|
عشر سنوات على خطاب أوباما الثقافي
مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن-العدد: 6250 - 2019 / 6 / 4 - 17:42
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
خطاب الثقافة ودبلوماسية الخطابة
((في يوم 4 يونيو 2009 ألقى الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطابه الدرامي إلى العالم الإسلامي عبر قاعة جمال عبد الناصر بجامعة القاهرة التي تتسع لثلاثة آلاف شخص. ويومها تم إخلاء شوارع القاهرة من كل حركة حرصًا على أمن الضيف. ويقال إن أوباما اشترط على حسني مبارك ألا يحضر اللقاء حتى يكون هو النجم الأوحد ولا يتم إثقال صورته بحضور "الدكتاتور".
سبق الخطاب بأسابيع دعاية هائلة لخطورة ما سيقال، كما انبرى الليبراليون والإسلاميون وبعض "االيساريين" بالتبشير بنقلة هائلة في العمليات السياسية في الشرق الأوسط بفعل هذا التدخل الأمريكي المباشر على خط "الإصلاح"، وعلى أعلى مستوى، ومن بؤرة الأحداث.. القاهرة.
المهم أن رئيس تحرير إحدى الصحف الكبيرة المتمتعة بدعم خليجي، والتي كانت ترتدي زيًا ليبراليًا متصالحًا مع التيار "الإسلامي" ومع التطبيع الإسرائيلي في ذات الوقت.. اتصل بي (عن طريق صديق) وطلب أن أكتب تعليقًا سريعًا على الخطاب التاريخي، بحيث يتم إرساله إلى االصحيفة بعد انتهاء الخطاب بساعة لا أكثر، مراعاة لظروف الطباعة. جلست أتابع الخطاب كلمة كلمة.. وأدون ملاحظات جانبية أولاً بأول.. وبمجرد انتهاء الخطاب، كتبت المقال في أقل من ساعة وأرسلته على الفور.. وتلقيت الشكر..
لكن ظهرت الصحيفة في اليوم التالي بدون مقالي بالذات، رغم وجود عدد من التحليلات السطحية للخطاب.. وبقراءتها عرفت من نفسي سبب استبعاد مقالي، ولم أتصل بالصحيفة احتقارًا لمسلكها.. وهم أيضًا لم يفكروا في الاعتذار أو حتى إرسال المكافأة المالية عن عمل طلبوه وشكروني عليه..
وقد وقع المقال المهدر في يدي أخيرًا فوجدت نشره مفيدًا في وجه عشاق الديمقراطية الأمريكية.. الذين سبق لهم أن هللوا للمجرم كولن باول لمجرد أنه من أصل أفريقي رغم أنه قد مارس الكذب والتضليل على العالم كله بشأن أسلحة التدمير االشامل في العراق.. ثم هللوا وفرشوا الأبسطة الحمراء أمام المجرمة كوندوليزا رايس (لأنها تجمع بين الحسنيين: الزنوجة والأنوثة ومقولة "الفوضى االخلاقة") التي أصرت على إطالة الحرب الوحشية على لبنان حتى مع إعلان العسكريين الصهاية أنهم أنجزوا كل "بنك الأهداف" الموضوعة للعدوان.. أما باراك أوباما (الذي يجمع بين الشباب والزنوجة ورطانة "الإصلاح") فقد أريقت في مديحه أنهار من الأحبار وعوالم من الأثير..
أخيرًا أترك القارئ لمطالعة المقال..))
عرف التاريخ الحديث صورًا متعددة من الدبلوماسية غير التقليدية، مثل "دبلوماسية الزوارق المسلحة" أيام الحرب الباردة، ودبلوماسية "البنج بونج" للانفتاح على الصين، و"الدبلوماسية العامة" التى لجأ إليها الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش الابن) في فترته الرئاسية الثانية للتغلب على الأثر التدميري الذي ألحقته مغامراته الحربية بسمعة الولايات المتحدة عالميا، وذلك تحت شعار "كسب عقول وقلوب المسلمين".
ويزعم الكاتب أننا إزاء نوع جديد من الدبلوماسية الأمريكية يمكن اعتباره صناعة خالصة للرئيس أوباما، ونستطيع أن نسميه مؤقتًا "دبلوماسية الخطابة". فمن المؤكد أن من أهم عناصر سحر أوباما الشخصي كونه خطيبًا بارعًا بالسليقة وأنه قد تلقى دروسًا عملية ونظرية لتطوير هذه الموهبة إلى مستويات مدهشة، وقد كانت هذه الموهبة أو المهارة عاملاً رئيسيًا في فوزه بانتخابات الرئاسة أمام منافسيه من الحزب الديمقراطي وخصمه الجمهوري الباهت "جون ماكين". ويبدو أيضًا أن مستشاريه قد أفهموه مدى عمق تجذر الخطابة في الثقافة العربية، ومن ثم يمكن المراهنة على موهبته شخصيًا في استعادة ما تبدد من السمعة الأمريكية التي أراقها المحافظون الجدد.
