أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - يوسف بن عبد الله بن محمد الخضير - إدارة الشركات وأسباب بطلانها















المزيد.....



إدارة الشركات وأسباب بطلانها


يوسف بن عبد الله بن محمد الخضير

الحوار المتمدن-العدد: 6274 - 2019 / 6 / 28 - 22:50
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


إدارة الشركات وأسباب بطلانها

د. يوسف بن عبد الله بن محمد الخضير

مقدمة:
بات من المسلمات أن المال عصب الحياة، لا يعيش المرء آمناً مطمئناً إلا بوجود المال، وقد أدرك الإنسان أهمية الحصول على المال، واجتهد في ابتكار الطرائق والوسائل الموصلة إليه، عرف الإنسان منذ وقت مبكر عقد الشركة هذا العقد الذي يحقق مصالح متشابهة لأطراف متعددة.

هذا وإن كان هذا العقد من نتاج الفكر الإنساني إلا أن الشريعة الإسلامية أقرته، وأرست قواعده، وهذّبت أحكامه بطريقة عادلة لكافة الأطراف. المملكة العربية السعودية مصيراً منها إلى مساعدة الأشخاص في بيان الحقوق، وتحديد الواجبات، أصدرت نظام الشركات بالمرسوم الملكي رقم م/6 وتاريخ 22/3/1385ه وهو نظام أرسى قواعد باهية، ومبادئ فائقة في شأن هذا العقد، وكان خطابه متوجهاً إلى الشركات التجارية، تاركاً أخواتها المدنية لولاية الأحكام المنثورة في دواوين الفقه الإسلامي.

فاض المال في هذا الزمن بشكل لافت للأنظار، وتسابق الأشخاص إلى إنشاء الشركات بأنواعها المختلفة، بغية الحصول على أكبر قدر منه ومع أن الواجب على كل شخص رام إنشاء شركة وفق النظام أن يلتزم بأحكامه التزاماً كاملاً، غير أن الناظر في الواقع يلمح أن بعض الأشخاص قد تنصل من الالتزام بنصوص النظام، ونصب شركات خرجت للواقع مكتسية ثوب البطلان معتمة عمامة الفساد.

لا ريب أن ذلك يجر أضراراً بالغة في حق الشركة والشركاء والأغيار، بل إن هذه الأضرار تلفح وجه الحياة الاقتصادية في الدولة بشكل عام.

هذه الدراسة سوف تبين مفهوم بطلان الشركات، وتحدد أسبابه، أدرس هذا الموضوع وذلك باستقراء النصوص التشريعية، واستعراض فقه الفقهاء، وتحليل الخطاب النظامي ومقارنته بالخطابات القانونية، وتوصيف الأداء، واستخلاص ما استقر عليه القضاء التجاري، كي تتشكل من مجموع هذه المعارف نظرية أسباب بطلان عقد الشركة التجارية.

خطة البحث:
يتكون البحث من مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة.

المقدمة و تشتمل على ما يلي:

أهمية الموضوع. ومنهج البحث. وتقسيمات البحث.

التمهيد: التعريف بمفردات العنوان.

المطلب الأول: تعريف الشركة.

المطلب الثاني: أقسام الشركة.

المطلب الثالث: تعريف البطلان.

المطب الرابع: تعريف أسباب بطلان الشركات.

المطلب الخامس: تمييز بطلان الشركة عن غيره مما يشتبه به.

المطلب السادس: أنواع البطلان.

المبحث الأول: البطلان المؤسس على تخلف أحد الأركان الموضوعية العامة للشركة.

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: نقص الأهلية التجارية.

المطلب الثاني: عيب الرضا.

المطلب الثالث: عدم مشروعية المحل.

المطلب الرابع: عدم مشروعية السبب.

المبحث الثاني: البطلان المؤسس على تخلف أحد الأركان الموضوعية الخاصة لعقد الشركات.

وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: عدم تعدد الشركاء.

المطب الثاني: عدم تقديم الحصص.

المطلب الثالث: انتفاء نية المشاركة.

المطلب الرابع: عدم تحديد الأرباح.

المبحث الثالث: البطلان المؤسس على تخلف أحد الأركان الشكلية.

وفي ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: عدم كتابة عقد الشركة.

المطلب الثاني: عدم شهر الشركة.

المطلب الثالث: عدم اتخاذ الشركة أحد أشكال الشركات التجارية.

الخاتمة.

وتتضمن أهم النتائج والتوصيات التي انتهت إليها هذه الدراسة.

* * *

التمهيد: التعريف بمفردات العنوان:

وفيه ستة مطالب:

المطلب الأول: تعريف الشركة:

وفيه نوعان:

الفرع الأول: تعريف الشركة في اللغة:

الشركة: بفتح الشين وكسر الراء، وبكسر الشين، وإسكان الراء، وقد اشترك الرجلان، وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر([1]) .

جاء في معجم مقاييس اللغة: (الشين والراء والكاف أصلان:

أحدهما: يدل على مقارنة وخلاف انفراد.

والآخر: يدل على امتداد واستقامة.

فالأول من الشركة، وهو أن يكون الشيء بين اثنين، لا ينفرد به أحدهما، ويقال: شاركت فلاناً في الشيء، إذا صرت شريكه، وأشركت فلاناً، إذا جعلته شريكاً لك) ([2]) .

والشريك هو المشارك، وهو الداخل مع غيره في عمل أو أي أمر كان([3])([4]) .

وقد ورد في المعنى اللغوي قول الله –عز وجل- (وأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)([5]) ، وقوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ)([6]) .

ومن خلال ما تقدم يتبين أن الشركة في اللغة تطلق على الاختلاط، والخلط بين شيئين أو أكثر، سواء أكان مالاً أم غيره.

الفرع الثاني: تعريف الشركة في الاصطلاح:

تعريف الشركة في اصطلاح الفقهاء:

الناظر في المراجع الفقهية يجد تعريفات كثيرة للشركة، مختلفة ألفاظها ومعانيها، ذلك أن بعض الفقهاء نسج تعريفه قاصداً به المعنى العام للشركة، ومنهم من صنع تعريفه قاصداً به المعنى الخاص لها – أعني شركة العقد -.

وليس من وظائف هذا البحث أن أسوق هذه التعريفات إلى هذا الفرع، لذلك سأكتفي بذكر تعريف يبين معنى الشركة المقصود في هذا البحث، وهذا التعريف هو: " عقد يتصرف بموجبه شخصان، أو أكثر، بمال أو عمل، واقتسام ما ينتج من ربح أو خسارة"([7]) .

تعريف الشركة في نظام الشركات السعودي:

عرف نظام الشركات السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/6 وتاريخ 22/3/1385ه في المادة الثانية الشركة بأنها: "عقد يلتزم بمقتضاه شخصان أو أكثر، بأن يساهم كل منهم في مشروع، يستهدف الربح، بتقديم حصة من مال، أو عمل، لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو خسارة"([8]) .

ويلاحظ على هذا التعريف أنه طويل، والشأن في التعريفات أن تكون مختصرة([9])، كما أن فيه تكراراً في قوله: "بتقديم حصة من مال أو عمل"، فما قبل هذه العبارة يغني عنها.

وهذا تعريف قريب من تعريفات الفقهاء.

المطلب الثاني: أقسام الشركة:

أقسام الشركة عند الفقهاء:

الشركة عند الفقهاء على ضربين هما: شركة الملك، وشركة العقد، وشركة الملك هي: أن يملك اثنان أو أكثر عيناً أو ديناً، بسبب من الأسباب، كالشراء أو الهبة أو الوصية([10]). أما شركة العقد فهي السالف تعريفها، وهي المقصودة هنا، وتنقسم شركة العقد إلى خمسة أقسام هي:

شركة العنان وهي: أن يشترك اثنان أو أكثر بماليهما على أن يعملا فيه، والربح بينهما([11]) .
شركة الأبدان وتسمى شركة الصنائع، والأعمال، وهي: أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه من عملهما، والربح بينهما([12]) . فرأس المال في هذه الشركة هو العمل، كما لو اشترك اثنان في تأليف كتاب، أو نحو ذلك.
شركة المضاربة وهي: دفع مال معلوم إلى آخر، ليتجر فيه، والربح على ما شرطاه([13]) .
شركة الوجوه وهي: أن يشتري اثنان بجاهيهما وثقة التجار فيهما، من غير أن يكون لهما مال، على أن ما اشتريا بينهما، والربح على ما شرطاه([14]) . فرأس المال هو الوجاهة والثقة.
شركة المفاوضة وهي: أن يشترك الرجلان، فيتساويان في ماليهما وتصرفهما ودينهما، لأنها شركة عامة في جميع التجارات، يفوض كل واحد منهما أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق([15])، وبعض الفقهاء لا يشترط التساوي([16]) .
أقسام الشركة في النظام:

يقسم شراح الأنظمة الشركة إلى قسمين باعتبارين مختلفين، وهما:

1-تقسيم الشركة باعتبار طبيعة العمل الذى تقوم به، وتنقسم بهذا الاعتبار إلى:

-شركات مدنية.

-شركات تجارية.

1- تقسيم الشركات باعتبار قيامها على الاعتبار الشخصي أو المالي، وتنقسم بهذا الاعتبار إلى:

- شركات أشخاص.

- شركات أموال.

- شركات مختلطة

التقسيم الأول: بالنظر إلى طبيعة العمل الذي تقوم به الشركة:

أخذ النظام التجاري السعودي بالتفرقة بين العمل المدني والعمل التجاري، وأرسى نصوصاً نظامية للتفرقة بين هذين العملين، كما نطقت بذلك المادة الثانية من نظام المحكمة التجارية([17]) الصادر بالمرسوم الملكي رقم (32) وتاريخ 15/1/1350ه، وبذلك فإن الأعمال التجارية منفصلة عن الأعمال المدنية، وللأولى أحكام خاصة بها تختلف عن الثانية من حيث الاختصاص القضائي، ووسائل الإثبات، والإفلاس، وغير ذلك.

هذه التفرقة طالت الشركات أيضاً وترتب على ذلك وجود شركات مدنية وأخرى تجارية([18]) .

الشركات المدنية:

هي كل شركة لا تمارس الأعمال التجارية المنصوص عليها في المادة الثانية من نظام المحكمة التجارية، ولم تتخذ أحد أشكال الشركات، المنصوص عليها في المادة الثانية من نظام الشركات السعودي.

الشركة التجارية:

هي كل شركة تمارس الأعمال التجارية، أو اتخذت ثوب أحد أشكال الشركات التجارية المنصوص عليها في المادة آنفة الذكر. هذا هو المعيار الذي أرى أن نأوي إليه عند التفرقة بين الشركات المدنية والتجارية.

غير أن بعض شراح النظام التجاري يرون أن معيار التفرقة بين الشركات المدنية والتجارية هو ذات المعيار الذي يحكم التفرقة بين التاجر وغير التاجر، وهو طبيعة العمل الذي تقوم به الشركة، فإن كان داخلاً ضمن الأعمال التجارية المنصوص عليها، كانت شركة تجارية، وإلا فهي شركة مدنية، حتى ولو أخذت الشركة أحد أشكال الشركات المنصوص عليها في المادة الثانية من نظام الشركات، فالنظام السعودي –كما يقولون- لم يأخذ بمبدأ تجارية الشركات بسبب شكلها([19]) .

وهذا القول لا يمكن الأخذ به على إطلاقه صحيح أن الشركة تكون مدنية إذا لم تمارس الأعمال التجارية، لكن بشرط ألا تأخذ أحد أشكال الشركات المنصوص عليها في نظام الشركات، اما إذا أخذت أحد هذه الأشكال فلا مناص من القول بتجاريتها، حتى ولو مارست أعمالاً غير تجارية، يسند هذا القول نص المادة )443) من نظام المحكمة التجارية، التي حددت صلاحية المحكمة التجارية، ومن ضمن اختصاصاتها من جاء في الفقرة (ه): (القضايا التي تقع بين الشركاء المرتبطة شراكتهم بالأصول التجارية، أو بين الشركات على اختلاف أنواعها، الجاري تأسيسها وتسجيلها وفق نظاميها المخصوصين.....).

هذا النص واضح الدلالة في انعقاد الولاية للقضاء التجاري في نظر المنازعات بين الشركات، طالما أن هذه الشركات جرى تأسيسها وتسجيلها وفق الأنظمة، وأنت تلاحظ أنها لم تفرق بين الشركات التي تمارس أعمالاً مدنية أو تجارية.

وبهذا يمكن القول إن الشركات التجارية هي التي توفر فيها أحد شرطين هما:

أن تكون تمارس الأعمال التجارية.
أن تكون أخذت أحد أشكال الشركات التجارية المنصوص عليها في نظام الشركات.
وهذا هو الاتجاه الذي استقرت عليه بعض الأنظمة الحديثة([20]) .

الفقه الإسلامي لم يقسم الشركات إلى مدنية وأخرى تجاري، ويخص كل نوع بأحكام تختلف عن النوع الآخر، كما هو موجود في القانون التجاري، لكن أصل التفرقة بين العمل المدني والعمل التجاري موجود فالله- عز وجل-نبه في آية الدين إلى كتابة الدين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)([21]) ، واستثني من ذلك المعاملة التجارية، فلا جناح في عدم الكتابة([22]) ، حيث قال –عز وجل-: (إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألاّ تكّتًًبوهاَ)([23]) ، لكن لم يبن الفقهاء على هذا الأصل أحكاماً وفروعاً تفصيلية، ولم تصل هذه التفرقة عندهم إلى الشركات، كما هو الحال في القانون.

التقسيم الثاني: بالنظر إلى قيامها على الاعتبار الشخصي أو المالي، وتنقسم بهذا الاعتبار إلى ما يلي:

أ. شركات الأشخاص:

وهي التي تقوم على المعارف الشخصية، وتتكون من عدد قليل من الأشخاص، تربطهم علائق معينة، كالقرابة أو الصداقة، ويثق كل منهم في الآخر، في أمانته وكفاءته.

وتشمل شركات الأشخاص كلاً من:

شركة التضامن، وهي: "التي تتكون من شريكين أو أكثر، مسؤولين بالتضامن في جميع أموالهم عن ديون الشركة([24]) .
شركة التوصية البسيطة، وهي: "التي تتكون من فريقين من الشركاء، فريق يضم على الأقل شريكاً متضامناً، مسؤولاً في جميع أمواله عن ديون الشركة، بقدر حصته في رأس المال"([25]) .
شركة المحاصة، وهي: التي تستتر عن الغير، ولا تتمتع بالشخصية المعنوية، ولا تخضع للكتابة وإجراءات الشهر([26]) .
ب_شركات الأموال:

وهي التي تقوم على الاعتبار المالي، فالعبرة بما يقدمه كل شريك من مال، ولا تأثير لشخصية الشريك فيها.

