جمال الجميلي
الحوار المتمدن-العدد: 6261 - 2019 / 6 / 15 - 16:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ما بين الأصالة والحداثة
من افتراق وتلاقي
نعيش في القرن الواحد وعشرين ومازالت تثار مشكلة علاقتنا بالتراث ( الأصالة) وضرورة التمسك بتاريخنا " المتميز" وفقه الأسلاف في المعاش وتصورهم لحل مشكلاتنا الحاضرة..!؟
رغم أننا نشهد هذا الإنفجار المعرفي والثورة التكنولوجية وهذه التغيرات الكبرى في العالم والفارق الحضاري الواسع بيننا وبين دول العالم المتقدمة , مع ذلك لم نحسم بعد مشكلة العلاقة بين الأصالة والحداثة التي طرحت على جمهور المثقفين منذ القرن التاسع عشر، وبقينا للأن ندور في نفس الحلقة، ونرفض الجديد معتبرين أنه دخيل على ثقافتنا...!؟ وعلى الرغم من كل هذه المصائب والهزائم نصر على أننا نملك الحقيقة والرؤية المحصنة التي تجلت بالعصور الذهبية في تاريخنا , ولانفرق بين ( أن نحيا في التراث) وبين أن ( يحيا التراث فينا) كما عند بقية خلق الله. الذين تطوروا وصنعوا حضارتهم ويعيشون رفاهيتهم.. كما أننا لم نستطع أن نفرق بين الاستعمار الذي احتل أرضنا، وبين فكر وعلم وثقافة هذا المستعمر الذي بنى دولته الحديثة ونظم حياة مجتمعه، بعد أن حسم علاقته بتراثه وثقافته العتيقة (الأصالة)، أي عندما انتقل إلى قيم الحداثة, (العقلانية والديمقراطية... ألخ )ومازال يطور في منظومته المفهومية والمعرفية..
بالرغم مما نرى ونسمع مازلنا متمسيكين بقوة بمفاهيمنا وتصوراتنا العتيقة حفاظاً على الأصالة، متبجحين بأنفسنا وجدودنا وفهمهم وعلمهم..! جاهلين أن أول مبادئ العقل والعلم التغير والتبدل والتطور في الأشياء والأفكار..!؟
إن من مظاهر المشكلة أو الأزمة هذا النمط من التفكير في فهم علاقة الفرد بالعالم، وقد زاد من عمق هذا المشكلة طريقة معالجتها ومقاربتها في المؤتمرات والندوات، حيث تدور في أغلبها حول إمكانية التوفيق والإصلاح بين الأصالة و الحداثة، وأراني أقف ضد هذه النزعة التوفيقية في مقاربة ثنائية الأصالة والحداثة, منهجياً ومعرفياً وتاريخياً , وفي إن استخدام المنهج التلفيقي في البحث لخدمة النزعة التوفيقية, يشكل تقنية إنتقائية تضليلية مرفوضة منهجياً ومعرفيا، لأنها تقوم بعزل الظاهرة عن سياقها الناريخي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي مما يزيد في عمق إشكالية البحث في الموضوع ويمنع من فهمه وحسمه ..
