|
التطور الفلسفي لمفهوم الأخلاق وراهنيته في مجتمعاتنا العربية
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 6255 - 2019 / 6 / 9 - 16:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الحديث عن الأخلاق في ظروفنا الفلسطينية والعربية السياسية والاجتماعية والاقتصادية المنحطة بالمعنى الاجتماعي ، هو حديث عن قيمة رئيسية من جملة القيم الانسانية التي سكنت عقل الانسان الطليعي التقدمي الديمقراطي وروحه، كما سكنت العقل الجمعي للاحزاب والفصائل والحركات الثورية في العالم وفي بلدان وطننا العربي . فمنذ نشوء وتطور الفلسفة اليونانية وما تلاها من فلسفات في العصر الاقطاعي ثم عصر النهضة والحداثة وصولاً إلى اللحظة الراهنة من تطور البشرية في هذا القرن الحادي والعشرين ، كانت الاخلاق وستظل مرجعاً أولياً في كل ممارسات الانسان الطليعي ومواقفه السياسية والمجتمعية. لكننا في ظروف التطور السياسي الاجتماعي العربي المشوه والمتخلف والتابع الراهن ، نفتقد جوهر الأفكار الفلسفية الأخلاقية التي عبرت عنها الفلسفة اليونانية القديمة والفلسفات الحديثة والمعاصرة، خاصة تلك الأفكار التي تحمل وتدعوا إلى قيم الحرية والديمقراطية، وقيم الحق والعدل والخير واحترام الآخر ونظافة اليد واللسان والتواضع والشجاعة في الموقف، وقبل كل شيء نفتقد الأخلاق كقيمة طالما سُجِلَت في وثائق أحزابنا اليسارية العربية باعتبارها شرطاً أساسياً في هذه المرحلة، إلى جانب مفاهيم وشعارات النضال ضد الوجود الصهيوني والامبريالي في بلادنا من أجل تحقيق أهداف شعوبنا في التحرر الوطني والقومي التقدمي الديمقراطي، في موازاة نضالنا المجتمعي الديمقراطي السياسي –مع كافة أحزاب وحركات اليسار العربي- للخلاص من أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد والاستغلال الجاثمة على صدور جماهيرنا العربية الشعبية ، عبر تحقيق أهداف تلك الجماهير في الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية. وفي هذا السياق نشير إلى أن المفاهيم الأخلاقية المرتبطة بالحرية والتحرر والصدق والحق والعدل والخير والتواضع واحترام الآخر مثّلت –وما زالت تُمثل- روح النضال الثوري ومصداقيته، وبدون الالتزام الحقيقي الخلاق بمضامين تلك المفاهيم الأخلاقية في جوهرها وشكلها ، وفي وعيها وفي ممارستها ، فلا يمكن لأي حزب أو فصيل تحقيق أهدافه أو أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام دون أن تكون تلك المفاهيم الأخلاقية نبراساً لكل أعضاء هذا الحزب أو ذاك عبر وعيهم العميق بها والتزامهم السلوكي على الصعيدين الفردي والمجتمعي بممارستها ، إذ أنه دون ذلك الالتزام لابد أن يتعرض هذا الحزب أو ذاك لمزيد من التراجعات والأزمات والصراعات وصولاً إلى مآزق خطيرة قد تؤدي إلى إسدال الستار عليه. من هنا تتجلى الفكرة المركزية من وراء طرحنا لموضوعة الاخلاق الثورية النبيلة، وضرورة وعي والتزام رفاقنا بمضامينها، إنطلاقاً من حرص الجميع على ضرورة تطبيق القيم الأخلاقية، وذلك انطلاقاً من أن تلك القيم لابد لها أن تكون ألقاعدة أو الأساس الرئيسي لقيادات وكوادر وأعضاء كافة الأحزاب اليسارية الديمقراطية الثورية في فلسطين والوطن العربي. إنطلاقاً من ذلك ، تتجلى حاجتنا جميعاً لطرق أبواب الحوار الموضوعي الداخلي الديمقراطي الجريء، الذي بات اليوم حاجة أكثر من ملحة في واقعنا السياسي المجتمعي الفلسطيني والعربي المنحط الراهن، وصولاً إلى خلق الحوافز المعرفية والسياسية والاجتماعية الكفيلة، من خلال رؤى وبرامج وآليات نضالية تحررية، وطنية وديمقراطية نقيضة للوجود الصهيوني الإمبريالي في بلادنا من جهة، ونقيضة للانحطاط والاستبداد والخضوع والتخلف والاستنباع العربي الرسمي من جهة ثانية، وذلك انطلاقاً من وعينا للترابط بين السياسية والاخلاق بالمعنى الموضوعي النبيل لكلمة السياسي وليس باعتبارها اطاراً للمصالح الأنانيه الانتهازية الضاره لهذه الحركة السياسية أو تلك. فالسياسة إذا ما أدّت إلى خدمة اهداف ومصالح الشعب عموماً والجماهير الشعبية الكادحة والمضطهدة خصوصاً، وفق أسس وطنية تحررية وديمقراطية بالمعنى الطبقي التقدمي، فإنّها تكون أخلاقية، وإذا ما أدّت إلى إضعاف وتفكيك الشعب والمجتمع والنظام وتحقيق مصلحة الفئة الحاكمة وحدها بقوة الإكراه والاستبداد وتركت الشعــب وحيداً في مواجهة كل أشكال المعاناه والبؤس والتهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي –كما هو حال شعبنا الفلسطيني في ظل الانقسام الكارثي-، فإنها تتحول ليس فحسب إلى سياسه منحطه لا أخلاقية، بل أيضاً تخدم مخططات العدو الصهيوني الإمبريالي بصورة مباشرة أو غير مباشرة.. وبالتالي "فهناك سياسة أخلاقية، وهناك سياسة لا أخلاقية. وفي هذا السياق، هناك تصوران في هذا المجال هما: التصور الاخلاقي النبيل لكانط والتصور الانتهازي لميكافيللي، "ومعلوم أنّه عندما نقول سياسة مكيافيلية فكأنما نقول سياسة لا أخلاقية، اما كانط فكان يعتقد أنّ السياسة ينبغي أن تكون أخلاقية وإلا فلا معنى لها. وفي هذا الجانب، يقول د.