تاريخ أمريكا القصير يتسم بالجرأة والمغامرة والإقدام. ولهذا قاموا بتعمير قارة كاملة وبناءها على احدث ما أنتجه العلم والتكنولوجيا. وقاموا أيضا بالمساعدة في بناء وتعمير أمم عظيمة ويكفيهم فخرا أنهم ساهموا في بناء المعجزة اليابانية والمعجزة الألمانية بعد الحرب العالمية الأخيرة، والآن الاقتصاد الألماني والياباني هما ثاني وثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي. ولهذا يتحرك الأمريكيون في العالم وورائهم تاريخ قصير ولكنه مفعم بالحيوية والإقدام والتفاؤل على عكس رؤيتنا نحن القادمون من العوالم القديمة، فقد أحبطنا التاريخ وطول الاستبداد، وعلى عكس الأمريكيين نحن نساهم في تخريب ما تركه لنا أجدادنا. ومنذ الغزو العربي لمصر ونحن نعيش حالة الاستبداد الديني والسياسي والتخلف الإنساني، وبعد هذا التاريخ الطويل من التخلف بالتأكيد فإن مخاوفنا عميقة وتفاؤلنا محدود وشخصيتنا القومية تتسم بالركود والقدرية والسلبية وعدم المغامرة.
في الحرب الدائرة حاليا والتي تسمي "عملية الحرية للعراق"، يحمل الأمريكيون نفس حماسهم وتفاؤلهم وأقدامهم وهم ينطلقون إلى هذه الحرب ومعهم حزمتان من الأهداف. أهداف يمكن اعتبارها "وقائية" جراحية و أخرى "ٍبنائية".
فيما يتعلق بالأهداف الوقائية تتركز في المحافظة على أمن وسلامة الولايات المتحدة من الأخطار المحتملة وفي مقدمتها "خطر الإرهاب" ولهذا يقول جورج بوش "أنها حرب من أجل أمن بلادنا والعالم، وسلامهما، نحن لن ندع مستقبلنا يتقرر من قبل جماعات إرهابية وأنظمة إرهابية".
لقد أصبح هناك شبه يقين في أمريكا أنهم في متناول التهديد الإرهابي، وأنهم ليسوا بمنأى عما يحدث في العالم وأن زراعة الإرهاب ونموه وتفريخه في الشرق الأوسط حتما ستؤدي إلى تصدير هذا المحصول الإرهابي الوفير وأنهم من أكثر الدول المرشحة للتصدير الإرهابي الإجباري القادم من الشرق الأوسطي. التجربة أثبتت أن تضييق الخناق على الإرهابيين دون محاصرة العوامل التي تفرخ الإرهاب سيؤدي إلى تصدير الإرهاب إلى الخارج دون معالجة أسبابه ومن ثم يظل ينمو ويتمدد عالميا، وهو ما حدث مع الأخوان المسلمين بعد مطاردة عبد الناصر لهم فنشروا أفكارهم الهدامة في كل المحيط العربي وبعض المدن العالمية، وكذلك بعد موجات محاربة الإرهاب الديني أمنيا فقط في العقدين الآخرين وكانت النتيجة تصديره إلى المدن الغربية دون معالجة حقيقية له، بل على العكس زاد معدل تفريخ الإرهاب في الشرق الأوسط. ومن ثم فإن أهداف أمريكا الوقائية تتعلق باستئصال الخلايا الإرهابية من مصادرها وقطع الطريق على امتلاكها لأسلحة محظورة وكذلك تحالفها مع أنظمة مارقة تكن عداوة شديدة لأمريكا. وعملية الاستئصال الجراحي للخلايا الإرهابية وللأنظمة المتعاونة معها تمثل الجانب الوقائي في الحملة الأمريكية على العراق وماذا عن الجانب البنائى.
يتعلق الجانب البنائي في منظوره بالعلاقة الوثيقة بين غياب الحريات والديموقراطية ونمو الإرهاب بمختلف أنواعه، فالإرهاب ينمو ويترعرع في الظلام وفي غياب الديموقراطية والحريات وانتشار الفساد ومن ثم فإن بناء عراق ديموقراطي حر، ووجود أمريكي كثيف في المنطقة سيؤديا بالتأثير تارة وبالضغط تارة أخرى على نمو الحريات في منطقة الشرق الأوسط ومن ثم محاربة الإرهاب من جذوره الفكرية وهو ما يسميه جورج بوش "ٍالترويج لأمل الحرية العالمي".
الأمريكيون لديهم آمال عريضة في بناء ديموقراطيات في الشرق الأوسط وهم متفائلون بإمكانية تحقيق ذلك في المنطقة العربية، يقول جورج بوش "لقد مرت فترة كان العديد يقولون أن الثقافتين اليابانية والألمانية ليستا قادرتين على استدامة القيم الديموقراطية، لقد كانوا على خطأ والبعض يقول الشيء ذاته عن العراق، وهؤلاء أيضا مخطئون".
