ملامح الخطاب السياسي عند الأمام الخالصي :
إشكالات العلاقة مع ثورة تموز واليسار العراقي .
" الجزء الثالث والأخير "
( بهدف إعلاء شأن علماء الدين العراقيين الوطنيين ،والقيادات الإسلامية المعادية للإمبريالية والصهيونية في المعارضة العراقية المستقلة ، نقدم هذه القراءة في سيرة وأفكار الإمام محمد مهدي الخالصي ، تحية له ولإخوانه المجاهدين المخلصين واعترافا بالجميل لدوره الكبير وفكره المستنير المخلص للشعب وشهادة على أن لهذا الشعب عمائمه الشريفة المجاهدة الطاهرة في مواجهة العمائم المتأمركة .. ع . ل )
ومن أهم الإشكالات التي أثيرت في مجال العلاقات السياسية للشيخ الخالصي مع بعض فصائل الحركة التحررية العراقية تلك المتعلقة بالعلاقة مع الحركة اليسارية العراقية ممثلة خصوصا بالحزب الشيوعي العراقي فقد قيل الكثير عن الطابع المتشنج والعدائي المبالغ فيه مع تلك الحركة. غير أن الكتاب الذي بين أيدينا يساعدنا على أخذ صورة واقعية عن ذلك الإشكال حيث يجب الشيخ على عدد من الأسئلة التي طرحها عليه باحث عراقي هو الدكتور علاء الدين الظاهر والذي كان يعد كتابا خاصا عن ثورة 14 من تموز وعن عهد مؤسس الجمهورية العراقية الزعيم عبد الكريم قاسم . ففي رده على تلك الأسئلة ينفي الشيخ محمد مهدي الخالصي أن يكون والده محمد الخالصي قد أصدر فتوى يجيز فيها "قتل الشيوعيين " بل يقول بأن الأمر يتعلق ( بوجوب مقاومة الإرهاب الشيوعي المسلح أيام ما عرف بالمد الأحمر ومن الطبيعي والمتوقع أن يبقى هذا الأمر الشرعي واجب الرعاية حينما حمل بعض الشيوعيين السلاح وشرعوا في مقاتلة خصومهم استجابة لبيانات حزبهم صبيحة الرابع عشر من رمضان وقد أصدر – الخالصي الأب – رحمه الله أمرا مماثلا بوجوب مقاومة الإرهاب لبعثي المسلح عندما ظهرت بوادر ممارسات الحرس القومي في سنة 1963 لاستعمال العنف في محاولة لسرقة ثورة رمضان والاستيلاء على السلطة الأمر الذي أصدره رحمه الله وأعلن عنه في خطبة الجمعة الشهيرة التي فجر فيها الموقف ضد البعثيين بقولته المشهورة " قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر ميشيل عفلق " وكانت هذه الخطبة بدء التحرك الجماهيري ضد ممارسات الحرس القومي الإجرامية .ص126 من الكتاب ) وفي موضع آخر من إجاباته يزيد الشيخ الأمر وضوحا فيقول ملخصا ( من سرد الوقائع السابقة يتضح لك الجواب على سؤالك هذا وخلاصته كما ترى : انه ليس هناك فتوى بقتل أحد لمجرد فكره - أي لمجرد أنه يحمل الفكر الشيوعي . ع.ل -، إنما فتوى بوجوب مقاومة المعتدي سواء كان شيوعيا أو بعثيا أو كان غازيا مستعمرا أو كان يهوديا غاصبا وحتى لو كان المعتدي مسلما فإن فتوى وجوب مقاومة اعتدائه تبقى قائمة . ص129 ) والمعنى الذي يسهل فهمه هنا ، هو أن الشيخ الخالصي يبرر ويفسر ذلك الأمر " الفتوى " القاضي بالتصدي لما يسميه "الإرهاب الشيوعي" بأسباب دفاعية بحتة ودفاعا عن الجماهير بوجه قوى سياسية مسلحة كانت ذات مرة يسارية وأخرى بعثية ، والواقع فإن هذا التفسير يصطدم بحيثيات تلك الفترة التاريخية المضطربة والمشوشة التي سادت في العراق . ففي الرابع عشر من رمضان أي الثامن شباط 1963 كان اليسار والقوى الديموقراطية العراقية في حالة دفاع وكان الإنقلابيون القوميون المدعومون من بعض الجهات الإسلامية كحركة الأخوان المسلمين التي كانت ممثلة بوزير في الحكومة الانقلابية قد قتلوا الرئيس قاسم وهو صائم وقتلوا معه مجموعة من رفاقه بعد محاكمة مشبوهة وصورية داخل مبنى الإذاعة ولم يكون اليساريون هم المبادر الى الهجوم على الجماهير بل كانوا هم الجماهير التي هرعت من أحياء بغداد الشعبية كمحلة الشيخ عمر للدفاع عن عبد الكريم قاسم وقيادته في وزارة الدفاع وكما هو معروف فقد رفض الزعيم توزيع السلاح على الناس خوفا من إغراق العراق في حرب أهليه مدمرة ودفع حياته ثمنا لهذا الخيار الشريف .