هاشم صالح "إنّ دول الشمال الأوروبي كانطية بهذا المعنى. فألمانيا وهولندا والبلدان الإسكندنافية وسويسرا تبدو عموماً أكثر أخلاقية من امريكا ودول جنوب أوروبا"، وبالطبع لا تجوز المقارنة مع الدول المتخلفة (وأنظمة العرب) حيث يسود الاستبداد والفساد والتبعية والانحطاط الأخلاقي، لكن المقارنة ضرورية لكي ندرك الفرق واضحاً جلياً بين السياسة الأخلاقية والسياسة اللاأخلاقية"، كما هو حال السياسة في الأنظمة العربية وخاصة دويلات السعودية والخليج التي وصلت إلى حالة غير مسبوقة من اللاأخلاقية، من أجل تكريس مصالحها الطبقية الأنانية الضارة المرتبطة بتبعيتها بالنظام الإمبريالي الصهيوني. لقد لعبت الفلسفة الأخلاقية للفلاسفة الكبار دوراً وتأثيراً في العقلية الجماعية في الغرب عن طريق التربية والتعليم والتثقيف والتهذيب ذلك انطلاقاً من أن الفكر يلعب دوره وليس مجرد ثرثرات فارغة كما يزعم البعض، فلا سياسة عظيمة بدون فكر عظيم. وبالتالي فالفكر أولاً، بعدئذٍ تجيء السياسة وقطف الثمار. وهذا ما ينقصنا كعرب بشكل موجع. وفي هذا الجانب، أشير إلى أن القيم الانسانية –في مقدمتها الأخلاق- تعني بالنسبة لنا، جملة التصورات التي يمثلها الوعي الجماعي لكل شعب من الشعوب في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية في حقبة أو مرحلة تاريخية محدده، وهذه التصورات تتصل في مستوى أقل تجريداً بقيم الاقتصاد والسياسة" والفنون – كما يقول د. سعيد بن سعيد العلوي ، ومن ثم "قإنه لا مندوحة لمجموعة القيم السائدة في عصر من العصور من الخضوع، من حيث المضامين وليس من جهة الصوريه لشرط أول هو التاريخية ، ولشرط ثان هو النسبية" . سأتناول في هذه الورقة ، عنوانين رئيسيين هما: 1. مفهوم الاخلاق وتطوره الفلسفي . 2. راهنية الاخلاق في مجتمعنا الفلسطيني.
مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتاريخي: المفهوم Concept: "هو فكرة محدده تمثل الخصائص الأساسية للشيء الذي تمثله"، ومفهوم الأخلاق شكل من أشكال الوعي الاجتماعي (إلى جانب الفلسفة والعلم والفن والسياسة والدين) تنعكس فيه الخصال الاخلاقية (الخير، العدالة، الحق... إلخ) ، فالاخلاق هي جماع قواعد ومعايير حياة الناس، تحدد واجباتهم كل تجاه الآخر وتجاه المجتمع"، هو مفهوم نسبي ، تطور حسب المراحل التاريخية ، والاوضاع الداخلية الطبقية لمجتمع معين في كل مرحلة من المراحل. إن المشكلة الفلسفية للمعرفة الأخلاقية ، تطرح طائفة لا تحصى من الأسئلة التي تتناول ما يتصل بها من مفاهيم ومبادئ وقيم. مثال ذلك : ما أصل مفاهيم الخير والعدالة والشرف والكرامة ؟... هل هي وليدة التجربة أم أنها فطرية، وجوابي على ذلك انها وليدة التجربة. الأخلاق بين الديمقراطية والاستبداد: "في البلدان الديمقراطية، يتساوى جميع المواطنين أمام القانون، وبقدر ما يكون هؤلاء أحراراً تكون دولتهم حرة وقوية، وفي البلدان المتأخرة حيث التسلط والاستبداد يتساوى جميع المواطنين أيضاً، ولكن بصفتهم لا شيء. الدولة الديمقراطية قوية بشعبها، ودولة الاستبداد قوية على شعبها. المواطنون في البلدان الديمقراطية ذوات حرة متساوية في الحقوق وفي الكرامة الإنسانية، اما الرعيه في عالم الاستبداد موضوع، والرعايا موضوعات لإرادة المستبد. ومن ثم فإن دوام الاستبداد وألفة الرعايا له تجعل من أخلاقهم أخلاق أتباع وعبيد. فالاستبداد والعبودية صنوان، هكذا كانت الحال في الماضي، وكذلك هي اليوم. ذلك إن الاستبداد المعاصر كسلفه القديم، يقوم على احتكار الثروة والسلطة والقوة، ويختزل الوطن كله في شخص المستبد، ولكي يستتب له الأمن يصطنع المستبد قوى للأمن علنية وسرية، وهذه تصطنع جيشاً من المخبرين والوشاة يتكاثرون كالخلايا المسرطنة. نخلص مما تقدم، إلى أن الاستبداد يقتل في الإنسان شخصه القانوني، إذ يسلبه جميع حقوقه، ثم يقتل فيه شخصه الأخلاقي، فتنغلق دائرة الاستبداد؛ ويغدو بالإمكان إعادة إنتاجه . "إن قتل الشخص القانوني ثم قتل الشخص الأخلاقي في الإنسان هو قتل روح الاجتماع المدني وروح المواطنة؛ ولذلك قيل من لا يدافع عن قوانين وأسس الحرية والديمقراطية والعدالة في بلاده لا يحسن الدفاع عن وطنه، فمضمون القوانين التي يجدر بالمواطنين أن يدافعوا عنها هو الحقوق ومعيارها هو العدالة، والعدالة هي التجسيد الواقعي للمساواة". وبالتالي فإن تغيير هذه العلاقات اللاأخلاقية في جوهرها ينطلق من تغيير الواقع ذاته... ودور الفكر هنا هو تعزيز هذه العملية الملموسة... أما أن يتحول الفكر إلى عملية وعظ أخلاقي لا تمس الواقع والطبقات المستَغِلَّة... فإنه يصبح في هذه الحالة جزءا من منظومة القهر ذاتها. بهذا المعنى فإن القيم الأخلاقية ما لم تكن قوة فاعلة من أجل كشف الاستغلال والقهر والدفاع عن حقوق ومصالح الناس .. فإنها فقط تعزز الوهم بإمكانية تعميم العدالة وتحقيق الحرية عن طريق الوعظ الأخلاقي". التطور التاريخي للمذاهب الأخلاقية في الفلسفة : "ظهرت الأفكار الفلسفية الأولى عن الأخلاق في كتاب "الفيدا" الذي تضمن الأفكار الفلسفية الهندية القديمة ما قبل الفلسفة الاغريقية ، التي تقوم على أن "أن الحياة مليئة بالشقاء، ومن ثم لابد من احتقار الحياة الدنيا ... لإن الخلاص من الشقاء لا يكون إلا عبر ما تسميه الفلسفة الهندية بـ"النرفانا" التي تعني الفناء في الإله ، وهو شكل من أشكال التصوف والزهد". وظلت هذه الفلسفة مسيطرة في الهند حتى ظهور البوذية في القرن السادس قبل الميلاد التي أسسها "غاوماتا بوذا" أو المستنير . ثم برزت الفلسفة الكونفوشية التي أسسها "كونفوشيوس" (551 – 479 ق . م ) في الصين ، واشتهرت بتعاليمها الأخلاقية السياسية. أما الفلسفة الإغريقية اليونانية (التي ظهرت في القرنين السادس والخامس ق.