|
قراءة نقدية في رواية رواء مكة ل حسن أوريد
محمد أيت بود
الحوار المتمدن-العدد: 6248 - 2019 / 6 / 2 - 23:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عن دار النشر المركز الثقافي العربي ، نشرت للكاتب المغربي حسن أوريد رواية أو سيرة روائية تحت عنوان : " رَواء مكة " تقع في 223 صفحة ، وتضم سبعة عناوين هي من الصفحة رقم 11 الى الصفحة رقم 211 : ومضات ، ذبذبات ، همزات ، اٍشراقات ، البشائر ، تداعيات ، الحنين اٍلى مكة ، وهو نص من بين نصوص أو روايات أخرى للكاتب وهي : الحديث والشجن ، زفرة الموريسكي ، صبوة في خريف العمر ، الأجمة ، رباط المتنبي ، ربيع قرطبة ، سيرة حمار . هذا النص الروائي يحكي تجربة ذهاب الكاتب لأداء فريضة الحج وهي الركن الخامس من أركان الاٍسلام ، كيف كان قبل ذلك على المستوى الفكري والنفسي والوجداني والاٍجتماعي واٍلى ما صار اٍليه بعده ، هو موضوع هذه الرواية أو السيرة الروائية . النص موضوع هذه القراءة النقدية عبارة عن نص قصصي أو حِكائي أراد له المؤلف اٍسم : " سيرة روائية " ، فهل هو جنس أدبي جديد يجمع بين السيرة والرواية ؟ وهل يروم الكاتب وهو يضع هذا العنوان أسفل صورة الكعبة على غلاف الرواية أن ينبه القارئ منذ البداية اٍلى أنه بصدد قراءة سيرة ذاتية لشخصية معينة ( فكرية ، سياسية .. ) هي شخصية الكاتب نفسه وليس بصدد قراءة رواية بالمعنى الكلاسيكي للرواية ، ومن أجل اٍزالة اللبس عن ذهن القارئ ومن أجل الأمانة العلمية كذلك فقد أورد الكاتب أنه تأثر بكتابين أو روايتين مماثلتين ، هما ؛ رواية عبد الله حمودي ( حكاية حج ؛ أو موسم في مكة ) ورواية ليوبولد فايس ( الطريق الى مكة ). الحقيقة أن النص ليس رواية بالمعنى الكلاسيكي للرواية ، بل هو عبارة عن سيرة أو رحلة أو ربما حِكاية ، مثل الحكايات الشفوية التي يرويها الحكواتيون في بعض الأماكن الشعبية ، مثل ساحة جامع الفناء بمراكش ، و تقص الأحداث بشكل خطي أو أحيانا يتقنية الاٍسترجاع وتمزجها بالعديد من الأدوات السردية مثل الحوار والمونولوج والخيال والوصف ، تتخللها خواطر وأشعار وقصص متخيلة وأخرى واقعية وشخصيات مختلفة واقعية وأخرى متخيلة واٍيراد لأسماء مفكرين وكتب وأماكن كثيرة وأزمنة مختلفة وأحداث من وحي الخيال وأخرى واقعية ، النص وكأنما هو عبارة عن عصارة تجربة اٍجتماعية وسياسية و فكرية ، وَوجدانية ، عاشها الكاتب وأراد أن يتقاسمها مع القراء . النص ليس رواية بالمعنى الكلاسيكي لأن للرواية وفق هذا المعنى ميكانيزمات خاصة وأسلوبا متميزا وحبكة قصصية وشخوص ومنهجية وأهداف تريد أن تحققها ، في حين حاول النص الذي بين أيدينا أن ينفلت من اٍسار التقليد الروائي وأن يخلق قوالب سردية جديدة ، فهل يمكن القول أن الكاتب كتب هذا النص متأثرا بالاٍتجاه الحديث للروائيين الفرنسيين في منتصف القرن العشرين، ومنهم جيرار غرييه- Gerard Garier، وناتالي ساروت- Nathalie Sarraute، وكلود سيمون- Claude Simon، وميشيل بوتو- Michel Poutou، والذي يهدف إلى إحداث تحول في شكل الرواية، وتكوينها فنياً ومضمونياً ؟ الكاتب في هذا النص يستعمل لغة عربية سهلة وسلسة سيطر عليها منطق ضجيج الكلمات والمفردات والتعابير الثراثية كونها جنحت اٍلى اٍستعمال مفردات قديمة تمتح من المعجم الأصيل المبثوث في النص القرآني ( أتراب – عقبى – لغوب – المنون – ظهريا – ران ..الخ ) والشعر العربي القديم ) جفاني – حمى – أغشي – غريرة – بناني – أجزلت – صلدة – تلظيت – ندوب – صُراح – مولّي ... الخ ) ، ويوظف أمكنة مختلفة ( حي أكدال – ساحة جان بيرك – الكنسية – ثانوية ديكارت – الهرهورة – بوتاليمين – قصر السوق – واحة زيز – مكة – المدينة – موقع معركة بدر – مسجد البطحاء – جبل عرفة – منى – مقبرة البقيع – غرناطة ...الخ ) ، ويوظف آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأشعار شعبية صوفية باللغة الأمازيغية والدارجة المغربية . يجمع النص بين عدة مكونات أو تيمات تشيد صرح البنية السردية منها ؛ القوى الفاعلة والبعد النفسي والعاطفي والوجداني والبعد الفكري والفسلفي و العقلاني والبعد الاٍجتماعي والسياسي ، هذه القوى الرمزية الفاعلة كثيرة ولايمكن اٍجمالها في ثنائيتي الخير والشر أو الفضيلة والرذيلة ولكن هناك قوى رمزية أخرى مثل الاٍعتراف والنصح و الحب والكراهية والسخرية أو التهكم والجدية والصراحة والتلميح والتصريح ...الخ ، هذه القوى الرمزية أو التيمات تتفاعل داخل النص بين المد والجزر مستفيدة من توظيف الكاتب تقنيات سردية متنوعة منها الحوار والاٍسترجاع والحوار الداخلي والوصف والخيال ...الخ ، وهي تهدف كلها اٍلى جعل القارئ يعيش تجربة الحيرة النفسية والشك الوجودي للكاتب قبل أن يؤدي شعيرة الحج ، وبين الراحة النفسية التي صار يشعر بها بعد ذلك ( تمحلات ، الجري وراء السراب ، العلمانية ، الغرب ، الاٍرتماء في حمى اللذة ... ) ثم ( فجر يلوح ، عهد جديد ، أمل ينبثق ، الاٍيمان ... ). ( ص 44 ). اٍذا كانت الرواية أو السيرة الروائية كما سماها صاحبها ، تنضح بشئ فاٍنها لاتنضح بأكثر من هذا الجانب النفسي والعاطفي والوجداني ، فرحلة الحج أراد الكاتب أن يصورها للقارئ ليس من جانبها الطقوسي أو الشعائري وحسب بل كتجربة مليئة بالاٍنفعالات النفسية والفيض العاطفي والوجداني والمواقف الاٍنسانية كذلك ، أراد أن ينقل القارئ اٍلى تلك الأجواء المفعمة بالاٍيمان في رحاب مكة وبجوار الكعبة ، ومن أجل ذلك أطلق العنان للخواطر وحاول أن ينقل حالته النفسية التي كانت مضطربة وهو في الطائرة أولا مستعملا لأجل ذلك تقنية الاٍسترجاع تارة ، والوصف تارة أخرى ، أو المونولوج والحوار أحيانا ، فيعود بالقارئ اٍلى منزله بالهرهورة ويصف علاقته بالمخزن التي لم يفهم لماذا كانت متوثرة ّ ، ثم يصف نفسيتة المضطربة وهو يعيش حالة من الصراع الداخلي