية التي تتحالف معه قد غضب وغلت دماؤه وانتفخت أوداجه لما حصل, فقد كان على وشك تدشين الحرب الصليبية المقدسة لإنقاذ النفط العربي المقدس من حكم صدام حسين الإسلامي المعادي كل العداء للرب. وإذا كنا ندرك بطبيعة الحال أن صدام حسين لم يكن في يوم من الأيام ممثلاً شرعياً معترفاً به للإسلام بأي معنى من معانيه، وإذا كنا ندرك أيضاً أن جورج بوش الابن مثلما الأب لا يمثل المسيحية في أي من اتجاهاتها أو طوائفها، فإننا مع ذلك سعداء تماماً بأن حصحص الحق على هذا الشكل الواضح والناصع الذي لا يترك مجالاً للتقول عندنا أو عندهم.
وإذا كنا نخشى كل الخشية من الأثر المدمر للربط الجنوني للدين المسيحي برغبات الاستعمار العولمي، فإننا نخشى أكثر على مواطنينا البسطاء الذين طالما أخطئوا وتوهموا أن المستعمر إنما يأتي لبلادنا كراهية منه لإسلامنا ودفاعاً عن مسيحيته، بينما الحق الذي لا يحتاج إلى بينة أن الدين والأخلاق العلمانية على السواء براء من المستعمر مهما كان قناعه الديني أو الأخلاقي سميكا. وليس هنا وقت تعداد الحالات التي تم قتل البشر فيها ونهب خيراتهم واغتصاب أرضهم بغض النظر عن دينهم أو دين المستعمر . ونحن نعرف على هذه الأرض التي تعرضت لكافة موجات الوحشية على مدار التاريخ، نحن نعرف على هذه الأرض أكثر من غيرنا أن الوحوش لم يكونوا في حاجة إلى اختلاف ديني أو مذهبي لكي يغتصبوا ما يستطيعون من خيرات بلادنا قبل مرحلة النفط بآلاف السنين ف : "كل الشعوب تزوجت أمي وأمي لم تكن إلا لأمي" على حد ما ذهب إليه درويش في وصف ظاهرة الاستعمار المتلاحق الذي ساهم فيها كل أصناف البرابرة على مدار التاريخ.
ليس صعباً أن ندرك أن الاسكندر المكدوني اجتاح هذه البلاد قبل أن تظهر المسيحية عندنا لتذهب عندهم بمئات السنين. وأما الرومان فقد كانوا وثنيين مثلما كنا وكانوا شرقيين من ألفهم إلى يائهم، ولكن ذلك لم يمنع أن يجتاحوا بلادنا بغرض توسيع أرض القيصر لتصبح كل الطرق تؤدي إلى روما. وبعد قليل دخل الإمبراطور في ديننا ولكنه لم يتراجع عن شهوة المستعمر، واشتبكنا معه بغرض استعادة أرضنا وتحريرها من العبودية فكان لنا ما أردنا وربما أننا سمينا ذلك حرباً بين الإسلام والمسيحية. ولكننا في نفس اللحظة كنا في حالة اشتباك مع الفرس والصينيين والهنود في حرب مختلطة الأهداف والغايات والتوجهات ولا يمكن لعاقل الآن أن يعتبر الحرب حتى في ذلك الزمن حرباً دينية بالمعنى الحرفي للكلمة فقد كانت أسباباً خلائط تقف وراء الحروب ولم تكن في أي وقت بريئة من النفط أو أشباهه من جانبنا أو جانب هؤلاء أو أولئك. ولكن ذلك لا يمنع بالطبع أن السلطان قد حرض جيشه باعتبار الحرب مقدسة بدرجة أو بأخرى، وذلك يعيدنا إلى فترة الحروب الصليبية التي ليس هنا موضع مناقشتها، وفي كتب التاريخ الكثيرة تحليلات مطولة للأسباب الحقيقية لتلك الحرب التي سميت صليبية وإن كانت صليبيتها قشرة لا تصمد أمام الفحص إلا بقدر ما يمكن أن تصمد صليبية الحروب التي تمت لقتل القارة المكتشفة في العصر الحديث وإبادة سكانها عن بكرة أبيهم وسط تضامن بعض رجال الدين المسيحي ولا نقول جميعهم أبداً.
