عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6264 - 2019 / 6 / 18 - 20:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الديمقراطية الواهمة ..... الديمقراطية الإسلامية
الديمقراطية التي يديرها الإسلاميون اليوم في العراق وبعض البلدان التي سيطر فيها بما يعرف بالتيار السياديني نتيجة التغيرات السيافكرية وما يسمى بالربيع العربي تواجه تحدي حقيقي وجاد بين إرادة هذه القوى ومحاولة تسخير الشارع الشعبي لها بأعتمادها مقولات دينية وتبريرات تؤدي إلى إحراج اليقين العقائدي للشعب وتضعه بين خيارين , خيار الخضوع لها تحت مسمى الأقلية المؤمنة المرسلة والمسددة من الله أو الخروج عن إرادة الطاعة وبالتالي إعلان ضمني بتكفير كل المجتمع ,أقول لو أن هذه العملية التي ركبها التيار الإسلاموي وهو غير مؤمن بها إلا أنها أفضل طريق للوصول للسلطة وبالتالي الإنقلاب على العملية برمتها بتبني شعار الإسلام هو الحل ,أكرر لو أفضت إلى خيار شعبي حقيقي بأن الشعب لا يريد إقحام الدين في السياسة ولا يريد للإسلاميون أن يتصدروا المشهد لأنهم لم يقدموا لهم ما هو خير وما هو أحسن فهل يقبلون به كما هو ؟.
أجزم يقينا من ناحية الإرادة الربانية التي نستقيها من روح الرسالة الدينية وبما نعرف من مقاصد الدين وأساليب الرحمة الربانية أن الله سيكون مع الشعب وخياراته ضد التدين المنحرف والأستغلال السيء للأحكام الشريعة ,ولي عنق النصوص والأفكار بما يؤدي إلى تشغيل الدين في ماكنة السياسة ,ولحقيقة أن الله ليس بحاجة لإثبات قدرة ولا لمجرد أن تكون هناك تجربة ظالمة بإسمه خارج خيار الإنسان الحر والمختار بوعي ,وهذا يمثل عنده أنتصارا لقيم الأخيرية والأحسنية ولا يعني هذا أبدا مقولة أهل الأصول أن (أكثرهم للحق كارهون) ولكن بمعنى (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ) , فهل أنتم جاهزون لنصرة أنفسكم أيها الإنسان .
لا تختلف تجربة الإسلام السياديني اليوم أبدا عن كل التجارب التي خاضتها الشعوب من قبل في كل بقاع العالم كما لا تختلف طريقة المواجهة والمراجعة إلا ببعض التفاصيل التي لا تؤثر على الصورة العامة للحل ,كما لا تختلف بحقيقة الهدف المرجو منها وهو الإنسان الذي خاطبة الله والدين على أنه هدف الوجود وغاية الخلق الكلية ,عليه أن يكون رسول إصلاح وخليفة تعمير, بعيدا عن إثبات أو نفي إرادة التي أبتدعها وأخترعها المتدينون وأعطوها أهمية ليس لها أرض واقع ,وهي الحكم بما أنزل الله, بمعنى أن يكون الله هو الحاكم السياسي أو من ينوب عنه وهذا تقزيم وتحقير لدور وعظمة الله ودور الدين وأهدافه النبيلة وسماحة المؤديات والنتائج حين نحصر الحاكمية الربانية بالسياسة .
التجربة التأريخية اليوم والتي مرت وأمسك بها الأخرون يجب أن تدرس اليوم دراسة واعية ونقدية وليست عملية نقل حرفي لأننا بذلك نزرع أول وأهم أسباب الفشل على المستوى العملي والتدبيري , تجربة بدون ملاحظة عوامل البيئة ومستلزمات الزمان والمكان والحال والمحل وتلازم ما بين أسباب ونتائج لا يمكن أن نتوقع لها نجاح مهم ومؤثر وحقيقي وإلا هذا يعني تكرار فشل وإرغام تطبيق غير مناسب مع حال غير متناسب سيؤدي بالتالي إلى تعميق وتجذير الأزمة والإشكالية بدل حلها , الحركة التصحيحة والقيادة العملية تبدأ ليس من خلال مهاجمة الأخر وأستفزاز عوامل الصدام معه مما يؤدي إلى تمزق وتشظي القاعدة المستهدفة من العملية , بل بتقديم النموذج الأصح والأصلح والأسلم وهذا هو واجب النخب التي عليها إعادة وعيها الوجودي والتأريخي والإنساني أولا , وبتأثير هذا الوعي ستسقط رؤية الأخر سليما بفشلها في التنافس وعدم قدرتها على تتجاوز واقعها العقائدي .
