بتعيين ابي مازن رئيسا للحكومة الفلسطينية تكون اسرائيل قد قطفت الثمار السياسية لعملية "مسألة وقت" التي تمثلت بحصار المقاطعة؛ من هناك تفرغت لمواصلة حملتها العسكرية من خلال تركيز نيرانها لضرب حماس، وكان التصعيد الاول قتل المقادمة احد اهم زعماء حماس السياسيين؛ تعيين ابي مازن بضغط الدبابات الاسرائيلية لن يجلب الاستقلال للفلسطينيين، ومن المحتمل ان تتنصل امريكا بعد احتلال العراق، من وعدها بالتوصل لتسوية سلمية.
ميخال شفارتس
رضوخ ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية، للضغوط الخارجية، وتعيينه محمود عباس (ابا مازن) رئيسا للحكومة الفلسطينية، هو خطوة هامة في "الانقلاب الابيض" (غير الدموي) الذي دبرته اسرائيل وامريكا واوروبا. هدف الانقلاب تهميش عرفات وتجريده من صلاحياته، وتشكيل سلطة فلسطينية جديدة خاضعة لرقابة الغرب.
المطلوب من الحكومة الجديدة اتخاذ موقف حازم يقضي بوقف العمليات العسكرية ضد اسرائيل، والقبول بمشروع "خريطة الطرق" الامريكي الذي يقترح انسحابا اسرائيليا لحدود 28 ايلول، واعلان "دولة فلسطينية مؤقتة" منزوعة السلاح في حدود غير معروفة. وهي دولة يستطيع حتى رئيس الوزراء الاسرائيلي، اريئل شارون، ان يحيا معها.
في التنافس على المنصب الجديد حظي ابو مازن، امين سر المكتب التنفيذي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومن مؤسسي فتح في الخمسينات، بتأييد دولي واسرائيلي كبير. فابو مازن، رجل الاعمال الغني الذي سكن قطر، كان مسؤولا من طرف المنظمة عن لقاء شخصيات اسرائيلية يسارية في الثمانينات. كما كان له دور مهم وراء الكواليس في صياغة اتفاق اوسلو، واتفاقية ابو مازن بيلين غير المعلنة التي ابقت القدس في ايدي اسرائيل. وكان ابو مازن دائما بعيدا عن العمليات العسكرية، وعارضها علنا في الانتفاضة الاخيرة، كما صرح بنيته نزع اسلحة المنظمات الفلسطينية العسكرية.
الصحافي الاسرائيلي عكيفا الدار كتب انه "رغم حرص اسرائيل رسميا على عدم الظهور امام الرأي العام كمن تتدخل في الامور الفلسطينية الداخلية، فقد كان لها ضلع في هذا التغيير" (هآرتس، 14 آذار). كما يعتبر الجيش الاسرائيلي تعيين ابي مازن امرا ايجابيا (هآرتس، 11 آذار).
وافادت "الحياة" اللندنية (12 آذار): "ان وزير الخارجية الاسرائيلي، سلفان شالوم، اكد لنظيره الامريكي، كولن باول، في اتصال هاتفي ان اسرائيل تولي تعيين رئيس الوزراء الفلسطيني اهمية كبيرة، وتشدد على تسلم ابي مازن صلاحيات في الخارجية والامن، لان احتفاظ الرئيس عرفات بهذه الصلاحيات يمنع احراز تقدم".
وحول موقف الامريكيين، قالت الحياة: "لم تستبعد مصادر مطلعة ان يدعو الرئيس الامريكي، جورج بوش، رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد الى البيت الابيض في مستقبل قريب، لتأكيد جدية واشنطن في دفع الامور قدما في ما يتعلق بالنزاع الفلسطيني – الاسرائيلي، رغم الحرب على العراق".
مناورات عرفات
انتخاب رئيس حكومة فلسطيني تطلب اعادة التئام شبح منظمة التحرير الفلسطينية، التي لم يبق لوجودها ذكر منذ تشكيل السلطة الفلسطينية. وقد قدمت اسرائيل كل التسهيلات لاعضاء المجلس المركزي للمنظمة الذين يسكن معظمهم في الاردن، للوصول الى رام الله واقرار الخطوة في 8 آذار.
