|
استفتاء -استقلال كردستان-
محمد يعقوب الهنداوي
كاتب
(Mohamed Aziz)
الحوار المتمدن-العدد: 6272 - 2019 / 6 / 26 - 01:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حين تنطلق عفاريت الحقد العنصري الأهوج من قماقم الأمم الفاشلة بين دعاوى "حق الأمم في تقرير مصيرها" من جهة، والدفاع عن "الوحدة الوطنية" الوهمية، من جهة أخرى.
(لمناسبة مرور عام على التأجيج القومجي والطائفي الذي أثاره الملا مسعود البارزاني وشريكه نوري المالكي ومعهما كل مافيات الحكم المعادية للانسان في العراق، ووضعا البلاد آنذاك على شفا حربٍ أهلية لا تبقي ولا تذر.)
* * *
لكل مدينة ووطن قلبان. وكما لبلاد النهرين رافدان وبها جنتان، قامت، منذ القدم، على الجمع بين السهول والجبال، والخضرة وسيول الماء، والهور والصحراء، وبين آلهة الأرض وآلهة السماء، مردوخ وإيل وتموز وعشتار، والانسان والماء والخصب والزرع والنماء، وبابل وآشور، كذلك جمعت بالحب والتعايش بين أهل الشمال وأهل الجنوب باختيارهم ورغبتهم حينا، وبحكم الواقع الجيو-سياسي المفروض أحياناً.
هكذا أدركت العراق مذ تفتّحتُ وعيا وعيناً بين حضن أمي وأحضان جيراننا الذين كانوا، لحكمة وقدرية ما، أكرادا دائما.
عشت معظم ما يقال له الطفولة والصبا وشرخ الشباب في منطقة كنت وبقيت أراها أجمل ما في العراق، وهي نبضه وأروع ما يمثل شعبه. وفي تلك المنطقة البالغة الحميمية والتنافر والفقر والغنى والعبقرية والبؤس ومرتع الشقاوات والقتلة والمفكرين والمناضلين، والعلماء والدجالين، والحمالين والتجار، والكادحين والسماسرة والشهداء والخونة، وأبطال الزورخانة وكرة القدم وكل ألعاب ذلك الزمان، تفتحت عيناي على الحياة وتعرفت منها على الكدح والجوع، والحب والشعر ونزوات المراهقة، والأوكار السرية والمنشورات الثورية وتقارير المخبرين وعيون السلطة وجواسيسها، وكل ما يمثل الحضارة والانحطاط ومعاني الإنسانية ونقائضها.
كان أبرز ملامح منطقتنا انها جمعت كل الأعراق والاجناس والأديان والطوائف والجنسيات واللغات والأعراق والميول والموجات البشرية التي شهدتها البلاد.
ففي المدارس كنا معا تركمانا من كركوك ونواحي بعقوبة وغيرها، وأكرادا شماليين من دهوك والسليمانية وأربيل، وفيليين من جلولاء ومندلي وزرباطية وبدرة ونواحي العمارة وغيرها، وعربا من النازحين من البادية الغربية، ووافدين من كربلاء والحلة وسامراء وبلد وعانة والفلوجة والرمادي والناصرية والعمارة والكوت والبصرة وبقية مناطق الفرات الأوسط والجنوبي ودجلة على امتدادها. وكان بيننا مسلمون من كل الطوائف والأطياف وصابئة ويزيديون ومسيحيون سريان وكلدان وارمن وآثوريون. وفي السوق كانت الدكاكين تحفل بما ترغبه كل الأذواق والمشتريات التي تناسب كل الديانات وكنا نقف على طوابير الخبز وبيننا كل الطوائف من يهود ومسيحيين ومسلمين وصابئة وأيزيديين وغيرهم. ولم يكُ احدٌ يبالي بديانة او طائفة العطار أو الخباز الذي يشتري منه احتياجاته أو ذلك الذي يقف الى جانبه ليشتري ما يريد. وقد يكون صاحب الدكان بغداديا ويكون "الصانع" الأجير لديه من منطقة عراقية أخرى أو من بلاد بعيدة لم نكن نفقه لها معنى أو نخالها بعيدة.