من هنا كانت أهمية خطبته في جامعة القاهرة إلى العالمين العربي والإسلامي. فمن مميزات الخطابة أنها تصل إلى مشاعر الجماهير العادية أسرع من الدبلومسية المعتادة، كما أنها تتيح للخطيب أن يبذل وعودًا على الأثير يسهل عليه التخفف منها فيما بعد، فهي ليست محادثات رسمية موثقة. كما أن فنيات الخطابة تتيح للخطيب أن يخلق جوًا من الراحة لدى مستمعيه عن طريق استخدام مفاهيم ومترادفات ووعود غير محددة سياسيًا أو قانونيًا، لكنها تخلق حالة من "الالتباس البناء" الذي يمكن أن يُرضي الأطراف المتناقضة.
منذ مدة وهناك ترويج إعلامي هائل لخطبة أوباما، وكأنها فاتحة جديدة في السياسة الأمريكية.. والآن بعد أن حصلنا على الخطبة فما هو الجديد فيها؟ وماذا يمكن أن نفعل بها؟
بداية فإن لدينا خطبًا أمريكية سابقة لا تقل عن الخطبة الأخيرة بكثير، مثل خطب كارتر وكلينتون وحتى تعهد بوش بإقامة الدولة الفلسطينية، بل إن لدينا أصلاً قرارات كثيرة للأمم المتحدة تنصف الحقوق العربية، ولم تعرف حتى الآن طريقها للتنفيذ. إذن لا بد من الاعتراف في النهاية بأن التسويات الدولية الكبرى تقوم على المصالح وتحسمها توازنات القوى، قبل أي شيء آخر.
لا داعي للتأكيد على أهمية إعلان أوباما احترام الثقافة والتاريخ الإسلاميين، أو دعوته لتعميق الحوار وبداية جديدة. ولكن الفارق بين الخطاب الثقافي هنا وخطاب المحافظين الجدد حول إدارة بوش، أن الأخيرين كانوا يعزون التشدد والعنف الإسلاميين إلى كراهية قيم الحرية والديمقراطية الغربية. ولكن خطابي بوش وأوباما يتشابهان في بعد مهم وهو تجاهل الجانب المتعلق بالحقوق أو على الأقل تفسيره بالنظرة الأحادية للمصالح، أو بتغليب الأمر الواقع على حساب الحقائق التاريخية.
وهو ما نسميه بخطاب الثقافة الذي ساد في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث يتم تقسيم العالم على أساس ثقافي، وبالأحرى ديني. بينما يتم في الوقت نفسه تجاهل دور الإدارات الأمريكية منذ الحرب الباردة في تنظيم وتسليح "الجماعات الإرهابية" للاستفادة منها في الصراع مع المعسكر السوفيتي السابق، وتلميع "المجاهدين" إعلاميًا باعتبارهم "مقاتلين من أجل الحرية". كما يتم التعمية على عنصري الأيديولوجية المحتفية بالاستعمار الاستيطاني الصهيوني (كنسخة من المشروع الأمريكي نفسه في نصف الكرة الغربي) والمصالح الاقتصادية والاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع قضايا المنطقة.
فمثلاً يبجل أوباما حق الشعب اليهودي في الوطن القومي مبررًا هذا بالمحرقة في أوربا، ومن ثم فعلى العرب أن يتجرعوا الثمن المرير- من أرضهم وسيادتهم وأمنهم- لتعويض اليهود عما وقع لهم على أيدي الأوربيين.
وفوق هذا لا يصل أوباما طبعًا إلى حد إنكار شرعية الاستيطان وعدم قانونية كل ما يترتب عليه، وإنما يكتفي بالمطالبة بالتوقف عن التوسع فيه، وهو الموقف الذي يبالغ البعض في تثمينه رغم أنه لم يتضمن أي إشارة لإجراء عملي لإيقاف الاستيطان، ولا لكيفية التعامل مع الحكومة الإسرائيلية الحالية الموغلة في اليمينية، ولا كيف سيتم التعامل مع أي توسع استيطاني يتم على الأرض في المستقبل.
في الوقت نفسه لم يتحدث أوباما بكلمة واحدة عن اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، ولا عن حقهم في الانضمام للوطن القومي المقترح لهم. وصمت تمامًا عن محنة عرب 1948 الذين يلقون معاملة مواطنين من الدرجة الثالثة، ولم يهتم بكيف يحصلون على حقوقهم في ظل مطالبة الغرب للعرب بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية.