إن المطالبة اليوم بالدولة المدنية وشعارات العلمانية والليبرالية والصراخ الفارغ في الشوارع أو في مواقع التواصل لا تجدي مع مواجهة تأريخية بحجم إشكالية ومأزق المجتمع الإسلامي وأمراضة التأريخية ما لم يصاحبها رؤية عملية وعلمية جادة وواعية تستند إلى الخصيصة المحلية وتجيب على أهم التساؤلات التي نجح الإسلاميون في إستغلالها وتحفيز العقل الجمعي الشعبي بالذات على إتباعهم كالأعمى , تطرح هذه الرؤية على الناس من خلال سلوكية حسية ومنهج دراماتيكي وبرغماتي يلبي هاجس الإنسان في إرتباطه مع الدين ولا يمنح ولا يشجع على فرض الرؤية الواحدة مقابل الأخر ,كما يتبنى جملة من الحلول التي عجز الإسلامي عن إدراكها والتي تتمثل بالقاعدة الأساسية التي تحرك جماهير الشعب وهي العمل والأقتصاد والبناء المستمر ,الذي سيجعل من حياتهم والرؤية في مدار واحد ومرتبط جدليا ليضمن أن لا تكون الشعارات مجرد مرحلة لتغير الوجه السياسي ثم النكوص عنه .
قوانين الديمقراطية السياسية تستوجب دوام الحركية الاجتماعية كما تستوجب التعامل مع السياسة على أنها وجه من أوجه فلسفة براغماتية تستهدف الحصول على منجزات أجتماعية ترتقي بالواقع الأجتماعي حتى مع أحتمالات أن يكون هناك خرق أخلاقي في التعاطي السياسي ,في العقيدة الدينية والتي يتمسك بها البعض من الإسلاميين لا يسمحون للحركية هذه أن تخرج عن ثوابت هم من صنعها وتقوقعوا داخلها وبالتالي سيكونوا مجبرين بين خيارين بين أن يتعاملوا ببرغماتية تكشف زيف تمسكهم بالثوابت أو الرضوخ للثوابت وبالتالي ضرب الديمقراطية بأهم مفاصلها وسماتها وهي التحرر من القوالب الجامدة , هذه الإشكالية لا يمكن للفكر السياسي الإسلامي أن يجد لها حلا مع تقدم المشروع الديمقراطي وبالتالي سوف نشهد حالات أقل ما توصف به إنها تجذير لأزمة ومفهوم الحكم الديمقراطي لديهم .
المشروع الإسلامي السياسي يتبنى خيار فرض مفهوم الواحد المتوحد أي مفهوم تطبيق الشريعة بشكل واحد ومتساو وموحد ,ومن هنا يتشكل التناقض بينه وبين المشروع الديمقراطي القائم على التعددية الفكرية وحرية الإنسان في التنقل بين خيارات مفتوحة حين يجد أن خياره الأساسي لا يلبي له المطلب الأهم , مثلا في الديمقراطيات الناضجة نرى تحولات جذرية في خيارات الناخب بين اليسار واليمين بين المحافظة والتجدد بناء على الهدف المعروض أمامهم دون الخضوع لفكرة التمسك برؤية محددة والدفاع عنها برغم فشلها أو عجزها أن تلبي مطاليب المجتمع ,الإشكالية الفكرية الإسلامية عند البعض من سياسي الفكر أنه لا يرى بديلا عن التجربة التأريخية التي تبناها وجعلها المنطقلق والمعطى الهم في تكوين معرفته الوجودية وإنضمامه العميق لها مع فشلها المزمن, دون أن يعي أن الفشل ليس لأن الإسلام لا يملك الحل بل لأن الإسلام ليس منهج سياسي أو نظرية سياسية بقدر ما هو مشروع لصناعة عقل يتعاطى مع الواقع بروح الإصلاح والصلاح وفق مبدأ الأخيرية الأحسنية .