وينطوي تحت لوائها شركة المساهمة، وتعرف بأنها: التي يقسم رأس مالها إلى أسهم متساوية القيمة، وقابلة للتداول، ولا يسأل الشركاء فيها إلا بقدر قيمة أسهمهم، ولا يقل عدد الشركاء فيها عن خمسة، وتخضع في تأسيسها إلى قواعد خاصة([27]) .

جـ - الشركات المختلطة:

وهي التي تقوم على الاعتبارين الشخصي والمالي، فمال الشريك وشخصيته محل اعتبار، فهي تجمع بين خصائص شركات الأشخاص، وخصائص شركات الأموال، ومن هنا جاءت تسميتها بالشركات المختلطة، وتضم الشركتين الآتيتين:

شركة التوصية بالأسهم، وهي: الشركة التي تتشكل من فريقين، فريق يضم على الأقل شريكاً متضامناً، مسؤولاً في جميع أمواله عن ديون الشركة.وفريق آخر يضم شركاء مساهمين، لا يقل عددهم عن أربعة، ولا يسألون عن ديون الشركة إلا بقدر حصصهم في رأس مال الشركة([28]) .
الشركة ذات المسؤولية المحدودة، وقد عرفتها المادة (157) من نظام الشركات بقولها: "هي الشركة التي تتكون من شريكين، أو أكثر، مسؤولين عن ديون الشركة بقدر حصصهم في رأس المال، ولا يزيد عدد الشركاء في هذه الشركة عن خمسين".
هذه المادة كما هي لم يمسها تعديل، والواقع إن بقاء هذه المادة بغير تعديل، يبقي التناقض قائماً بينها وبين نص المادة (180) بعد تعديلها بالمرسوم الملكي رقم (4/22) وتاريخ 30/7/1412ه، والمرسوم الملكي رقم (م/60) وتاريخ 3/7/1428ه([29]) ، ولكي يأفل نجم هذا التناقض ويغيب يلزم أن تعدل المادة (157) بما يتفق ومضمون تعديل المادة (180) ([30]) ، بل إنني أذهب أبعد من ذلك وأدعو إلى تعديل اسم الشركة، إذ بعد سريان هذه التعديلات أضحت مسؤولية الشركاء فيها غير محدودة.

بقى أن أشير إلى أن المادة الثانية من نظام الشركات السعودي أضافت شركتين هما: الشركة ذات رأس المال المتغير، والشركة التعاونية.

والناظر المتأمل في هاتين الشركتين يدرك أنهما ليستا أشكالاً جديدة، تضاف إلى الشركات الست السابقة، إذ لا تعدو أن تكونا أنواعاً خاصة لهذه الشركات([31]) .

المطلب الثالث: تعريف البطلان:

وفيه نوعان

الفرع الأول: تعريف البطلان في اللغة:

البطلان من البطل،والباء والطاء واللام، أصل واحد وهو ذهاب الشيء، وقلة مكثه ولُبثه، والذاهب ضياعاً وخسراناً، وسمي الشجاع بطلاً، لأنه يبطل العظائم بسيفه([32]) ، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم تحمل معانٍ متعددة منها:

الضياع والخسران، قال تعالى: (إنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)([33]) أي إن أعمالهم ذهبت خسارة وضياعاً لا فائدة منها ولا عائدة([34]) .
ما لا ثبات له، قال تعالى (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)([35]) .
سقوط الحكم عن الشيء، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ والأَذَى)([36]) والمقصود بالإبطال هنا إحباط أجرها وثوابها.
الناظر في هذه الاستعمالات القرآنية لكلمة الباطل يترشح له أن المورد الذي شربت منه واحد، لا يكاد يختلف عن المعنى المسطور في طلائع هذا الفرع.

الفرع الثاني: تعريف البطلان في الاصطلاح:

أولا: تعريف البطلان في اصطلاح الفقهاء:

اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف البطلان([37]) ، ومن هذه التعريفات مايلي:

عرفه السمعاني –رحمه الله- بأنه: ما لا يتعلق به النفوذ، ولا يحصل له المقصود"([38]) .
وعرفه أبو الحسين البصري –رحمه الله- بأنه: "نفي حصول الغرض، وهو أنه لم يستوفِ شرائطة، التي عليها يقف حصول الغرض بالفعل"([39]) .
وعرفه السبكي –رحمه الله- بأنه: "الذي لا يترتب أثره عليه"([40]) .
وعُرف بأنه: "ما لا يتعلق بالنفوذ ولا يعتد به، بأن لم يستجمع ما يعتبر فيه شرعاً، عقداً كان أو عبادة"([41]) .
وعرفه الدكتور/ مصطفى الزرقاء – رحمه الله – بأنه: "عدم اكتساب التصرف وجوده الاعتباري، وآثاره في نظر الشارع" ([42]) .
وهذه التعريفات – كما تلاحظ – تباينت ألفاظها، وتقاربت معانيها، ويمكن القول من خلال هذه التعريفات أن مقاصد الفقهاء من تعريف البطلان، تدور حول عدم صحة التصرف، وعدم ترتب ثمرته المطلوبة منه عليه، من نشوء حق، أو سقوط واجب، وذلك لمخالفته أمراً أوجب الشارع مراعاتها فيه([43]) . وهذا يشمل سائر التصرفات، من عبادات أو معاملات، فعقد البيع – مثلاً – أوجب الشارع أن، تتوفر فيه أركانه، فإذا اختل ركن من هذه الأركان، كان العقد باطلاً، ولم يتحقق للطرفين الثمرة المطلوبة من وراء هذا العقد، من انتقال المبيع، وقبض الثمن، وغير ذلك من الآثار.

إذن فالعقد الباطل هو: الذي لم يكتسب وجوده الشرعي، ولم يعتد بآثاره.

ثانياً: تعريف البطلان في النظام:

لفظ البطلان من الألفاظ المثبوتة في أنظمة المملكة العربية السعودية بمختلف أنواعها، كجزاء يصم التصرف المجافي للأنظمة واللوائح، لكننا لا نجد في الأنظمة السعودية – كغيرها من الأنظمة والقوانين – نصوصاً تضع تعريفاً للبطلان، وترسم قواعده العامة، كما أن نظام الشركات السعودية، رغم ورود عبارة البطلان في مواد كثيرة لم يشأ أن يعرف البطلان، تاركاً مهمة ذلك لشرح الأنظمة.

شروح الأنظمة ومراجعها أوردت تعريفات كثيرة للبطلان.

فقد عرف بأنه: "الجزاء القانوني على عدم استجماع العقد لأركانه كاملة مستوفية لشروطها"([44]) .

وعرف بأنه: "عدم الصحة، أو عدم النفاذ، الذي يلحق تصرفاً، لمخالفته لأمر، أو نهي من القانون"([45])

هذه التعريفات لا تختلف عن تعريفات الفقهاء إلا في سبب البطلان فسبب البطلان عند الفقهاء هو مخالفة أحكام الشريعة، وسببه عند القانونيين هو مخالفة أحكام القانون، أما سببه في النظام السعودي، فهو مخالفة أحكام الشريعة، وكذلك مخالفة الأنظمة([46]) .

تعريف بطلان عقد الشركة:

لم أجد تعريفاً لبطلان عقد الشركة في المراجع الفقهية، ولا في المراجع القانونية ويمكن أن أضع له التعريف الآتي: "عدم صحة عقد الشركة وانعدام آثاره" ، فالبطلان إذا طوق عقد الشركة، فقد أسقط صحته، وحرم أطراف العقد من تحقيق الآثار، التي تغياًها المبرمون لعقدها.

المطلب الرابع: تعريف أسباب بطلان عقد الشركة:

تعريف الأسباب في اللغة:

الأسباب جمع سبب، والسبب ما توصل به إلى غيره، ويطلق على الحبل، وكل شيء يتوصل به إلى أمر من الأمور([47]) .

وفي الاصطلاح:

ما يلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم([48]) .

فأسباب البطلان هي الوسائل المفضية إلى بطلان عقد الشركة، فإذا وجدت هذه الوسائل، أو أحدها أفضى ذلك إلى بطلان عقد الشركة، وإذا انعدمت زال البطلان، فالشارع جعل وجود السبب علامة على وجود مسببه وهو البطلان، وجعل تخلفه وانتفاءه علامة على تخلف ذلك الحكم، الذي هو البطلان([49]) .

وبناءً على ما تقدم يمكن تعريف عنوان البحث مركباً بأنه: الوسائل المفضية إلى عدم صحة عقد الشركة، وانعدام آثاره.

وسوف يتناول هذا البحث هذه الوسائل (الأسباب) بالتفصيل – إن شاء الله - .

المطلب الخامس: تمييز عقد الشركة عن غيره مما قد يشتبه به:

قد تشتبه حالة بطلان عقد الشركة بغيرها من الحالات التي تعتّور هذا العقد، مثل الفساد، والفسخ.

وأذكر فيما يلي أهم الفروق بين بطلان عقد الشركة وهذه الحالات.

الفرق بين بطلان عقد الشركة وفساده:

الفساد في اللغة:

نقيض الصلاح، مأخوذ من فَسَد الشيء يفْسَد فساداً وفسوداً، والفساد خروج الشيء عن الاعتدال قليلاً كان الخروج عنه، أو كثيراً([50]) .

الفساد في الاصطلاح:

اتفق الفقهاء على ترادف معنى الباطل والفاسد في فقه العبادات([51]) ، أما المعاملات فقد ذهب جمهور العلماء إلى ترادف معنيهما كذلك، مصيراً منهم إلى أن كل سبب منصوب لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه وُصف بالصحة، وإن تخلف عنه مقصوده وصف بالبطلان، فالصحيح ما أثمر، والباطل هو الذي لا يثمر، لأن كل سبب مطلوب لثمرته، وثمرته هو ترتب أثره، من نحو الملك في البيع، وحفظ الحق في الرهن، واقتسام الأرباح في الشركة.

فالعقد إما صحيح أو باطل، وكل باطل فاسد والعكس([52]) .

وذهب الحنفية إلى منع الترادف بينهما، فللبطلان معنى يغاير الفساد، لأن صور المخالفات – كما يقولون – ليست في مرتبة واحده، فمنها مخالفات أساسية مؤثرة في العقد، ومنها مخالفات غير أساسية فلا ينبغي أن يكون الجزاء واحداً في الحالين، بل يجب أن يتناسب الجزاء مع درجة المخالفة، والعقد المخالف للأحكام في ناحية غير أساسية هو موافق للنسق الشرعي العام في جميع النواحي الأساسية، واستجمع أركانه وشرائطه، فيجب أن يكون في منزلة بين الصحة والبطلان([53]) ، هذه المنزلة أطلقوا عليها اسم الفساد.

ولذلك فالأحناف يُعرّفُون الباطل بأنه: ما لم يشرع بأصله ووصفه([54]) ، والفاسد: ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه([55]) .

فالبطلان مرده إلى خلل في الأصل، بأن يتوجه النهي لذات المنهى عنه، أو يكون النهي بسبب الخلل والقبح المتعلق بالذات.

بينما الفساد مرده إلى خلل في الوصف إذ إن الذات سليمة من القبح، ولكن النهي توجه إليها بسبب اتصالها بوصف قبيح ملازم لها([56]) .

كما لو اشترك شخصان، ولم يحددا الربح لكل منهما، فإن عقد الشركة مشروع في أصله، وممنوع من حيث إنه مشتمل على هذا الوصف، فيكون عقداً فاسداً في نظر الأحناف، وينقلب صحيحاً إذا خلع هذا الوصف.

وكما لو شرط أحد الشركاء في عقدها أن يتحصن ضد الخسارة، فإن عقد الشركة مشروع في أصله، وممنوع من حيث إنه مشتمل على هذا الوصف، فيكون عقدها صحيحاً، إذا سقط هذا الوصف وتجرد عنه.

وبهذا يتضح الفرق بين بطلان عقد الشركة وفساده عند الأحناف، فالأول عقد معدوم، لا تترتب عليه أي آثار ونتائج، بخلاف الثاني – الفاسد – فإنه تترتب عليه الآثار والنتائج، إذا ارتفع السبب المفضي للفساد.

إذن نخلص من خلال ما تقدم إلى أن بطلان عقد الشركة يرادف فساد عقدها عند جمهور العلماء، بخلاف الأحناف.

وسأصطفى الترادف، مقتفياً في ذلك أثر الجمهور، لسلامة منهجهم وانضباطه، ولأن المنهج الحنفي الذي أنشأ نظرية الفساد، لم يضع فقهاؤه ضابطاً يقيم حداً واضحاً لما يجري فيه هذا التمييز بين البطلان والفساد وما لا يجري([57]) .

نظام الشركات السعودي:

أخذ نظام الشركات السعودي بمنهج الجمهور في عدم التفرقة بين البطلان والفساد، فلا نجد للعقد الفاسد حضوراً في خطاب هذا النظام، بل ولا غيره من الأنظمة.

كما أن القضاء التجاري في المملكة اعتنق هذا المنهج، ولم يفرق بين العقد الباطل والعقد الفاسد([58]) .

قوانين الشركات في الدول العربية هي الأخرى أقصت العقد الفاسد ولم تعترف به، حاشا بعض الدول، التي تأثرت بالمذهب الحنفي([59]) . وأقرت هذا العقد في قوانينها المدنية.

والتالي يمكن القول بوجود عقد الشركة الفاسد في هذه القوانين، باعتبار أن القانون التجاري عائد إلى القانون المدني، عند خلو الواقعة من نص يحكمها في القانون التجاري.

الفرق بين بطلان عقد الشركة وفسخه:

الفسخ في اللغة:

الفاء والسين والخاء كلمة تدل على نقض الشيء. يقال: تفسّخ الشيء: انقضى([60]) .

ويقال: فسخت البيع بين البيعين والنكاح، فانفسخ البيع والنكاح، أي نقضته فانتقض([61]) .

إذن الفسخ يطلق في اللغة على النقض والإزالة والرفع.

الفسخ في الاصطلاح:

(هو حل ارتباط العقد) ([62]) .

إذا انبرم العقد بين الطرفين، وجب عليهما الوفاء بكامل الالتزامات التي أحدثها هذا العقد، وإذا أخلّ أحدهما بالتزاماته ساغ للآخر أن يطلب حل الرابطة العقدية، كي يتحلل من التزاماته، وإذا انحلت الرابطة العقدية بينهما، سميت هذه الحالة عندئذ (فسخ العقد).

ويتجلى الفرق بين بطلان عقد الشركة وفسخه فيما يلي:

البطلان لا وجود للعقد من أساسه، فوجوده كعدمه، وذلك لاختلال ركن من أركانه، أما الفسح فإن العقد منعقد قائم، ولكنه بعد الوجود ينحل ويزول بسبب من الأسباب.
في حالة البطلان فإن عقد الشركة لا تترتب عليه آثاره مطلقا فهو كأن لم يكن، فالبطلان يقع منعطفاً ويمحو كافة الآثار السابقة، أما الفسخ فإنه يقع مقتصراً على وقت التعاقد، دون المساس بالآثار السابقة عليه ([63]) .
حقيق بالذكر أن الفسخ لا يرد إلا على العقود اللازمة، وعقد الشركة عند أكثر الفقهاء عقد جائز يستقل بفسخه أحد الشركاء([64]) ، فكان حقاً علينا – بناء على هذا القول – ألا يرد الفسخ على عقد الشركة، ومن ثم تكون مقارنة بطلان عقد الشركة بالفسخ لا معنى لها.