وأدان أوباما بشدة الدعوات لـ"محو إسرائيل من الخريطة"، ولكنه يتناسي عمليًا الحق في النضال من أجل القضاء على آخر نظام للفصل العنصري في عالمنا، بل إنه ينحاز أكثر لبقاء نظام الفصل العنصري هذا من خلال التأكيد على يهودية الدولة العبرية.
وبينما تجاهل أوباما الجريمة الإسرائيلية الأخيرة في غزة نجده يعبر عن انزعاجه الشديد من صواريخ حماس (التي تهدد أطفال إسرائيل)، ومن البرنامج النووي الإيراني، ومن الجماعات المتطرفة في وسط آسيا، ولكنه لم يجد في خطابه أي مساحة ممكنة للتعامل مع انزعاجنا- نحن- المشروع لاحتكار إسرائيل للسلاح النووي في الشرق الأوسط، رغم أنه ذات الخطاب الذي سمح له بتناول مسهب لعدد من القضايا الجزئية والثانوية!
وإحقاقًا للحق لا يفوتنا أن نلاحظ تنصل أوباما من إرث بوش الخاص بـ"الحرب العالمية على الإرهاب" و"مبدأ الحرب الاستباقية".. وكذلك وعده بالانسحاب من العراق والحفاظ على وحدته وترك ثرواته له، وهو ما لا نستطيع إزاءه سوى قول "أفلح إن صدق"!
كما تراجع أوباما عن فكرة "تصدير الديمقراطية" التي لم تكن تعني عمليًا سوى "تأديب الدول المارقة" وإقامة نظم موالية، إلا أنه رغم تأكيده على "رفض فرض نظام أو حكومة معينة على أي بلد" نجده يتجاوز هذا سريعًا حينما خص "أقليتين" في الشرق الأوسط بالذكر هما الموارنة في لبنان والأقباط في مصر. ذلك رغم أنه يعلم بالتأكيد أن للموارنة حصة معترفًا بها في ديمقراطية التوافق الطائفي في لبنان، وأن الطائفة المارونية موزعة الآن على جانبي المعارضة والموالاة على السواء. أما بالنسبة لأقباط مصر فمن الإجحاف الحديث عنهم كأقلية مضطهدة بينما هم جزء لا يتجزأ من نسيج الحياة الاجتماعية والاقتصادية في مصر. فما هي الإشارة التي يريد أوباما إيصالها لهاتين "الأقليتين" ولمجتمعيهما؟ وألا توجد أقليات أخرى تستحق الذكر أيضًا؟ وماذا عن الأقليات الإسلامية في الغرب، وما تتعرض له بعد 11 سبتمبر؟ ألم يكن من الأجدر الإشارة إليهم أيضًا في خطاب يتحدث عن بداية جديدة مع الإسلام والمسلمين.
أخيرًا لا ننكر أن هناك نغمة ومفردات في خطاب أوباما أفضل بكثير من سلفه، ولكن المجتمع السياسي العربي قد بلغ مرحلة من النضج تجعله لا يبالغ في قيمة استشهاد الرئيس الأمريكي بالآيات القرآنية أو إشادته بالحضارة الإسلاميه أو تأكيده على احترام الخصوصيات. ذلك أن البداية الحقيقية يجب أن نراها على الأرض وليس على موجات الأثير، وأن نجاح هذه البداية رهن قبل كل شيء بقدرتنا على توحيد صفوفنا واستخدام كل ما لدينا من أوراق استراتيجية بجرأة ومرونة.
#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كرهت أستاذي.. والسبب ناصر
-
رفيقي الملاكم اليساري
-
حوار خصب مع سمير أمين
-
حقارة أن تتهكم على شعبك ولا ترى عيبك
-
الكيماوي الأمريكي الحلال
-
آخر أوراق سمير أمين
-
أعراض ليبرالية
-
اليسار والتغيير الاجتماعي
-
حاورت خالد محيى الدين
-
من ليالي المشقة والفزع
-
خرافة الحديث غير الرسمي للمتحدث الرسمي
-
الشفاء من الليبرالية
-
حتى لو كانت صفقة أو تمثيلية
-
شذرات من حكايتي مع الأدب والفن
-
أمريكي ضميره حر
-
ومضى رأفت سيف.. الرفيق المنير
-
مصطفى وهبه الذي يجب أن تعرفوه
-
رومانسية المتحدث باسم -الحركة المدنية الديمقراطية-
-
الطائفية ذريعة ووسيلة للإمبريالية
-
توءمة ملتصقة بين الحزب الشيوعي والتجمع
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|