أخبار الشرق - 31 آذار 2003
مند مدة ليست بالطويلة جرت مناقشات واسعة في البلاد حول أسباب الاعتقالات الجارية في سورية: لأي من التيارات والقوى السياسية توجه التهم؟ ولماذا تجري ملاحقة البعض؟ ولماذا خرج قدماء المسجونين ليدخل السجون من جديد وافدون جدد مع إضافة المناضل الترك كحالة استثنائية؟!
ما الجديد في الأمر؟ يمكن القول ان معظم المعتقلين أو من هم ضمن قائمة المطلوبين لا ينتمون إلى التنظيمات السياسية المعروفة في البلاد، كما انهم ليسوا محسوبين عليها لكنهم سيشكلون - بلا شك - اضافات لا بأس بها لجميع القوى الديمقراطية السورية وهم يؤلفون الخميرة السياسية لتيارات سياسية قد تظهر على السطح في حال ظهور فعلي لانفراج سياسي مقبل في سورية بعد ترهل طويل اصابت السياسة في بلادنا.
إن فن تحريك الممكن ضمن مخاطبة الدولة، انطلاقاً مما هو ملموس، هو تعبير سياسي مغيب حتى اليوم عن السوريين، والامر لا يتعدى الدردشة، والفاعل لا يتعدى دائرة المكان، لكنه إن تعدى في ما يسمى بالمنتديات على مختلف مستوياتها وتنوعاتها، فإن الاغلاق هو الفيصل في لغة السلطة وان كان المنتدى ثقافياً بحتاً. ومن هنا فحتى الحضور الفكري ضمن قائمة التجمع النخبوي لمثقفي سورية والذي يعكس الرؤى النظرية بوصفه منهجاً/دليل عمل، ينبغي ان يغيب ويمحق وينكل بكل مناصريه، ذلك لأن الراهنية الفكرية والسياسية والثقافية المتعطشة أبداً في الاعلان عن ذاتها تقابل بالضد وممن؟ من قبل اناس لم يخلقهم الله للفكر وللسياسة والمثاقفة، فالآفاق المحدودة لا تولد نتاجا ابداعيا في الادمغة والسواعد.
من هنا يمكننا التساؤل: هل مرور أكثر من عامين على تولي الرئيس بشار الأسد شكل تراكماً مضافاً إلى السابق، وهل سياسة التحديث والتطوير ما زالت تحتاج إلى فرص أخرى لكي تفرز تجلياتها في اللحظة والظرف المناسبين .. أم ترى المقصود منها كان "تمريق" فترة لتثبيت قفزة في المكان وكفى الله شر قتال المؤمنين؟
إن في دكتاتوريات الشرق ظل لعالم يستفيض الحماس به لكي يدب في الاوصال بينما العقل يقفز هاربا من وعائه بلا أهداف محددة قريبة أو بعيدة، وفي الحركة بركة، والمهم الحركة حتى ان كانت استطاعتها مساوية للصفر. وفي إعلام السلطة السورية حالياً نفاق يقوده منافقون، فقد سُئل رسول الله عن صفات المنافق فقال ثلاث ..
ومهما يكن؛ فالعامل الموضوعي ومعه الذاتي يحدثاننا بأن حملة الاعتقالات - كما دار النقاش في الشارع السوري - تعكس حالة الصراع داخل السلطة حول شكل التطور اللاحق في سورية، وأن النشاط الذي قام به هؤلاء المعتقلون سواء في مجلس الشعب أو في المنتديات والضربة التي وُجهت إليهم كانت تهدف أصلاً إلى توجيه لوم قوي - غير مباشر - للتيار الجديد المنبعث من داخل السلطة، وصولاً إلى إضعافه والسيطرة عليه كونه لا يشكل خبرة سياسية، ومن هنا بات منوطاً على الحرس القديم ان يعلن عن نفسه وصيا امينا على الوليد الجديد.
لكن ثمة من يقول - والحديث لا يزال للشارع السوري - إن تيار السلطة الاصلاحي قد آل إليه زمام المبادرة، وبالتالي فلا بد من إرباك الحرس القديم بغية ابعاده عن مركز السلطة وبالتالي تحميله اوزار الاعتقالات وحملات المداهمة المخابراتية المستمرة. فإذاً إن طرفي السلطة (الاصلاحي - والقديم) كليهما يريان في حملة الاعتقالات نوعاً من أنواع شد الحبل من طرفيه وتكون الضحية كالمعتاد، أناساً لا ذنب لهم إلا كونهم تكلموا في هموم الوطن وفي مفردات الحياة العامة.
