|
في إستقطاب الفتيات وتغييب العدل والشفافية والحريات!
جوزيف بشارة
الحوار المتمدن-العدد: 1542 - 2006 / 5 / 6 - 09:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تثير قضايا التحول من دين إلى أخر، في العالمين العربي والإسلامي، مشاكل لا حد لها تتسبب في معظم الأحيان في احتقان العلاقات الإجتماعية وتعميق الفجوة بين المنتمين إلى الأديان المختلفة. أثيرت منذ أسابيع قليلة قضية عبد الرحمن الأفغاني الذي تحول من الإسلام إلى المسيحية وواجه بسبب "جريمته" محاكمة كان يمكن أن تفضي إلى إعدامه لارتداده عن الأسلام. وأثيرت منذ أيام قلائل أيضاً قضية اليهودي اليمني يوسف سلمان حبيب الذي تحول إلى الإسلام أملاً في الحصول على حماية قانونية وقبائلية تعفيه من المحاكمة بتهمة قتل طفل يهودي. من ناحية أخرى لا تزال تتفاعل قضية غياب الفتاتين المصريتين ماريان وكريستين اللتين تم الإعلان مؤخراً عن إسلامهما وزواجهما من مسلمين بعدما اختفيتا طيلة العامين حين كانتا قاصرتين. ليس من شك في أن خيطاً رفيعاً يربط الحالات الثلاث بعضها ببعض، إذ أنه في جميعها تم تغييب حرية العقيدة والعدل والشفافية. فالمواطن الأفغاني فقد حريته وحق المواطنة وواجه الإعدام بسبب تركه الإسلام، في حين جرت محاولة لتغييب العدل حين سعى الموطن اليمني بوازع من متطرفين لإسقاط عقوبة القتل عنه بإعلان إسلامه، في الوقت الذي تم فيه تغييب الحقيقة عن ملفات الفتاتين المصريتين المختفيتين.
الحالتان الأولتان تم تجميدهما بنفي عبد الرحمن الأفغاني في إيطاليا لتجنب إعدامه، وقرار من الرئيس اليمني عبد الله صالح بوجوب اعتقال يوسف حبيب وتقديمه للعدالة، في حين أن القبول بالأمر الواقع كان سيد الموقف في القضية الثالثة. ما يعنيني في القضايا الثلاث هو تأكيد مظاهر تغييب مبادئ الحريات الدينية والمساواة وحقوق الإنسان في المجتمعات العربية والإسلامية. هذا التغييب لم يستمد شرعيته من خلال ممارسات الأنظمة الحاكمة فقط، ولكن أيضاً من خلال ممارسات أجزاء محددة من الشعوب العربية والإسلامية وهي من نطلق عليها جماعات التطرف المتأسلمة التي تبارك وتشجع بل وتحرض على اغتيال المبادئ الإنسانية والحقوق المدنية. ففي الحالة الأفغانية شهدت أفغانستان خلال فترة محاكمة عبد الرحمن مظاهرات نظمها متطرفون دعت إلى تنفيذ "حكم الله" بحقه. وفي الحالة اليمنية نقل موقع "شفاف الشرق الأوسط" أن شيخ إصلاحي رفض تسليم المواطن اليمني بذريعة "ان القاتل اليهودي اشهر اسلامه، وان الاسلام يجبّ ما قبله"، ونقل عن إحدى صحف حزب الإصلاح اليمني أن أستاذ جامعي بجامعة صنعاء إدعى أن القاتل غير المسلم يعفى من عقوبة القصاص إذا اعتنق الاسلام بناءً على حديث نسبه الاستاذ الجامعي الإصلاحي للرسول يقول "لا يقتل مسلم بكافر". اما في الحالة المصرية فيبدو أن مجموعات كبيرة من المجتمع المصري أصبحت تأخذ أمور الدين بحساسية شديدة نتج عنها تصديقهم كل ما يصدر عن المتطرفين من أكاذيب، فأقروا بصلاحية تزويج وتغيير الفتاتين القاصرتين لدينهما رغم عدم قانونية الإجراءين.