غير أن القول الذي أميل إليه، وهو ما عليه أكثر المالكية([65]) من أن عقد الشركة عقد لازم، وهو ما عليه أنظمة الشركات.

أن هذا القول أولى بالتأييد والمؤازرة، خاصة في ظل الشركات الكبيرة التي تقوم على الاعتبار المالي، والتي تشابكت فيها المصالح، وتوسعت أعمالها في أنحاء كثيرة من العالم، وأضحت مورداً عذباً يشرب منها خلق كثير، ليروي ظمأ الفقر والعوز.

ولو قلنا بجواز فسخ العقد من أحد الطرفين في مثل هذه الشركات لأفضى ذلك إلى خسائر فادحة، وأضرار بالغة، قد تهوي باقتصاد الدولة برمته.

وبناءً على ذلك فنصيب المقارنة من الوجاهة لا يخفى.

بقى أن أشير إلى أن إلغاء العقد يرادف فسخه، فالفقهاء يعبرون بالفسخ تارة والإلغاء تارة أخرى، والمعنى واحد([66]) .

المطلب السادس: أنواع البطلان:

ليس للبطلان عند جمهور الفقهاء إلا نوع واحد، لا يتفاوت في درجته، فالعقد في نظرهم، إما صحيح يؤتي ثماره كلها، وإما باطل لا يثمر شيئاً مما يثمره العقد الصحيح، بخلاف الحنفية كما سبق بيانه.

أنواع البطلان في الأنظمة:

كان القانون الروماني لا يعرف للبطلان إلا نوعاً واحداً ، فالعقد إما صحيح أو باطل، فإذا لم يستوف العقد أشكاله المرسومة، أو فاته ركن من أركان تكوينه، كان باطلاً.

غير أن وحدة البطلان هذه لم يكتب لها البقاء طويلاً، حيث شعب القانون الفرنسي ومن سار في ركابه البطلان إلى شعب ثلاث هي: الانعدام، والبطلان المطلق، والبطلان النسبي، وأطلق على هذا التقسيم الثلاثي، النظرية التقليدية للبطلان، وفيما يلي بيان موجز بكل منها:

الانعدام:

العقد المنعدم هو الذي فاته ركن من أركان تكوينه التي لا يتصور له وجود بدونها، كركن الرضا، والمحل، والسبب، والشكل الذي رسمه القانون.

البطلان المطلق:

يوصف العقد بهذا الوصف متى استجمع أركانه المطلوبة، ولكن اختل ركن منها، بأن لم يستوف الشروط اللازمة، كما لو وجد محل العقد، ولكنه لم يعين، أو كان سببه مخالفاً للنظام العام أو الآداب، كشركة انعقدت على التجارة في المخدرات مثلاً.

البطلان النسبي:

متى استجمع العقد أركانه وشروطه، ثم شابه عيب من عيوب الإرادة العقدية، التي تسمى عيوب الرضا، كالتدليس والإكراه، وعقد ناقص الأهلية، فإن العقد يوسم ب (البطلان النسبي).

فالعقد هنا منعقد صحيح، موجوب لجميع آثاره بين العاقدين، غير أنه قابل للإبطال بين العاقدين.

فلا فرق بينه وبين العقد الصحيح، سوى هذه القابلية للإبطال، فالعقد في حاله البطلان النسبي يظل صحيحاً نافذ الآثار إلى أن يحكم القضاء بإبطاله بناء على طلب أحد الشركاء، الذي شاب إرادته عيب من العيوب، وذلك لحماية رضاه ومصالحه.

والعقد بعد ذلك قابل للإجازة، فإن أجازه تحصن، وسقط حقه في الإبطال.

أما الطرف الآخر فلا حق له في الإبطال، لأن العقد انعقد صحيحاً في حقه فهو لازم.

وليس من حق القاضي أن يقرر البطلان من تلقاء نفسه، دون طلب من صاحب المصلحة، ومن ثم سمي البطلان نسبياً، لأنه مفروض بالنسبة إلى أحد طرفي العقد دون الآخر([67])

نقد هذا القسيم:

هاجم رهط من القانونيين مرتبة الانعدام، ونادوا بهجرها وعدم الأخذ بها، مصيراً منها إلا فرق بينها وبين مرتبة البطلان المطلق، فالاثنتان في مرتبة واحدة، فالعقد الباطل بطلاناً مطلقاً ليس له وجود معتبر، وكذلك العقد المنعدم.

كما أن التمييز بينهما لا يرجى منه فائدة علمية، ففي كليهما لا ينتج العقد آثاراً قانونية، وكل منهما يتمسك به من له مصلحة في ذلك ،وللقاضي أن يحكم بهما من تلقاء نفسه، ولا تلحق الإجازة أيا منهما، ولا أثر للتقادم فيها([68]) .

هذا الهجوم أدى إلى رحيل الانعدام من أنواع البطلان، وبقى نوعاه الآخران، البطلان المطلق، والبطلان النسبي، في بعض القوانين، وعند أكثر الشراح، كما أن البطلان النسبي أصابته سهام النقد كذلك.

نقد البطلان النسبي:

ذهب جمع من الباحثين إلى أن البطلان النسبي ليس فيه شيء من البطلان، فهو عقد صحيح، نافذ، تترتب عليه كافة الآثار، وغاية ما فيه أنه قابل للإبطال.

ومن الواضح أن قابلية العقد للإبطال لا تعد بطلاناً، ولا يصح وصفها بالبطلان النسبي.

وعلى ذلك فإن العقد الباطل بطلاناً نسبياً مصيره ينتهي إلى الإجازة أو الإبطال، فإذا لحقته الإجازة زال البطلان، وصار العقد صحيحاً، منشئاً لجميع آثاره، فلا يعود والحالة هذه ثمة فرق بينه وبين العقد الصحيح، وإما أن يتقرر بطلانه فينعدم انعداماً تاماً فيكون كالعقد الباطل ولا فرق([69]) .

وقد اعتنق هذا الاتجاه كثير من شراح القانون المدني([70]) ، وكذلك شراح نظام الشركات([71]) .

وبهذا يمكن القول أن البطلان كتلة واحدة، لا تسمح بتصور وجود أنواع له.

وإذا أقصينا البطلان النسبي فمن غير المقبول أن نصف البطلان بأنه مطلق كذلك، طالما أن كل البطلان مطلق، لأن عموم الإطلاق في البطلان لا يجعل محلاً لوصفه به، لأنه يفهم عنه بلا حاجه للوصف([72]) .

هذه النتيجة التي وصل إليها أخيراً شراح الأنظمة راسخة في فقه جمهور الفقهاء منذ قرون عديدة.

موقف نظام الشركات السعودي من أنواع البطلان:

نظام الشركات السعودي لم يقسم البطلان إلى ذينك النوعين، بل كان يطلق على التصرفات التي يأباها وصف البطلان من غير ما تنويع إلى مطلق ونسبي، وهذا واضح من خلال النظر في مواد النظام التي نطقت بالبطلان، كالمادة (2) و (163) وغيرها، كما أن المذكرة التفسيرية للنظام لم تتطرق للبطلان ولم تذكره مطلقاً.

نظام الشركات السعودي مستمد من أنظمة أخرى، وهذه الأنظمة تقسم البطلان إلى مطلق ونسبي، فهل معنى ذلك أن نظام الشركات السعودي يأخذ بهذا التقسيم، باعتبار أن مصادره الأساسية آخذة به؟

أخذ أكثر شراح نظام الشركات السعودي بتقسيم بطلان الشركات إلى مطلق ونسبي، وقد توكأ هؤلاء الشراح على قاعدة قانونية مفادها أن المصدر التأريخي للنظام يعد مرجعاً يركن إليه في تفسير نصوص النظام([73]) .

والذي أراه ن نظام الشركات السعودي لا يأخذ بها التقسيم للأمور الآتية:

أنه وإن سلمنا بالأخذ بهذه القاعدة، إلا أنه لا ينبغي الركون إليها في كل موطن، لأنه بات من المعلوم أن مرد الأنظمة في المملكة الشريعة الإسلامية وهي المصدر الأساس لها، وقد ذكرت فيما مضى أن جمهور الفقهاء يرون وحدة البطلان، وهو الذي انتهى إلهي كثير من شراح الأنظمة. لا أقول أن الأخذ بتعدد البطلان مخالف للشريعة كلا، فهذه مسألة اجتهادية اصطلاحية، لا تثريب على من اعتنق التعدد.
قد تهاوت – كما أبصرت – تقسيمات البطلان، وأضحى البطلان شيئاً واحداً لا يتنوع، فالتقسيم نظرية بائدة، بدأ هجرها واضحاً لدى الشراح، الأمر الذي يحتم الالتفات عنها.
أن القضاء التجاري في المملكة لا يأخذ بهذا التقسيم، فالأحكام الصادرة في هذا الشأن لا تنوع البطلان إلى مطلق ونسبي([74]) .
بقى أن أشير إلى أن المادة (10 ، 11) من نظام الشركات السعودي ذكرت نوعاً فريداً للبطلان، راق للبعض تسميته " البطلان الخاص " ([75]) وهذا البطلان مقرر لحماية الأغيار الذين تعاملوا مع الشركة، إذ يجوز لهم الاحتجاج ببطلان الشركة في حالة عدم كتابة عقدها وتوثيقه أمام كاتب العدل، أو حالة عدم شهره، لكن لا يجوز للشركاء الاحتجاج بالشركة في حالة عدم الكتابة والشهر، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك –إن شاء الله- .

* * *

المبحث الأول: البطلان المؤسس على تخلف أحد الأركان الموضوعية([76]) العامة لعقد الشركة([77]) :

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: نقض الأهلية التجارية:

المقصود بالأهلية في اللغة:

هي الجدارة والكفاية لأمر من الأمور، يقال: فلان أهل للرئاسة أي جدير بها([78]) .

وفي الاصطلاح:

صفة يقدرها الشارع في الشخص تجعله محلاًً صالحاًً للتكليف([79]) .

وهذا التعريف يشمل الأهلية المدنية والتجارية.

والمقصود هنا بالأهلية أهلية الأداء، وهي صلاحية الشخص للإزام والالتزام.

ولكي يكون عقد الشركة صحيحاً منتجاً لآثاره، يجب أن يكون الشخص قد توافرت فيه الأهلية اللازمة لإبرام عقد الشركة بأن يكون عاقلاً بالغاً رشيداً.

العقل:

يجب أن يكون الشريك عاقلاً، فالمجنون والمعتوه، والصبي غير المميز ليسوا أهلاً لإبرام عقد الشركة، وإذا أبرم أحدهم عقد الشركة كان العقد باطلاً.

وهذا أمر متفق عليه عند الفقهاء([80]) ، والقانونيين([81]) ، ويشمل جميع أنواع الشركات السالف بيانها، وسواء كان سعودياً أو أجنبياً، ذكراً كان أو امرأة.

أما المجنون الذي يفيق أحياناً ويجن أخرى، وكذلك المعتوه الذي يعقل بعض تصرفاته إذا عقدا عقد الشركة فوليهما مخير بين أن يجيز العقد، أو يسعى لإبطاله، وهذا رأي الحنفية([82]) .

ويرى الجمهور، بطلان عقدهما، وهو الراجح، وذلك حماية لهما، وحفظاً لحقوق الناس([83]) ، وهو الذي تأخذ به أكثر الأنظمة([84]) .

البلوغ:

يعرف البلوغ بظهور علاماته، فإذا ظهرت هذه العلامات على الإنسان حكم ببلوغه، ولا اعتبار لسن معينة.

فإذا تأخر ظهور هذه العلامات فيجب الاعتماد على السن، وقد اختلف الفقهاء في تحديد سن البلوغ إلى أقوال متعددة، فمنهم من ذهب إلى تحديد سن البلوغ بخمس عشرة سنة، ومنهم من حددها بسبع عشرة سنة، ومنهم من حددها بثمان عشرة سنة.

وليس هذا مكاناً لبسط هذا الخلاف، ولكن الذي عليه العمل في المحاكم في المملكة هو تحديد سن البلوغ بخمس عشرة سنة([85]) .

أما النظام التجاري السعودي فقد نصت المادة الرابعة من نظام المحكمة التجارية بقولها: (كل من بلغ رشيداً"([86]) ، أو بلغ سن الرشد فله الحق أن يتعاطى مهنة التجارة بأنواعها".

وقد صدر قرار مجلس الشورى رقم (114) وتاريخ 5/11/1374ه وحدد سن الرشد بثماني عشرة سنة([87]) .

كما نصت المادة (17) من نظام الأوراق التجارية الصادر بالمرسوم الملكي رقم (37) وتاريخ 11/10/1383ه بقولها: "لا يعتبر السعودي أهلاً للالتزام بالكمبيالة إلا إذا بلغ ثماني عشرة سنة".

هذه النصوص تقود الباحث إلى القول أن سن البلوغ بالنسبة للشريك هو تمام ثماني عشرة سنة من العمر، وهذا يشمل السعودي والأجنبي، والرجل والمرأة([88]) وعلى ذلك فإذا أبرم عقد الشركة شخص لم يبلغ هذا السن كان عقد الشرك باطلاً.

إذن فالنظام التجاري السعودي قد أخذ بقول بعض الفقهاء الذين حددوا سن البلوغ بتمام ثمان عشرة سنة.

أما الصبي المميز وهو الذي أتم من العمر سبع سنوات ولم يصل حد البلوغ فهل يصح منه عقد الشركة؟

اختلف الفقهاء في ذلك:

فذهب الحنفية([89]) والمالكية([90]) إلى أن عقده صحيح غير أنه يشترط لنفاذه إذن الولي.

أما الحنابلة([91]) فيشترطون لصحة عقده أن يكون مأذوناً له بالتجارة قبل إبرام العقد.

وقال الشافعية([92]) وبعض الحنابلة([93]) لا يصح شيء من تصرفاته إلا بعد البلوغ، وقد أخذ النظام التجاري بهذا القول الأخير، كما هو واضح من النصوص النظامية السابق ذكرها([94]) .

وهو ما تقضي به القوانين الحديثة([95]) .

وهو القول الذي أرجحه في عقد الشركة خاصة، لأنه عقد يستمر زمناً طويلاً في الغالب. وينعقد على رأس مال كبير، وتتشابك فيه مصالح الشركاء والأغيار، كما أنه عقد يحتاج إلى خبرة ودراية في إدارة أمور الشركة، وهذه أمور لا يحسنها الصبي المميز.

فالعارف في أحوال الشركات لا يسعه غير القول بمنع دخول الصبي المميز في عقد الشركة.

إذن نخلص إلى أن عقد الشركة إذا أبرمه شريك لم يبلغ سن الثامنة عشرة كان عقداً باطلاً.