وقد حظي ابو مازن بدعم الاغلبية الساحقة في مؤسسات فتح المستاءة من ادارة عرفات. بين اهم المستائين جبريل رجوب ومحمد دحلان، رئيسا الامن الوقائي في الضفة وغزة المقالين. ويحتمل ان يتولى الاثنان مناصب هامة تحت ادارة ابو مازن، نظرا لموقفهما من ضرورة القضاء على القوة العسكرية لحركة حماس وبذلهما جهودا في السابق في هذا الاتجاه. اما المجلس التشريعي الفلسطيني، فقد ايد ابا مازن على امل ان ينجح في اعادة الفلسطينيين لطاولة المفاوضات، ويجلب الدعم المالي للسلطة من الخارج.
وقد اجتمع المجلس التشريعي الفلسطيني في 11 آذار لاقرار القانون الاساسي المعدل ومناقشة صلاحيات رئيس الحكومة الجديد. وفي حين اصر معظم اعضاء المجلس التشريعي على ان تكون صلاحيات ابي مازن كاملة، تمسك عرفات بصلاحياته كرئيس. نتائج النقاش لم تكن حاسمة، فمن جهة تقرر ان لرئيس الحكومة صلاحيات تعيين الوزراء وتحديد مسؤولياتهم وميزانياتهم، وادارة جلسات الحكومة. اما عرفات، فبقيت له صلاحية اقالة رئيس الحكومة، او الامر بالتحقيق معه، واقرار قوانين المجلس التشريعي. كما احتفظ عرفات بمنصب القائد العام للقوات الفلسطينية المسلحة.
ولكن لم يمض يوم على قرار المجلس التشريعي، حتى اعاد عرفات القانون الاساسي المعدل الى وزارة العدل الفلسطينية لتعيد صياغته من جديد. واعطى تعليماته بادخال تعديلات جديدة تزيد صلاحياته وتقلص صلاحيات رئيس الحكومة. ويعني هذا ان اقرار تعيين رئيس الحكومة سيتأجل لاجل غير مسمى الى ان يتم اقرار القانون.
الانقلاب والحرب على العراق
كان واضحا من البداية ان رضوخ عرفات للاملاءات الخارجية والضغوط الداخلية هي مسألة وقت. فقد استخدمت اسرائيل كل جبروتها العسكري للضغط على عرفات لتعيين ابي مازن رئيسا للحكومة، وذلك عندما حاصرته في ايلول (سبتمبر) 2002 في المقاطعة برام الله، في عملية اطلق عليها اسم "مسألة الوقت". لكن عرفات تمكن حينها من افشال الانقلاب، وتبنت اللجنة المركزية لفتح قرارا (في 1 اكتوبر 2002) ضد تعيين رئيس حكومة حتى اعلان الدولة الفلسطينية المستقلة.
بعد نصف عام اضطر عرفات للرضوخ بعد ان ادرك ان عهده اوشك على الانتهاء. فقد فهم من امريكا والدول الاوروبية ان امامه مهلة اخيرة لتعيين رئيس حكومة قبل اندلاع الحرب على العراق، والا تكون اسرائيل حرة في الحصول على نفس الهدف بطرق عسكرية، أي من خلال ابعاده او حتى قتله، تماما كما يخطط بوش ان يفعل مع الرئيس العراقي، صدام حسين. لكن الوضع ليس محسوما بعد لعدة اسباب، اولها معارضة عرفات الذي ينتظر حدوث معجزة تبقي مقاليد الحكم بيده.
امكانيات نجاح مناورات عرفات مرهونة بمدى نجاح او فشل بوش في حربه على العراق: فاذا تمكن بوش من احراز انتصار سريع وحاسم في اطاحة صدام، يكون تعيين ابي مازن خطوة جيدة حافظت على سلامته الشخصية على الاقل. اما اذا تعقدت الحرب، فمن الممكن ان يواصل عرفات التلاعب، ووضع العراقيل امام ابي مازن وتقليص صلاحياته، والحفاظ على مكانته هو كرئيس للسلطة قدر الامكان.