قضية الفتاتين المصريتين، التي أركز هنا في تحليل مظاهرها الإجتماعية، قديمة ولكنها لا تزال تشغل الرأي العام في المنطقتين العربية والإسلامية. تتناقض وجهات النظر حول القضية، الأمر الاضي يدعو إلى الشك في أن المعلومات الرسمية المنشورة تخفي تواطئاً وتلاعباً في أوراق القضية. الجانبان المسيحي والمسلم يتبنيان وجهتي نظر مختلفتين تماماً، فالمسيحيون يدعون بأن الفتاتين قد اختطفتا وأجبرتا على التحول إلى الإسلام والزواج من مسلمين، في حين يزعم الجانب المسلم والحكومة أن الفتاتين أسلمتا وتزوجتا طواعية دون ضغوط من أي نوع. وسائل الإعلام التي تناولت القضية أظهرت تحيزاً واضحاً لوجهة النظر الرسمية، حيث يتم تصوير الفتاتين على أنهما سعيدتان في حياتهما الجديدة، وبـ "زوجيهما"، وبـ "طفليهما"، وباختيارهما الإرادي للإسلام، وبزيهما المتزمت. لا أعتد كثيراً ببرامج دعائية كهذه، إذ أنها تخفي الحقيقة وتجمل من القبيح. هذه البرامج لا تظهر الدفين في قلبي وعقلي الفتاتين. لا أدري لماذا تذكرتني بعض البرامج التي تذيع حوارات مع الفتاتين بشرائط الفيديو التي تبثها العصابات الإرهابية للمحتجزين الأجانب في العراق، والتي يجبر فيها الرهائن على التصريح تحت ضغط وإكراه وتهديد بعبارات ضد أوطنهم. أشعر- وأتمنى أن أكون مخطئاً في شعوري - أن أحاديث الفتاتين ربما تخفيان مرارة وحزناً دفينين لا يعلمهما أحد، فالفتاتان مختفيتان ولا يعلم مكانيهما إلا من دبر وساعد في اتمام عملية التزويج وتغيير الدين. ويبدو أن الحال سيستمر طالما تم تغييب مبادئ حقوق الإنسان، فلا أحد يدري إن كانت الفتاتان مخيرتان أم مسيرتان، ولا أحد يعلم إن كان باستطاعهما العودة عن طريقهما إذا ما قررتا ذلك أم لا.
ما حدث مع ماريان وكريستين يثير العديد من الأسئلة حول دور الأجهزة المعنية ليس فقط في أسلمة وتزويج الفتاتين، بل أيضاً في تهريبما وإخفائهما وفرض الأمر الواقع على اسرتيهما. الفتاتان غابتا طوال ما يزيد عن عامين، ولكنهما ظهرتا بعد ساعات من أمر الرئيس مبارك بالبحث عن عنهما. إختفاء الفتاتين طوال هذه الفترة وإسلامهما وتزويجهما حين كانتا قاصرتين وبدون علم ولي أمرهما يعد فضيحة بكل المقاييس، ويعكس تغييباً للقوانين المدنية التي يعمل بها في مصر، ويشير إلى احتقان كبير في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين فوق أرض الكنانة. فلو لم تكن الفتاتان قاصرتين لما ثارت كل هذه الأزمة ولما اعترض أحد على تغييرهما لدينهما، إذ أن هناك العشرات من حالات الأسلمة التي تتم دون ضجة أوصخب. ولو لم تكن الفتاتان مسيحيتين لرفض المأذون إتمام عقدي قرانهما، ولقال للواحدة منهما "إجري يا حلوة أحضري ولي أمرك". فما كان مأذون ذو ضمير يتم عقداً لتزويج فتاة مسلمة قاصر بدون حضور ولي أمرها، فالمصريون، ككافة العرب والمسلمين، عُرِفوا بأخلاق الفرسان والشهامة والمرؤة حين يتعلق الأمر بالنساء ومواضيع الزواج والطلاق والشرف. ولكن الأمر يبدو مبرراً في وقتنا الراهن، فالتطرف أصبح يتجاوز العلاقات الإنسانية والتعصب أضحى ينسخ المبادئ الأخلاقية.
من هذا المنظور لا يمكن فهم قضية ماريان وكريستين إلا على أنها محاولات حثيثة يبذلها متطرفون لطعن المسيحيين في شرفهم عن طريق استقطاب واجتذاب الفتيات والنساء المسيحيات من عائلاتهم وذويهم. من المؤسف أن المتطرفين يلقون تشجيعاً من عدد كبير من المسلمين الذين يقبلون بحجج ودعاوى المتطرفين بأن هولاء النساء يقبلن على الإسلام بمحض إرادتهم بدون إغراء أو إكراه. اللعب على وتر النساء يعكس تحولاً جذرياً هي أخلاقيات ومبادىء المجتمعات التي نعيش بها. فالمعروف أن للمرأة مكانتها الخاصة داخل الاسرة العربية، ونشاذها وخروجها عن الإجماع الأسري لا يعني فقط تفكك وانحلال العائلة، وإنما ينعكس على مستقبل الأسرة ووجودها وكيانها. في هذا الإطار كانت قضية محاولات تحويل السيدة وفاء قسطنطين وغيرها من زوجات رجال الدين المسيحيين إلى الإسلام تعبيراً عن محاولات المتطرفين لاغتيال شرف العائلة لرموز وقساوسة المسيحيين. الغريب أن كثيراً من الكتاب ورجال الرأي لم يفطنوا إلى غرض المتطرفين هذا، واعتبروا القضية مسألة حرية عقيدة. لا يمكن بالطبع القبول برؤية هؤلاء الكتاب لأنها قاصرة وتلوي عنق الحقيقة، لأن اختيار العقيدة ينبغي أن ينبع من داخل الفرد دون ضغوط او إغراءات، ثم أن أي حرية عقيد تلك التي يتحدثون عنها؟ أتلك التي تسير في اتجاه واحد؛ اتجاه دين الأغلبية دون غيره؟