بين عقله المتأثر بعقلانية الغرب وفلسفته المادية وبين قلبه الذي يهفو إلى اٍشراقة الاٍيمان ، ويصف حالته النفسية وهو مقبل على أكبر شعيرة من شعائر الاٍسلام وكيف يحذوه العزم بأن يقطع مع ماضيه الذي يراه أنه كان مجرد اٍنغماس في الشهوات والملذات الزائلة وأنه يتطلع اٍلى السمو النفسي والروحي ، وفي حوار مع زوجته بالطائرة يقول بأن الصدق مع النفس يقتضي الاٍقبال على الحج بروح متسامقة نحو الفضيلة الروحية والقطع بشكل نهائي مع كل أشكال النفاق النفسي والاٍجتماعي ، وكيف أن الاٍسلام ليس مجرد طقوس وشعائر بل رسالة حضارية تريد أن تسمو بالاٍنسان اٍلى مدارج الرقي الروحي ، ( الاٍسلام فلسفة حياة ، تبدأ باٍشراقة الاٍيمان ) عندها انتهرته زوجته قائلة : ( عليك أن تدع فلسفتك وأنت مقبل على الحج ، لافلسفة مع الدين ) ( ص 47 ). ثم بعد ذلك لما صار في رحاب الكعبة ومشاعر الرهبة التي تملكت نفسه والمواقف الاٍنسانية التي أثرت فيه خاصة موقف ذلك الشخص الذي أغمي عليه وموقف ذلك الشخص الذي يغمس الخبز في الماء وموقف ذو القدم المشَجّة ...الخ ، ما يلاحظ أن الكاتب يعيش في تلك الأثناء صراعا مريرا بين ما درج عليه من عقلانية صارمة مستنيرة بالفكر الغربي الذي يمجد العقل وبين قلبه الاٍشراقي الذي صار يهفو للٍايمان ، وهذا هو بالضبط هو مناط الاٍشكال الذي حدث في تاريخ الفكر الاٍسلامي بين العقل المنهجي بدءا بالمعتزلة و ابن رشد و الجابري والعروي والطوزي وغيرهم وبين العقل الاٍشراقي للمعتزلة و الغزالي وابن سينا وانتهاء ب طه عبد الرحمن وغيرهم ، هذا العقل الاٍشراقي- العرفاني كانت له تأثيرات واضحة على العقل الاٍسلامي أو العربي كما يسميه الجابري لاتزال مستمرة في حاضرنا. يطغى البعد السياسي والاٍجتماعي على الرواية أو السيرة الروائية ، ففصولها مليئة بالحوارات والمونولوجات والأفكار والكتب وأسماء الفلاسفة والمفكرين ، وكلها تتمحور حول فكرة كون الكاتب وهو مفكر عقلاني ، يحمل بين جناحيه هموما فكرية متأثرة بتاريخ المسلمين وحاضرهم أي واقعهم الذي يرى أنه ليس مشرّفا ، ويطرح سجالات فكرية وفلسفية وأيديولوجية وهو يستحضر سيرته الشخصية كطفل أمازيغي من الجنوب الشرقي للمغرب ( قصر السوق سابقا أو الراشيدية حاليا ) ، والذي كان له شرف الحصول على تعليم عصري في المدرسة المولوية اٍلى جانب ملك البلاد ، وكيف تدرج في مناصب السلطة اٍلى أن تم عزله وانتهى به الأمر اٍلى الانكباب على المعرفة والاٍكتواء بحرقة أسئلة الفكر ( مكتبتي أضحت تحفا وليست رقفة أستأنس بها ، لأني اٍرتضيت حياة الجاه والسلطان ، وخلتني جزءا من منظومة ) ( ص 71 ) ، ومن أجل المقارنة أقوم باستحضار قصتين لمفكرين من زمنين وفضاءين ثقافيين وحضاريين مختلفين ، كليهما عاشا في عصر النهضة في أوروبا ، فكان الأول دبلوماسيا ثم حاكما لاٍمارة في حكم آل مديتشي باٍيطاليا وهو نيقولا ميكيافيللي ، ضاعت منه الاٍمارة