|
الدين، والضرب على نقاط الضعف الإنسانية
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
(Abdel Ghani Salameh)
الحوار المتمدن-العدد: 6258 - 2019 / 6 / 12 - 12:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من رجفة الموت، ورهبته، ومن الخسارة الفادحة المترتبة عليه، ومن الخوف منه، وترقبه بقلق بالغ.. بدأت تأملات الإنسان.. منظر الشخص المتوفى يثير في النفس الشجون والأحزان، ويطلق مخاوفها.. بمجرد أن ترى ميتا، تسري في عروقك قشعريرة غامضة.. وتنتابك المخاوف، وتبدأ الأسئلة تلح عليك..
ماذا يعني أن يموت شخص ما؟ ماذا سيحل بروحه؟ وأين ستذهب طاقته الكامنة، منجزاته، أحلامه، همومه، ذكرياته؟؟
تلك أسئلة صعبة، وتحتمل ما لا حصر له من إجابات.. ولأنّ كل ما هو بعد الموت يندرج في قائمة الغيبيات، ولا توجد عند أحد إجابات قاطعة ببراهين مادية... ولم يعد أحدٌ من الموت، ليخبرنا ماذا حلّ به.. لذلك، ظل الموت منطقة مجهولة، تحيطها الأساطير، كما مثّل نقطة ضعف إنسانية.. ومن الموت، وحوله، بدأ الإنسان الأول بصياغة أولى معتقداته وتصوراته، وفلسفته البسيطة، والتي تطورت فيما بعد لتشكل النواة الصلبة للدين..
كانت إحدى وظائف الدين الأساسية في تلك المرحلة، الإجابة على أسئلة الموت، ومعنى الحياة، وجدواها، وكيف نعوّض خسارتها، وكيف نلتقي مع أحبتنا الذين غادرونا مبكرين.. وقد وجد الإنسان ضالته آنذاك بفكرة الحياة ما بعد الموت، ليمثل الخلود من خلالها، وليواسي خيبته من فكرة تحوله إلى رماد منثور، بلا قيمة، بعد أن كان يملأ الدنيا، بأحلامه ومشاريعه، وتجبره..
وفيما بعد، صار للدين وظيفة أخرى: هندسة الحياة الاجتماعية، والتي كانت ضرورية لتغدو الحياة ممكنة، فكان من أولى القضايا التي اهتم بها الدين: الجنس؛ تنظيمه، وتقييده، وفرض قوانين لكل ما يتصل به من قضايا، وأهمها المرأة بالطبع.. (من منطلق ذكوري).
وسرعان ما تحول الدين إلى أداة قمع وإرهاب فكري واجتماعي، لفرض هيمنة القوى والنخب المسيطرة، وتثبيت امتيازاتها، ولفرض النظام الاقتصادي الطبقي، ولتنظيم وشرعنة العبودية، وفي مرحلة لاحقة الإقطاع.. ولتثبيت ركائز النظام السياسي، وفرض سيطرته على المجتمع..
ذلك هو المسار السيسيولوجي الذي سار عليه تطور الأديان على مر العصور، أي المسار التاريخي، البشري، وهذا يختلف عن جوهر الدين، وروحه، ومقاصده الأصلية، ومبادئه.. أي بحسب ما بشَّر به الأنبياء.. وقد شرحنا في مقالة سابقة، كيف تكونت طبقة رجال الدين، وكيف نهج هذا المسار التاريخي.. إلى أن انتهى بها الأمر، بتكوين شرائع وأيديولوجيا مختلفة عن الدين الأصلي..
في هذا المقال، سأسلط الضوء على أداتين، استخدمها رجال الدين، لضمان سيطرة النخب الحاكمة على المجتمع والدولة، هما: بكائيات خطيب الجمعة، وبكائيات الحسين..
تقريبا، لا يوجد تجمع للمسلمين، في معظم بقاع العالم، مهما كان هذا التجمع صغيرا، إلا ولديه مسجد.. والناس تؤم المسجد يوميا، وفي يوم الجمعة، معظم الناس تتجه للمسجد لأداء الصلاة، والاستماع لخطبة الجمعة.. هذا الأمر يحصل منذ 14 قرنا وأزيد، دون توقف، وفي كل مكان..
لا توجد لأية ديانة أخرى مثل هذه الميزة، ولا حتى للأحزاب الشمولية الحاكمة؛ أي تجمّع الناس في مكان محدد، بانتظام، دون دعوة أو تذكير من أحد، يذهبون للمسجد بقلب مفتوح، وعقل جاهز للتصديق، والتسليم بكل ما سيقوله خطيب المسجد.. وهذه قوة هائلة، لو أُحسن استخدامها، بوسعها إحداث تغيير كوني، بوسعها إسقاط حكومة في يوم واحد.. بوسعها خلق رأي عام عالمي، بل خلق تيار جماهيري جارف.. وهذه القوة بيد الخطيب، ومن سيملي عليه أقواله..