م) ، فقد كانت الرائدة في تحرير الفكر عبر تساؤلاتها عن طبيعة الواقع وحقيقة الكون والعقل والعديد من القضايا ذات الطابع المعرفي والشمولي . يعتبر الفيلسوف سقراط (469 -399 ق.م ) رائد الفلسفة الأرستقراطية النخبوية الذي وقف بعناد ضد الديمقراطية في آثينا. كان سقراط من بين أعظم الذين أثروا في الروح الغربية، وكانوا مصدر إيحاء لها. وما ميز سقراط كإنسان تمثل في قوته الأخلاقية، وحياته العادلة والمعتدلة، وسرعة بداهته، وطلاقة لسانه وروحه المرحة اللطيفة. ويمكننا أن نجمل المبادئ الأساسية للأخلاق السقراطية بما يلي: الفضيلة هي المعرفة، فكلاهما واحد. ومن يعرف الحق معرفة حقيقية سيمارسه أيضاً، وسيكون سعيداً. الفيلسوف "أفلاطون" (427 – 347 ق.م) قال في كتاب "الجمهورية" ما فحواه: إنّ هدف الدولة ينبغي أن يكون تحقيق حكم الفضيلة والنزاهة والاستقامة على هذه الأرض. بمعنى آخر إنّ هدف السياسة هو إقامة مجتمع عادل عن طريق سلطة نزيهة وعادلة، فلا معنى لحكم ظالم ولا مستقبل. أما أوصاف الطاغية عند أفلاطون فهي: كائن حيواني ينشغل بالملذات المتقلبة, نقيض الروح الخالدة, هو من أتعس العالمين ومدينته مدينة شقية". أما الفيلسوف أرسطو ( 284 -322 ق.م ) "فهو أول من استخدم مصطلح الأخلاق أو الحكمة العملية من أجل صياغة الأفكار عن الواجب والخير والشر، وهو أيضاً أول من استخدم مصطلح الاستبداد وقارنه مع مصطلح الطغيان، وقال إنهما نوعان من الحكم يعاملان الرعايا على أنهم عبيد. "وفي العصر العبودي الذي إمتد حتى نهاية القرن الرابع الميلادي ظهرت ثلاث تيارات رئيسية هي: 1- الريبية – مذهب الشك: ومن أشهر فلاسفتها "بيرون (365-275 ق.م) ، الانسان عندهم عليه "ألا يتخذ موقفاً من ظواهر الطبيعة أو الحياة، وإذا أراد أن يعيش سعيداً عليه أن لا يفكر فيها"، إنها دعوة مبكرة إلى أن يظل الإنسان أبلهاً أو مكرهاً على الإستسلام للظلم . 2- الفلسفة الابيقورية : نسبة إلى الفيلسوف "ابيقور" ( 341-270ق.م) ، كان داعية للاستسلام والخنوع والتأمل وهي صفات صبغت المرحلة اللاحقة حتى القرن الرابع عشر . 3- الرواقيون :- اشهر فلاسفتهم زينون الفينيقي (334 ق.م – 262 ق.م)، دعوا ايضاً الى الاستسلام والسكون وقالوا بأن الانسان الحكيم هو الذي يؤثر مصلحة الدولة على مصلحته الخاصة او الذاتية. وفي المرحلة الاقطاعية منذ القرن الخامس الميلادي حتى القرن السابع عشر ، سادت أخلاق الارستقراطية الاقطاعية ذات الطابع المسيحي ، التي استطاعت تكييف الدين المسيحي لحساب مصالحها الطبقية ، حيث سادت الأفكار والفلسفات الرجعية في ذلك العصر (الافلاطونية المحدثة والسكولائية) ونجحت في تثبيت ما سمي ب" أخلاق السادة النبلاء" مقابل أخلاق الطبقات الشعبية الفقيرة التي فرضت عليها ظروف الاستبداد والقهر ، أن تمتثل لكل أشكال التفكير الغيبي والاعراف والتقاليد والامثال الشعبية المنبثقة عنه ، وهي أفكار أكدت على أن الخضوع للسادة هو نوع من الايمان وبالتالي فإن التمرد عليه نوع من الكفر (وهي أفكار تشبه وتتقاطع إلى حد بعيد مع الاخلاق والأمثال الشعبية التي سادت في التاريخ الاسلامي وما تزال حتى اللحظة الراهنة) . نيقولا ميكافيللي (1469 – 1527) : حاول في مؤلفاته البرهنة على أن البواعث المحركة لنشاط البشر هي الأنانية و المصلحة المادية، وهو صاحب مقولة:" أن الناس ينسون موت آبائهم أسرع من نسيانهم فقد ممتلكاتهم" ، إن السمة الفردية والمصلحة عنده هما أساس الطبيعة الإنسانية؛ ومن جانب آخر فقد رأى أن القوة هي أساس الحق في سياق حديثه عن ضرورة قيام الدولة الزمنية المضادة ( البديلة ) لدولة الكنيسة؛ ويؤكد على أن ازدهار الدولة القوية المتحررة من الأخلاق ، هو القانون الأسمى للسياسة وأن جميع السبل المؤدية لهذا الهدف طبيعية ومشروعة بما فيها السبل اللاأخلاقية ( كالرشوة والاغتيال ودس السم والخيانة والغدر )؛ والحاكم عنده يجب أن يتمتع بخصال الأسد والثعلب. هذه هي النزعة الميكافيلية التي تبرر كل شيء للوصول إلى الهدف السياسي ، وهي توضح معنى الفردية والإقرار بالاهتمامات الشخصية. وفي القرن السادس عشر ظهر " فرنسيسس بيكون " ( 1561_ 1626) ، الذي أعلن "بأن المبدأ الذي ينظم الحياة الفردية والحياة الاجتماعية إنما يتجلى في الطبيعة البشرية بنزعاتها وميولها. "فالطبيعة البشرية هي المنطلق الأصيل في بناء الأخلاق" ولكن ذلك مرهون