الرشد:

لا يكفى البلوغ لإبرام عقد الشركة، بل يجب أن ينضم إلى ذلك شرط آخر، وهو كون الشريك العاقد رشيداً، والرشد هو: البصيرة وحسن التصرف في المال، وهذا المعنى لا يتحدد بسن معينة وإنما يعرف من خلال تصرفات الشخص، فبعد اختباره، يعرف هل هو رشيد أو ليس كذلك، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء([96]) ، لقوله تعالى: (وابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)([97]) ، فالله – عز وجل – أمر باختبار الشخص حتى يعرف رشده([98]) .

وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة – رحمه الله -، حيث ذهب إلى أن سن الرشد يتحدد بخمس وعشرين سنة، لأنه بعد بلوغه هذه السن لا يجدي فيه التأديب، لأنه صلح أن يكون جداً([99]) ، ثم إن في سلب أهلية الإنسان الحر العاقل من الضرر المعنوي الذي يهتك كرامته ما يفوق الضرر المالي الذي يراد إنقاذه بالحجر عليه([100]) .

ويرى الدكتور/ مصطفى الزرقاء – رحمه الله – أن تحديد سن الرشد تركته الشريعة لولاة الأمر، بحسب مقتضيات الزمن والسياسة الشرعية في المصالح المرسلة([101]) .

والذي أراه راجحاً هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وذلك لوضوح دلالة الآية.

وما ذُكر من حجج غير مقنعة لذوي البصائر بالطبائع الإنسانية.

وبناءً على ما تقدم فإذا بلغ الشخص ثماني عشرة سنة، وكان رشيداً، ساغ له إبرام عقد الشركة، وإن ثبت عدم رشده فإن عقد الشركة والحالة هذه يكون باطلاً، والقاعدة في هذا الصدد أن من يدعي عدم الرشد عليه عبء إثباته.

أما النظام التجاري السعودي فهو يشترط مع البلوغ الرشد، وقد ذكرت عند الكلام عن البلوغ النصوص النظامية المتعلقة بذلك، فلا حاجه لإعادتها هنا، ولكن الذي يهمنا هو خلاف الشراح في مقصد المنظم بالرشد، هل يتحدد بسن معينة أو لا؟

فذهب بعض الشراح إلى أن المنظم السعودي حدد الرشد بتمام ثمان عشرة سنة، بدليل قرار مجلس الشورى آنف الذكر، وكذلك ما جاء في اللائحة التنفيذية لنظام الجنسية([102])([103]) .

والقول الآخر ذهب إلى أن النظام السعودي يأخذ بقول جمهور الفقهاء، ولم يحدد الرشد بسن معينة، وما ورد في نص المادة الرابعة من نظام المحكمة التجارية لا تعدو أن تكون صياغة غير دقيقة، منقولة من بعض القوانين، والناظر في هذه المادة يلمح ذلك، فقد جاء في صدر هذه المادة قوله: "كل من كان راشيداً" ، ثم أردف قائلاً "أو بلغ سن الرشد" وهذا العيب في الصياغة ظاهر لا يخفى([104]) .

هذا الرأي هو الأصح في نظري، لاسيما وأن المملكة تأخذ بمذهب الجمهور، القائلين بعدم تحديد الرشد بسن معين، وهو الذي عليه العمل.

ولكي يرتفع هذا الخلاف ويزول أقترح تعديل نص المادة الرابعة من نظام المحكمة التجارية لتكون وفق الصياغة الآتية: "كل من بلغ سن الثامنة عشرة، وكان رشيداً، فله أن يتعاطى مهنة التجارة بأنواعها".

بقى أن أشير إلى أنه يجوز لولي القاصر، ولو كان معدوم الأهلية أن يكتتب في أسهم الشركات، ولا ينطوي على ذلك بطلان الشركة، لأنه إنما فعل ذلك باسمه، وهذه الأسهم تدخل في محفظة الولي، وبالتالي لا يعد القاصر هنا طرفاً في عقد الشركة.

المطلب الثاني: عيب الرضا:

مناط صحة العقود الرضا، قال تعالى: (إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)([105]) ، ويجب أن يكون التراضي صحيحاً خالياً من العيوب، فإذا شاب الرضا عيب من العيوب، كان ذلك سبباً من أسباب بطلان عقد الشركة، والعيوب التي تشوب الرضا هي: الغلط، والتدليس، والإكراه.

الغلط:

الغلط هو : "الشعور بالشيء على خلاف ما هو به"([106]) .

أو هو: حالة تقوم بالنفس تحمل على توهم غير الواقع واقعاً([107]) ، كمن يشتري شيئاً يظنه جيداً، وهو رديء، أو يظنه يساوي الثمن الذي اشتراه به، وهو لا يساويه.

والغلط يأتي على أنواع متعددة([108]) ، يمكن حصرها فيما يلي:

الغلط في الشيء:
وهذا النوع من الغلط يقع في ماهية العقد، وفي جنس المعقود عليه، فمثال الأول، كما لو أبرم عقد إجارة، فإذا هو عقد شركة، ومثال الثاني:كما لو أبرم عقد الشركة على النقود فإذا هي على العروض، أو أبرم العقد على العملة السعودية، فإذا هي على عملة أخرى، أو أبرم العقد على أن نوع الشركة هي شركة توصية بالأسهم، فإذا هي شركة تضامن.

وحكم هذا النوع من الغلط أنه يمنع انعقاد الشركة، فيكون العقد باطلاً، لأنه وقع على معدوم، والعقد على المعدوم باطل، وهو قول أكثر الفقهاء([109]) . وذهب بعض العلماء إلى أنه ليس بباطل ولكنه قابل للإبطال، وللعاقد الخيار في إمضاء العقد أو إبطاله([110]) .

والقول الأول هو الراجح، وهو الذي تأخذ به الأنظمة الحديثة([111]) ، ومنها نظام الشركات السعودي([112]) .

2- الغلط في الشخص:

بات من المعلوم أن الغلط في شخصية الشريك له تأثير في عقد الشركة، إذا كانت شخصيته محل اعتبار، كقرابة، أو كفاءة، أو ملاءة أو نحو ذلك.

ولا يكون الغلط في شخصية الشريك مؤثراً إلا في شركات الأشخاص، وذلك لأن الاعتبار الشخصي هو الركن الذي آوى إليه الشركاء، وساقهم إلى إبرام عقد الشركة، فإذا أبرم عقد الشركة على أن أحد الشركاء فلان، فبان غيره، فإن ذلك يعد من أسباب بطلان عقد الشركة.

أما شركات الأموال فلا يبدو الغلط في شخصية الشريك مؤثراً، وذلك لقيامها على الاعتبار المالي دون الشخصي([113]) .

الغلط في القيمة:
ويتحقق ذلك في عقد الشركة، كما لو ظن أن رأس مال الشركة مليون ريال، وأبرم العقد على هذا الأساس، ثم تبين له أن رأس المال أقل من ذلك أو أكثر، فعقد الشركة هنا باطل، وقيل: إن له الخيار في إمضاء العقد أو إبطاله([114]) .

ومن خلال ما تقدم يمكن القول إن الغلط يعد من أسباب بطلان الشركات في الفقه الإسلامي، وفي نظام الشركات السعودي([115]) .

التدليس:

التدليس هو: أن يخدع أحد العاقدين الآخر بأي وسيلة، لتحمله على الرضا بالعقد بما لم يكن ليرضى به لولاها([116]) ، ويسميه بعض الفقهاء التغرير([117]) .

وصور التدليس في عقد الشركة متعددة، كأن يوهم الآخرين بأن الشركة تعمل في تجارة العقار، وهي في الحقيقة للمضاربة في الأسهم، أو الإعلان عن ميزانية مالية ضخمة للشركة، أو دخول أحد الأثرياء ثراءً فاحشاً شريكاً في هذه الشركة، ثم تبين خلاف ذلك.

ويشترط في التدليس لكي يكون سبباً لإبطال عقد الشركة شرطان:

أن يكون التدليس هو الدافع إلى عقد الشركة، بحيث تكون الحيل هي التي ساقت الشخص إلى الاشتراك في الشركة.
أن يكون التدليس قد وقع على الشخص من جميع الشركاء، وذهب البعض إلى أنه يكفي أن يصدر التدليس من أحد أطراف العقد، ولا يلزم أن يكون صادراً من الجميع([118]) ، وهذا الرأي هو الذي ينبغي أن يصار إليه، وذلك أن مقتضى عقد الشركة أن كل شريك يتصرف أصيلاً عن نفسه ووكيلاً عن بقية الشركاء، وهو إنما يفعل ذلك باسم الشركة، ونفع تصرفاته تعود إلى الشركة.
أما إن كان التدليس صادراً من الغير، فإن كان ثمة تواطؤ مع أحد الشركاء فله حق إبطال عقد الشركة، وإن لم يكن هناك تواطؤ بينهما فلا حق له في الإبطال، وعند البعض له الحق في ذلك([119]) . والأول هو الراجح، وللمضرور حق الرجوع بالتعويض على من غره.

الإكراه:

الإكراه هو: الفعل الذي يبعث في نفس الشخص رهبة تحمله على التعاقد.

وقد يكون الإكراه حسياً، كالضرب والتعذيب، وقد يكون نفسياً، كالتهديد بخطر جسيم يلحق بالمكره في جسمه أو نفسه أو ماله، والإكراه نوعان:

الإكراه ملجئ، أو تام، كالقتل، والقطع، فالقطع الذي يخشى فيه تلف النفس، أو عضو من أعضائها، أو كما لو أمسك يده وأكرهه على التوقيع على عقد الشركة.
إكراه غير ملجئ أو ناقص وهو ما كانت وسيلته لا تحدث إلا ألماً خفيفاً أو غماً يسيراً، كالضرب الخفيف، والحبس، ونحو ذلك([120]).
وحكم الإكراه بنوعية يؤثر في عقد الشركة، ولكن الفقهاء اختلفوا في مدى هذا التأثير، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الإكراه مبطل لعقد الشركة؛ لأن الرضا شرط لانعقاد العقد والإكراه سلبه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)([121]) ، فالآية قرنت صحة العقد بتحقق الرضا به من العاقدين، فإذا انتفى صار العقد بذلك باطلاً؛ لأنه يكون من أكل أموال الناس بالباطل.

ثم إن من يتصرف تحت الإكراه لم يقصد إنشاء العقد، وإنما قصد دفع الأذى وإنقاذ نفسه([122]) .

وذهب الحنفية والمالكية إلى أن الإكراه يجعل العقد قابلاً للإبطال، فالمكره مخير بعد زوال الإكراه بين إبطال العقد وإمضائه، وحجتهم: قالوا إن العقد قائم موجود، إلا أنه لحقه خلل أفسده وهو الإكراه وعدم الرضا، والرضا متعلق بالمكره، فإذا حصل الرضا بعد زوال الإكراه فقد زال سبب الفساد، فصار العقد بذلك صحيحاً([123]) .

والراجح هو القول الأول، لوجاهة ما استدلوا به، وهو القول الذي تأخذ به الأنظمة الحديثة، لكنها تشترط أن يصدر الإكراه من أحد الشركاء، أو من شخص آخر يعلم الشريك به، أو من المفترض أن يعلم به. ([124])

المطلب الثالث: عدم مشروعية المحل:

محل عقد الشركة هو ما تنعقد عليه من رأس المال والعمل([125]) ، ولكي تكون الشركة صحيحة سالمة من بطلان يغشاها يلزم أن تتوفر في هذا المحل الشروط المطلوبة.

إذا فقد المحل هذه الشروط أو أحدها، كان المحل غير مشروع، وأفضى ذلك إلى بطلان عقد الشركة.

وتتمثل عدم مشروعية المحل التي تقود إلى بطلان عقد الشركة فيما يلي:

1- كون رأس مال الشركة من غير النقدين.

لا خلاف بين الفقهاء على جواز جعل رأس المال في الشركة النقود، لأنها قيم الأموال، وأثمان البياعات، والناس يشتركون بها في كل عصر ومصر من غير نكير([126]) ، قال ابن قدامة – رحمه الله - : " ولا خلاف في انه يجوز جعل رأس المال الدراهم والدنانير " ([127]) .

أما ما عدا النقدين من العروض، وحقوق الملكية المعنوية فمحل خلاف بين العلماء.

الشركة بالعروض:

العروض: هي كل ما ليس نقداً، ثابتة، كالأراضي، والمزارع، أو منقولة، كالسيارات، والملابس.

وقد اختلف الفقهاء في حكم الشركة بالعروض، سواء قدمت من جميع الشركاء أو من بعضهم على أقوال:

القول الأول: إن الشركة بالعروض لا تصح، سواء كانت مثلية أو قيمية([128]) ، وهذا مذهب الحنفية([129]) ، والحنابلة في رواية([130]) ، والظاهرية([131]) ، وعلى ذلك فإن الشركة بالعروض باطلة، لعدم مشروعية المحل.

القول الثاني: إن الشركة تصح في المثليات من العروض دون القيميات وهو قول الشافعية([132]) .وعلى ذلك فإن الشركة إذا انعقدت على القيميات فإنها شركة باطلة.

القول الثالث: إن الشركة تصح بالعروض مطلقاً، سواء كانت قيمية أو مثلية، وهو مذهب المالكية([133]) ، ورواية عند الحنابلة([134]) .

الأدلة:

استدل أصحاب القول الأول بما يلي:

1- أن الشركة تتضمن معنى الوكالة، والوكالة لا تصح في العروض المملوكة للغير، ووجه ذلك: أن كل شريك وكيل عن شريكه في التصرف، وليس يصح للإنسان أن يتصرف في عروض مملوكة له على وجه الوكالة عن غيره في هذا التصرف، إذ إن الولاية له دون غيره، وإذا لم تجز الوكالة – التي هي من مستلزمات الشركة – فإن الشركة لا تجوز([135]) .

ويجاب عن هذا الدليل:

أن احتجاجهم بأن الشريك يتوكل في مال نفسه ممنوع، ذلك أن كل شريك حين يقدم العروض حصة في رأس مال الشركة، إنما أشرك الآخرين معه في ملكه، فكان كل شريك يتصرف في ماله أصيلاً، وفي مال شريكه وكيلاً، فلا يتصرف في مال نفسه وكيلاً عنها، هذا من جهة([136]) .

ومن جهة أخرى فإنه يترتب على قيام الشركة ولادة شخصية جديدة، هي الشخصية الحكيمة([137]) ، أو المعنوية للشركة، فرأس المال المقدم من الشركاء ينتقل من ذممهم إلى ذمة الشخص المعنوي، وبالتالي فإن الشريك لا يتصرف باسمه، بل الشركة هي التي تتصرف من خلال الممثل الطبيعي لها.