عندما تولى آل البوربون الفرنسيون حكم اٍيطاليا ، أو جمهورية فلونسا آنذاك ، وعندما عاد آل مديتشي اٍلى الحكم لم يعيدوه اٍلى الاٍمارة بالرغم من اٍخلاصه لهم بل قاموا بسجنه ونفيه بعد ذلك ، بيد أنهم اٍتهموه بالعمالة لآل البوربون ، فانزوى في ريف فلونسا وكتب كتابه الشهير ( الأمير – Le Prince ) ، رسم فيه فصلا كبيرا بين السياسة والأخلاق بنبرة واقعية صارمة ، وكان يطمح أن يكون بمثابة القنطرة التي ستعيده اٍلى الاٍمارة لكن حدث العكس فكان الكتاب بمثابة القنطرة التي حلقت به في سماء الفكر بعد أن كان موظفا حكوميا ، والثاني هو طوماس مور ، أو القديس طوماس مور ، صاحب كتاب ( مدينة اليوتوبيا- L’Utopie) عاش في اٍنجلترا زمن الملك هنري الثامن والذي عينه كبير مستشاريه ، غير أن معارضته الشديدة للملك حول طلاق زوجته الأولى كاترين الأراغونية لعجزها عن اٍنجاب ولي العهد ، اٍستنادا للمذهب الكاثوليكي الرافض كليا للطلاق ، كان سببا في قتله من طرف الملك . يتجلى البعد الفكري و الفلسفي العقلاني في متن الرواية في ذلك الكم الهائل من الأفكار والآراء والمواقف وأسماء الكتب والفلاسفة والمفكرين ، والتي وظفها الكاتب بطرق متعددة ومختلفة والتي تؤكد على الطرح الاٍشكالي للنص والذي يطغى عليه البعد الهوياتي ؛ فالكاتب يعترف أنه من أصول أمازيغية ، وهنا أود أن أسجل ملاحظة تتمثل في كون أوريد من المفكرين القلائل الذين يذكرون اٍنتماءهم الهوياتي ويشيدون به بل ويكتبون باللغة الأمازيغية اٍلى جانب المختار السوسي ، لكن في نفس الآن هنالك رواسب ثقافة عصرية أثرت عليه وتكوين يغلب عليه الطابع الأيديولوجي ، فانتماء الكاتب اٍلى جيل الستينيات من القرن الماضي زمن القومية العربية ( بلاد العرب أوطاني ) كان له تأثير كبير على نوعية التكوين الذي خضع له ، لدرجة أنه يتماهى في طرح ينم عن اٍشكال هوياتي عويص مع اللغة العربية والعرب والاٍسلام بشكل نوستالجي فيه الكثير من الحنين الممزوج باللوعة ، ويغلب فيه الطابع الأسطوري وينتفي العقل ، فازدواجية الاٍنتماء الهوياتي والتي تمفصلت فيها الأمازيغية مع العروبة والاٍسلام ، والتي تخللت كل فصول الرواية اٍنما تنم عن اٍشكال هوياتي أصبح حادا أكثر مع ميل الكاتب اٍلى اٍستحضار مجموعة من الأحداث والأزمنة والشخوص للتدليل على فكرة مركزية راسبة في نفسيته عن علاقة التكوين الذي خضع له بمستواه الفكري والثقافي وانتمائه الثقافي والهوياتي ، فيذم العرب الأقحاح كما يسميهم لأنهم لم يحافظوا على لغتهم ولأنهم أصحبوا يلحنون وهم يتحدثون باللغة العربية و يميلون اٍلى الاٍسراف والتبذير( ماذا يمثل جمال بالنسبة لك ؟ ) ( هو الفرصة اللي راحت ) ( ص 64 ) ، ( خروج العرب من التاريخ ) ( ص 65 ) وهو يستحضر أستاذيه في اللغة العربية وهما محمد أبا حنيني ( أندلسي الهوى ) ومحمد شفيق ( أمازيغي الهوى ) ، وينتقل من مدح العربية والعروبة والاٍشادة بهما ضمن الرجوع الى ذكريات المدرسة المولوية وفي خضم توستالجيا اللغة العربية يذهب به الحنين اٍلى استظهار الشعر العربي الكلاسيكي ، ويربط سؤدد الأمة العربية بعبقرية اللغة العربية وعودة العرب اٍلى القيم الأخلاقية النبيلة التي درجوا عليها في الماضي ، قيم الكرم والاٍيثار والمروءة وهي قيم الصحراء كما يزعم ، فهل هو بحث جديد عن موطئ قدم بعدما تنكر له المخزن ؟ هو يقول اٍنه أصبح متجردا من الهوى بعد قيامه بشعيرة الحج ( ص 52 ) ، فهل مزجه بين الحنين لاٍنتمائه الى ذلك النبع الأصيل ، نبع الاٍسلام الأمازيغي الصافي في مسقط رأسه بقصر السوق ، وبين تماهيه مع الهوية العربية ، يقصد به شيئا ما ؟ هل هو هوى جديد أو أصنام جديدة آخذة في التشكل ؟ هل هو لما يزال ذلك الموظف المخزني الذي يبحث له عن حظوة في مكان آخر بعدما تنكر له المخزن مثلما فعل ميكيافيللي ؟ لقد ألف روايته التي تحمل عنوان ( زفرة الموريسكي ) ، ألم تكن تلك الرواية شبيهة بهذه من حيث المبتغى ؟ ( الملكيات تغور في الاٍستبداد كما يصب النهر في البحر ) ( ص 71 ). ازدواجية الاٍنتماء التي تنضح به الرواية مابين الاٍنتماء للأمازيغية لغة وثقافة وهوية ومابين الاٍنتماء للعروبة تطرح اٍشكال الوعي الشقي لدى الكاتب ، فالأمازيغية هي الأصل لكنها لاتمنح لقبا ولا وساما ولا تعطي مكانة اجتماعية مرموقة لصاحبها ، هي قابلة للتوظيف السياسي والأيديولوجي في معترك الصراع مع المخزن من أجل اٍعادة الاعتبار اٍلى الذات التي مرغها المخزن في الوحل ، الأمازيغية ليست مجرد اٍشكال هوياتي هي أكبر من ذلك كما يقول الكاتب ( أراني دوما مطوقا بعرفان للحركة الأمازيغية ...حركة ذات جذور غائرة في التربة المغاربية ) ص 34 ، وفي المقابل ثمة انتماء آخر مربح وصك تجاري سوف يدر الأرباح والألقاب والمكانة الاجتماعية ، وهو اٍشكال وجودي أيضا ، ولطالما عبر الكاتب نفسه عن ذلك ، كونه يعيش اٍشكالا وجوديا وهو الذي تأثر بالفلسفة الوجودية لجون بول سارتر ، العرب يملكون المال والنفط والدولة ، أما الأمازيغ فهم الأهل ولكنهم لايملكون غير هذا الشرف الرمزي ، أن الكاتب يعترف أنه ينتمي اٍليهم. ( قوبلت بالاٍهانة في مسرى عملي كوال بمكناس ولم يكن صدري ليتسع لها وقد كنت قاب قوسين من الرحيل ) ( ص 71 ) ، ألا ينطبق هذا على ما وقع لميكيافيللي ؟ وتحول البحث عن الجاه والسلطان والتشبث بهما اٍلى نقد لاذع لتلك المنظومة التي يقول هو نفسه أنه كان يعتقد أنه كان ينتمي اٍليها ، بيد أنها لفظته كما يلفظ البحر جثة هامدة ، وفهم في نهاية المطاف أن ذلك من طبائع الاٍستبداد وهو اٍسم لكتاب ( طبائع الاٍستبداد ) لعبد الرحمن الكواكبي ، والنقد الموجه للمخزن هو من منطلق البحث عن استكشاف جزيرة جديدة ، مثل جزيرة اليوتوبيا لطوماس مور ، ليس فيها سوى التأمل والفكر المتجرد ، ( عدت من الأندلس شبه معافى وقد أخذت أبرأ من المخزن ) ( ص 80 ). لقد شكل