بتطهير العقل وغسله من التصورات والأوهام السابقة (أوهام القبيلة، أوهام الكهف، وأوهام السوق) لكي يتصدر العلم والعلماء قمة البناء". لقد كان بيكون أعظم عقل في العصور الحديثة" قام بقرع الجرس الذي جمع العقل والذكاء وأعلن أن أوروبا قد أقبلت على عصر جديد . ثم ظهورت الفلسفة الحديثة مع رينيه ديكارت ( 1596 م. _ 1650 م. ) مؤسس المذهب العقلانيالذي يرتكز عنده على مبدأ الشك المنهجي أو الشك العقلي "الشك الذي يرمي إلى تحرير العقل من المسبقات وسائر السلطات المرجعية" ومن سلطة السلف ، الشك الذي يؤدي إلى الحقيقة عن طريق البداهة العقلية كالحدس_ التحليل_ التركيب. لقد أقام "ديكارت" وفق أسس الشك المنهجي والبداهة العقلية؛ يقينه الأول من مبدأه البسيط الذي عرفناه من خلاله "أنا أفكر.. أنا موجود" ، هذا المبدأ الأول هو بداية كل فكر عقلاني وهو ما سنجده مضمراً وصريحاً في الفلسفة العقلانية من ديكارت إلى ماركس. باروخ سبينوزا" (1632-1677( : أن سبينوزا وضع فلسفة سياسية عبرت عن آمال الاحرار والديمقراطيين في هولندا في ذلك الوقت، وأصبحت احدى المنابع الأساسية لجدول الأفكار التي بلغت أوجها في روسو والثورة الفرنسية. يقول سبينوزا "ليست الغاية الأخيرة من الدولة التسلط على الناس أو كبحهم بالخوف، ولكن الغاية منها ان تحرر كل انسان من الخوف كي يعيش ويعمل في جو تام من الطمأنينة والأمن." ان هدف الدولة هو الحرية، لأن عمل الدولة هو ترقية النمو والتطور، والنمو يتوقف على المقدرة وتوفر الحرية. وكلما زادت الحكومة في مكافحة حرية الكلام وخنقها، كلما زاد الشعب عنادا في مقاومتها، ولن يتصدى لمقاومة هذه القوانين أصحاب الشره والطمع من رجال المال، بل أولئك الذين تدفعهم ثقافتهم واخلاقهم وفضائلهم إلى اعتناق الحرية.
جون لــوك ( 1632م. – 1704م. ): عصر التنوير والمساواه رفض وجود أية أفكار نظرية مسبقة في الذهن.. فالتجربة بالنسبة له هي المصدر الوحيد لكافة الأفكار..! ومن آرائه الاجتماعية والسياسية قوله: "بأن مهمة الدولة هي صيانة الحرية والملكية الفردية، وعلى الدولة أن تسن القوانين لحماية المواطن ومعاقبة الخارجين عن القانون" وقال أيضاً " إن الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحرية والمساواة كمفاهيم أساسية تحكم المجتمع "؛ كما طالب بالفصل التام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وقد دعمت آراؤه التوجهات الليبرالية في بريطانيا آنذاك. مونتسكيو (1689 - 1755) : في كتابه روح القوانين رفض الاستبداد، ودافع عن الحرية، وأكد على ضرورة فصل السلطات، رافضاً للحكم المطلق ونظام الاستبداد. ومونتسكيو يعد الاستبداد نظاما طبيعيا بالنسبة للشرق لكنه غريب وخطر على الغرب، وهي نفس الفكرة الأرسطية التي يقسم فيها العالم إلى شرق وغرب, للشرق أنظمة سياسية خاصة لا تصلح إلا له وهي بطبيعتها استبدادية يعامل فيها الحاكم رعاياه كالحيوانات أو كالعبيد، وللغرب أنظمة سياسية خاصة تجعل تطبيق الاستبداد يهدد شريعة النظام الملكي. ثم جاء جان جاك روسو ( 1712 -1778 ) دعا إلى المساواة بين البشر وأن يظل الناس أحرارا كما ولدوا. كما اعتبر روسو "أن الاستبداد في الأصل ليس نظاماً سياسياً، إنه عملية اغتصاب للسلطة، يترتب عنها أن المغتصب يضع نفسه فوق القانون". "ومعلوم عن روسو انه نهض في عزّ عصر التنوير لكي يطلق صرخته المدوية: لا لعلم بدون أخلاق، لا لحضارة بدون ضمير! والتنوير إذا لم يكن مبنياً على قيم العدالة والمساواة واحترام الحقيقة فإنه بلا أسس حقيقية". كانط ( 1724 -1804 ): يعرف كانط الأخلاق، عامةً بأنها مجال الحرية للبشرية، المتميز عن ميدان الضرورة الخارجية والسببية الطبيعية.. الأخلاق عند كانط ، مجال اللازم (ما يجب أن يكون) ذهب كانط الى أن الواجب هو المفهوم المركزي في الأخـلاق وهو الذي يحدد مفهوم الخير (والخير هو فعل الواجب). هيجل ( 1770_ 1831): يُنَصِّبْ هيجل " الشرف " المعتمد من قبل المجتمع والدولة القائمين ، وهكذا فإن أخلاق هيجل هي أخلاق التزامات تجاه الأسرة والمجتمع والدولة . أما أوغست كونت ( 1798 _1857 ) ، فالأخلاق لديه علم يهدف أول ما يهدف إلى البحث عن قوانين الحوادث الأخلاقية . وهو صاحب نظرية" الوضعية التي تتميز باعتماد العلم في فهم وتفسير الظواهر الطبيعية والبشرية وهي الحالة "المعاصرة" التي دعا الى الأخذ بها . استبعد كونت أساليب كل من التفكير الميتافيزيقي واللاهوتي، استبدل بهما مناهج التفكير العلمي فاتجه إلى "وضع قوانين تفسير الظواهر اللا أخلاقية توطئة للسيطرة عليها والإفادة منها في دنيانا الحاضرة". والخصائص الرئيسية للأخلاق الوضعية ، أنها تقوم على أساس العلم الوضعي وتحقق صفاته، ولهذا فهي حقيقية، وتنظر إلى الإنسان كما هو كائن بالفعل. نيتشه (1844 – 1900): أفكار نيتشة ، تدعو الى تدمير الأخلاق القديمة وتمهيد الطريق لأخلاق " الإنسان الأعلى " ، انطلاقاً من قناعته بأن هناك تقديران متناقضان للسلوك الإنساني ، هما أخلاق السادة ، وأخلاق الطبقات العامة. فالخضوع عنده يولد الذل والضعة ، والعجز ينتج طلب المساعدة من الغير ، حيث تسود أخلاق الضعف والسلام والأمن وتصبح أحد أهم السمات الأخلاقية للشعوب المستعبدة والمغلوبة على أمرها ، فالحياة التي تقوم على مبادئ التسامح الضعيف هي حياة تسير في طريق الانحلال ، فالأخلاق الحقة هي إرادة القوة. كان نيتشة يحتقر أخلاق العبيد أو الضعفاء لأنها أخلاق صادرة عن الضعف والعجز بينما أخلاق الأقوياء أو " السادة " كما يقول : تقوم على البطولة والمقدرة. أما العبيد فانهم يلجأون الى تسمية الأشياء بعكس أسمائها الحقيقية . وهكذا فالشعور بالعجز يسميه العبد " طيبويه " ، وعدم القدرة على رد الفعل يسميه " صبراً " كما يسمي الخضوع " طاعة " و الوضاعة " تواضعاً " والعجز عن الانتقام " عفواً " وهكذا. وسؤالنا: الى أي مدى تنطبق أخلاق العبيد على العرب اليوم ؟ وما هو البديل ..؟ هل هي إرادة الحياة ؟ هل هو الإنسان الذي يثور ضد العدو الوطني ، وضد العدو الطبقي ، إلى جانب ثورته على الأخلاق السائدة وأضاليلها ؟ هل هو الإنسان الذي يثور على الشفقة وعلى الرحمة وعلى الصبر والتواضع والتواكل ؟ الجواب يكمن في وعي وإرادة الرفاق الطليعيين، المؤمنين بمفاهيم التحرر والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية كخلاص وحيد صوب تحقيق أهداف شعبهم بكل أبعادها ومكوناتها السياسية الوطنية والمجتمعية. فرويد (1856 – 1939) :بعد نيتشه ، ظهرت الفرويدية (أو مذهب التحليل النفسي). فرويد قال بأن دوافع الانسان واخلاقياته هي انعكاس لميوله اللاشعورية. هربرت سبنسر (1820 – 1903): مصدر الأفكار والآراء حول الأخلاق التي نادى بها تشكلت على أساس بيولوجي أو التفسير التطوري، بفضل نظرية دراوين، حيث يربط "سبنسر" فكرة الضمير الأخلاقي بالفكرة العامة أو فكرة الأخلاق المكتسبة ، وهي فكرة " بقاء الأصلح ". وليم جيمس (1842 – 1910): تأثر وليم جيمس بالمفكر الأمريكي تشارلز بيرس مؤسس فلسفة البرجماتزم صاحب مقولة " لكي نجد معنى للفكرة ينبغي أن نفحص النتائج العملية الناجمة عن هذه الفكرة". ورأى أن لا قيمة للأمور في نظره إلا إذا أرشدتنا الى تحسين أوضاع حياتنا، فالناس يقبلون الفلسفات أو ينبذونها وفقاً لحاجاتهم لا وفقاً للحقيقة الموضوعية، وهم لا يتساءلون : هل هذا منطقي ، بل يتساءلون عن مدى ما تتناسب الفلسفة مع مصالحهم. جون ديوي (1859 – 1952): قال أن النمو و التطور ، هما أعظم الأشياء وأفضلها وأجدرها بالاحترام ، لقد جعل ديوي من النمو والتطور مقياسه الأخلاقي ، فالنمو في نظره هو المقياس الأخلاقي وليس الخير المطلق . أما عالِم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864 ـ 1920) ، فقد رأى أن الحداثة المعاصرة، وانتقال العالم من العصر القديم إلى العصر الحديث، يمكن إرجاعه إلى سببين رئيسيين، هما : «روح» الرأسمالية، و«الأخلاق» البروتستانتية . وذلك لأن الأخلاق التي تبشر بها البروتستانتية، على خلاف الكاثوليكية أو الأرثوذكسية ، تدعو إلى العمل والإنتاج وتكوين الثروة ، والنجاح في مثل هذا المسعى هو علامة رضا من الرب . جوهر الأخلاق البورجوازية يقوم على الفردية والأنانية، أنها أخلاق لا تعترف ، في العلاقات بين الناس ، إلا برابطة واحدة هي المصلحة العارية ، والمنفعة الخاصة والكسب الشخصي ، أنها الأخلاق التي تبرر الحروب وكراهية البشر ، وان الحق دائماً إلى جانب القوة. من كل ما تقدم ، نلاحظ انتقال المسألة الأخلاقية في عصر النهضة أو في حضارة الغرب الرأسمالي عموما ، من مستوى الدين الآمر ، والفكر اللاهوتي إلى مستوى الفكر الانتقادي ، وأصبحت قواعد الأخلاق الرأسمالية موضوعاً من مواضيع الثقافة الإنسانية "دون القطيعة الكاملة مع جوهر الدين". كارل ماركس:( 1818 – 1883): رفض فهم الفلسفة على إنها علم مطلق ، غريب عن الحياة العملية، مؤكداً إن مهمة الفلسفة والفكر الاجتماعي ليست بناء أو إنشاء Construction المستقبل، ولا وضع نظريات تصلح لجميع العصور والدهور ، بل إن مهمتها " النقد الذي لايرحم لكل ماهو قائم، ولا يتراجع أمام الاصطدام بالسلطات القائمة. إن مأثرة فلسفة ماركس تكمن في كونها البرهان الفلسفي والعملي في آن واحد على حتمية التحويل الجذري للمجتمع نحو الانعتاق والتحرر والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية، وهذا بالضبط ما نحتاج إليه عبر وعينا العميق بفلسفة العبقري كارل ماركس بكل مكوناتها المادية الجدلية والمادية التاريخية والاقتصاد السياسي ومنهجها الجدلي الديالكتيكي رغم كل ما يتبدى اليوم من عوامل القهر والتخلف. الأخلاق الاشتراكية : يتمثل جوهر الأخلاق الاشتراكية في الدفاع عن مصالح الفقراء والكادحين بما يتطابق مع القيم الأخلاقية التي تخدم التقدم الاجتماعي على المستوى الإنساني كله. 1. أخلاق جماعية ديمقراطية، ومبدؤها الأساسي أن الفرد من أجل الجميع، والجميع من أجل الفرد. 2. أخلاق إنسانية، وهي تسمو بالإنسان وترسخ العلاقات الإنسانية حقا بين الناس. 3. أخلاق نشيطة وفاعلة، وهي تشجع المواطنين على تحقيق المآثر الإيجابية الجديدة في العمل والإبداع.
