ـ جنيف
لم ينل شعب في التاريخ المعاصر مثل هذا التضامن الانساني من قبل جميع شعوب الارض بما فيها شعوب القوات المعتدية الامريكية والانكليزية. ولم يجر من قبل مثل هذا الاهتمام والترقب والتشجيع لمقاومة امة شبه عزلاء الا من كرامتها لغزاة مدججين بآخر شياطين الحضارة. انها الآن فرصة العراقيين النادرة لكي يستفيدوا من هذه الطاقة الايجابية الجبارة المنبعثة من روح التضامن الانساني ويستعيدوا عافيتهم ويتمكنوا من الخروج من قمقم الخيبة والخراب المحبوسين فيه منذ عقود وعقود.ان آفات الموت التي تعبث الآن في وطننا لن تمنعنا من التمسك بآمال الحياة. ان الشعوب الحية هي التي تنحت من صخور عبوديتها انصابا للحرية، ومن نيران عذاباتها انوارا للمستقبل.
من بين وسائل الكفاح العديدة التي يمكن ان يخوضها ابناء الامة العراقية في الظروف الحالية ان يصنعوا آمالا حقيقية ويبحثوا عن طرق ممكنه للخلاص من هذا السرطان المستشري في كيان الامة منذ اجيال واجيال. ان افضل خدمة يمكن ان يقدمها اصحاب الوجدان والفكر في هذه الفترة ان يشخصوا حقيقة الازمة المستعصية التي نعيشها ووسائل الخلاص منها. الآن فرصتنا الكبرى لكي نقف امام ضميرنا ونعترف بكل شجاعة وتواضع عن مسؤوليتنا الواعية وغير الواعية عن هذه الكوارث المتلاحقة التي يعيشها وطننا. يكفينا التباكي والتشكي من ظلم الطغاة وعدوان الغزاة. لنعترف بخطاينا، ليس من اجل الاعتذار وطلب الغفران، بل بكل بساطة من اجل ان لا نكرر هذه الخطايا ولكي نشق دربا جديدا يقودنا نحو الاستقرار والعدل والسلام.
مع اعترافنا الصريح واليقين والمكرر بمسؤولية النظام ومعه القوى الامبرالية وبالذات امريكا، عن الكوارث المستمرة في وطننا، الا ان هذا لا يمنعنا من الايمان المبدأي إزاء كل انسان وكل جماعة:((ان لا احد في الكون قادر ان يؤذيك او ينفعك دون استعدادك انت ورغبتك وايمانك العميق باستحقاق الاذى او المنفعة.. ان الخارج مكمل للداخل، وان الآخر يعاملك حسب معاملتك انت لنفسك..وكما انتم يولى عليكم..))..
هذا الايمان لا يعني ابدا الشماتة بالضحية وتبرئة المعتدي، بل يبتغي اولا وقبل كل شيء الى اشعار الضحية بمسؤوليته إزاء نفسه وقدرته على التخلص من ظلم الآخر في حالة تخلصه من الظلم الداخلي النفسي والفكري الذي يعشعش في روحه وينهش ذاته ويضعفه ويجعله فريسة سهلة لعدوان القساة وهيمنة الطغاة.
اذا كان على الفرد ان يفتش في اعماق روحه عن اسباب معاناته في الحياة ومع الآخرين، فأن على الشعب ان يبحث في عقليته السائدة وطبيعة البنية الفكرية والثقافية المسيطرة عليه والتي لا بد وبكل يقين ان تكون مسؤولة عن بث روح الانكسار والهزيمة والضعف في كيان الامة واضعاف افرادها امام مصاعب الحياة ومن ثم تسهيل هيمنة تلك الحفنة من المغامرين الرعاع.
جروح الحداثة والوطنية
ان سر هذا الطاقة التدميرية المهيمنة على بلادنا يكمن في العقلية السائدة نفسها. في الروح العراقية المتوترة الجريحة، كالفراشة الباحثة عن انوار الخلاص في نيران الحرقة والموت.