لا غبار على المسألة إذا ما كانت ماريان وكريستين قد اختارتا زوجيهما والإسلام عن حب وقناعة؛ في هذه الحالة كان يجب على المسئولين المتورطين في قضيتهما، فقط، إقناعهما بان تنتظرا حتى تبلغا السن القانونية. ولكن اخفاءهما عن أسرتيهما وتغييب الحقيقة عن المجتمع يجعل المسألة تخرج عن كونها قد تمت طواعية. لا أجد عورة في تبديل الشخص لدينه طالما كان ذلك عن اقتناع، ولكن المشكلة تكمن في أن غياب الشفافية عن حالات تغيير الدين تحمل معان سلبية، فضلاً عن أن المسيحيين يشعرون بالظلم لأن حرية العقيدة في مجامعاتنا تعني التحول إلى الإسلام وليس العكس. إن الطريقة التي يتم بها التعاطي ومعالجة حالات تغيير النساء والفتيات المسيحيات لدينهم تشير بأصابع الاتهام إلى وجود حركة منظمة تسعى للمساس بسلامة المجتمع المصري عن طريق التأثير على سمعة وشرف المسيحيين. هنا يبرز الدور الذي يجب أن يلعبه العقلاء من قادة الرأي العام في إبراز مدى خطورة العبث بصحة المجتمع المصري الذي يشكل المسيحيون عنصراً مهماً من عناصره، وهنا يبرز الدور الذي ينبغي أن يمارسه رجال الدين المسلمين المستنيرين في فضح اللعب بورقة النساء المسيحيات الذي أصبح ياتي في سياق السباق المحموم الذي يخوضه المتطرفون لإشباع تطرفهم بالعمل الدءوب على زيادة عدد المسلمين التي يظنون أن الله يقابلها بمنحهم المزيد من الحسنات.
لا يقلقني تغيير فرد راشد لدينه، ولا يؤلمني تحول شخص يحظى بحريته عن دينه، ولا يثير شجوني قبول إنسان يتمتع بحقوقه لدين الأغلبية، فحرية العقيدة تعد من أهم مبادئ حقوق الإنسان التي يجب أن تنغرس في عقول وأذهان الشعوب. ولكن ما يقلقني و يؤلمني ويثير شجوني هو أن يتم تغييب القانون لمنح المتطرفين الفرصة لفرض رؤاهم المتشددة على شعوبنا، وأن يفقد المجتمع مبادئه انحناءً أمام من لا ضمير له، وأن تستخدام النساء كورقة ضغط على المسيحيين، وأن يجبر فرد على تغيير دينه، وأن يفقد أنسان حرياته وحقوقه لمجرد تغيير دينه، وأن يبرأ المجرم بعد قبوله دين الأغلبية. لا يمكن فهم قضية الفتاتين المصريتين بمعزل عن قضية المواطنين الأفغاني واليمني، فالمغزى واحد في الحالات الثلاث وهو يتمثل في تغييب مبادئ حرية العقيدة والعدل والشفافية عن المجتمعات العربية والإسلامية، إضافة إلى إعطاء الأغلبية امتيازات واستثناءات تتعارض مع الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان والدساتير الوطنية والقوانين المدنية السائدة.
#جوزيف_بشارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معضلة الإرهاب الديني
-
التحالف مع الإرهاب تحالف مع الشيطان!
-
إعتداءات دهب وكشف عورة الإرهاب
-
الهروب من المسئولية في أحداث الإسكندرية
-
إيران من اللعبة النووية إلى المواجهة النووية
-
إلى شهداء الحرية: شكراً؛ ليس حب أعظم من هذا
-
أثر الوسواس الديني في الفكر التحريمي – فتوى التماثيل كنموذج
-
مبارك، العراق وفضيحة الصحافة في مصر
-
مملكة الحق
-
العنف وحرب المناصب في مصر
-
مثلث التطرف والأمن وحقوق الإنسان بعد 9/11
-
ضريبة حرية العقيدة: اللوث العقلي والنفي
-
عمرو موسى ودبلوماسية الديمقراطية والتنمية
-
دعوة للجهاد ضد المسيحيين العرب؟!
-
شرك الديمقراطية في أفغانستان
-
عبد الرحمن الأفغاني شهيداً للحرية؟!
-
حقوق الإنسان في العالم العربي: قيود... تمييز... وتعذيب...
-
صمت الأغلبية ومواجهة التطرف
-
إختلاف القيم وصدام الحضارات
-
مأزق أقباط المهجر!
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
-
“فرحة أطفالنا مضمونة” ثبت الآن أحدث تردد لقناة الأطفال طيور
...
-
المقاومة الإسلامية تواصل ضرب تجمعات العدو ومستوطناته
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية: قطعا سننتقم من -إسرائيل-
...
-
مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|