لكن ثمة من يقدم المسوغات وفق التحليل التالي: إنه قد ادى التطور اللاحق نحو بروز قوى - ليست تقليدية كماذكرنا - أخذت بوسائلها الخاصة تحتك مع تيار (ما العمل) وهو تيار قاعدته تنسحب على بساط مؤسسات الدولة دون ان يتقلد القيادة الفعلية لكنه بلا شك تنصب عليه شيء من بركات السلطة وعطاياها، ولو جمع هذا التيار المبعثر نفسه لشكل منظومة معرفية تضخ لنا سيلاً من "فضائح الرفاق". استطاعت هذه القوى ان تتلقف بعض هذه الفضائح كفضيحة الخليوي، ودفن النفايات النووية .. إلخ، وقد قام كل من السيدين رياض سيف ومأمون الحمصي وغيرهما بنشر تلك الفضائح، وهي بلا شك فضائح كبرى. كما ان دورية ندوة الثلاثاء الاقتصادية، قد أعطت زخماً من المعلومات المسربة، بحيث أرعبت السلطة - بتياريها - وولدت هاجسا وخوفا من أن يفلت زمام المبادرة من يديها، فهي غير مستعدة "لجزائر ثانية" كما أن ذاكرتها لن تنسيها دروس الانهيارات في المؤسسة السوفياتية الستالينية ومن معها، ومن هنا فإن نزع الاحتكاك بين القوى الناهضة وتيار "ما العمل"، يُعالَج بوصل السجون بالبشر وهو بحد ذاته يشكل تصفية لحسابات أخرى، يُضاف إلى كل ذلك ما تشكله المنتديات الفكرية والثقافية من ارهاصات أفقدت الحرس القديم صوابيته فراح يتباكى على "الانجازات التي حققها"، ومن هنا جاء القرار "الحكيم" بإيقاف المنتديات، وتوقفت.
ولا شك فإن الآراء المتعددة والمختلفة حيال ما يجري في البلاد وأحياناً المتناقضة - كما عبرت عنها صحف النظام الرسمية بما فيها صحف الجبهة التي هي الأخرى يمكن وصفها بالرسمية - لن تعفي أحداً من التقويم والنتائج.
- نعم، انه توق سياسي يتطلع لنهضة حقيقية لن تتحقق الا بالوصول إلى الوحدة الوطنية، ومن المفيد القول إن الطريق إلى الوحدة الوطنية ممكن، ويمكن ان يمر عبر بوابة النظام نفسه، وانه لم يكن في عهدة مختلف القوى السياسية - بأغلبيتها - اية اشكاليات حول المصالحة الوطنية من خلال السلطة نفسها، من الممكن ان يدرج، ويمهد على الرغم من كل تعقيداته، وقد جاءت اعتقالات ربيع دمشق لتوصد هذا الباب، وتغلق هذا الهامش الديمقراطي الوليد.
- إن اعتقال عضوين من مجلس الشعب له دلالات غير مشجعة، وهذه سابقة خطيرة قد تضع مجلس الشعب ذاته أمام محك صعب وهو فقدان المصداقية، ليس امام الشعب في داخل البلاد فحسب بل وامام الرأي العام العالمي أيضاً وأيضاً.
- إن ما نشرته بعض اوساط السلطة حول رفع أو تجميد الاحكام العرفية، قد ثبت عكسه تماماً، إذ لا زالت الاحكام العرفية والقوانين الاستثنائية نافذة المفعول ولم يتم رفعها أو تجميدها.
- أخيراً ..
إن الكرة هي الآن في ملعب التيار الاصلاحي، وما عليه إلا أن يترجم ما دعاه بمسيرة التطوير والتحديث إلى حقائق وذلك عبر إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، والبدء جدياً بحوار ديمقراطي وطني جاد مع جميع ألوان الطيف السياسي على قاعدة إطلاق سراح الفكر والمعتقد بموضوعات وافعال تعني بتحديث مؤسسات الدولة وبناء الإنسان .. حوار يحترم العقل والقانون.
__________
* باحث سوري - السويد