ان سبب عذابات الروح العراقية وتوترها وتخبطها في المشاريع الخائبة، متأتي من الجروح العميقة التي تعاني منها والتي تسبب ضعفها وانكسارها وبالتالي تسهيل هيمنة النخب الساذجة والقادة الطغاة عليها:
ـ جرح الحداثة:
والمقصود به هو التمزق بين الحداثة والاصالة. منذ اوائل القرن العشرين بدأ المجتمع العراقي يولد من جديد بعد انقباره لقرون منذ نهاية حضارته البغدادية ودولته العباسية. لكن هذه الولادة السياسية والعقلية كانت مشوهة لأنها تمت على ايدي غير جديرة. فمن ناحية هناك الايدي العراقية المتمثلة بالنخب الحداثية" الافندية" والدينية المشوهة والضعيفة من الاساس. وقد تعمق تشوه هذه النخب وتضاعف مع دخول العنصر الانكليزي وهيمنته على الوطن عسكريا وسياسيا وثقافيا. ان هذه النخب الحداثية المدعومة انكليزيا هي التي اشرفت على تأسيس الدولة العراقية وتمكنت من فرض تغيرات مادية سريعة وفوقية وتعسفية مدعومة بالمال والقمع والافكار الحداثية التي راح يتشدق بها كل من هب ودب ما ان يخلع عنه ثوبه وطاقيته ويرتدي البدلة والرباط. بحجة مكافحة تأثيرات الحقبة العثمانية المظلمة شرعت تلك النخب الحكومية والمعارضة بفرض الحداثة الغربية بصورة متطرفة وغير انسانية قائمة على اساس السخرية من الانسان العراقي واحتقار تقاليده واديانه ومذاهبه ووسمها بالرجعية والعشائرية والبداوة والتعصب الديني. تمكنت هذه الحداثة القاسية من تدمير البنية العقلية للعراقي وزرعت في نفسه الاحساس بالعار من لهجته وثيابه ومأكله واغانيه ونمط بنائه وطقوسه الدينية. والذي زاد من تطرف الحالة وسرعتها الجنونية تلك الثروة البترولية الجبارة التي ساعدت على نمو الدولة العراقية واجهزتها الادارية وجيشها وشرطتها عبر تشجيع الهجرات المليونية من الريف الى المدينة واقتلاع الناس من مجتمعاتهم وقراهم وبيئتهم وتكويمهم مع ازبال الحضارة ومستنقعاتها في نواحي بغداد وتحويلهم الى مجتمعات ذليلة ممسوخة خارج الهرم الاجتماعي، فمن كان رئيس عشيرته في الريف يصبح فراشا او كناسا في بغداد، ومن كان سيدا شريفا تحلف باجداده الناس اصبح شرطيا يساهم بقمع ابناء عمومته. وفقد رجال الدين وعقلاء القرى والحارات هالتهم المعروفة ودورهم المتميز واصبحوا رمزا للتخلف وهدفا للسخرية، اما حكيمات الحارات والعرافات والندابات والملايات بما يحملنه من تراث عريق من المعارف الادبية والدينية والطبية، فقد تم قمعهن من قبل ابنائهن"التقدميين" بكل قسوة واستخفاف بتهمة الشعوذة والدجل حتى انتهن الى الانتكاس ودفن مصادرهن تحت الارض باعتبارها وثائق جرمية واللجوء الى الصمت الحزين.
والمشكلة ان تدمير البنية العقلية العراقية الموروثة لم يؤد الى بناء عقلية حداثية جديدة على الطريقة الاوربية كما كان يطمح الحداثيون بل الذي ظهر هي مجموعة عقليات ممسوخة ماركسية وقومية انعزالية(عروبية وكردوية وتركوية وآشورية الخ) وليبرالية ودينية، كل منها تحاول ان تطرح نفسها البديل الافضل والاصلح وتمضي وقتها في اشعار العراقي بعاره من شخصيته التقليدية الموروثة ثم كسبه ليصف معها ويشارك في الصراع اليومي الدائم والدامي بين هذه العقليات نفسها!
لم تدرك النخب الحداثية انها بتشجيعها الدولة والمجتمع على احتقار الرموز التقليدية ووسمها بالرجعية والتخلف سوف يؤدي الى احتقار هذه النخب نفسها، تطبيقا للحكمة القائلة بأن الثورة تبدأ بأكل خصومها لتنتهي بأكل انصارها. وحافر البئر لغيره هو الذي يقع فيه بعده. خلال العهد الملكي كان سرطان التشوه الحداثي مستمر بالاستشراء في كيان الدولة والمجتمع حتى بلغ ذروته بما يسمى بالثورة الجمهورية 1958 التي تعتبر الاعلان عن بلوغ الانحطاط اعلى درجاته بحيث لم يعد هنالك أي مكان للنخب المدنية لا التقليدية منها ولا الحداثية بل فقط لتلك الحفنة من المغامرين الحالمين والمتهورين المحاطين بجموع ذليلة من بيروقراطية الدولة وعسكرها ومخابراتها واتباعهم من الاغنياء المحدثين. ابتداءا من العهد الجمهوري" الثوري القومي الوحدوي الاشتراكي التقدمي الخ" تمكن الرعاع من فرض سيطرتهم على الدولة والمجتمع واصبح من الطبيعي جدا ومن صلب بنية الدولة ممارسة عمليات القمع والاذلال ضد جميع رموز المجتمع ونخبه الاهلية سواء منها تقليدية او حداثية من مثقفين وسياسيين ورجال دين وعلماء واكاديميين. لم يعد امام هذه النخب غير واحد من حلين: اما القمع والتشريد والاعدام، اما الدخول في جوقة الطبالين والمجملين ومفسري شعارات الاحزاب وخطابات القادة.