بعد ثورات الربيع العربي ظهرت بوضوح وقوة إشكالية علاقة ( الأصالة والحداثة )على المستوين النظري والتطبيقي عبر الحركات الإسلامية جميعها، فلم تعد مشكلة يتداولها مثقفين فيما بينهم، بل صارت تحدد طبيعة وشكل الحراك الاجتماعي الثوري الذي خرج يطالب بالحرية والديمقراطية.. ألخ وبدأت المشكلة تتضخم لأن أجساما سياسية واجتماعية أخذت هذا الحراك الاجتماعي باتجاه يحقق مصالحها السياسية والجهوية , وبما أني معني بمناقشة فكرة الأصالة والحداثة في هذه الورقة، فلن أتحدث عن الحراك إلا عبرمقاربة إشكالية الارتباط بين (الأصالة، الحداثة)
انطلاقاً من تمسك الأصوليات الإسلامية بمفهوم الأصالة , فقد اتخذ هذا اللفظ معنى ديني اسلامي، وصار التاريخ والتراث ديني فقط، ,أصبحت محاكاة الأجداد والاسلاف واتباع منهجهم في السياسة والاجتماع هو الحل المتبع في ثورات الربيع العربي، وصار التوفيق والتلفيق هما الأدوات المنهجية التي تستخدمها الأصولية في خطابها ومشروعها السياسي والاجتماعي والتعليمي، التمسك بالشرع والفقه هو الأصالة، أي العودة إلى الوراء ,إلى العصر الذهبي، وتخلل ذلك محاولات توفيقية مبتذلة حول التطابق بين مفهوم الشورى والديمقراطية، والدولة المدنية ذات المرجعية الشرعية والدولة الحديثة وقضايا المرأة ..الخ
والكثير من المفاهيم والقيم الحداثية قد وجدت مقابل مشوه لها في منظومتنا الفقهية والتراثية، وصارت الساحة الفكرية والخطاب السياسي الوطني في حالة فوضى وخلط، وساد فكرالتسطيح والابتذال والاستسهال في تناول الأفكار والقيم الحداثية , لتطويعها ضمن المنظومة الفقهية , لحماية ديننا وثقافتنا من الغزو الثقافي ( قيم الحداثة ) والحفاظ على أصالتنا حسب أصحاب الإتجاه الأصولي ومن سار بركبهم من وسطيين يتعيشون سياسيا ومعرفيا عليهم.
بدا الاضطراب والضعف يتضح في الخطاب السياسي للمعارضات حتى تلك التي تدعي التقدمية والليبيرالية , والتي سقطت في تضليل معرفي وتاريخي وسياسي!؟
بالعودة إلى مناقشة فكرة الأصالة , معتمدين منهجا تاريخياً وفهم ابستمولوجي نقدي, نرى أن أصحاب شعار الحفاظ على أصالتنا أو الأصوليين الجدد قد أسقطوا من حسابهم ثلاث عناصرأساسية في مقاربة هذه الثنائية الإشكالية ( الأصالة والحداثة ) والتي هي عناصر ضرورية علميا لدراسة أي مفهوم أو ظاهرة , الزمان ,المكان، التغيير.. وهي أي الأصالة بالمفهوم الديني الذي تبنته الأصولية الجديدة , قد اعتمدت هذه العناصر ولكن بفهم وقراءة بعيون وعقول فقهاء الماضي، فالزمان ثابت ومادام الزمان ثابت فالمكان لايتبدل ولايتغير، وكذلك الأفكار والرؤى والحلول للمشكلات الراهنة..!! إذا ثبات الزمان وعدم حدوث تغيرات بالمكان يعنيان استمرار الماضي في الحاضر.. ! كأن التاريخ هو هو فإن عدنا إلى الوراء أو تقدمنا في الزمان فلا أهمية لذلك , لأن الزمان يعلوا على التاريخ المعاش ,وهو مفهوم ميتافيزيقي , ثبتت لحظته الأولى مع الولادة الاسلامية التي جبت ماقبلها وتجب ما بعدها لأنها الحقيقة الوحيدة والمطلقة إذا العصرالذهبي لهذه الأمة الذي يجب أن نقتدي به ينتمي إلى جذور تاريخنا البعيد، ولكنه حسب مبدأ الاستمرار، يظل ممتدا على نحو متصل حتى وقتنا الراهن، وهكذا يكون النموذج الاسلامي الأول للسلف الصالح هو العصرالذهبي , وهو النموذج الأمثل الذي يجب أن نقتدي به لحل مشاكلنا الحاضرة وتحقيق العدل بين الناس, اعتمادا على هذا الفهم يجب علينا الدفاع عن أصالتنا التي تعني ديننا وتاريخنا وثقافتنا وعبرها يتم خلاصنا ..!