وباختصار فقد كان الشيوعيون تحديدا والجمهوريون والديموقراطيون عموما هم الطرف المعتدى عليه وليس المعتدي آنذاك ، ومع ذلك يمكن النظر الى محاولة الشيخ الخالصي التفسيرية هذه ،وبحسن نية تامة ، على أنها خطوة سليمة في تبريد وتبسيط وتسهيل فهم إحدى أشد الإشكاليات السياسية حساسية وتعقيدا في تاريخ العراق المعاصر .وكحد أدنى يمكن النظر إليها كمقاربة أولية تعد بالكثير من التفهم والإنصاف لاحقا ، ويمكن لنا أن نأمل من الشيخ الخالصي و من جميع الأطراف السياسية المدنية والدينة التي ساهمت في صنع أحداث تلك السنوات المائجة الهائجة والمفعمة بالوعود التي تلت ثورة تموز الجمهورية أن يبادروا الى كشف خباياها ،وفتح مغاليقها ،ودراستها دراسة حيادية وجادة وعلمية على أيدي مؤرخين وخبراء في علم الاجتماع والسياسة والتوثيق والأرشفة ، بهدف أن يكون كل شيء يتعلق بتاريخ العراق تحت ضوء الحقيقة الباهر ولكي يأخذ كل ذي حق حقه وتعرف الأجيال العراقية القادمة تاريخها معرفة صادقة غير متحزبة .
ومن أجواء تلك الفترة وما دمنا قد تطرقنا لأسئلة السيد علاء الدين الظاهر يمكننا التوقف عن تفصيل قد يبدو صغيرا ولكنه في غاية الأهمية تطرق إليه أحد الأسئلة وهو المتعلق بحقيقة ما قيل عن تدخل الشيخ الخالصي وتوسطه لدى الرئيس العراقي عبد السلام عارف من أجل تخفيف حكم الإعدام على عدد من المحكومين الشيوعيين وإطلاق سراحهم . فالشيخ الخالصي ينفي أن يكون والده قد انتدبه لتلك المهمة لسبب بسيط هو أن والده كان قد توفي سنة 1963 والحادثة التي يشير إليها السائل جرت في صيف سنة 1965 فلنستمع الى الشيخ الخالصي وهو يرويها بحميمية عراقية وباعتزاز الرجل المؤمن بما يفعل : ( خلاصتها أن جمعا غفيرا من عوائل وأهالي المحكوم عليهم بالإعدام بما فيهم النساء والأطفال جاؤوني في ليلة تنفيذ الحكم حتى غصت بهم الدار والمدرسة والطرق المؤدية إليهما وهم في بكاء وعويل ملتمسين منى التدخل لإنقاذ ذويهم من الإعدام مؤكدين أنهم ليسوا شيوعيين بمعنى الاعتقاد بالمادية بمحتواها الإلحادي وإن منهم من تاب وأناب . فرأيت في الأمر مندوحة شرعية لعمل شيء لإنقاذهم فحزمت أمري وأخبرت الوافدين بأني ذاهب لساعتي للتشفع لإلغاء حكم الإعدام ولن أعود ما لم يتم ذلك بإذن الله . وكان الوقت قد تجاوز نصف الليل ولم يبق إلا سويعات على موعد تنفيذ الأحكام عند فجر ذلك اليوم (...) وفي مقر رئيس الجمهورية لم أقبل أي عذر لموظفي القصر في الانتظار وتأخير المقابلة الى ما بعد الفجر على الأثر جاء المرحوم عبد السلام فاختليت به ومهدت للموضوع بمقدمة سريعة وعرضت عليه المطلب فاستعظم الأمر مني بادئ ذي بدء ومازلت به شارحا الجوانب الشرعية والأخلاقية والسياسية للموضوع حتى أذعن واحتياطا للأمر لم أغادر المكان قبل أن يبلَّغ بالهاتف قرار العفو وإيقاف التنفيذ وبعد أن كتب مسودة المرسوم الجمهوري أمامي ووقعه ودعته عائدا الى مدرستنا حيث وصلتها ولم يبق على الفجر إلا القليل فاستقبلني المنتظرون بالهتاف والصلوات ودموع الفرح وكانوا قد أخبروا بالنتيجة .ص127 من الكتاب ) .
في ختام هذه المراجعة السريعة لهذا الكتاب الجديد يمكن القول أن تجربة الحركة الاستقلالية والتحررية العراقية المعادية للاستعمار البريطاني والتي تحولت فيما بعد الى أحد أجنحة الحركة الإسلامية المعاصرة لا يمكن استيعابها وفهمها بشكل صائب وموضوعي إذا تم إغفال التجربة الكفاحية الثرية لآل الخالصي وشيوخهم الثلاثة محمد مهدي الخالصي الكبير أي الجد ، و محمد الخالصي قائد ثورة العشرين ضد الغزاة البريطانيين ، ومحمد مهدي الخالصي الحفيد أي موضوع الكتاب الذي بين أيدينا والذي يواصل ، رفقة عدد من زملائه وآل بيته والحركات والأحزاب الإسلامية والوطنية الصديقة ،حمل مشعل المعارضة المستقلة والجذرية والمستنيرة المدافعة عن الشعب العراقي وإرادته الحرة وعن سيادة واستقلال العراق ضد الغزاة الأجانب وضد الطاغية وحكمه الاستبدادي في داخل العراق . ويقينا فإن هذا الكتاب الذي أعده الحاج ثناء الصفار ،والذي تعرضنا له بالمراجعة والتحليل في هذه العجالة هو جهد مشكور وسعي سليم في اتجاه تحريك العديد من ملفات الحركة الوطنية والاستقلالية العراقية بمشاربها الفكرية الثلاثة الرئيسية الإسلامية واليسارية والقومية وهو أيضا محاولة واعدة لتوثيق وتسجيل صفحات مضيئة من تاريخ ومواقف تيار الخيار الثالث مفهوما واصطلاحا وطرفا سياسيا فعالا في الحاضر وهو خيار الشعب العراقي والتعويل عليه والدفاع عنه في مواجهة أهل الخيار الأول ( خيار الحرب الأمريكية العدوانية ) وأهل الخيار الثاني ( التحالف مع النظام الاستبدادي والدفاع عنه ) .