أن العروض مجهولة القيمة، فلا تعرف إلا بالظن والتخمين، وهذا يؤدي -إلى الجهالة عند توزيع الربح، مما يقود إلى النزاع والشقاق بين الشركاء([138]) .
ويجاب عن ذلك:

بأنه يمكن أن يعرف قيمة العروض عند عقد الشركة، ويحسب رأس مال الشريك الذي قدم العروض على هذا الأساس([139]) ، وإن حصل جهالة يسيرة فإنها مغتفرة، وذلك أن الجهالة اليسيرة في عقود المعاوضات غير مؤثرة([140]) .

أدلة أصحاب القول الثاني:

أن المثليات يقوم بعضها مقام بعض، وإذا اختلطت بجنسها، ارتفع التمييز، فهي كالنقود، بخلاف القيميات فإنها متمايزة، فلربما يتلف مال أحدهما، ويبقى مال الآخر، ولا يمكن قسمته([141]) .

والجواب:

أن التفريق بين المثلي والقيمي لا دليل عليه، فإن الشركة إذا جازت في ذوات الأمثال جازت في غيرها ولا عبرة للتمييز، فإن التصرف يحصل في المالين معاً([142]) .

دليل القائلين بالجواز:

أن العروض يمكن أن تقوم قبل قيام الشركة، وبهذا تزول الجهالة التي يخشاها المانعون.

ثم إن المانعين لا يملكون دليلاً سليماً من الشريعة يمنع المشاركة بالعروض.

وبهذا يتبين أن القول الراجح هو جواز الشركة بالعروض، وعلى ذلك فإن الشركة بالعروض لا يؤدي إلى بطلان الشركة، وهو القول الذي أخذ به نظام الشركات السعودي، حيث نصت المادة (3) بقولها: "يجوز أن تكون حصة الشريك مبلغاً معيناً من النقود (حصة نقدية)، ويجوز أن تكون عيناً (حصة عينية) والحصة العينية هي العروض.

المشاركة بالملكية الفكرية:

الملكية الفكرية تنقسم إلى أقسام ثلاثة هي:

الملكية الصناعية، وتشمل الرسوم والنماذج الصناعية، وبراءات الاختراع.
الملكية التجارية، وتشمل العلامة التجارية والاسم التجاري، والمحل التجاري، والأوراق المالية.
الملكية الأدبية وتشمل حقوق المؤلف([143]) .
هذه الحقوق لها قيمة عند الناس، ويباح الانتفاع بها، وبالتالي يجوز المشاركة بها كحصة في رأس مال الشركة([144]) ، ونظام الشركات السعودي يجيز ذلك أيضاً([145]) .

المشاركة بالسمعة:

السمعة هي: المكانة التي يتبؤها الشخص في المجتمع، وما يتفرع عنها من حق في أن يُعطي الثقة والاحترام، سواء كانت هذه المكانة سياسية أو إدارية، أو تجارية([146]) .

لا شك أن السمعة السياسية والإدارية لا يجوز أن تكون حصة في رأس مال الشركة، ولا أعرف خلافاً في ذلك، لأنهما ليست مالاً ولا تقوم بالمال.

أما السمعة التجارية فأكثر أنظمة الشركات تمنع أن تكون حصة في رأس مال الشركة([147]) ، ومنها نظام الشركات السعودي حيث جاء في المادة الثالثة: "... لا يجوز أن تكون حصة الشريك ما له من سمعة ونفوذ"؛ لأن السمعة التجارية ليست مالاً، ولا يمكن أن تقوم بالمال، فكان الاشتراك بهما مبطلاً لعقد الشركة.

وهذا المنع متفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، لأن السمعة ليست مالاً ولا عملاً، ولا يرد عليها الملك، وللجهالة الفاحشة التي تقود إلى النزاع بين الشركاء.

ولا جائز أن تقاس السمعة على شركة الوجوه، المعروفة في الفقه الإسلامي؛ لأن الشركاء في هذه الشركات يشتركون في مال يأخذونه من التجار بجاههم، ويعقبه عمل، يتمثل في السعي ببيع ما تم شراؤه، بخلاف السمعة فلا مال ولا عمل!

إذن فالاشتراك بالسمعة يعد سبباً من أسباب بطلان عقد الشركة.

كما تتمثل لعدم مشروعية المحل فيما يلي:

2- كون محل الشركة عملاً غير ممكن.

إذ قدم أحد الشركاء عمله حصة في رأس مال الشركة، وكان هذا العمل متعذراً لا يمكن تحقيقه، فإن عقد الشركة يكون باطلاً ، كما لو قدم الطبيب أو المحامي عمله في رأس مال الشركة، ولكن لا يحمل الرخصة اللازمة لمزاولة هذا العمل([148]) .

3- كون محل الشركة مخالفاً للشريعة أو الأنظمة:

محل عقد الشركة كما ذكرت هو المال والعمل، فإذا كان هذا المحل مخالفاً لأحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة، كان عقد الشركة باطلاً ، والقاعدة في هذا الصدد أن كل ما لا يجوز بيعه إذا اشترك به الشخص صّير عقد الشركة باطلاً([149]) .

فلو كانت حصة الشريك في الشركة خمراً، أو خنزيراً، أو نقوداً مزيفة، أو غير ذلك من المنافع غير المباحة، فإن عقد الشركة يكون باطلاً([150]) .

وكذلك لو قدم أحد الشركاء عمله حصة في رأس مال الشركة وكان محرماً، أو مخالفاً للأنظمة كان عقد الشركة باطلاً، كما لو قدم عمله مديراً لبيوت القمار أو الدعارة، أو عاملاً في حانات الخمر، أو تهريب المخدرات، أو تزوير الإقامات والوثائق الحكومية، فكل هذه الأعمال وأمثالها تكسو عقد الشركة ثوب البطلان.

وهذا أمر متفق عليه عند الفقهاء([151]) ، وعند القانونيين في الجملة([152]) ، حيث نصوا على أن محل العقد إذ كان مخالفاً للنظام العام والآداب([153]) ، كان ذلك سبباً من أسباب بطلان العقد([154]) .

المطب الرابع: عدم مشروعية السبب:

يراد بسبب عقد الشركة الغرض الذي يسعى الشركاء إلى تحقيقه، ويطلق عليه البعض: الباعث([155]) ، والمقصد([156]) .

لا شك أن المقصد الأساس الذي يسعى إليه الشركاء من وراء عقد الشركة هو تحقيق الأرباح، ولا يمنع ذلك أن يصاحب هذا المقصد رغائب أخرى، يروم الشركاء تحقيقها، سواء كانت خاصة بهم، أو عامة، كسد حاجه البلاد من الغذاء أو الدواء أو التعليم.

تحقيق الأرباح من الأمور التي لا ينازع أحد في مشروعيتها من حيث الأصل، غير أن الوصول إلى تحقيق هذا المقصد لا يتحقق بمجرد عقد الشركة، بل لابد من طريق يوصل إليه، هذا الطريق هو العمل الجاد الذي تقوم به الشركة، كوسيلة موصولة إلى تحقيق الأرباح، وهذه الوسيلة قد تكون المتاجرة بالسيارات، أو الأدوية، أو الشحن، أو غير ذلك، هذه الوسائل أطلق عليها سبب الشركة، مع أن السبب أو الباعث على الشركة في الأصل هو تحقيق الأرباح، لكن أطلق السبب على الوسيلة([157]) .

إذا تبين ذلك فأقول: يجب أن يكون سبب عقد الشركة مشروعاً وذلك بأن لا يخالف الشريعة ولا الأنظمة، فإن كان سببها غير مشروع كانت الشركة باطلة، فالشركات التي تمارس أعمالاً محرمة كالإقراض بالربا، أو بيع الخنزير، أو المتاجرة بالخمور والمخدرات ونحو ذلك من المحرمات فإن عقد الشركة يكون باطلاً([158]) .

كذلك يكون عقد الشركة باطلاً، إذا كان العمل الذي تقوم به الشركة مخالفاً للأنظمة، مثل المتاجرة بالتأشيرات أو تهريب الممنوعات أو يكون العمل جائزاً، غير أن النظام يحظره على مثل نوعها من الشركات، مثال ذلك ما نصت عليه المادة (159) من نظام الشركات من حطر القيام بأعمال التأمين أو الادخار أو البنوك على الشركة ذات المسؤولية المحدودة.

وعلى ذلك فإن الشركة ذات المسؤولية المحدودة تُعد باطلة، متى كان الغرض من إنشائها القيام بأحد هذه الأعمال.

إن معرفة غرض الشركة، ونوع نشاطها لا يثير صعوبة بالنسبة للشركات التجارية، لأن ذلك يجب أن يبين في عقدها التأسيسي، كما نطقت بذلك الفقرة (1) من المادة (22) من نظام الشركات السعودي.

ومن خلال النظر في الغرض يعرف مدى مشروعيته، فإن كان مشروعاً، وإلا حُرم العقد وبطل.

وهذا الغرض غير المشروع قد لا يبدو ظاهراً منصوصاً عليه في العقد، بل يتوارى خلف غرض مشروع ظاهر.

فالشركة تبدو للناظرين أنها تمارس أعمالاً مشروعة، وهي في حقيقتها تمارس أعمالاً غير مشروعة.

هذه البواعث والقصود الخفية، إذا أمكن إثباتها هل لها تأثير على عقد الشركة من حيث الصحة والبطلان؟

هذه مسألة اختلف الفقهاء فيها على قولين:

القول الأول: إن للبواعث والقصود تأثيراً في عقد الشركة، متى أمكن الكشف عنها، والعلم بها، من خلال الدلائل والقرائن، يتمثل في بطلان عقد الشركة، وهذا مذهب المالكية([159]) ، والحنابلة([160]) ، والظاهرية ([161]) ، وهو القول الذي استقرت عليه الأنظمة الحديثة([162]) .

القول الثاني: ليس للبواعث والأغراض الخفية تأثير على عقد الشركة، ما لم تظهر صراحة في التصرف، ولا عبرة بالقرائن والدلائل المصاحبة الدالة على القصود المحرمة، وهذا مذهب الحنفية([163]) ، والشافعية([164]) .

سأصرف قلمي عن كتابة أدلة كل قول وحجاجه، لأن هذه الصفحات ليست موضع ذكرها، لكن الذي يمكن أن أقوله: إن القول الأول، قول ينضوي تحت لواء الشريعة الإسلامية، ومقاصدها العامة، وكلياتها الرحيبة، التي جاءت بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها([165]) ، وهو قول يسعى إلى منابع الفساد وتجفيفها، لاسيما في هذا الزمن الذي تكاثرت فيه الشركات التي ترفع شعارات مشروعة، وهي في حقيقتها تأكل أموال الناس بالباطل، وتسعى في نشر الفساد والرذيلة في المجتمعات الإسلامية.

إذن نخلص إلى أن نشاط الشركة إذا كان غير مشروع، سواء كان ذلك ظاهراً منصوصاً عليه في عقدها، أو خفياً وأمكن إثباته، فإن ذلك يعد سبباً من أسباب بطلان عقد الشركة، ويقع على من يدعي عدم المشروعية عبء الإثبات بكافة طرائقه.

* * *

المبحث الثاني: البطلان المؤسس على تخلف أحد الأركان الموضوعية الخاصة لعقد الشركة:

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: عدم تعدد الشركاء:

لا يتصور لعقد الشركة قيام، إلا إذا كانت بين شخصين أو أكثر، وهذا أمر تقتضيه اللغة، والنصوص الشرعية والفقهية والنظامية فالشركة – كما تقدم – مخالطة الشريكين، ولا يتحقق ذلك إلا بين اثنين.

وأدلة الكتاب والسنة طافحة بهذا المعنى، ولعلي أكتفي بالحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما) " ([166]) .

فقد عبر الباري – عز وجل – بقوله: "أنا ثالث"، ولم يقل ثاني مما يدل على أن الشركة لا تنعقد على أقل من شخصين.

والناظر فيما سطره الفقهاء في كتاب الشركة يلمح بوضوح أن الشركة لا يتصور أن تنشأ إلا بين شريكين فأكثر، أنه آمر بات معلوماً من الشركة بالضرورة، لا ينازع فيه أحد.

أما نظام الشركات السعودي فقد نص في مواد كثرة على أن الشركة يلزم أن تكون بين شريكين فأكثر، فطلائع المادة الأولى من النظام نصت بقولها: "الشركة عقد يلتزم بمقتضاه شخصان أو أكثر..." ونصت المادة (15) في فقرتها (34) ن الشركة تقتضي بأيلولة جميع الحصص أو الأسهم إلى شخص واحد كما أن التعريفات النظامية لكل نوع من أنواع الشركات – السالف ذكرها – نصت على وجوب تعدد الشركاء، وهذا الذي عليه أكثر قوانين الشركات في العالم([167]) .

إذن لا يمكن أن تحيا شركة بشخص واحد، وإذا انعقدت كان عقدها باطلاً، لغياب ركن التعدد.

إذا كان هذا هو الحد الأدنى لعدد الشركاء فليس ثمة حد أعلى لعدد الشركاء، فيجوز أن تنعقد بين اثنين أو ثلاثة أو عشرة أو أكثر، هذا في الفقه الإسلامي.

وفي هذا المهيع([168]) سار نظام الشركات السعودي، حاشا شركة المساهمة والشركة ذات المسؤولية المحدودة.

فالأولى لا يجوز أن يقل عدد الشركاء فيها عن خمسة([169]) ، والثانية لا يجوز أن يزيد عدد الشركاء عن خمسين شريكاً([170]) .

فلو انعقدت شركة المساهمة على أقل من خمسة شركاء، فهي شركة باطلة، ولو ربا عدد الشركاء في الشركة ذات المسؤولية المحدودة، عن خمسين شريكاً، فإن ذلك مؤذن ببطلانها([171]) .

هذا التحديد تقتضيه مصلحة ضبط الأمور، وترتيب الأحوال في هذا النوع من الشركات، ولا أعلم نصاً أو قاعدة شرعية يخالفها هذا التحديد.

أما إذا هبط عدد الشركاء في الشركة المساهمة عن الحد الأدنى، وهو خمسة شركاء، فإن النسق النظامي، يحتم بطلان هذه الشركة، غير أن المادة (147) انعتقت عن هذا النسق، وأرست حكماً آخر، إليك نصه: (إذا انقضت سنة كاملة على هبوط عدد المساهمين إلى ما دون الحد الأدنى المنصوص عليه.. جاز لكل ذي مصلحة أن يطلب حل الشركة).

فإذا انصرم عام على هذا الهبوط ساغ لكل ذي مصلحة أن يلجأ إلى القضاء التجاري ويطلب حلّ الشركة، ولا يملك القضاء عندئذ إلا الحكم بحلها.

لكن إذا لم يحرك ذوو المصلحة دعوى البطلان هل تظل الشركة قائمة؟

واضح من منطوق النص أنه ربط حل الشركة بطلب من ذوي المصلحة، ومفهوم النص أنه إذا لم يتقدم أحد إلى القضاء بطلب حلها أنها تظل قائمة.

لا شك أن عجز هذه المادة، يناقض الفقرة الأخيرة من المادة (48) الذي نصت بقولها: (ولا يجوز أن يقل عدد الشركاء في الشركة المذكورة عن خمسة).