كان الكثير من أصحاب المخابز أفغاناً وإيرانيين وباكستانيين وهنودا، والكثير من الحرفيين من باكستان والهند وبنغلادش وافغانستان وإيران. وكان آخر ما يخطر على بال أحدنا هو أن يسأل عن ديانة أو جنسية او أصل المشتري او صاحب البضاعة أو العامل الذي يؤدي عمله في خدمة الناس. وفي مراسم عاشوراء الحسين وخضر الياس ونوروز كان الجميع يلتقون لإحياء تلك المراسم معا بكل حب وحماس حتى ليستحيل تمييز المسلم عن غير المسلم او الى أية طائفة أو عقيدة ينتمي أي فرد منا.
كنا بشرا أسوياء نتعامل مع كل وافد وغريب بكل حب ومودّة وكرم ضيافة واحترام وبيوتنا مفتوحة للجميع، على فقرنا وعوزنا. أما الأكراد فكان لهم شأن آخر.
لم يكن الأكراد في وجداننا ووعينا قوما جاءوا من بلاد ياجوج وماجوج ولا هبطوا من الفضاء لينتهكوا بلادنا وحرماتنا، ولا كانوا "قوما من الجنّ كُشِف عنهم الغطاء" كما يصرّح به أئمة المسلمين.
لم يكونوا عصابات وعصاة في الجبال يتآمرون لقطع رأس الوطن الحبيب وتحويل شماله الى "إسرائيل" أخرى وخنجرا مسموما في خاصرة الوطن، كما دأب القوميون العرب الموبوءون بالبغضاء على قوله على كل من يختلف عنهم ولا يدخل تحت خيمة بداوتهم. بل كانوا لنا الاهل والجار والوطن وشريك الفاقة واللقمة والحسرة والأمل والعسر واليسر والاحتضار والموت والمخاض والولادة ورغيف الخبز وحفنة الملح.
الأكراد هم نحن وهم أهلنا وأحبتنا وجيراننا وشركاؤنا في كل ما نحب وما نخشى، وفي رشفات الماء من أنهار هذي البلاد وأمطارها وفي الأنفاس الممزوجة بالتراب واللوعة والعذاب، وفي السجون والمشانق التي اعتليناها معا رغم أنف الظالمين. وكنا شركاء في الفرحة والأمل، كما تشاركنا الدمعة ورعشات الخوف. وكنا معا الكلمة واللحن والصوت والصدى في أحلى قصائد وأغاني الحب للعراق وبغداد ولدجلة والفرات وللأهوار والجبال.
ليس ثمة "هم" و"نحن"، فنحن واحد، والأكراد لهفتنا وحبنا وشجوننا وأدفأ وأغلى ذكرياتنا. تبرعنا لبعضنا بالدم حين كان أحبتنا على أسرة الموت وتشاركنا اللقمة والدمعة وحفنة الملح، وتحدّينا الجلادين والموت وعذابات الأيام والقهر معا. فلماذا يسعى البعض الى التمييز بيني وبيني ولماذا تفجّرت فجأة كل براكين الحقد الاهوج وخرجت عفاريت الحقد المجنون من قماقم الموتورين الذين لا يحبّون الخير والسلام لنا؟
وقبل ان أمضي للسياسة والتحليل، وأجيب على التساؤلات، أعود لوصف منطقة صباي التي أعشقها والتي تعلمت منها من أنا ومن هو الكردي وما الذي يوحّد أو يفرق بيننا.
تلك المنطقة التي تفتحت فيها عيناي ورؤاي كانت نصف قلب بغداد التاريخية وامتدت جنوبا من البتاويين والباب الشرقي، الذي هو باب بغداد الجنوبي، لكن العراقيين يسمون كل ما هو جنوبي شرقيا (أو شرجيا أو شروگيا)، ومنها اسم "هوه الشرجي" للريح الجنوبية والباب "الشرجي" والشروگية للجنوبيين وغيرها، هذا قبل أن يحيل البدو العنصريون ومافيات السلطات المتعاقبة والدخلاء الذين لا أصل لهم، تلك اللفظة الجميلة الى شتيمة وقحة تهدف الى جرح مشاعر بعضنا بعضا وتزرع الفرقة والكراهية والاحتقار المتبادل في النفوس.