يتبادر لما سؤال مهم هل من الممكن كأفتراض أن تنجح تجربة الأحزاب الإسلامية في التعامل السياسي مع الديمقراطية كنظام إدارة وكنظام حكم كما نجحت أحزاب سياسية ذات قاعدة دينية كما في الغالب من الأحزاب الأوربية منها مثلا الديمقراطي المسيحي الإيطالي , المسألة كجواب هنا تفترق كثيرا بين أن يكون شكل الحكم إداري مبني على منظومة قانونية ودستورية وفكر سياسي يحرم النكوص عن الديمقراطية والعودة لقاعدة الواحد الأحدي كما هي راسخة في المجتمعات الأوربية وبين مفهم السلطة الحاكمة التي تمارس الديمقراطية على أنها مكسب سياسي يخولها التصرف بقواعد الحكم وتبديلها وتعديلها بما يتلائم مع نظرتها الأساس وبالتالي تمنح لنفسها من خلال الديمقراطية التفويض المشرعن بإعادة المجتمع إلى القواعد السابقة التي تخلص منها عبر نضالات طويلة ودفع عنها ثمنا باهظا .
النتيجة التي سنصطدم بها في كل الحالات أن الخيار الديمقراطي لا يناسب ولا يتناسب مع فكرة السياديني ولا يؤمن بها أصلا ,لكنه يسعى من خلال التعامل معها كواقع بناء منظومة قيمية جديدة تبدل خيارات المجتمع من خلال وسائل الضغط والإلجاء ومن خلال مفهوم وقوة السلطة ليجعل قاعدة الحكم تنتهي بلا حل إلا أن يكون إسلامهم السياسي هو الحل, حتى لو أدى ذلك للتصادم مع المشروع المدني الليبرالي الذي لا يمكن أن يسلم بخيارات الإسلامين ,وبالتالي كمحصلة نهائية سيكون هناك تصادم وصراع سيستخدم الإسلامين التفويض الأنتخابي الديمقراطي مع قوة السلطة لقمع المشروع المدني كما حصل في مصر الأخوان المسلمين .
هذه النتيجة الكارثية لا تنتهي عند قمع طرف سياسي مهم ولا مع وأد الديمقراطية في المهد ولكنها ستفكك المجتمع فكريا وحضارية مما يمهد لحال من حالين وأحتمالية أكثر أن ينمو التطرف اليساري واليميني معا ,والاحتمال الثاني تدخل القوى الخارجية بعناوين مدافعة عن خيارات معينة ليتحول المجتمع الإسلامي لحالة صراع وتمزق يدفع ثمنها الإنسان البسيط والمجتمع ككل وتنتهي التجربة الديمقراطية بولادة ديكتاتورية أستبدادية تحت عنوان حماية المجتمع من التطرف والتطرف المضاد, أو للدفاع عنه بوجه أخطار خارجية كما في مصر أيضا التي اعطت صورة واضحة للأحتمالين معا وهذه من مساؤي التعاطي الخادع مع الديمقراطية التي يستغلها الإسلام السياسي .
من وجهة نظر ديمقراطية حقيقية لا يمكننا كمدنيين أن نقصي أحد وهو يحمل حقه الطبيعي والوجودي في المشاركة بالحياة بكل أوجهها بما فيه السياسة والعمل السياسي إن كنا صادقين مع شعارنا وأنتمائنا الإنساني , كما وعلينا أن لا نترك واجبنا الأهم والذي يصون هذه المقدمة وهو الدفاع عن ديمقراطيتنا ومدنيتنا من التطرف والنكوص والأستغلال المؤدي لإقصاء أحد ,الإشكالية التي يتسائل الكثيرون عنها هي في كيفية التوافق بين الحدين المذكورين أعلاه ؟, الحقيقة أن الديمقراطية باب مفتوح للجميع وواجب حمايتها من الميول التي لا تؤمن بها كقاعدة عامة ولكن تؤمن بها كوسيلة لهدف أخر خيار ملزم وأخلاقي وحضاري, والحل يتأتى من تبني قاعدة أجتماعية وقانونية وأخلاقية تنص على أن الخيار الديمقراطي هو خيارنا الوجودي الذي يحمي التنوع ويفسح للجميع حق وبالتالي يكون الدفاع عن الديمقراطية دفاع عن القاعدة التي تبتنى عليها كل الألتزامات الأجتماعية والفكرية والسياسية .