في اعوام الستينات ثم السبعينات تمكنت الدولة النفطية المتحالفة مع النخب الماركسية والقومية من الانتصار التام على الهرم الاجتماعي العراقي القديم المثخن بجراح التاريخ وطعنات ابنائه الحداثيين بأسم الثورة الوحدوية والاشتراكية والتقدم والتصنيع ومحاربة الرجعية. على انقاض هذا الهرم القديم اقيم مسخ هرم اجتماعي مشوه ومنحوس معظم رموزه من رجالات الدولة والاغنياء الطفيليين وقادة المخابرات ومسؤولي المنظمات الحزبية وبعض الاتباع الاذلاء من الرموز الثقافية والدينية. وكل هؤلاء فارغون تماما من أية قيمة وميزات اخلاقية ودينية واجتماعية وعقلية بل كل الذي يميزهم هو سلطانهم الاداري والمالي والحزبي وتشدقهم بالشعارات السياسية البطولية السائدة. وهذا الانمساخ العقلي والاجتماعي وضياع القيم وتشوه الرموز، هو الذي يفسر هذه السهولة العجيبة لقدرة الدولة على السيطرة على المجتمع وفرض التقاليد البوليسية والرقابة والنفاق والخنوع، وهو ايضا يشرح قدرة الدولة على احتقار اقدس المقدسات الدينية واذلال بل وحتى قتل أي رجل دين او مثقف او سياسي من دون اي ردود فعل مؤثرة لا من المجتمع ولا من نخبه الفاعلة. فعلى سبيل المقارنة، رغم كل معانات المجتمع المصري من جروح الحداثة التي اصابته فأنه كان اقل تضررا واقتلاعا، فمثلا ان الدولة المصرية لو مارست ضد الازهر ورجالاته عشر عشر ما مارسته الدولة العراقية ضد "النجف" اقدس مقدسات شيعة العراق والعالم، لقامت القيامة في مصر ضد الدولة من قبل جميع نخبها الفاعلة حتى من غير المؤمنين بل ان ردود الفعل المتضامنة مع الازهر يقينا سوف تشمل حتى الطوائف غير المسلمة والكنيسة القبطية بالذات!!
ـ جرح الوطنية:
والمقصود به هو التمزق بين الانتماء الوطني والانتماء الفئوي( الاقوامي والديني والطائفي). بالاضافة الى الانمساخ الحداثي السالف الذكر، فأن الانسان العراقي يعاني ايضا من " إنمساخ وطني" ، أي تمزق انفصامي قاسي بين انتمائيه الوطني والمحلي. ان السائد عادة بين اغلب امم الارض، ان الانتمائين الوطني والمحلي متكاملين وليس متعارضين، لأن الانتماء للمنطقة او الطائفة او الفئة الاقوامية هو بالنتيجة جزء من الانتماء الى الهوية الوطنية الجامعة التي تجتمع فيها مختلف الهويات المحلية الطائفية والدينية واللغوية والمناطقية. اما بالنسبة للعراق فأنه لسوء حظه كان من الامم القلائل(مثل شعوب الشام) التي فشلت بخلق هذه العقليه التكاملية بين الانتمائين الوطني والمحلي. وهذه المشكلة تعود بنا مرة اخرى الى المشكلة السابقة"جرح الحداثة". لكي تكتمل المصيبة فان النخب العراقية لم تأخذ فقط الحداثة المشوهة بمعانيها الاجتماعية والعقلية، بل هي ايضا اخذت تشوهات الحداثة بمعانيها السياسية الوطنية. كان من المعقول والطبيعي جدا مع بداية الصحوة والولادة الجديدة للعراق في اوائل القرن الماضي ان تبادر النخب العراقية باعادة احياء الهوية الوطنية التي ظلت حية في الروح العراقية خلال آلاف السنين. رغم كل عوادي الزمن والحقب المظلمة فأن جذور الامة العراقية ظلت حية تتغذى من مياه النهرين الخالدين، مستمرة في الارض والناس والآداب والاديان والطوائف والعادات واللهجات والغناء والموسيقى والطعام ومختلف تفاصيل الحياة. لكن الذي حدث هو العكس تماما، فبدلا من اعادة احياء هذه الهوية واعطائها الابعاد السياسية والعقلية الحديثة واشعار العراقيين بأنهم