ومنها يصعد شارع الرشيد شمالا ليتفرع عنه شارع الخيّام، باسم الشاعر الفيلسوف العبقري السكير (عمر الخيام)، ثم فرع سينما روكسي وريكس ودنيا ثم سينما علاء الدين والرشيد والوطني وأورزدي باگ والمقهى البرازيلي، ملتقى النخبة المتعالية من أدعياء الثقافة، والمْرَبَعة والسنك و(سيّد سلطان علي) وحافظ القاضي ومقهى شط العرب ومدخل شارع النهر وامتدادا الى خان مرجان وسوق الصفافير وسوق التجار ثم سوق الأمانة وشارع مالئ الدنيا وشاغل الناس المتنبي، ثم الحيدرخانة بجامعها الشهير ومقاهيها العامرة التي شكلت روح بغداد الثقافية والسياسية لعشرات السنين وشَرْبتْ (حجي زبالة) الذي كان، مع عربات باعة "اللبلبي"، بمثابة مطعم المثقفين المفلسين، ومن ثم القشلة وسوق الهرج ومقهى أم كلثوم والميدان.
أما شارع الكفاح فيمتد من ساحة الطيران جنوبا الى گهوة شكر وفضوة عرب وعبد القادر الگيلاني وسراج الدين وساحة النهضة وسينما الفردوس وبني سعيد والقُشل والشورجة وأبو سيفين وسوق دَوْدَوْ ومحلة التوراة اليهودية، ثم المهدية وقنبر علي وصولا الى (الفضل) وحمام المالح ومطبعة الحكومة ودار الطلبة وباب المعظم، ويليها جسر الصرافية والمقبرة الإنكليزية ثم الوزيرية والصليخ شمالا، على امتداد أربعة شوارع هي الكفاح (شارع غازي) والرشيد والشيخ عمر وشارع الجمهورية الذي كان جنينيا وبلا بنايات ولا معالم مهمة الا في طرفيه وفي وسطه فقط، وكنا نسميه شارع المستقبل أو شارع الأمل، وكان أوسع شوارع العراق.
كان شارع الجمهورية (المستقبل) يلتقي بشارع الرشيد في الباب الشرقي عند حديقة الأُمّة، حيث منطقة المسارح ودور السينما واللهو والنوادي الليلية (الملاهي)، التي كانت مبتغى العوائل الغنية، وتغني فيها أكبر الأسماء الفنية في العراق آنذاك أمثال محمد الكبّنجي ويوسف عمر وناصر حكيم وناظم الغزالي وسليمة باشا مراد وعفيفة إسكندر ورضا علي ومائدة نزهت وأحلام وهبي وعبد الرحمن خضر ويحيى حمدي وعباس جميل ومحمد عبد المحسن وكثيرات وكثيرون غيرهم.
وكانت أرقى وأشهر الأصوات الفنية في مصر والشام تأتي بغداد والبصرة لتعيش وتغني وتكتسب الشهرة في نواديها ومنتدياتها وملاهيها، ومنها فايزة أحمد ونرجس شوقي ونهاوند ونجاح سلام وهيام يونس وأم كلثوم التي غنّت في المقهى المسمى الى اليوم باسمها في منطقة الميدان. ويمتد عبر الفَناهرة، حيث مجمع صناعات الكراسي والاسرّة والسلال من السّعف والخوص وجرّيد وجذوع النخيل، الى المربعة وعگد النصارى و(صبابيغ الآل) الى الشورجة حيث تلتقي ثلاثية الأديان متمثلة بكنيس يهودي وكنيسة مسيحية وجامع اسلامي هو جامع سوق الغزل الشهير، الذي يعود الى العصر العباسي ولا زال جوف منارته يحمل سخام حرائق هولاكو الى اليوم، ومن ثم يمتد ساحة الأمين ثم باب المعظم بمعلمه البارز آنذاك (دار الطلبة).
كانت مملكتنا البغدادية تلك تمتد من شط دجلة وشارع الرشيد غربا الى شارع الشيخ عمر ومقبرة الغزالي وقناة الجيش شرقا.
أما نصف قلب بغداد الآخر الذي كان يشمل الشوّاكة والصالحية وكرادة مريم وغيرها من المناطق المجهولة لنا (آنذاك)، فقد كان ذهابنا اليها بمثابة رحلة الى خارج البلاد تستلزم الكثير من الاستعداد والتحضيرات والمؤونة والرفقة المأمونة الطيبة. أما حين كانت تطرق مسامعنا أسماء بلدات ومدن غريبة مثل المنصور والوشّاش وحي الزعيم والعلوية والمسبح والكرادة، فقد كنا ننكمش لأنها تستفز مخاوفنا من الاستعمار والغرباء. * * * (وللحديث تتمة....)
#محمد_يعقوب_الهنداوي (هاشتاغ)
Mohamed_Aziz#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|