كيف، ولماذا لم يستطع المسلمون إحداث التغييرات التي ينشدونها هم أنفسهم؟ كيف اختفت هذه القوة الجماهيرية المهولة؟ ومن الذي أخفاها؟ أو سحب منها سر قوتها؟ الجواب بكل بساطة، في محتوى ومضمون ما يقوله خطيب المسجد.. وهذا يرتبط بأسلوبه ومنهجه، أي أسلوب الخطابة والصراخ، والهياج العاطفي، وتغييب لغة العقل، وتغييب القضايا الأساسية التي تهم المجتمع..
عندما يجتمع مليوني مسلم عند الكعبة في موسم الحج، يستطيع خطيب الحرم بكل بساطة تحييد هذه القوة الجماهيرية المخيفة، بل واحتوائها، وتوجيهها حسب ما يريد (أو ما تريد السلطة الحاكمة).. وذلك بالبكائيات.. أي قراءة القرآن بصوت متهدج، وتصنّع البكاء والخشوع، والدعاء بأنفاس مقطوعة، لاستغلال عواطف الناس الدينية، استغلال حاجاتهم الإنسانية التي أتوا من أجلها، استغلال نقاط ضعفهم في تلك اللحظات الخاشعة.. فيصور لهم أنهم ذاهبون إلى الجحيم، وأن الله غاضب عليهم.. ثم يبدأ بالدعاء لأولي الأمر بأن ينصرهم ويقويهم (معروف من هم أولي الأمر)، وأن ينصر (المجاهدين) في كازاخستان، والفلبين، وسورية والعراق وفلسطين (والمقصود بالمجاهدين الميليشيات التي تموّلها دول النفط).. ومن جهة ثانية، بالدعاء على خصومه (المفترضين): اليهود، والنصارى، ويضيف إليهم الشيعة، وكل من هم خارج نظامه الفكري الأيديولوجي..
وهكذا، يتم إسكات الجموع، وتخديرهم، واحتوائهم، وتسويق الأيديولوجية الوهابية السلفية لهم..
هذا يحدث بصورة مصغرة في معظم المساجد، من جاكارتا شرقا حتى كاليفورنيا غربا.. صرفُ أنظار الناس عن قضاياهم الجوهرية: المظالم، والفساد، والاحتلال، والتبعية، والطبقية، والاستغلال، والبطالة، والفقر، والتخلف، والاستبداد.. والتركيز على عذاب القبر، وما يجب أن تلبسه النساء، وأنّ الخلاص في الآخرة...
في المذهب الشيعي يدفع المسلم خُـمس دخله لآل البيت، أو من يمثلهم، أي الحوزة، أو المرجعية الشيعية، وهذا الخًمس مبلغ ضخم جدا، يفوق موازنات دول كبرى.. وهذه الأموال عبارة عن أرباح أسهل وأضمن تجارة في التاريخ؛ التجارة بالدين.. ولكي تدوم هذه التجارة، لا بد من تجديد الوازع الديني، في كل مناسبة، وكلما زادت المناسبات الدينية كلما تعمقت وتوطدت هيمنة الحوزة على مشاعر الناس، وبالتالي ضمنت ما ستدره جيوبهم..
في الجيوش، والمدارس، يتم رفع علم البلاد كل صباح، وترديد النشيد الوطني.. فما الحاجة إلى ذلك؟ هل نسي الجنود والطلبة أهمية العَلَم بهذه السرعة؟ بالتأكيد لا، ولكن الفكرة تعميق الشعور بالارتباط، وتوثيق الصلة، وتجديدها كل صباح، لغرز قيمة تلك الرموز، وإعلاء شأنها في الوجدان، حتى تستقر في العقل الباطني.. وهذا بالضبط ما تفعله المؤسسة الدينية، من خلال إحياء ذكرى مولده الحسين، واستشهاده، وأربعينيته.. وكذلك بقية الأئمة.. بالبكاء، والنحيب، واللطميات، وتأنيب الضمير، وتعذيب النفس (أي بالابتعاد عن المشاكل الحقيقية).. هذا يجري كل سنة، منذ قرون عديدة، لتجديد قوة هذه الأداة وتأثيرها على الأجيال الجديدة، أو بعبارة أدق: لضمان ديمومة نهر الأموال المتدفق..
في كل مرة، يتم الضرب على الوتر الحساس؛ على نقاط الضعف الإنسانية..
#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)
Abdel_Ghani_Salameh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النكبة، ومستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
-
تاريخ النار
-
عن تحديث الخطاب الديني
-
أسلحة المناخ
-
قصة مخطوطات قمران - مخطوطات البحر الميت
-
رجل اسمه خوسيه موخيكا
-
سفّاح نيوزيلندا
-
عقلية المؤامرة
-
نيجيريا، والفرص الإفريقية الضائعة
-
النوم سنة كاملة
-
عن الخلافة العثمانية
-
لعنة البترول، في فنزويلا والعراق
-
هل من حرب على الإسلام؟
-
إسرائيل، والصراع على هوية الدولة والمجتمع - دراسة بحثية
-
الثقافة السمعية
-
علوم زائفة
-
حُراس الفضيلة، وفستان رانيا يوسف
-
الغضب المقدس
-
المواطن المستقر
-
خوف الطغاة من الأغنيات
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|