النظام التوتاليتاري (الشمولي) أو الشر السياسي: يُفهم من التوليتارتية ذلك النظام السياسي الذي يجعل الأفراد خاضعين لسلطوية هيئات سياسية واجتماعية، وبمعنى آخر، فإنّه يتأسس على وجود نظام وحيد تنصهر فيه كلّ السلط؛ التشريعية والقضائية والتنفيذية، لتكوين سلطة قاهرة تمارس سيطرة شاملة على الأشخاص وأنشطتهم، وتتدخل في كل تفاصيل حياتهم ، تحولهم إلى “جثث حيّة”، ويصيرون غرباء عن ذواتهم ويفقدون الإيمان بأنفسهم. جان بول سارتر ( 1905 - 1980 ) (الفلسفة الوجودية): الوجودية: تيار فلسفي يميل إلى الحرية التامة في التفكير بدون قيود ويؤكد على تفرد الإنسان، وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى مُوَجِّه. "الفكرة الرئيسية في الفلسفة الوجودية تتجلى في أن "الوجود يسبق الماهية" بمعنى أن البشر أحرار في تقرير مصيرهم، إذ أنهم يخلقون هويتهم وليسوا متلقين لها. ونحن مسؤولون مسؤولية كاملة عما نؤول إليه. "الإنسان ليس شيئاً سوى ما يصنعه هو من نفسه" وقدم سارتر الحجج تلو الحجج ضد الفكر الماهوي والجبري، وعمد في سبيل ذلك إلى أن يصف الحرية في وضوح وبساطة – وبساطة شديدة كما رأى بعد ذلك – بانها شكل لا انفصام له عن الوجود البشري". أخيراً ، نستنتج من هذا التلخيص المكثف للفلسفات الأخلاقية الغربية اهتمام معظم فلاسفتها بالمفاهيم الانسانية وقيم الاخلاق والعدل والمساواة والديمقراطية والمواطنة وفصل السلطات، إلى جانب عدد من الفلاسفة الذين انطلقوا من رؤى وافكار نقيضة للديمقراطية والمساواة. وفي هذا الجانب ، أود التأكيد على أنه بالقدر الذي نؤمن فيه بالديمقراطية والحرية والعدل والاخلاق، إلا أنني أود التوضيح إلى أنه بدون الاعتراف بـ"مجتمع المواطنين" في مجتمعنا الفلسطيني وبلداننا العربية، وبأهمية دورهم في فضاء ديمقراطي تتوفر فيه حرية الرأي والمعتقد والعدالة والمساواة...الخ، يكون الحديث عن التحرر الوطني ومقاومة العدو الصهيوني او تطبيق الديمقراطية نوعا من الأوهام أو الشعارات الانتهازية المضللة.
الأخلاق العربية الاسلامية : في تناولنا لهذا العنوان ، نرى من المفيد الاشارة إلى ان حالة الاخلاق العربية الاسلامية الراهنة هي امتداد تاريخي، بالمعنى الجزئي ، للمفاهيم والقيم الاخلاقية والمجتمعية التراثية الاسلامية التي سادت في التاريخ القديم وتواصلت مع التاريخ الحديث والمعاصر من منطلقات دينية أصولية متعصبة وجامدة غير قابلة للتطور مع المتغيرات المجتمعية التاريخية ومضامينها الموضوعية العقلانية. وهناك منطلقات فلسفية عبرت عن الجانب الأخلاقي وفق أبعاده الدينية البعيدة بهذه الدرجة أو تلك عن التعصب أو الجمود ، ولكن وفق منهجية مثالية موضوعية كما جسدها وعبر عنها الفيلسوف العربي أبو النصر الفارابي (870 م. _ 950 م.) الذي قدم في كتابه "المدينة الفاضلة" سؤالاً عن معنى السعادة وماهيتها، فما هي السعادة عند فيلسوفنا الفارابي؟. بهذا السؤال –كما يقول المفكر الشهيد د.حسين مروة- ندخل موضوعاً بالغ الدقة والتعقد، فان كلام الفارابي، في "المدينة الفاضلة"، بشان السعادة، يتدثر بدثار صوفي يكاد يخفي كل معالم الارض الواقعية التي يقف عليها وينطلق من علاقاتها. وقد استخدم الباحثون المثاليون، من شرقيين وغربيين محدثين، هذه الظاهرة الفارابية ليجردوه من كل صلة له بهذه الأرض الواقعية، وليفصلوه فصلا مطلقاً عن تاريخيته بحيث نكاد لا نرى من الفارابي سوى انه "يزداد بعدا عن الحياة الواقعة (..) ولم يجعل بين تعاليمه في الاخلاق مكانا لامور الدنيا"، ولا نرى من فلسفته الا وجهها التصوفي النظري. أما السعادة فلا نجد لها غير وجه واحد أيضاً، هو كونها غاية روحية خالصة تبدأ وتنتهي في حلقة مغلقة واحدة معزولة عن العالم الخارجي لا هدف لها سوى ان تتحرر "نفوسنا من كل ما هو مادي جسمي" وتلتحق بـ"الكائنات العقلية". اذن ، ماذا وراء هذا الالتفاف التصوفي التأملي حول قضية السعادة عند الفارابي؟. يعرف الباحثون في الفلسفة العربية أن ابن طفيل الفيلسوف الاندلسي (506 – 581ه / 1112 - 1185) اخذ على الفارابي قوله في كتاب "الاخلاق" ان السعادة انما تكون في هذه الحياة وفي هذه الدار، وان كل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز. والواقع –كما يضيف د.حسين مروة- ان الفارابي قال ذلك في غير كتابه "الاخلاق" أيضاً. فهو في كتاب "تحصيل السعادة" يضع المسألة على صعيد النشاط الاجتماعي للانسان، فيرى ان لدى الجماعات البشرية فرضاً لتحقيق سعادتها في "الحياة الأولى" ، وعن طريق السعادة "الدنيوية" هذه تنال "السعادة القصوى" في "الحياة الاخرى"، وهنا تتجلى المثالية الغيبية في الفلسفة الإسلامية، الأمر الذي يفرض علينا –بالمعنى الموضوعي وفق المنهج التاريخي- الوقوف عند هذه الرؤى المثالية الغيبية وتحليلها. وفي هذا الجانب ، نعتقد أن تلك الرؤية (الممتدة تاريخياً حتى اللحظة الراهنة) تعود إلى طبيعة التطور الاجتماعي والاقتصادي المشوه تاريخيا وراهنا من ناحية ، وبتأثير التراث الغيبي عبر حركات الإسلام السياسي، وضعف نمو وانتشار الرؤى التنويرية أو العقلانية أو الحداثية بحكم قوة التخلف واحتجاز التطور من ناحية ثانية، بحيث أدى كل ذلك إلى انتاج وترسيخ علاقات اجتماعية وقيمية جاءت انعكاسا طبيعيا لبنية التخلف في الواقع الاجتماعي العربي. وبالتالي فإننا نلاحظ استمرار سيادة أو هيمنة هذه العلاقات في الثقافة (ومن ضمنها الأخلاق) العربية حتى اليوم عبر مجموعة من الاتجاهات القيمية يحددها د.