. طبعا دعاة هذا التوجه الأصولي لايطرحون على أنفسهم السؤال البسيط الآتي: كيف نقتدي بنموذج قديم، في ظروف أصبحت مختلفة عنه كل الاختلاف، وفي عالم لاتربطه مع الاسلاف أي صلة، ومشاكله واقتصادياته وعلومه وشعوبه تختلف كل الاختلاف عن ماسبقها... !؟ لكن أصحاب الأصالة أو الأصوليين يظلوا أمينين في مخيالهم لتلك المنظومة المفهومية واليقينيات المطلقة والثابته والمتجاوزة للزمان والمكان...
وإن استنطقنا (الحداثة) حول ارتباطها بالأصالة ( التراث) نراها لاتقطع مع التراث نهائيا ولاتتنكر للماضي، لكنها تدرك في الوقت نفسه أن الخلاص والحضارة الذي يٌقدم إليها في صورة عودة إلى نمط الحياة والفكر السائدين في عصر غابر، لن يحل المشكلات الراهنة، ولن يجعلنا نشارك في الحضارة الانسانية , بل يغلق كل اّفاق التطور والتقدم .
وبالعودة للحداثة يتبين لنا وجهها الفلسفي العقلاني والتنويري والأبستمولوجي , ووجهها الأخر التطبيقي , كونها مشروع عملي تحديثي تنظيمي مؤسساتي لتأسيس الدولة الحديثة وترسيخ قيم الديمقراطية في العائلة والمدرسة لبناء المجتمع المدني , فهي رؤية وبرنامج عمل يرسم صورة واّفاق المستقبل لشعوب المنطقة العربية .
وفي رأي أن وضع أنفسنا أمام بديلين يتعين علينا أن نحدد موقفنا منهم إما أن تكون مع (الأصالة أو الحداثة ) , هو موقف غير منصف ولا علمي، وكذلك محاولة التوفيق بينهم هو موقف هش رخو يأخذك في النهاية لتغليب الأصالة على الحداثة وهذا مانشهده في المؤتمرات والندوات في سعيها لتطبيع العلاقة بين الأصالة والحداثة ..!!
إزاء هذا التشويش والاضطراب في الفكر والواقع , من الطبيعي أن نرى أن الفرد المعاصر يعيش اغترابا معرفي وزمني إزاء تاريخ وتراث يراد بعثه بعد انقطاع طويل، وفي ظروف مغايرة , تراثاً أراه أضيق نطاقاً بكثير من الواقع المعقد, إن عجزهذا التراث عن الإجابة على أسئلة الانسان الراهنة وقضاياه الشائكة والمتداخلة , يؤكد على أن دعاة العودة إلى الأصول هم خارج المكان والزمان ,يعيشون حاضرهم في ماضيهم .
لكن هذا لايعني انحياز أصحاب اتجاه الحداثة إلى رفض التراث بالمطلق , ومحاكاة الغرب باقتباس كل ما يصدر عنه , فالحداثة لاتعني رفض ماضينا وتاريخنا والتنكر له كما يصورها الأصوليين الجدد, بل هي تستلهم صور الابتكار والابداع التي في تراثنا الحافل بالمفكرين والفلاسفة, الذين ساهموا في انتاج الحلول لمشاكل عصرهم , لأن الحلول الأصيلة تستمد من واقع المجتمع والتغيرات والتطورات التي اختلفت كلياً عن مجتمعات الماضي .
تبقى نقطة الافتراق عن الرؤية الأصولية هي في البعد التاريخي والزمني وتعقد الاجتماع والسياسة .. بالمحصلة أرى أن الأصالة الحقيقية تكمن قي قلب الحداثة , فاتراثنا يحيا فينا ولا نحيا نحن فيه ,وهكذا يلتغي التضاد بين اللفظين في الفكر والواقع( أصالة حداثة ) وتلتغي الحاجة والمحاولات المبتذلة للتوفيق بين الأصالة والحداثة , فالأصالة تتجلى وتكتمل في مجتمع يعيش عصره وقيمه الحداثية , وتضيع الأصالة في مجتمع لايعرف كيف يعيش عصره إلا بمحاكاة ماضيه , فيعيش مأساة تدهوره المستمر.
جمال الجميلي
#جمال_الجميلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