مهما اختلفوا لغويا ودينيا ومذهبيا فأنهم جميعا ينتمون الى هذه الارض والى هذا التاريخ العريق بجميع حقبه المسمارية والمسيحية والاسلامية.. نقول أن الذي حدث هو العكس تماما حيث خضعت النخب العراقية من دون قصد الى مشاريع السيطرة الاستعمارية والصهيونية الهادفة الى تشجيع الهويات العرقية" القومية" القائمة خصوصا على اساس الانتماء الى اللغة وعرقها وليس الى الارض وتاريخها. من المعروف ان غاية الغرب والصهيونية كانت اولا تمزيق الدولة العثمانية ثم بعدها تمزيق باقي اوطان الشرق الاوسط الى هويات متصارعة تبرر قيام دولة اسرائيل القائمة على اساس الانتماء الى "اللغة العبرية" والدين اليهودي! والنتيجة الكارثية ان جميع النخب العراقية خضعت لهذه الارادة القومية اللاوطنية وقسمت الامة العراقية الى امم وشعوب وقوميات واقليات تمتلك تواريخا اقوامية مختلفة بل متصارعة وميراثات خاصة لا يجمع بينها أي جامع و" طموحات مشروعة" بـ" حق تقرير المصير" وبناء امبراطوريات اقليمية، عروبية وكردوية وآشورية وتركوية، منافية لحدود العراق ووحدته وحرمته!! والذي زاد في عمق المصيبة ان هذا التشرذم القومجي الذي خضعت لها الهوية العراقية اضيف اليه العسف الطائفي ضد الاغلبية الشيعية الذي يستمد جذوره من السياسة العنصرية الطائفية خلال قرون الفترة العثمانية. والنتيجة انه حتى الآن من الطبيعي جدا ان يتهم الشيعي العراقي بالشك بهويته الوطنية وعليه ان يثبت حتى الموت انه ليس من اصول اعجمية وانه ينتمي الى العراق وليس الى ايران. وهذه الحالة تكاد ان تكون الوحيدة على وجه البسيطة حيث يشك بأصالة ووطنية اغلبية ابناء الامة !!
حرب جديدة وامة جديدة
اذا كانت الحرب العالمية الاولى والاجتياح الانكليزي لحظات الطلق والولادة المشوهة لامتنا، فأن الحرب الامريكية الحالية سوف تكون لحظات الطلق والولادة لامتنا الجديدة. ان نتائج المقاومة الباسلة للاستعمار التي يبديها الآن شعبنا في الجنوب والوسط والشمال، لا بد ان تختلف عن نتائج المقاومة التي ابداهنا شعبنا في ثورة العشرين ضد المستعمرين. يقينا ان شعبنا الآن مسلح في اعماقه بتجارب الخيبة والانكسار لتلك الثورة التي انتجت دولة عراقية كسيحة بقيادة ملك مستورد ونخب افندية ساذجة بمشاريع بائسة ظلت تتهادى بنا من خراب الى خراب.
أن خلاص الانسان العراقي من عذاباته وتوتره يكمن في قدرته على مداوات هذين الجرحين، جرح الحداثة وجرح الوطنية. وهذه المهمة هي قبل شيء مهمة ثقافية فكرية دينية ملقات على عاتق جميع اصحاب الفكر والضمير من العراقيين المتعلمين وبالذات النخب الثقافية والسياسية والدينية. نعم ان تحرير الانسان العراقي من تمزقه العقلي وعذابه الضميري في إنتمائه الى واقعه ووطنه سوف يضعه في الدرب الحقيقي نحو الخلاص من حكم الطغاة وتهديد الغزاة وبناء وطن الاستقرار والعدل والسلام.
لا للاستعمار الامريكي وكل استعمار مهما كان ...
لا لأية حكومة عميلة يأتينا بها الغزاة..
لا لكل العملاء ومرتزقة الغزاة من برزانيين وطلبانيين وجلبيين وحكيميين ومن لف لفهم..
لا لديمومة حكم الطغاة ...
عاشت المقاومة البطولية لشعبنا، وعاش التضامن الانساني وعاش التسامح والاخوة بين العراقيين وبين جميع البشر .. عاش الحب والصداقة..
من اجل تغيير سلمي ضميري من داخل الوطن حتى لو بعد كفاح مئة عام، ليأتينا بحكومة وطنية اصيلة تمثل كل فئات الامة العراقية ..