لذلك أرى تعديل المادة (147) بما يحتم بطلان الشركة عند هبوط عدد الشركاء عن خمسة، إذا مضى عام ولم يستكمل هذا النصاب، دون أن يعلق ذلك على طلب من ذوي المصلحة، لتظهر نصوص النظام متآلفة متآزرة.

المطلب الثاني: عدم تقديم الحصص:

يلزم لقيام الشركة أن يقدم كل شريك حصته في رأس مال الشركة، الذي اتفق الشركاء على تحديد مقداره، ذلك أن المحل – المال أو العمل – يعد ركناً من أركان الشركة، ولا يتصور للشركة قيام مع غياب هذا الركن.

وهذا واضح غاية الوضوح من خلال النظر في تعريفات الشركة التي ساقها الفقهاء في مؤلفاتهم، وغيرها من مباحث أحكام الشركة.

نظام الشركات السعودي أشار بجلاء عند تعريفه للشركة إلى وجوب تقديم الحصص، إذ بين أن الشركة: (عقد يلتزم بمقتضاه شخصان أو أكثر. بأن يساهم كل منهم في مشروع يستهدف الربع، بتقديم حصة من مال أو عمل...) ([172]) .

كما أن النظام وهو يسوق أنواع الحصص([173]) ، إنما جاء ذلك في سياق الوجوب والإلزام.

وعلى ذلك فإذا تخلف هذا الركن ، ولم يقدم الشركاء حصصهم فإن الشركة تكون باطلة، لأن عقد الشركة لا ينعقد على معدوم([174]) ، فإن كان الذي تخلف عن تقديم الحصة أحد الشركاء، فإن الشركة تكون باطلة كذلك([175]) .

وذهب البعض إلى أن الشركة تنعقد بين الشركاء الذين قدموا الحصص، أما الشخص الذي غاب ماله فإنه لا يعد شريكاً في الشركة([176]) .

وهذا قول مرجوح لأن الشركة إنما انعقدت على رأس مال محدد، فإذا تخلف أحد الشركاء عن تقديم حصته، فإن ما تم الاتفاق عليه بين الشركاء من رأس مال لم يتحقق، وعلى ذلك إذا رام هؤلاء الشركاء الاستمرار في الشراكة بما حضر من رأس مال، فيتعين عليهم إبرام عقد شركة جديد.

الحصة قد تكون نقوداً أو عروضاً أو حقاً من حقوق الملكية الفكرية، أو عملاً من الأعمال، يلتزم به أحد الشركاء، ويلزم أن يكون المال مما يصح أن يكون محلاً للالتزام، وإلا بطلت الشركة، كما تقدم. وإن كانت الحصة عملاً فيجب أن يكون عملاً جاداً يسهم في تحقيق غرض الشركة، فالأعمال التافهة التي لا أثر لها خارجة عن مفهوم العمل الذي يدخل في رأس مال الشركة([177]) .

كذلك يجب أن تكون جميع الحصص معلومة المقدار، فلو كانت مجهولة، أو جزافاً فإن الشركة تكون باطلة([178]) .

وقت الوفاء بالحصة:

يجب أن يكون المال حاضراً من جميع الشركاء عند العقد، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة([179]) .

وذهب الحنفية([180]) ، والمالكية([181]) ، إلى اشتراط حضوره عند التصرف، ولا يلزم عند العقد، لأن عقد الشركة يتم بالتصرف، فيعتبر الحضور عنده([182]) .

نظام الشركات السعودي ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أجاز للشريك – باستثناء الشركة ذات المسؤولية المحدودة - ([183]) ، أن يتأخر في تقديم الحصة التي تعهد بتقديمها ولو بعد قيام الشركة بالعمل والتصرف، ويبقى هذا المتأخر – فضلاً عن مطالبته بالوفاء بالحصة – مسؤولاً في مواجهة الشركة عن تعويض الضرر([184]) الذي حاق بالشركة بسبب هذا التأخير([185]) .

وفي نظري أنه يجب أن يقدم كل شريك حصته التي تعهد بتقديمها عند العقد أو عند التصرف، وإلا كانت الشركة باطلة، وذلك قطعاً لدابر النزاع والشقاق بين الشركاء.

تحديد رأس مال الشركة:

لم يضع الفقهاء حداً أعلى أو أدنى لرأس مال الشركة، وغاية ما شرطوه في هذا الصعيد أن يكون مالاً متقوماً.

أما نظام الشركات السعودي فلم يضع حداً أعلى لرأس مال الشركة، غير أنه وضع حداً أدنى لأنواع محددة من الشركات، وأنا أذكر لك ذلك وفق التعديلات ([186]) الأخيرة للنظام.

حدد النظام رأس مال الشركة المساهمة المقفلة بما لا يقل عن مليوني ريال سعودي، والشركة المساهمة التي تطرح أسهمها للاكتتاب العام بما لا يقل عن عشرة ملايين ريال سعودي([187]) .

وحدد رأس مال شركة التوصية بالأسهم بما لا يقل عن مليون ريال سعودي([188]).

وقد كان رأس مال الشركة ذات المسؤولية المحدودة لا يجوز أن يقل عن خمسمائة ألف ريال، بيد أنه صدر المرسوم الملكي رقم م/60 وتاريخ 3/7/1428ه وترك أمر تحديد رأس مال هذه الشركة لإرادة الشركاء، أي ليس ثمة حد أدنى لرأس مال هذه الشركة.

وبناء على ذلك فإذا انعقدت شركة المساهمة أو التوصية بالأسهم برأس مال أقل من الحد الأدنى المنصوص عليه كانت شركة باطلة.

هذا التحديد لأقل رأس مال الشركة هو تحديد تقتضيه المصلحة وقواعد السياسة الشرعية، ذلك أن هاتين الشركتين تجمع في الغالب أعداداً غفيرة من البشر، ومعلوم أن رأس مال الشركة هو أهم الضمانات لدائني الشركة، فكانت المصلحة ظاهرة في وضع حد أدنى لرأس مال الشركة، وليس في ذلك ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية.

المطلب الثالث: انتفاء نية المشاركة:

لم يرد ذكرٌ لنية المشاركة في نظام الشركات السعودي، ولا غيره من قوانين الشركات الأخرى، ولم أعثر على هذا المصطلح مسطوراً في القوانين المدنية التي اطلعت عليها، ويبدو أن هذا المصطلح من بدائع صنائع الاجتهاد القضائي وشراح الأنظمة، استنبطوه من مفهوم وطبيعة عقد الشركة.

شراح الأنظمة مطبقون على أن نية المشاركة ركن من أركان الشركة الخاصة، لا يصح عقدها بدونه([189]) .

غير أنهم مختلفون في تحديد المقصود بنية المشاركة ، فذهب البعض من الشراح إلى أن نية المشاركة هي: إرادة كل شريك في التعاون مع الشركاء الآخرين في نشاط ينطوي على شيء من المخاطرة.

وذهب آخرون إلى أن نية المشاركة تعني: المساهمة في رأس المال وفي الإدارة، ومواجهة النتائج التي يسفر عنها المشروع، ربحاً أو خسارة ووقوف كل شريك على قدم المساواة للشريك الآخر، بحيث يتمتع بالحقوق التي تنفى احتمال التبعية للشركاء الآخرين، وأن يكون الشركاء سواء في مواجهة الغنم والغرم([190]) .

وذهب رأي غريب إلى أن نية المشاركة أقرب إلى الشعور النفسي من كونها مفهوماً قانونيا([191]) وهذا الوصف لا يفيد المعرف شيئاً.

ومن خلال ما تقدم يمكن القول إن نية المشاركة تعني: عقد العزم لدى الشركاء في متابعة نشاط الشركة والسعي إلى تحقيق أغراضها وتحمل المخاطر، وقبول النتائج التي تسفر عنها من ربح أو خسارة.

وهذا المعنى يجب أن يظل قائماً منذ تأسيس الشركة إلى حين انقضائها، فهو ركن أو شرط ابتداء ودوام.

شراح الأنظمة يجعلون نية المشاركة الركن الشديد، الذي يأوون إليه، لتمييز عقد الشركة عن غيره من العقود المشابهة، كعقد القرض وعقد العمل([192]) .

نية المشاركة هذه يمكن اكتشافها من خلال نظر المتأمل في أقوال المتنازعين وأدلتهم وحججهم، ويستقل بتقديرها قاضي الموضوع. جاء في حكم محكمة النقض المصرية: "وتعرف هذه النية من مسائل الواقع التي يستقل بتقديرها قاضي الموضوع، ولا معقب عليه في ذلك([193]) ، متى أقام رأيه على أسباب سائغة"([194]) .

وبالبناء على ما تقدم فإذا ما ثبت انتفاء نية المشاركة، فإن الجزاء المقرر هو بطلان عقد الشركة، وقد صدرت بهذا الشأن أحكام قضائية عديدة في مصر والمغرب وغيرها من الدول([195]) .

فقهاء الشريعة لم يستعملوا – فيما أعلم – مصطلح نية المشاركة، ولم أجد له ذكراً في مباحث الشركة، لكن المعنى الذي ذكره شراح الأنظمة مركوز في أحكام عقد الشركة تحتويه نصوص متناثرة في أماكن متفرقة من كتاب الشركة، في شتى المذاهب الفقهية، وأنت إذا جمعتها، وأنعمت النظر فيها، وجدتها هي ما يطلق عليه الفقهاء "مقتضى عقد الشركة" الذي لا يصح عقد الشركة من غير حضورها.

فإذا وجد التصرف، واختار المتعاقدون لفظ الشركة أو الشراكة ونحوها من الألفاظ، فإنه يلزم وجود نية المشاركة بالمعنى الذي ذكره شراح الأنظمة، من تحمل المخاطر، وتحقيق أغراض الشركة، وقبول النتائج من ربح أو خسارة([196]) .

هذه الأحكام ضرورية لعقد الشركة لا يصح بدونها – ما لم يقم دليل على خلاف ذلك من قول أو فعل – كأن يشترط الربح كله له، أو إعفائه من الخسارة.

الغريب أن أحد الباحثين ذهب إلى الظن بالقانونيين أنهم يشترطون النية في عقد الشركة، كاشتراطها في العبادات فتراه يقول: "فقد بين الفقهاء اشتراط النية في العبادات، أما المعاملات فلم نجد لهم نصاً يبين اشتراط النية فيه"([197]) ، ثم يختم مقارناته بقوله: "وبهذا يتبين أن كلام أهل القانون في اختيار نية التعاقد لتحصيل الربح ركناً من أركان الشركة... مردود، لأن النوايا أمور باطنية لا يمكن التفرقة بها بين الشركة ومغايرها"([198]) .

والذي يظهر لي واضحاً من كلام القانونيين أنهم لا يقصدون ما بان للباحث وانتهى إليه، وليس في كلامهم ما يقود إلى ذلك، وقد كشفت عن مرادهم فيما سلف فلا حاجة لإعادته.

وبهذا يتبين أن اشتراط القانونيين توافر ركن نية المشاركة حاضر معناه في كلام الفقهاء.

المطلب الرابع: عدم تحديد الأرباح:

إن الهدف الذي يسعى الشركاء إلى تحقيقه من وراء عقد الشركة هو الحصول على الأرباح.

ويجب أن يشترك جميع الشركاء في اقتسام الأرباح، كما يجب أن يتحمل جميع الشركاء ما قد يحيق بالشركة من خسائر، ولا يجوز أن يحصن أحد من الشركاء ضد الخسارة، وهو ما يعرف بشرط الأسد عند القانونيين([199]) .

فإن تضمن عقد الشركة حرمان أحد الشركاء من الأرباح، أو إعفائه من الخسارة فهل يؤدي ذلك إلى بطلان عقد الشركة؟

أولاً: حرمان أحد الشركاء من الأرباح:

اتفق الفقهاء على أن حرمان أحد الشركاء من الأرباح يقضي إلى بطلان عقد الشركة.

قال في البناية "لا تجوز الشركة إذا شرط أن يكون الربح لأحدهما خاصة، وهو خلاف مقتضى الشركة"([200]) .

وقال القرافي في الذخيرة: "إفراد أحدهما بربح هو خلاف عقد الشركة"([201]) .

وقال في المهذب: "وإن قال قارضتك على أن الربح كله لي أو كله لك بطل القراض"([202])

وقال في الفروع: "وإن قال: خذه مضاربة وربحه لي، أو قال: لك، فسدت ولا تصح"([203]) .

وهذا الاتفاق مبني على عدة أدلة منها:

أن مقتضى عقد الشركة الاجتماع في استحقاق الأرباح، فإن شرط اختصاص أحدهما بالربح، فقد شرط ما ينافى مقتضي العقد، فيبطل العقد([204]) .
أن الشارع الحكيم قد وضع للعقود ألفاظاً تدل عليها، ورتب على ذلك الأحكام، فلكل عقد اسم محدد، وأحكام مرسومة، وآثار معروفة، فإذا وجد الاسم، فيجب أن تنصرف إليه أحكامه وآثاره.
أما نظام الشركات السعودي فهو متفق مع الفقه الإسلامي، حيث أوجب أن يتقاسم جميع الشركاء الأرباح، ولا يسمح بحرمان أحد من الأرباح، فقد نصت المادة (7) منه بقولها: "يتقاسم جميع الشركاء الأرباح..." وهذا نص أمر لا يجوز الاتفاق على مخالفته.

كما قضت هذه المادة ببطلان هذا الاتفاق إن وجد بين الشركاء، لكنها لم ترتب على ذلك بطلان العقد، وإنما أوجبت أن يكون تقسيم الأرباح حسب نسبة كل شريك في رأس مال الشركة، وإن كانت حصة الشريك عملاً فيتم تقويم العمل، ويكون هذا التقويم أساساً لتحديد حصته في الربح([205]) .

وما عليه الفقهاء أسلم، وأبعد عن مواطن النزاع بين الشركاء([206]) .

ثانياً: إعفاء أحد الشركاء من الخسارة:

إذا تضمن عقد الشركة إعفاء أحد الشركاء من تحمل الخسارة، فإن هذا الشرط باطل، يسوق إلى بطلان عقد الشركة، وهذا بإجماع العلماء.

قال في الإقناع: " أجمع أهل العلم على أن الشركة الصحيحة أن... ما كان من نقصان فعليهما "([207]) .

وقال ابن قدامة – رحمه الله -: "الخسران في الشركة على كل واحد منهما بقدر ماله... لا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم"([208]) .

وذلك لأن الشريعة أقامت عقد الشركة على العدل بين الشركاء، ومنع الظلم والحيف، وإعفاء أحد الشركاء من تحمل الخسارة ظلم وجور لبقية الشركاء، وهو أمر تأباه الشريعة التي قامت على العدل المطلق.

أما نظام الشركات السعودي فقد أعطي هذه المسألة نفس الحكم الذي أعطاه في حالة حرمان أحد الشركاء من الأرباح([209]) .

