أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - راتب شعبو - عين واحدة تكفي (إلى منير شعبو)














المزيد.....

عين واحدة تكفي (إلى منير شعبو)


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6252 - 2019 / 6 / 6 - 15:06
المحور: سيرة ذاتية
    


فجأة غاب كل شيء عني وباتت الدنيا مظلمة وكأن ملاءة سوداء شملتها وأنا أمشي في باحة التنفس، كأن الكهرباء انقطعت عن عيني للحظة ثم عادت. كتمت خوفي وتابعت سيري دون أن ينتبه شريكي في المشي. في السابعة من عمري فقدت إحدى عيني، واعتدت على العيش بعين واحدة، عيني الوحيدة كانت كافية لكي أدرس وأعيش بشكل طبيعي، ولكي أنخرط في عمل سياسي معارض أوصلني إلى السجن. غير أن خوفي من أن أفقد بصري ظل ملازماً لي طوال حياتي. كنت إذا رأيت ضريراً في الطريق ينشدّ نظري إليه. أضطرب وتتوه قدماي وتفقدان غريزة المشي فأقف لحظات حتى استعيد مجدداً قدرتي على متابعة سيري. ما حدث لي في باحة التنفس أيقظ في داخلي تاريخاً متراكماً من الخوف. ولاسيما أن ما حدث راح يتكرر.
ترددت طويلاً قبل أن أطلب من رئيس المفرزة أن أراجع طبيب عينية. في المشفى العسكري الذي نقلوني إليه بعد أيام، قال لي الطبيب الذي قرأت على وجهه علامات اليأس، إن عصب العين السليمة ليس سليماً تماماً، وإن علي أن أخفف من إجهاد عيني في القراءة أو متابعة التلفزيون أو أعمال الخرز أو ما شابه. "العصب ليس سليماً تماماً".. لكن الحقيقة أن العبارة ليست صادقة تماماً، لا يريد الطبيب أن يقول إن العصب في الرمق الأخير. إذن خوفي في مكانه. عدت من المشفى وجلست على سريري واثقاً من مصيري، جلست كأنني جالس في عزاء نفسي، كأنني أنتظر اللحظة التي ستنقطع فيها الكهرباء عن عيني ثم لا تعود، كأنني أنتظر في كل لحظة هبوط تلك الملاءة السوداء هبوطاً نهائياً. انشغل بي زملائي في المهجع لبعض الوقت ثم انشغلوا عني، وانشغلت بحالي.
بعد وقت طويل أو قصير، صمت المهجع، واستقر كل مسجون في سريره. كانت اللمبة الوحيدة المعلقة في الكوريدور تبدد عتمة المكان، كانت هي الشيء الذي يعطي لعيوننا قيمة، الضوء الوحيد الذي يلتزم على مدار الساعة إضاءة المكان الذي لا يصله أي مصدر آخر من النور، حتى تعارفنا عليه باسم "الملتزم". في تلك اللحظات كان يبدو لي أن "الملتزم" يجاهد بصعوبة كي يفي بالتزامه، بدت لي اللمبة متعبة بالتزامها كعجوز يجر عربة ثقيلة في طريق صاعد. ثم، بعد وقت طويل أو قصير، أطبق الظلام على كل شيء دفعة واحدة. أدركت أنني فقدت بصري. هذا ما كان ينتظرني وأنتظره، وكنت واثقاً من أنه حادث لا محالة، وها قد حدث. دسست نفسي تحت الغطاء ببطء وغمرت نفسي بالكامل وهمدت محاولاً أن أفهم وأستوعب وأقبل حقيقة أنني بت أعمى. أظلم قلبي كما أظلمت عيني. بردت أطرافي وصار دمي لزجاً وتنفسي ثقيلاً كأن قطعة من الاسفنج أغلقت رئتي. استسلمت لقطيع هائل من مخلوقات سوداء مشوهة امتصت هوائي وهزمت آخر شعاع أمل عندي وخنقت روحي.
بعد قليل راحت يد جاري وصديقي تهزني بقوة وسمعته يقول:
- منير شو في؟ ليش عم تبكي؟
دون أن أرفع الغطاء عن رأسي قلت له باستسلام:
- أنا عميت يا أبو علي.
قال لي بصوت هادئ ومطمئن وقد خمّن ما جرى:
- ليست عينك بل الملتزم هو ما انطفأ.
رفعت رأسي قليلاً من تحت الغطاء، كان الظلام محيطاً بكل شيء، وسمعت من مكان ما في المهجع من يقول: هذه هي المرة الأولى التي ينطفئ فيها الملتزم منذ سنوات.

آذار 2015



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن كتاب -حكم العنف- لسلوى اسماعيل، مركزية الذاكرة في تكوين ا ...
- ادلب، من المستبد إلى المستعمر
- بلا اسماء
- شباب من سورية في باريس
- المدن كوجبات سياحية
- بين فرنسا وسورية
- السترات الصفراء، بين الشعب والمؤسسة
- أفعال مشينة
- مراجعة في الثورة
- الحرب في إدلب، لا عزاء للسوريين
- الطائفية و-الرماد الثقيل-
- اللجوء بوصفه تهمة
- متحف للدم الحار
- أخرج من سوريا كي أعود إليها
- مواطنون وأعداء
- فلاحو سوريا، التاريخ ما وراء حجاب السياسة 2
- فلاحو سوريا، التاريخ ما وراء حجاب السياسة 1
- أسئلة عن الثورة السورية
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 4
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 3


المزيد.....




- الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي ...
- -من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة ...
- اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
- تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد ...
- صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية ...
- الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد ...
- هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
- الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
- إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما ...
- كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - راتب شعبو - عين واحدة تكفي (إلى منير شعبو)