ويؤكد "أننا لم نخلف وراءنا جيوش احتلال وإنما تركنا دساتير وهيئات برلمانية ولم نخلف أعداء دائمين بل وجدنا أصدقاء وحلفاء جدد".
هذا عن الجانب الأمريكي فماذا عن الجانب العربي ؟
باعتباري نشأت وترعرعت في العالم القديم فلا أملك نفس التفاؤل الذي يشعر به الأمريكيون تجاه المنطقة. نعم أنا أدعو الله إلى تحقيق هذه الأهداف العظيمة لمنطقتنا في الحرية والديموقراطية واستئصال الإرهاب، ولكن قراءتي للتاريخ تختلف عن تجاهل الأمريكيين لهذا التاريخ.
لقد كتبت من قبل أن العرب يعيشون داخل ثلاثة أقفاص حديدية محكمة هي "الرؤية للدين"، و "الثقافة والتقاليد البائسة البالية"، و"النظم السياسية المستبدة"، وهناك علاقة وثيقة بين هذه الأقفاص ويمكن اعتبارهم ثلاثة أقفاص متداخلة وبداخلها الشعب العربي. القفص الذي يمثل الغلاف الأخير هو الأنظمة السياسية المستبدة، والغلاف الأوسط هو الثقافة والتقاليد المتوارثة، ومن الداخل والقشرة السميكة والتي تعصي على الحل أو الإصلاح هي "الرؤية الخاطئة للدين".
وفي تصوري أن أقصي نجاح لأمريكا في الشرق الأوسط سيتمثل في فتح نافذة في القفص الثالث، وهو "الأنظمة السياسية المستبدة"، بمحاولة صياغة نظام سياسي شبه ديموقراطي، ولكن القفصين الآخرين وخاصة الخاص بالدين يستعصي على حتى مجرد فتح نافذة صغيرة فيه، ومن ثم بعد عدة سنوات وعدة محاولات ستتسم بالنجاح والفشل سيعود الشرق الأوسط مرة أخرى إلى المربع رقم (1) وسيعود الجميع سعداء بأقفاصهم وخاصة وضعهم الديني.
الذي يعرفه كل الدارسين المتعمقين أن أي محاولات بدون إصلاح ديني ستتعثر وستبوء بالفشل في النهاية، والإصلاح الديني يبدو أنه شبه مستحيل في العالم العربي والإسلامي الآن. وقد خرج علينا د. جلال أمين منذ عدة شهور بمقالة طويلة بجريدة الحياة قال فيها "إن إصلاح الإسلام معناه نهايته". وهي مقولة كان يرددها لورد كرومر أثناء الاحتلال الإنجليزي لمصر وأكدها جلال أمين في مقالته بجريدة الحياة، وجلال أمين هو ابن لكاتب ومصلح إسلامي كبير هو المرحوم الأستاذ أحمد أمين ورؤيته هذه بالتأكيد لها وزنها وانعكاس لخبرة طويلة في بيت له جذور إسلامية عميقة.
وقد بدأت الأزمة بالفعل بإشهار سلاح الدين في وجه أمريكا، وخرجت الفتاوى النارية بأنها "حرب صليبية" من الأزهر ومن لبنان ومن سورية ومن قطر ومن جنوب العراق ومن كل اتجاه في العالم العربي. إنه السلاح الوحيد الذي يجيدون استخدامه والذي لا يستطيع أي فرد أن يعترض عليه. لقد بدأ الإعلام العربي ومعه المنابر الدينية في نشر الجهل بين الجهلاء ليزيدهم جهلا ومنع العقلاء من الرد عليهم حتى يتم أحكام الحصار على البشر داخل الأقفاص الحديدية إياها.
العرب يعيشون في منطقة التفكير البدائي وهو "الحروب الدينية" وهي مرحلة تجاوزتها البشرية منذ قرون.
حتى صدام حسين الذي قتل أكبر عدد من رجال الدين الشيعة في العصر الحديث أصبح المتحدث باسم الإسلام والله.
إنها بالفعل مأساة ومزاد لمن يتاجر أكثر ومن يخدع الناس أكثر.
إن موضوع الحروب الدينية وهل الحرب على العراق حرب دينية أم سياسية سأفرد لها المقالة القادمة إن شاء الله.
وختام القول أنني أشفق على مهمة أمريكا في إصلاح الشرق الأوسط وأتمني نجاحها ولكن أحتفظ لنفسي بعدم التفاؤل وأتمني أن أكون مخطئا وأتمني أن تثبت الأيام خطأ وجهة نظري وليس صحتها.
إيلاف خاص