عدم الاٍستقرار في الوظائف المخزنية التي أسندت اٍليه ( ناطق رسمي باسم القصر الملكي ثم موظفا بوزارة الخارجية ثم واليا على مكناس ثم مؤرخا للمملكة ) والمؤامرات التي يقول اٍنها حيكت ضده في الخفاء من أجل اٍقصائه من المخزن ، نوعا من الوقود الراقي أو الفيول الذي دفعه دفعا باتجاه العودة الى ذاته الحقيقية ذات المفكر و المثقف الملتزم أو المثقف العضوي بتعبير أنطونيو غرامشي ، فكان الرجوع اٍلى منابع الفكر العقلاني والمتنور عند أبو العلاء المعري والمتنبي وجون بول سارتر بمثابة المنارة التي صارت تشع وتدفعه اٍلى الاٍلتحاق بها بعيدا عن مؤامرات ودسائس السياسة . في كل مرة يجري حوار داخلي أو مونولوج بين الكاتب ونفسه ، يقول لنفسه عبارة بالفرنسية هي : je suis musulman ، وكأن نفسه حصان جامح يحاول أن يحد من غلوائه بهذه العبارة ، ويقول في الصفحة 93 مايلي : " الفسلفة الغربية في مرجعيتها الاٍغريقية لايمكن أن تجمع بين النقيضين وفي وضعها الكاثوليكية اٍعراض عن الدنيا وفي صورتها البروتستانتية مثلما ذهب اٍلى ذلك ماكس فيبر في الجذور الأخلاقية للرأسمالية اٍقبال عليها ." هذا القول يعني أن الاٍسلام يرى التكامل بين الدنيا والدين والدنيا مزرعة الآخرة ، وهو منطق اٍشراقي يعاند المنطق العقلاني الغربي المهيمن عليه ، يقول بناء عليه اٍنه كان " مقمحا " أي مرفوع الرأس من جراء التكبيل ولايستطيع أن يرد الماء فيرتوي ( اٍنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي اٍلى الأذقان فهم مقمحون ) سورة يآسين الآية 8 . لايزال الكاتب وهو متقدم في فصول روايته يحاول أن يتخلص من هيمنة العقل النقدي عليه ، فهو في خضم أدائه لمناسك الحج يطرح أسئلة وجودية كبيرة ، وينتقد العرب والمسلمين وينتقد العصبية والقبلية التي لاتزال تسيطر عليهم ، وحاول أن يقارن مارآه مع ما أورده العالم الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي في روايته " موسم الحج " وهو صراع نفسي وفلسفي قوامه حوار جدلي منغّص بين روحه التواقة اٍلى الاٍنعتاق والتحرر من ربقة السياسة و " العصبية " والملذات وكل الأمراض النفسية المتولدة منها وبين عقله التواق اٍلى النقد من منظور المفكر العقلاني والحداثي ، هل يستقيم اعتبار الحج مجرد ملاحظة منهجية لعالم انثروبولوجي لظاهرة ؟ ( ص 98 ) . وفي خضم التساؤلات الكبرى يطرح الكاتب اٍشكال تخلف المسلمين وأسباب نهضتهم وتمثل الخلافة الأولى للرسول بمثابة البذرة التي ستزهر في مستقبلهم لو أنهم وضعوها في التربة الصالحة ، ويسرد محطات تاريخية من الاٍنحطاط العربي والاٍسلامي بدأ بسقوط غرناطة والأندلس عموما ثم الخلافة العثمانية ونكبة فلسطين وحرب أكتوبر 1967 ثم الحرب على العراق ، ويربط ذلك بالحج وكيف أن هذا الأخير الذي لم يستثمر في سبيل نهضة العرب والمسلمين ، وانتقد بشدة اٍقبال الحجاج على البذخ والتبضع والأكل في حين كان هو