حليم بركات كما يلي: 1- قيم القضاء والقدر وقيم الاختيار الحر . 2- الصراع بين القيم السلفية والقيم المستقبلية النهضوية والديمقراطية. 3- الصراع بين القيم العقلانية من منهجية وموضوعية وشك وبحث وتدقيق ، وبين القيم العاطفية من عفوية وبداهة وفطرة وايمان وارتجال. 4- قيم الامتثال والطاعة وصراعها مع قيم التمرد والتفرد والتحرر والديمقراطية. 5- قيم الانفتاح على الآخر وقيم الانغلاق على الذات . على أي حال، لقد مارس المفكرون الإسلاميون نوعاً من الاجتهاد على نطاق واسع خلال القرون الأولى للحضارة العربية الإسلامية، وكان من نتيجة هذا الاجتهاد بروز المذاهب التي يتوزع المسلمون بينها إلى يومنا هذا. ومن المعروف أن الاجتهاد قد توقف منذ القرن الثاني عشر الميلادي تقريباً، أو ما يمكن أن نطلق عليه حالة الانقطاع الفكري، حيث تجمد الفكر في مدارس المذاهب المذكورة وضاق هامش التفسير الحر للشريعة، فلم يعد من الممكن الخروج عن حدود المذاهب المعترف بها. في هذا السياق ، يقول د.الجابري في كتابه الهام "تكوين العقل العربي" ، إن " الثقافة العربية الاسلامية تنقسم إلى ثلاث مجموعات : 1. علوم البيان من فقه ونحو وبلاغة 2. علوم العرفان من تصوف وفكر شيعي وفلسفة وطبابه وفلك وسحر وتنجيم. 3. علوم البرهان من منطق ورياضيات وميتافيزيقيا . ويتوصل إلى ، أن الحضارة الاسلامية هي حضارة فقه ، في مقابل الحضارة اليونانية التي كانت حضارة فلسفة ، لقد تجمدت الحضارة العربية عند الفلسفة اليونانية ، وغاب عنها العنصر المحرك : التجربة ، بعد أن غلب عليها اللاهوت أو علوم العرفان أو اللامعقول". وفي هذا الصدد، نشير إلى أن المذاهب الفكرية الإسلامية الأولى قد نشأت في عصر الخلفاء الراشدين، وكانت بداية الاختلاف في عهد عثمان بن عفان، الذي تطور فيما بعد إلى نزاع بين علي ومعاوية على الخلافة بعد عثمان، ذلك النزاع الذي تحول إلى حرب بينهماَ فرَّقت بين المسلمين وجعلتهم شيعاً وأحزاباً منذ ذلك الوقت إلى أيامنا هذه. نستنتج مما تقدم ، أن الفلسفة الإسلامية تميزت عبر رموزها من الفلاسفة المسلمين بغض النظر عن أصولهم عرباً أو فرساً بآليات ذهنية أو عقلية مشتركة في الجوهر بالرغم من اختلافها في الاجتهاد ، هذه الآليات يجملها لنا المفكر الراحل د. نصر حامد أبو زيد فيما يلي:_ 1- تفسير الظواهر كلها برَدِّها جميعاً إلى مبدأ أول أو علة أولى ، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية أو الطبيعية . 2- الاعتماد على سلطة " السلف أو التراث " وذلك بعد تحويل النصوص التراثية _ وهي نصوص ثانوية_ إلى نصوص أولية ، تتمتع بقدر هائل من القداسة لا تقل _ في كثير من الأحوال _ عن النصوص الأصلية . إذاً، الاخلاق العربية لا تخرج عموما عن هذه الاتجاهات القيمية التراثية، وهي اتجاهات مستمدة من انماط المعيشة البدوية والفلاحية والمدنية في المجتمعات العربية المعاصرة في إطار التخلف الاجتماعي. وبناءاً على ذلك ، فلا شيء يمنعنا، هنا في مجال "العقل الأخلاقي العربي"، من الحديث عن "أخلاق القبيلة" و"أخلاق الغنيمة" و"أخلاق العقيدة"، و/أو "أخلاق الخليفة" و"أخلاق الخاصة" و"أخلاق العامة"! في ضوء ما تقدم فإن أزمة المجتمع العربي ومن ثم أزمة الأخلاق العربية الاسلامية ، تعود في جوهرها إلى أن البلدان العربية عموماً لا تعيش زمناً حداثياً أو حضارياً، ولا تنتسب له جوهرياً، وذلك بسبب فقدانها، بحكم تبعيتها البنيوية، للبوصلة من جهة، وللأدوات الحداثية، الحضارية والمعرفية الداخلية التي يمكن أن تحدد طبيعة التطور المجتمعي العربي ومساره وعلاقته الجدلية بالحداثة والحضارة العالمية أو الإنسانية. فعلى الرغم من دخولنا القرن الحادي والعشرين ، إلا أننا –في البلدان العربية- ما زلنا في زمان القرن الخامس عشر قبل عصر النهضة، أو في زمان "ما قبل الرأسمالية" . فالمجتمع العربي لم يستوعب السمات الأساسية للثقافة العقلانية أو ثقافة التنوير، بمنطلقاتها العلمية وروحها النقدية التغييرية، وإبداعها واستكشافها المتواصل في مناخ من الحرية والديمقراطية. ففي غياب هذه السمات يصعب إدراك الوجود المادي والوجود الاجتماعي والاخلاقي والدور التاريخي الموضوعي لمفاهيم الوطنية، والقومية أو الذات العربية في وحدة شعوبها، ووحدة مسارها ومصيرها، إدراكاً ذاتياً جمعياً يلبي احتياجات التطور الديمقراطي السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي . فإذا بقي واقعنا العربي على هذه الشاكلة من التخلف والتبعية والخضوع ، كيف يمكن لهذا الواقع أن يتعاطى بصورة جدلية مع مفاهيم الأخلاق والحداثة والنهضة والديمقراطية بالمعنى التاريخي والحديث والمعاصر؟ سؤال لا ندعي سهولة الإجابة عنه، فهذه الإجابة ستظل مرهونة بعملية تطور الواقع الموضوعي (الطبقي) المعاصر في بلدان الوطن العربي من جهة، وبنهوض الأحزاب التغييرية، الوطنية التقدمية الديمقراطية النهضوية والعقل الجمعي الطليعي في هذه البلدان من جهة ثانية . وبالتالي ، لا نزعم أن بالامكان الحديث عن أخلاق عربية حره وديمقراطية معاصرة نقيضه لمنطق الطاعة والامتثال والاستبداد باسم المفاهيم الشكلية التراثية القديمة ، كما لا نزعم وجود أخلاق عربية كرزمة فكرية واحدة أو متجانسة ، لانها على النقيض من ذلك مجموعة اخلاقيات موزعة ومنتشرة بصورة مختلفة في مجمل الاقطار العربية تجسد أو تعكس تطورها المحتجز وتخلفها وتبعيتها إلى جانب انقسامها إلى بنيتين فوقيتين الاولى تعكس مصالح الطغم الحاكمة في النظام العربي والثانية تعكس اخلاقيات الاطار الاوسع من الجماهير الشعبية العفوية الفقيرة والمقموعه والمضطهدة تاريخيا ، وتتعرض راهنا إلى اوضاع لا تحتمل ، ما يجعلها تندفع –في ظل غياب القوى اليسارية الديمقراطية الحاضنة- اما إلى الاحباط واليأس أو الالتحاق –بسبب وعيها البسيط وايمانها الديني العفوي - بالحركات الدينية أو الصمت أو الصبر على المعاناة في الدنيا والإعراض عنها وعن مغرياتها. إذاً ، نحن اليوم كقوى يسارية عربية، امام منعطف التغيير الذي لم يتبلور بعد، وهذا يعني أننا امام واجب التفاعل الحقيقي مع منعطف تأسيس بناء اخلاقي ديمقراطي تقدمي لمجتمعاتنا يعكس ويجسد رؤانا وأهدافنا وبرامجنا وشعاراتنا التي تعبر عن واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي . فإذا أردنا أن نبني مجتمعًا ديمقراطياً قويًا متماسكًا،علينا أن نناضل لكي نجعل على رأسه سلطة تلتزم بالأخلاق والقيم، تجعل الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة عنوانها. فالمجتمع الذي تتبنى سلطته الاستبداد طريقًا –كما هو حال مجتمعنا الفلسطيني ومجتمعاتنا العربية راهناً - لا يشعر أفرادها بحياتهم وبكرامتهم وحريتهم، يصبح جُل اهتمامهم المأكل والمشرب والغرائز البهيمية، إلى جانب الهروب من الواقع، وانتشار مظاهر اللا مبالاة واليأس في نفوسهم وعقولهم، بما يؤدي إلى انتاج وترسيخ أخلاقيات الخضوع والاستسلام، فقط يعيش الفرد في مثل هذا الواقع المستبد من أجل تأمين لقمة العيش، ولا غضاضة لديه في أن يأكلها بذل وخنوع، كما لا يأبه لاحتقار الآخرين له، وفق ما نشرته مجلة "صن" الانجليزية قبل عدة أعوام حينما طالب أحد أعضاء مجلس النواب البريطاني التضامن مع العرب، فتصدى له النواب قائلين: ان العرب خنازير لا يستحقون الاحترام، فخرجت مجلة "صن" في اليوم التالي بكاريكاتير في صفحتها الأخيرة يرسم آلاف الخنازير في مظاهرة حاملين شعاراً واحداً "نحن نعترض.. نحن لسنا عرباً". إن المجتمع العربي اليوم يعاني من حالة فوضى مستفحلة في بناه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وتركيبته الشخصية وأنماط سلوكياته، بسبب تفاقم مظاهر الاستبداد والفقر والتخلف والتبعية والاستغلال والصراعات الطائفية الدموية التي أعادت مجتمعاتنا العربية –خاصة في العراق وسوريا وليبيا واليمن- قروناً إلى الوراء، دون أن نتجاوز أبداً دور المخططات الامبريالية الصهيونية وتعاون القوى العربية الرجعية ، خاصة في أنظمة السعودية والخليج مع تلك المخططات. ونتيجة لذلك ، فقط باتت معظم مجتمعاتنا العربية اليوم عاجزة تترنح بين الخضوع والعزلة والمواجهة ، قاست وتقاسي من حرمان وهضم حقوق حياتية مجتمعية وسياسية، وهي مجتمعات تَمُرّ اليوم بمرحلة انتقالية للتغلب على الفقر والتخلف لم تتبلور بعد، ما يعني أن هذه المجتمعات ما زالت متحركة وممزقة ودائمة الصيرورة … بمعنى انها دائمة الحراك والصراعات الداخلية ، لم تستقر وتثبت بعد لترى نفسها وذاتها، لأسباب متنوعة ذاتية وموضوعية، من بين أهمها ضعف أو غياب أو عجز القوى الديمقراطية التقدمية اليسارية في مجابهة الأوضاع البائسة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية في اللحظة الراهنة.
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتاب -اقتصاد قطاع غزة تحت الحصار والانقسام-
-
هيئة حماس المقترحة لمواجهة صفقة القرن تُعزز الانقسام ولا بدي
...
-
بمناسبة يوم الشهيد الجبهاوي
-
قطاع غزة.. التغيرات الاجتماعية الاقتصادية
-
في مناسبة الثامن من آذار .. يوم المرأة الفلسطينية
-
المعتزلة أو فرسان العقلانية في الحضارة الاسلامية
-
مقالات ودراسات ومحاضرات في الفكرة والسياسة والاقتصاد والمجتم
...
-
قبسات ثقافية وسياسية فيسبوكية 2018 - الجزء السابع
-
عن مقولة فصل الدين عن الدولة
-
بورجوازية الكومبرادور
-
في مثل هذا اليوم رحل عن عالمنا الرفيق الانسان الاخلاقي الثور
...
-
مأساة اتفاق أوسلو وآثاره الكارثية
-
أهلنا ومواطنينا المسيحيين ... كل عام وأنتم بألف خير ومحبة
-
71 عاماً على قرار التقسيم
-
المفكر الماركسي العربي المصري سمير أمين .. وداعاً
-
رؤية وموقف ...للحوار مع رفاقي اصدقائي في احزاب وفصائل اليسار
...
-
كتاب مدخل إلى الفلسفة الماركسية - 2018
-
كتاب النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية - المجلد ا
...
-
الأوضاع الاجتماعية (الطبقية) في الضفة الغربية وقطاع غزة (5-
...
-
الأوضاع الاجتماعية (الطبقية) في الضفة الغربية وقطاع غزة (4 –
...
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|