أوضح البابا ممثل الإيمان الكاثوليكي أن الحرب المزمعة ضد العراق لا علاقة لها بالدين، وهو أمر يستحق كل التقدير لأنه يوقف مهزلة احتلال المسيحية التي يحاول رأسمال بوش إنجازها كخطوة تيسر له تزيين حربه الجشعة في عيون بعض المؤمنين الأبرياء والطيبين. وقد كان أسامة بن لادن قد كفانا مشقة التذكير بأن صدام والبعث أبعد ما يكونون عن التدين الإسلامي أو المسيحي. والحق أن البعث قد ولد حزباً علمانياً مرتدياً أحياناً صبغة اشتراكية وأحياناً أخرى صبغة قومية. وعلى الرغم من أن صدام قد أدخل الحزب حظيرة الإسلام على مستوى الشعار عام 1991 (بعد دخوله الكويت)، فإنه في الواقع لم ينجح في إقناع أحد بخطوته تلك خصوصاً وأنه في نفس اللحظة استخدم خطاباً ملتبساً قومياً مركزاً على العرب عبر اللغة المنثورة والمغناة على السواء. وكذلك لجأ إلى بعث الإقليمية العراقية مستدعياً أجدادنا وأجداده من حمورابي إلى نبوخذ نصر الثاني، فجاء بالبابليين والبابليين الجدد على السواء في طرح يذكر بتفاهات مناحيم بيغن عندما زعم عام 1981 أنه ينتقم للسبي البابلي عندما قام بضرب المفاعل النووي العراقي. كلا نحن نظن الشيخ أسامة على حق، لا يستطيع صدام أن يكون إقليمياً وقومياً وإسلاموياً في نفس الوقت. هذا كثير ولا يتفق مع قواعد المنطق والتفكير السليم، وربما أن إدارة صدام تتوهم أن الناس أكثر سذاجة مما هم بالفعل ليتوقع أنهم سيصدقون تلفيقه الفكري العجيب.
في بلادنا وقفت الكنيسة وخاصة الأرثوذكسية موقفاً قومياً واضحاً ضد الاستعمار. ولعل المواقف التي يجسدها رجال مثل إيلاريون كبوتشي والأب عطا الله حنا في غنى عن كل تعريف. فالاستعمار هو عدو العرب جميعاً بغض النظر عن هوية المستعمر الدينية أو غيرها. وقد أوضح حزب الجهاد الإسلامي أنه على استعداد لمواصلة الكفاح ضد إسرائيل حتى لو أعلنت الدولة العبرية اعتناق الإسلام. فالاستعمار هو الاستعمار مهما تعددت الأقنعة والأغلفة الأيديولوجية.
يستسهل البعض عندنا وعندهم اختزال الصراع في مستوى ديني. وهو أمر يثير السخرية بسبب سذاجته المفرطة. وليس خافياً على أحد أن المملكة العربية السعودية والباكستان وتركيا قد تمتعت بعلاقات طيبة جداً طوال الوقت مع المستعمر الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً. وليس خافياً أن نوعاً من الإسلام قد تلقى دعم الاستخبارات الأمريكية فترات طويلة في مواجهة الكفر الشيوعي أو الهندوسي أو اليوناني المسيحي..الخ وإذا كنا نلتمس العذر للبسطاء الذين توهموا في أوقات معينة أنهم يتحالفون مع أهل الكتاب ضد الكفار والشيوعيين وما أشبه، فإننا نحس بأن فجر الوعي قد أطل بسبب تبجح الممارسات الاستعمارية الأمريكية التي كشفت لكل ذي بصر وبصيرة أن غايتها تحقيق منافع اقتصادية تستطيع من أجلها أن تفتك بالناس بغض النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني أو الحضاري أو الأيديولوجي أو أية انتماءات أخرى.
يريد أناس أكثر تنوراً وتمرسا بالمقاومة مثل حزب الله، أن يشكلوا جبهة عريضة قومية وعالمية من المسيحيين والمسلمين والبوذيين والشيوعيين وكل من له مصلحة أو ضمير لرفض النهب المنظم للبشرية على يد طغم مالية استعمارية متوحشة تحاول التشبث بأية مرجعية أخلاقية أو دينية أو حضارية من أجل التعمية على مآربها الدنيئة بأي شكل، علها تنجح في تجنيد بعض من الجمهور الأقل ذكاء ووعياً. لكن يبدو أن ساعة الحقيقة على رأي السيد بوش قد أزفت. وإذا كان الجبروت العسكري الأمريكي شيء لا يصدق من حيث قوته الهائلة التي لا يضاهيها شيء في تاريخ البشر، فإن حجم المقاومة الواسعة من كل الشعوب والديانات والطوائف قد يكون مؤشراً على أن فرحة اليانكي بتدشين عصر الفرادة الإمبريالية الأمريكية لن تطول. فالبشر في كل مكان رفعوا عقيرتهم بالدعوة إلى المواجهة، وليس أدل على ذلك من اصطفاف الناس والحكومات على نحو فريد حتى قبل وقوع الحرب. وهي المرة الأولى من نوعها، إنه زمن المقاومة الإنسانية الشاملة ضد الوحش المنفلت من كل الضوابط. وما نظن انتصار السيد بوش وزمرة الصقور الدجاج في البيت الأبيض سيكون انتصاراً حاسماً على العكس إننا نتوقع أنه سيكون بداية العد التنازلي خاصة إذا نجح العراقيون في الصمود أو في بدء حرب عصابات تحررية بعد انتصار الآلة العسكرية الأمريكية التي قد يكون لها ما تريد أولاً. لكن المهم ليس أولاً، فحركة الشعوب لا تتوقف على لحظة أو لحظات وإنما على أشهر وسنوات ربما تفتح مرحلة إزاحة الطاغية عن عرشه. وقد يكون ما يجري مفتاح مرحلة جديدة تفتتح من حيث لا نحتسب عصراً إنسانياً جديدا يحتكم إلى قيم أشد التصاقاً بالإنسان بدل قيمة الربح التي سيطرت على العالم طوال العصور الحديثة.
*********
كنعان