كيفية اقتسام الأرباح والخسائر وأثر ذلك على بطلان الشركة:

اقتسام الأرباح:

اتفق الفقهاء على أن توزيع الأرباح في شركة المضاربة يكون على ما اتفق عليه الشركاء([210]) ، أما عدا ذلك من الشركات فقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:

القول الأول: إن الربح على ما شرط العاقدان، ولا يتقيد ذلك بمقدار الحصة التي قدمها كل شريك، وإلى ذلك ذهب الحنفية([211]) ، والحنابلة([212]) .

القول الثاني: إن اقتسام الأرباح تابع لمقدار رأس المال، وإلى ذلك ذهب المالكية([213]) ، والشافعية([214]) ، وعلى هذا القول فإن اختلف الربح عن مقدار رأس المال فإن عقد الشركة يكون باطلاً([215]) ، فإن جرى تصرف، وحصل ربح، صح ذلك، ولكن الربح على نسبة المالين([216]) .

الأدلة:

استدل أصحاب القول الأول بدليلين هما:

1- إن الربح إنما يكون استحقاقه بالمال أو بالعمل أو بالضمان، أما استحقاقه بالمال، فلأنه نماء له، فوجب أن يكون لمالكه، فله أن يشترط من الربح ما يراه.

وأما استحقاق الربح بالعمل فلأنه ناتج عنه.

وأما استحقاقه بالضمان([217]) ، فلحديث "الخراج بالضمان"([218]) .

2- أن أحد الشركاء قد يكون أحذق في التجارة من الآخر وأبصر، وعلى العمل فيها أقوى وأقدر، فساغ أن يشترط زيادة له في الربح في مقابلة هذه المعاني المعتبرة في الشركة، كما يشترط الربح في مقابلة العمل في شركة المضاربة([219]) .

واستدل أصحاب القول الثاني بقولهم: إن الربح يجب أن يكون تابعاً لرأس المال، وهو شبيه بمنفعة الملك، فيكون على قدر رأس المال، ثم إن الخسارة، على قدر رأس المال، ولا تصح على خلاف ذلك، فالربح مثلها([220]) .

مناقشة الأدلة:

الدليل الأول الذي ساقه أصحاب القول الأول دليل لا ينتج الدعوى في نظري، ذلك وإن كان دليلاً على استحقاق الربح، لكن ليس فيه ما يدل على أن اقتسام الأرباح يكون على ما شرط العاقدان.

أما الدليل الثاني فهو دليل واضح غاية الوضوح على المسألة.

أما دليل أصحاب القول الثاني بأن الربح تبع لرأس المال فدعوى تحتاج إلى دليل، بل واقع بعض العقود الصحيحة على خلافه، فلو اشترى شخص دارا ًبخمسين ألف ريال، وأجْرها بتسعين ألف ريال، لكان ذلك عقد إجارة صحيحاً.

أما قياس الربح على الخسارة فقياس مع الفارق، إذ لا جامع بينهما.

وبهذا يتبين رجحان القول الأول، لوجاهة الدليل الثاني، ولأنه لا يوجد نص أو قاعدة شرعية تمنع أن يكون الربح على ما شرط العاقدان، كما أن الأصل في العقود والشروط الحل والإباحة، حتى يقوم الدليل على التحريم([221]) .

أما نظام الشركات السعودي فقد أخذ بالقول الأول، وجعل اقتسام الأرباح وفق ما اصطلح عليه الشركاء في عقد الشركة، كما يلوح لك ذلك في طلائع المادة التاسعة من النظام.

تقسيم الخسارة:

اتفق الفقهاء على أن الخسارة على قدر رأس المال، الذي قدمه كل شريك، ولا يجوز أن يلزم أحد من الشركاء أن يتحمل من الخسارة أكثر أو أقل من رأس ماله.

فإن كان أحد الشركاء قدم عمله فقط فلا يجوز أن يتحمل خسارة مالية، بل يخسر عمله وهذا باتفاق الفقهاء.

جاء في المغني: "الخسران في الشركة كل واحدد منهما بقدر ماله... لا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم"([222]) .

وجاء في حاشية رد المختار: "ولا خلاف أن اشتراط الوضيعة بخلاف قدر رأس المال باطل"([223]) .

أما نظام الشركات السعودي فقد جعل الأصل في الخسارة حسب ما اتفق عليه الشركاء، فإن لم يعين الشركاء نصيب الشريك في الخسارة في عقد الشركة، كان نصيبه منها حسب رأس المال.

والصحيح الذي عليه إجماع الفقهاء أ، الخسارة يجب أن تكون على قدر رأس المال، وأيما اتفاق يعقده الشركاء على خلاف ذلك فهو باطل.

ولذلك أرى أن تعاد صياغة هذه المادة وفق هذا المعنى الفقهي([224]) .

المادة السابعة نصت بقولها: "يجوز الاتفاق على إعفاء الشريك الذي لم يقدم غير عمله من المساهمة في الخسارة".

وهذا النص يشعر أن إعفاء العامل من الخسارة المالية خاضع لاتفاق الشركاء، وليس الأمر كذلك بل الواجب أن العامل لا يجوز أن يتحمل خسارة مالية بحال من الأحوال، ولذلك أرى أن يصاغ النص وفق الآتي:

" يجب إعفاء الشريك الذي لم يقدم غير عمله من المساهمة في الخسارة " .

كيفية تقدير الأرباح:

يجب أن تكون أنصبة الشركاء من الأرباح أجزاء شائعة، كنصف الربح، أو ربعه، أو ثمنه، أو سدسه، أو نسبة مئوية ك 25% أو أكثر أو أقل، من مجموع الأرباح، ولا يجوز أن يجعل الربح مبلغاً مقطوعاً كألف ريال كل شهر ، أو خمسين ألف كل سنة، أو مضروباً على رأس المال للشركة، أو رأس مال أحد الشركاء، لأن ذلك كله وأمثاله يصم عقد الشركة بالبطلان([225]) ، والأدلة الدالة على ذلك كثيرة منها:

حديث رافع بن خديج – رضي الله عنهما – قال: "كنا أكثر الأنصار حقلاً، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربما أخرجت هذه، ولم نخرج هذه، فنهانا عن ذلك..." ([226]) .
وجه الدلالة :

أن الأنصار كانوا يشترطون لرب المال زرع بقعة بعينها، وهو المكان الذي ينبت عادة، كإقبال الجداول، ونحوها، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وزجر، لأن مبنى المشاركات على العدل بين الشركاء فإذا خُص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن هذا عدلاً، بل العدل أن يكون الربح جزءاً شائعاً، يشترك أطراف العقد في المغنم والمغرم([227]) . فإن حصل ربح اشتركا في المغنم، وإن لم يحصل ربح اشتركا في الخسارة.

هذا الحديث وأمثاله وإن كان وارداً في المزارعة، إلا أن المعنى الذي ورد النهي من أجله قائم في سائر أنواع المشاركات، فوجب أن يتعدى إليها جميعاً.

قال ابن القيم – رحمه الله -: "المزارعة من جنس الشركة، يستويان في الغنم والغرم، فهي كالمضاربة"([228]) .

الإجماع، فقد حكى الإجماع غير واحد من العلماء على بطلان شركة المضاربة إذا انفرد أحدهما، أو كلاهما بربح مضمون.
قال ابن المنذر –رحمه الله-: "وأجمعوا على إبطال القراض الذي يشترط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة"([229]) ، وينحوه قال ابن قدامة – رحمه الله -([230]) . ودواوين الفقه الإسلامية قديماً وحديثاً ناطقة بهذا المعنى([231]) ، وهي وإن كان بعضها وارداً في خصوص شركة المضاربة إلا أن شمولها لكافة أنواع الشركات لا يخفى.

أنه إذا اشترط أحدهما دراهم معلومة، احتمل ألا تربح الشركة غيرها، فيحصل على جميع الربح، ويحتمل ألا تربح، فيأخذ من رأس المال جزءاً، وقد تربح الشركة أكثر، فيضار من شرط الدراهم المعلومة([232]) .
وبناء على ما تقدم فإذا لم يكن الربح جزءاً شائعاً، فإن عقد الشركة يكون باطلاً.

أما نظام الشركات السعودي فلم يتطرق لهذه المسألة في ثنايا الأحكام العامة المرقومة في مقدمة النظام، لكن ورد ما يفيد جواز تحديد مبلغ ثابت للشركاء في خصوص شركة المساهمة، وإليك النصوص:

مكافأة أعضاء مجلس الإدارة:

نصت المادة (74) بقولها: "يبين نظام الشركة طريقة مكافأة أعضاء مجلس الإدارة، ويجوز أن تكون هذه المكافأة راتباً معيناً، أو بدل حضور عن الجلسات، أو مزايا عينية أو نسبة معينه من الأرباح، ويجوز الجمع بين اثنتين أو أكثر من هذه المزايا".

الحكم الفقهي:

ذهب بعض الباحثين إلى أن إعطاء عضو مجلس الإدارة راتباً معيناً أو بدل حضور عن الجلسات، أو مزايا عينية، أو الجمع بين هذه المزايا جائز شرعاً، ودليله في ذلك: أن حكم العضو في هذه الحالة حكم الوكيل بالأجر، فينطبق عليه عقد الإجارة، إلا إذا أعطي نسبة من الربح فلا يجوز أن يجمع بينه وبين واحده من هذه المزايا"([233]) .

والذي أراه في هذا الصدد أن عضو مجلس الإدارة ليس وكيلاً بالأجر، ولا يمت لهذا العقد بصلة، بل هو شريك قدم مالاً وعملاً.

حيث نصت المادة (68) من نظام الشركات بقولها: "يجب أن يكون عضو مجلس الإدارة ملكاً لعدد من أسهم الشركة، لا يقل قيمتها عن عشرة آلاف ريال...".

ويقوم بالعمل من خلال حضوره جلسات مجلس الإدارة وتصريف أمور الشركة.

وتأسيساً على ما تقدم فإن جواز إعطاء عضو مجلس الإدارة هذه المزايا أو أحدها مخالف لما سبق بيانه([234]) ، من اشتراط كون الربح جزءاً شائعاً، كما سلف بيانه.

لذلك أرى أن تعدل هذه المادة بما يجعل مكافأة أعضاء مجلس الإدارة زيادة في نسبة الأرباح فقط، لتكون هذه الزيادة في مقابل العمل.

توزيع مبلغ ثابت على المساهمين

نصت المادة (106) من نظام الشركات بقولها: "يجوز توزيع مبلغ ثابت على المساهمين لا يجاوز 5%...".

حكمة هذا النص هي ترغيب الناس في الإقبال على الاكتتاب في أسهم الشركة، لكن يلاحظ أن على هذا النص ما يلي:

أنه مخالف لما تقدم بيانه من اشتراط كون الربح جزءاً شائعاً.
أن توزيع هذا المبلغ الثابت ليس من الأرباح، ومن المستقر عند الفقهاء أنه لا يجوز توزيع الأرباح على الشركاء إلا بعد ظهور الربح([235]) .
أن هذه المبالغ يتم اقتطاعها من رأس مال الشركة ولا يجوز المساس برأس مال الشركة، لأنه الضامن لحقوق الدائنين للشركة([236]) .
أن ذلك يسوق إلى النزاع والخصام بين الشركاء والشركة، فإذا لم تحقق الشركة أرباحاً، أو منيت بخسائر، فما مصير هذه المبالغ التي قبضها المساهمون؟ هل يُطالبون بإرجاعها، أو تكون ملكاً خالصاً لهم؟
إن أمر استعادة هذه المبالغ لا يصح، لعدم ورود النص عليه في نظام الشركات – كما أنه أمر عسير يرهق الشركة، ويكلفها الكثير من المتاعب نظراً لكثرة أعداد المساهمين.

ولا يمكن القول بأن تكون ملكاً خالصا ًلهم، لأنها ليست من الأرباح([237]) ، لذلك فإنني أقترح إلغاء هذه المادة([238]) .

* * *

المبحث الثالث: البطلان المؤسس على تخلف أحد الأركان الشكلية([239]) :

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: عدم كتابة عقد الشركة:

من القواعد العامة في العقود أنه ينعقد يتوافر أركانه واستجماع شرائطه، ولا يلزم أن يكون مكتوباً، لكن نظام الشركات خرج عن هذه القواعد وجعل من الأركان الشكلية التي يلزم توافرها في عقد الشركة أن يكون مكتوباً، ولا تكفي الكتابة العرفية بين الشركاء، بل يلزم أن توثق هذه الكتابة أمام كاتب العدل، وهذا حكم عام يشمل جميع أنواع الشركات الوارد ذكرها في النظام، ما عدا شركة المحاصة([240]) .

فقد نصت المادة العاشرة من نظام الشركات – بعد تعديلها – بالمرسوم الملكي رقم م/22، وتاريخ 3/7/1412ه([241]) بقولها: "باستثناء شركة المحاصة يثبت عقد الشركة بالكتابة أمام كاتب عدل..".

وحكمة هذا الإلزام ظاهرة، ذلك أن عقد الشركة يحوي تفاصيل كثيرة تتعلق بالشركة أو الشركاء، والأغيار، وحياة الشركة عادة تمتد أزمنة طويلة، وما حفظته ذاكرة الإنسان غير بعيد أن تعصف به رياح النسيان، فلابد من مكتوب يرجع إليه في هذه الحال.

إذا أبرم الشركاء عقد الشركة ولم يوثق على النحو المذكور فإن بعض القوانين ترتب على ذلك بطلان الشركة([242]) .

أما نظام الشركات السعودي فقد ذكر نوعاً فريداً ببطلان، حيث نصت المادة العاشرة بعد تعديلها على ما يلي: "يثبت عقد الشركة بالكتابة أمام كاتب عدل، وإلا كان العقد غير نافذ في مواجهة الغير، ولا يجوز للشركاء الاحتجاج على الغير بعدم نفاذ العقد الذي لم يثبت على النحو المتقدم، وإنما يجوز للغير أن يحتج به في مواجهتهم".

وبقراءة هذا النص، يتضح أنه في حالة عدم كتابة العقد، وتوثيقه أمام كاتب العدل، أنه لا يجوز لأي شريك أن يتمسك ببطلان الشركة في مواجهة الغير، لكي يتحلل من التزاماته، وذلك لأن عدم الكتابة خطأ منه، فلا يصح أن يفيد من هذا الخطأ.

أما الغير الذي تعامل مع الشركة فسائغ له أن يتمسك بطلان الشركة، لعدم كتابة عقدها، إذا كان له مصلحة في ذلك، كأن يكون دائنا شخصياً لأحد الشركاء، فمن مصلحته بطلان الشركة، حتى تخرج حصة مدينة من ذمة الشركة، وتعود إلى ذمته، ويتسنى له التنفيذ عليها، وسائغ له أيضاً أن يتمسك بوجود الشركة، كما لو كان دائناً للشركة فمن مصلحته بقاء الشركة، وله في ذلك أن يسلك كافة طرائق الإثبات التي توصله إلى وجود الشركة([243]) .