بمعنى أننا نؤسس لقاعدة جديدة ذات شقين الأولى تحويل مفهموم الحكم من فكرة السلطة الحاكمة إلى مفهوم الإدارة المسيرة الملتزمة بخيارات المجتمع وليس بخيارات الغالبية الناخبة ,وثانيا لا مجال ممكن في تبديل القاعدة التي تسمح للتداول السلمي للإدارة أن تتحول بها طالما أن المشاركين فيها قد التزموا بها إبتداء وبموجب قاعدة فقهية ودستورية وقانونية تنص على (ألزموهم بما ألزموا أنفسهم به) فمن يقبل الديمقراطية عليه أن لا يجعل منها طريق للعبور إلى هدف أخر ولا نسمح كمدنيين أن نقصي من يؤمن بالديمقراطية وبهذا الألتزام من المشاركة الجادة وعلى الجهة التي لا تجد بأسا من تعديل أفكارها الأصولية أن تنخرط بالعمل السياسي والديمقراطي تحت هذا العنوان .
أن تبني شعار الوطن للجميع لا يعني أبدا أن نجعل من الوطن بمحل مقارنة ومفاضلة وجودية مع الدين أو مع الله كما هو شائع بين العلمانيين من أن الدين لله والوطن للجميع, الدين والوطن للإنسان والله تعالى لم يريد ولن يرضى بأكثر من أن تكون الأرض معمورة بالخير والحب والسلام والتعارف , ومسألة وضع الله كخيار مع الوطن نوع من الظلم الذي كثيرا ما يشعر به أفراد مجتمع معبأ روحيا ولا يستطيع أن ينفصل من واقع روحي يقدسه وينتمي له بقوة, ويعتبر أن القبول بمنظومة الدين مع كل التخريب الذي أصابها أهون عليه وعلى أن لا أن يكون محل مفاضلة مع الوطن ,وبالتالي نخسر كمدنيين واحرار وإنسانيين جزء مهم من القاعدة الجماهيرية الرافضة للفساد والتحريف لصالح طبقة الإسلام السياسي الذي يجاهر علنا ومع عمله وإنغماسه بالديمقراطية من أن المدنية والليبرالية والعلمانية عدو لله وللدين وتعني التقصد في المفاضلة بما لا يمكن التفاضل بينهم .
علينا تبني مفهوم الوسطية ورفع شعار التسامح ومواصلة الحوار مع كل من يؤمن بالديمقراطية وسقفها الطبيعي دولة المؤسسات التي تدار بعقلية الموظف الذي عليه أن يجتهد في خدمة المجتمع وأن المنصب السياسي والحكومي ليس مكافأة وتفويض بنتيجة صراع مفترض فيه الفوز وإقصاء الآخرين , وإنما هو إرتباط ببرنامج ملزم وخاضع للمراقبة والتدقيق والمحاسبة وهو موضع تداول طالما أننا نؤمن أن جوهر العمل الديمقراطي هو عدم الثبات على اهداف وخيارات ,بقدر ما هو البحث عن أفضل الحلول الأجتماعية المتبدلة مع تغير الظروف والوقائع والمصالح ,هذه الحقيقية التي على الإسلام السياسي اليوم أن يرضخ لها ,أو يكتفي في حالة عدم الإيمان بالجلوس مجلس المعارضة المدنية السلمية ويحاول أن يطور من أليات العمل لديه ليصل إلى القناعات التي تملي عليه واجب المشاركة وهو واثق أن طريق الديمقراطية هو وحده من يمنحه القدرة على التطور والنقد وأستعادة دور الدين في الحياة كعامل مشجع للعيش بسلام وخاضع لتطور يتناسب مع التبدلات والتحولات الكونية .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