ولتبرير تعيينه ابي مازن، قال عرفات ان هذا سيقرّب تنفيذ "خريطة الطرق" وتحقيق انسحاب اسرائيل للحدود ما قبل الانتفاضة الاخيرة، واقامة الدولة الفلسطينية المؤقتة. غير ان بوش أجل تنفيذ "خريطة الطرق" الى ما بعد الحرب على العراق، بعد ان وافق سابقا على تأجيلها الى ما بعد الانتخابات في اسرائيل. ويمكن القول ان دور الخطة اظهار امريكا كمن تسعى لحل القضية الفلسطينية، وتوفير الغطاء بذلك للانظمة العربية لتبرير وقوفها مع بوش في عدوانه على العراق.
ان محاولة متحدثين فلسطينيين وصف تعيين ابي مازن رئيسا للحكومة بانه مرحلة في التطور الديمقراطي الفلسطيني، وتشكيل نظام شبيه بالنظام الفرنسي، في حين يدور الحديث عن نظام فرضته ضغوط دبلوماسية واقتصادية خارجية في ظل الاحتلال الاسرائيلي.
علاوة على ذلك، اعلنت مصادر سياسية اسرائيلية عن عدم رضاها عن مشروع قانون الدستور الفلسطيني. فقد اعلنت هذه المصادر عن تضمنه "بنودا غير مقبولة على اسرائيل والامريكان" (هآرتس، 3 آذار). ويشير هذا الى ان التدخل الاسرائيلي في الشؤون الفلسطينية لن يتوقف عند شخصية رئيس الحكومة.
العنصر المقرر بالنسبة لنجاح الانقلاب على عرفات، هي اسرائيل نفسها. غير ان شارون لم يقدم لابي مازن أي وعد بوقف العمليات الاسرائيلية في المناطق الفلسطينية، بالعكس. فقد قام بتصعيد نوعي في اغتيال رموز حماس العسكرية والسياسية في آن. وقد جاء اغتيال ابراهيم المقادمة، الرجل الثالث في الجناح السياسي لحماس واحد مؤسسيها، عبارة عن اعلان حرب ضد الرموز العسكرية والسياسة لحركة حماس في غزة.
شارون من جهته لم يعد يثق بالسلطة بكل ما يتعلق بامن اسرائيل، حتى لو اصبح ابو مازن المفضل على الجهات الامنية في اسرائيل، رئيسا للحكومة. من هنا فبعد ان قطفت اسرائيل الثمار السياسية لعملية "مسألة وقت" في الضفة الغربية والتي تمثلت بحصار المقاطعة، ترى ان بامكانها التفرغ لمواصلة حملتها العسكرية من خلال تركيز نيرانها لضرب حماس في قطاع غزة.
اندلاع الحرب ضد العراق لن توقف الحرب الاسرائيلية ضد حماس، بل ستسهلها. لا شارون ولا بوش ينويان تقديم تنازلات تبشر بحل حقيقي للشعب الفلسطيني المحتل، بل هما يسعيان وراء المزيد من الحروب وليس التسويات السلمية، والاشارة لذلك ان الادارة الامريكية لم تستنكر العمليات الاسرائيلية الاخيرة في غزة.
ان تعيين ابي مازن رئيسا للحكومة بامر من الاستعمار وتحت نيران الدبابات الاسرائيلية لا يجب ان يوهم احدا بان الاستقلال قريب. وفي هذا كتب المعلق ماهر عثمان في صحيفة "الحياة" (12 آذار): "ان اشد القلق ينبع بالطبع من احتمال ان تتنصل الامبراطورية الامريكية المتصهينة بعد احتلال العراق، من أي وعد بتحقيق تسوية عادلة بين اسرائيل والفلسطينيين".
***********
الصبار