وإنما قرر المنظم ذلك حماية للوضع الظاهر لجميع المتعاملين مع الشركة، والذين قد يجهلون عدم اتباع الشركاء لإجراءات التأسيس وفقاً للنظام.

وإذا اختلف الأغيار، بحيث تمسك البعض بالبطلان، وتمسك البعض الآخر بوجود الشركة، فيرجح جانب من يتمسك بالبطلان، لأنه هو الأصل([244]) .

هذا وقد ذهب بعض شراح النظام إلى أنه ليس بمقبول أن يحتج أحد من الشركاء بهذا البطلان في مواجهة الشركاء الآخرين، لكي يتنصل من التزاماته العقدية، كتقديم حصته في رأس المال مثلاً([245]) .

وذهب فريق آخر إلى أنه بمقدور أي شريك أن يتذرع بهذا البطلان في مواجهة بقية الشركاء، بل ونصت عليه بعض قوانين الشركات صراحة([246]) .

وأنت تلمح أن هذا المعنى المتنازع ليه مسكوت عنه، فلم يصرح به نص المادة، ولا تجد له ذكراً، غير أنه مفهوم النص يوحي بسلامة ما ذهب إليه أنصار الرأي الثاني، ذلك أن الخطاب قد منع نفاذ العقد في مواجهة الغير فقط، ولم يتطرق إلى ذلك فيما بين الشركاء مما يفهم أن العقد نافذ بين الشركاء([247]) ، وبالتالي فليس لأي شريك أن يتمسك بالبطلان في مواجهة الشركاء الآخرين، لذلك كان حقا ًعلينا بيان الحكم الفقهي حياله.

واضح أن هذا البطلان ذو طبيعة خاصة، لا يماثل سائر أنواع البطلان السابق بيانها، وخارج عن نظاق القواعد العامة في البطلان، وليس له أشباه ونظائر في سائر العقود والمعاملات، ويبدو أن أنظمة الشركات هي التي ابتدعت هذا الجزاء.

الحكم الفقهي:

النظر الفقهي فيما تقدم بتفرع عنه أمران:

الأمر الأول: حكم توثيق العقد بالكتابة.

الأمر الثاني: حكم البطلان الذي فرضه النظام على عدم الكتابة، ونتكلم عن هذين الأمرين تباعاً.

الأمر الأول: حكم التوثيق:

اختلف الفقهاء في حكم التوثيق على قولين:

القول الأول: إنه مستحب، وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء([248]) .

القول الثاني: إنه واجب، وبه قال بعض العلماء، كابن جرير الطبري([249]) – رحمه الله -، والظاهرية([250]) ، ولم يصرح ابن جرير الطبري ببطلان العقد حالة عدم كتابته، لكن أبا محمد ابن حزم. رغم تمسكه الشديد بالوجوب، تراه يصرح بعدم البطلان، حيث يقول: (وإنما قلنا: إنه إن ترك الإشهاد والكتاب فقد عصى الله تعالى، والبيع تام، فالمعصية لخلافه أمر الله تعالى بذلك، وأما جواز البيع فلأن الإشهاد والكتاب عملان غير البيع، وإنما أمر الله تعالى بهما بعد تمام البيع وصحته، فإذا تم البيع لم تبطله معصية حدثت بعده، ولكل عمل حكمه([251]) .

الأدلة:

استدل أصحاب القول الأول بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ([252]) إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)([253]) .

وجه الدلالة:

أن الله تعالى قد أمر بتوثيق الدين بالكتابة، والأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف، فإن صرفه صارف صار للندب، وهذا الصارف هو اطمئنان الدائن وثقته بمدينه، فإن تحقق ذلك فلا يلزم التوثيق([254]) .

واستدل أصحاب القول الثاني بذات الآية وقالوا:

إن الأصل في الأمر إفادة الوجوب، ولا يجوز صرفه عن ذلك بدون قرينة، فيبقى الأمر على الأصل وهو الوجوب([255]) .

ويجاب عن ذلك:

بأن الصارف عن الوجوب واضح في سياق دليل أصحاب القول الأول.

القول الراجح:

القول الراجح هو قول أصحاب القول الأول، غير أن ذلك لا يمنع من الأخذ بالقول الثاني إذا اقتضت المصلحة ذلك، وهذا ما ذهب إليه نظام الشركات السعودي، ذلك أن الإلزام بالكتابة في بعض العقود باب من أبواب السياسة الشرعية، التي يجوز لولي الأمر الإلزام بها.

كما أن الشركات التي عرفها المسلمون فيما مضى من أزمنة كانت شركات بسيطة، تضم أعداداً قليله، لا تجمع سوى شريكين في الغالب، وعمر الشركة قصير، لا يتجاوز سنوات معدودة، بخلاف الشركات المعاصرة التي تضم من البشر أعدادا ًغفيرة، وتمتد حياة الشركة زمناً طويلاً، يصل بعضها مئات السنين، فكانت مصلحة التوثيق ظاهرة لحفظ الحقوق ولتكون فيصلاً عند النزاع بين الشركاء.

الأمر الثاني: حكم البطلان الذي فرضه النظام على عدم الكتابة:

فرض المنظم هذا لجزاء، وذلك حماية للوضع الظاهر، الذي ينبئ عن سلامة الإجراءات، الذي على أساسه تعامل الأغيار مع هذه الشركة، وحماية لهذا الوضع الظاهر، وحتى لا يفاجأ الغير بانتقاض تصرفاته لأسباب يجهلها، وليس هو المقصر في اجتنابها، سُن هذا الجزاء حماية له، وجزاء لمن قصر في عدم كتابة عقد الشركة، وهو على علم بوجوب ذلك، أو كان بمقدوره الاطلاع على النظام، وإحاطته بذلك علماً، لذلك فالذي يظهر أن هذا البطلان سائغ سنه، إذ هو ضرب من ضروب الجزاءات التعزيزية المدنية الداخلة في نطاق السياسة الشرعية، التي يجوز لولي الأمر أن يتصرف فيها بما يحقق المصلحة، ويدرأ المفسدة

المطلب الثاني: عدم شهر الشركة:

المقصود بالشهر هو: إعلام الغير بقيام الشركة، وبيان نشاطها، ورأس مالها، وأسماء الشركاء، وغير ذلك من المعلومات الهامة، التي تفيد المتعاملين مع الشركة.

نظام الشركات في مادته الحادية عشرة أو جب شهر عقود جميع أنواع الشركات، ما عدا شركة المحاصة، وألزمت مديري الشركات، أو أعضاء مجلس إدارتها بإجراء هذا الشهر، وكذلك إلزامهم بشهر كل ما يطرأ على العقد من تعديلات، وفقاً للأحكام المنصوص عليها في المواد المتعلقة بكل شركة.

وتتلخص إجراءات الشهر اللازمة بصفة عامة([256]) فيما يلي:

قيد الشركة في سجل الشركات بمصلحة الشركات في وزارة التجارة والصناعة.
قيد الشركة في السجل التجاري، وفقاً لأحكام نظام السجل التجاري الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/1 وتاريخ 21/2/1416ه.
نشر ملخص عقد الشركة في الجريدة الرسمية (أم القرى) بالنسبة لشركة المساهمة([257]) والتوصية بالأسهم([258]) ، وذات المسؤولية المحدودة([259]) ، وفي جريدة يومية، بالنسبة لشركتي التضامن والتوصية بالبسيطة([260]) .
إن الحكمة التي تغيا المنظم تحققها من وراء الشهر هي أن يكون الغير الذي سيتعامل مع الشركة، بمقدوره الإحاطة علماً بوجود الشركة، ونوعها([261]) ، وأحكامها ورأس مالها... حتى يكون على بينة من أمره قبل أن يقدم على التعامل مع الشركة.

أما إذا لم يشهر عقد الشركة أو تعديلاته فإن الجزاء المترتب على ذلك هو نفس الجزاء المترتب على عدم الكتابة أما كاتب العدل السابق بيانه.

لكن يلاحظ أنه إذا اقتصر عدم الشهر على بعض البيانات، فإن الجزاء لا يطال إلا البيانات غير المشهرة فقط([262]) .

الحكم الفقهي:

هذا باب من أبواب السياسة الشرعية التي يجوز للحاكم أن يسوس بها الناس. وهي من الأمور التنظيمية التي تتحقق بها مصالح جمة، فالإلزام بالشهر يسهل للناس الاطلاع على الشركة، ومعرفة نشاطها، ورأس مالها، وأسماء الشركاء، وغير ذلك.

كما أن الإلزام بالشهر والإعلان، ليس أجنبيا ًعن أحكام الفقه الإسلامي، فقد أوجب بعض الفقهاء شهر النكاح وإعلانه، ورتبوا على عدم إعلانه بطلان العقد([263]) .

فيمكن قياس الإلزام بشهر عقد الشركة على الإلزام بإعلان عقد النكاح عند بعض الفقهاء.

المطلب الثالث: عدم اتخاذ الشركة أحد أشكال الشركات التجارية:

نصت الفقرة الثانية من المادة الثانية من نظام الشركات بقولها: "مع عدم المساس بالشركات المعروفة في الفقه الإسلامي، تكون باطلة كل شركة لا تتخذ أحد الأشكال المذكور..." وقد سبق ذكر هذه الأنواع.

وبقراءة هذا النص النظامي يتجلى ما يلي:

أن النظام أقر الشركات المعروفة في الفقه الإسلامي، فبوسع الأشخاص تأسيس شركات تحمل أحد أسماء هذه الشركات، جاء في المذكرة التفسيرية لنظام الشركات: "دون المساس بالصور المختلفة للشركات التي جرى المسلمون في الماضي على إنشائها...وعدم الإخلال بما تقتضيه أحكام الشريعة أكد (النظام) حق الأفراد في تأسيس الشركات التي تعارف عليها الناس في الماضي، إن هم شاؤوا، وأكد عدم جواز تطبيق شيء من الجزاءات عليهم في مثل هذه الحالات، وأقر أن أحكام الشرع الحنيف أصل لا يجوز الخروج عليه".
غني عن البيان أن مصادر التشريع الإسلامي هي الدالة على جواز التعالم بالشركات المعروفة في الفقه الإسلامي، وجاء نظام الشركات السعودي مؤكداً لذلك، حتى لا يرقى إلى الأفهام أن البطلان الوارد في هذه المادة يطال الشركات المعروفة في الفقه الإسلامي.

2- أن الشركات التي يعترف بها النظام هي الواردة في سياق هذه المادة، أما الشركات التي تنشأ في المملكة، ولا تتخذ أحد هذه الأشكال المنصوص عليها، وليست أحد أشكال شركات الفقه الإسلامي فإن هذه المادة قد قضت ببطلانها.

وعلى ذلك فإن من أسباب بطلان الشركات عدم اتخاذ أحد أشكال الشركات الوارد ذكرها في المادة الثانية من النظام.

3- دلت الأدلة على أن الأصل في العقود الإباحة والصحة، حتى يقوم الدليل الشرعي المعتبر على مخالفتها لأحكام الشريعة، وأنه لا يجوز إبطال أو تحريم ما لم يحرمه الشرع من العقود التي تحقق للعباد مصالحهم([264]) ، لذلك وانقياداً لهذا الأصل اقترح أن يكون التعامل مع كل شركه لا تتخذ أحد أشكال الشركات المنصوص عليها في النظام هو عدم سريان نظام الشركات عليها، وليس بطلانها، وبهذا تكون شركة صحيحة تسري عليها الأحكام المبثوثة ي دواوين الفقه الإسلامي.

قائمة مراجع الدراسة :
1- الإبهاج في شرح المنهاج، لعلي السبكي (ت 756ه) وولد تاج الدين عبد الوهاب السبكي (ت 771ه) دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1404ه.2-
2- الإجماع للإمام محمد بن إبراهيم بن المنذر (ت 318)، تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم، دار المسلم للنشر، الرياض، الطبعة الأولى 1425ه.
3- أحكام القرآن، للإمام الشافعي (ت 204ه) دار الكتب العلمية – بيروت 1395ه.
4- الإحكام في أصول الأحكام، لعلي بن محمد الآمدي (ت 631)، تعليق: عبد الرازق عفيفي – المكتب الإسلامي – الطبعة الثانية 1402ه.
5- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، لمحمد بن علي الشوكاني، (ت 1250ه)، دار المعرفة بيروت.
6- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني – الناشر: المكتب الإسلامي – الطبعة الثانية 1405ه.
7- الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، لزين الدين بن إبراهيم بن نجيم (ت 970ه) دار الكتب العلمية – بيروت 1400ه توزيع دار الباز – مكة المكرمة.
8- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لأبي عبد الله محمد المعروف بابن قيم الجوزية 0ت751) تعليق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل للنشر والتوزيع – بيروت.
9- الإقناع، لأبي بكر محمد بن المنذر (ت 318ه) تحقيق: الدكتور. عبد الله الجبرين – مكتبة الرشد بالرياض – وشركة الرياض للنشر – الطبعة الثالثة.
10 الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204ه) دار الشعب – طبعة سنة 1388ه.
11- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، لعلي بن سليمان المرداوي (ت885ه) تحقيق: الدكتور/ عبد الله التركي، مطبوع مع المقنع والشرح الكبير – هجر للطباعة والنشر – الطبعة الأولى 1415ه.
12- ادارة الشركات ٬ من على الموقع : https://bedalil.com/ ٬ تصفح بتاريخ : 11-10 -2016.
13 ادارة المخاطر في الشركات الوطنية ٬ حوكمة الشركات ٬ من على الرابط : https://ar.wikipedia.org ٬ تصفح بتاريخ : 11-12-2016.
14- برعي محمد السيد٫ بطلان الشركة الوطنية٬ بيروت : دار المسيرة٬ 2012٬ ٬ ص ص 233 .



#يوسف_بن_عبد_الله_بن_محمد_الخضير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- السعودية: إنتاج المملكة من المياه يعادل إنتاج العالم من البت ...
- وول ستريت جورنال: قوة الدولار تزيد الضغوط على الصين واقتصادا ...
- -خفض التكاليف وتسريح العمال-.. أزمات اقتصادية تضرب شركات الس ...
- أرامكو السعودية تتجه لزيادة الديون و توزيعات الأرباح
- أسعار النفط عند أعلى مستوى في نحو 10 أيام
- قطر تطلق مشروعا سياحيا بـ3 مليارات دولار
- السودان يعقد أول مؤتمر اقتصادي لزيادة الإيرادات في زمن الحرب ...
- نائبة رئيس وزراء بلجيكا تدعو الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات ...
- اقتصادي: التعداد سيؤدي لزيادة حصة بعض المحافظات من تنمية الأ ...
- تركيا تضخ ملايين إضافية في الاقتصاد المصري


المزيد.....

- الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي ... / مجدى عبد الهادى
- الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق / مجدى عبد الهادى
- الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت ... / مجدى عبد الهادى
- ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري / مجدى عبد الهادى
- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - يوسف بن عبد الله بن محمد الخضير - إدارة الشركات وأسباب بطلانها