يستشرف أو يتوقع حياة الزهد والترفع ( ص 102 ). في خضم ذلك الصراع الفكري والفلسفي الذي يسيطر عليه ، يقوم باستحضار النقد اللاذع والمقزّز الذي قام به عبد الله حمودي لكل المظاهر المشينة التي لاحظها في الحج مثل انتشار القمامات في الأحياء الشعبية والفقيرة المحيطة بمكة والمدينة وتجليات العولمة في الجانب العصري منهما ، وكذلك بعض الممارسات التي يقوم بها الحجاج مثل الأكل أو اٍستعمال الهاتف النقال وغيرها أثناء الطواف وأثناء السعي ( ص 107 ) ، والفوضى العارمة التي يعج بها الحج وانعدام القدسية والزحام وانتشار الفيتيشية وصور المكاء والتصدية وهي الصورة الأولى للطواف بالكعبة عند العرب قبل مجيئ الاٍسلام ( وماكان صلاتهم عند الببيت اٍلا مكاء وتصدية ) سورة الأنفال الآية 35 . فهل يتبنى ذلك وهو الذي يحاول أن يضع العقل جانبا ؟ ( أغلب فقهاء الاٍسلام يحذرون من اٍستعمال العقل في الحج ) ( ص 110 ) . في المحصلة ؛ النص عبارة عن تجربة ذاتية غائصة في التأمل الفلسفي والوجودي منغمسة في البعد الاٍشراقي – العرفاني والروحي ، تستدرج العقل النقدي الحداثي بواسطة الديالكتيك من خلال محاورة العقل والقلب ، تطرح اٍشكال هوياتي مزمن عصيّ على التملك والحل ، وظفت فيه المواقف التي عرضت للكاتب اٍبتداء من اعتباره موظفا ساميا سابقا في المخزن ثم عزمه على الذهاب لأداء فريضة الحج وانتهاء بعودته ، ويتخلل ذلك حوارات ومواقف وأفكار ، فيها ماهو روحي اٍشراقي_ عرفاني يدعو اٍلى الاٍبتعاد عن الملذات وطرح الجانب المادي من الحياة والاٍقبال على الروحانيات وماهو فلسفي وجودي يدعو اٍلى تمجيد العقل وبناء عليه فاٍن الكاتب لم يسلم من ملكة النقد التي تسيطر على عقله ، وما اٍيراده لذلك النقد اللاذع الذي أبداه عبد الله حمودي لأحوال المسلمين عامة وفي الحج خصوصا اٍلا لكونه قد يتفق معه ، وهو نفسه يقول : ( يبدو لي الحج كما لو هو محرك يؤزّ أزّا قويا ولكن في فراغ ) ص 116 ، وطرح تساؤلات عميقة حول المغزى من الحج ، حول مضامينه الأخلاقية والاٍجتماعية والروحية المفقودة ، وسيطرة الأيديولوجية الوهابية عليه رغم أن تداعيات 11 سبتمر حدت من غلوائها ، ومنطق الوعظ والاٍرشاد وسطحية الدروس وعدم تعمقها في المغزى الروحي والفلسفي للاٍسلام ، وغياب التوجيه الروحي والنفسي ، واختزاله في مجرد طقوس وشعائر ، تؤدى ثم ينتهي الأمر ، عدم سعي القائمين على الحج اٍلى ترجمة الدروس والخطب بلغات الشعوب المختلفة واكتفائهم باٍلقائها باللغة العربية ، وهو منطق يرى الكاتب أنه يتنافى مع المبتغى الاٍنساني من الحج الذي هو التآخي والمساواة ، صلافة عرب مكة والحجاز عموما وعجرفتهم القريبة من عجرفة قريش ، وكيف أنهم ضنوا على باكستاني الأصل سعودي المولد والنشأة بالجنسية ، وهي جاهلية جديدة مغلفة بغشاء الاٍسلام ، كما يرى الكاتب ، وسيادة ذهنية تغُلّ الفكر وتصُدّ النقد وتعطل التطور ، حضور صور من الماضي تَمثّلها على شكل شخصيات تحاول اٍعادته اٍلى سلوكياته التي قد قطع وعدا على نفسه ألا يعود اٍليها مثل معاقرة الخمر...الخ ، وهو تمظهر لصراع مرير بين العقل والقلب والجسد والروح ، ( ص 138 ) . يحاول بعض الاٍسلاميين أن ينتهزوا الفرصة من أجل الاٍيهام بأن حسن أوريد اٍنضم اٍليهم بعد أن أدى فريضة الحج وكتب هذه الرواية التي أعلن فيها توبته كما يزعمون ، ووعيا منه باٍمكان أن يعمد البعض اٍلى استغلال ذلك ، فقد تعرض لهذا الطرح اٍذ يقول : ( هل أضحيت أؤمن بالحركة الاٍسلامية ؟ كلا ...بل كنت لا أزداد منها اٍلا بعدا ...الخ ) ص 39 وما يليها ، وقد ذكر الكاتب سبب نفوره منهم خاصة عندما كان واليا على مكناس ، بحيث كانوا هم سبب اٍعفائه من مهامه آنذاك ، كما يقول . في خضم اٍستعراضي متلاطم لفصول الرواية أو السيرة الروائية بين الجانب العقلي والروحي وبين الاٍنتماءات والهويات المتعددة والمتناقضة للكاتب والاٍتجاهات الفكرية المختلفة والتجربة السياسية والفكرية والاٍجتماعية والوجدانية يصعب على القارئ أن ينعم بشئ من الوضوح في المبتغى وأن يفهم مراد الكاتب المضمر ، ففصول الرواية أو السيرة الروائية تخترقها تناقضات جوهرية وتسيطر عليها ضبابية تحجب الرؤية السردية على جميع المستويات الفنية والجمالية والدلالية ...الخ وتجعل من عملية القراءة الروائية وكأنها أرجوحة من المواقف والمبادئ الملتبسة ، وحتى ولو طرحنا جميع الأفكار الواردة في النص جانبا واكتفينا بمراد الكاتب المعلن ، فهل نجح الكاتب في نقل القارئ اٍلى تلك الأجواء المفعمة بالاٍيمان ؟ وهل نجح في اٍقناعه بطرح العقل جانبا والاٍقبال على اٍشراقة الروح ؟
#محمد_أيت_بود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة نقدية في رواية رواء مكة ل حسن أوريد
-
قراءة في كتاب : - الهوية وقضايا الأمازيغية والاٍسلام السياسي
...
-
الحراك الشعبي في الريف الواقع والمآلات
-
اٍشكالية المنهج في العلوم الاٍجتماعية
المزيد.....
-
صدق أو لا تصدق.. العثور على زعيم -كارتيل- مكسيكي وكيف يعيش ب
...
-
لفهم خطورة الأمر.. إليكم عدد الرؤوس النووية الروسية الممكن ح
...
-
الشرطة تنفذ تفجيراً متحكما به خارج السفارة الأمريكية في لندن
...
-
المليارديريان إيلون ماسك وجيف بيزوس يتنازعان علنًا بشأن ترام
...
-
كرملين روستوف.. تحفة معمارية روسية من قصص الخيال! (صور)
-
إيران تنوي تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة رداً على انتقادات لوك
...
-
العراق.. توجيه عاجل بإخلاء بناية حكومية في البصرة بعد العثور
...
-
الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا استعدادا لضرب منطقة جديدة في ضا
...
-
-أحسن رد من بوتين على تعنّت الغرب-.. صدى صاروخ -أوريشنيك- يص
...
-
درونات -تشيرنيكا-2- الروسية تثبت جدارتها في المعارك
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|